اعتبر جورج لوكاش أنّ «أيّ كائن مهما يكن فريدا، لا يمكن أن ينبثق من فراغ، وإنّما يهيّئه سياقٌ تاريخي- اجتماعيّ،تفضي معرفته الى الإضاءة على جوهر (هذا الكائن) ..» (Lukacs,1965)ونحن، إذ نقف لدى ذكرى المجاعة التي أصابت اللبنانيين بمقتل، وأماتت منهم ما لا يقلّ عن نصف تعداد سكّان جبل لبنان، في بداية القرن العشرين، بحسب بعض المؤرّخين (مسعد.ن، لا تاريخ) ، وبحسب الباحث في التاريخ الاجتماعي –الاقتصادي عبد المسيح (عبد المسيح،س.2014) تراوحت أعداد الموتى جوعا من أبناء جبيل والبترون ذات التكوين الاقتصادي الذي أصابه تدمير منهجي كبير (أنظر ص.213)،وبين أبناء قرى الشوف والبقاع الذين «لم يموتوا من الجوع كما عانى ساكنو الجبل والمدن الساحلية» (أنظر.هواري.2013،ص.267)،فإننا نحاول أن نستنطق الرواية التي تُعدّ من الأعمال القصصية القليلة التي تناولت حقبة المجاعة في لبنان والتي تزامنت مع الحرب العالمية الأولى (1914-1918). ونطرح السؤال الإشكاليّ الآتي : هل يمكن للقارئ، والناقد تاليا، أن يدرك الواقعة التاريخية التي اتّخذتها الرواية (الرغيف) إطارا زمنيا لها ؟ ما يستتبع طرح سؤال تالٍ، مستمدّ من الأوّل : هل تسع الرواية بمكوّناتها وشبه عالمها وعناصرها وأساليبها وحبكاتها القصصية وشخصيّاتها النموذجية والقضايا التييحمّلها الكاتب تضاعيفها، أن تنقل صورة واقعية أوفى مما ذكرته الوقائع أو الكتابات التاريخية العائدة لتلك الحقبة، بحيث تصير بديلا من التأريخ أو محضَ وثيقة دالّة دلالة تامة على واقعة المجاعة ؟ للإجابة عن السؤال الثاني حول مقدار ما في الرواية من محمول واقعيّ مرتبط بالمجاعة الحاصلة في جبل في كتاب حول «الواقعية والشكل الروائي» (IAN WATT) لبنان، نحيل على البحث الذي أجراه إيان وات (Barthes.R,et autres ,1982) جامع أسماء لامعة في النقد البنيوي، من أمثال رولان بارت وآخرون والذي انتهى فيه الى اعتبار أن الرواية «هي الشكل الأدبي الذي يعكس خيرا من جميع الأشكال هذا التوجيه الاستعاديّ الفردانيّ والتحديثيّ…(ذلك) أنّ معيار الرواية الرئيسي هو الحقيقة التي يراها الفرد(القارىء) من منظار تجربته الفردية…» (م.ن.ص:16-17) وبهذا المعنى فإنّ مبدأ الفردنة الذي اعتمده الذي يتيح فردنة الشخصيات الماثلة في يقوم على شرطي المكان والزمان (Locke الفيلسوف لوك (الرواية (م.ن.ص:27). ولئن شدد كولردج، بحسب واتّ، على تلازم فكرتي الزمان و(المكان) الفضاء في إدراك القارىء – المتلقّي أبعاد العمل الروائي الواقعية، فإنّ فكرة شبه العالم، المقتبسة أصلا والتي تعني أنّ كلّ مكوّنات الرواية (المكان والزمان، والأحداث، (Paul Ricoeur كتابات بول ريكور (بعقدها وحبكاتها، والشخصيات، والأساليب المتحوّلة نسيجا قصصيا) تشكّل بذاتها ما يشبه العالم الحقيقي الذي تحاكيه الرواية عبر اللغة، تكاد تكون أشمل وأقدر على نقل صورة ذات صدقية عن الواقع المادي (الإنساني) الذي اتفقت ذاتية الأديب – الروائي على انتقائه مادة للرواية.وبهذا المعنى، يمكن اعتبار مكوّنات الرواية اللبنانية «الرغيف»، للكاتب توفيق يوسف عوّاد، في ما خصّ المكان والزمان والشخصيات والحبكة القصصية، ممكنة الدلالة على الواقع، أو الحقيقة الواقعية التي شكّلت مادّة الرواية الوثائقية والإنسانية والتاريخية ؛ ولكن من دون أن يعني هذا التمثيل أو المحاكاة، على ما كان افترضه ، (Mimesis) أرسطو في كلامه على العلاقة التي تحكم الشعر والمسرح بالواقع، في ما أطلق عليه عبارة نقلا للواقع الماديّ، المتمثّل في مجريات المجاعة التي حصلت في جبل لبنان، وفي قرية بحرصاف التي يتّفق المؤلّف على اعتبارها الإطار المكاني اللازم لبناء الرواية، بالمقام الأول ؛ ذلك أنّ «الإطار المكانيّ عامل أساسي قائم في بناء الرواية، ولكنّ وظيفته ليست تقديم إطار واقعيّ للأحداث، بقدر توفيرها إطاراتمثيليا وتصويريا لها..» (زيتوني،2002). من هذا المنطلق سوف يكون دأبنا، في هذا البحث أن نتقصّىالإطار المكانيّ أو الفضائي في رواية «الرغيف «، بالإضافة الى المسرح الزمني الذي اصطرعت فيهالعوامل، والشخصيات، وتصاعدت وتائر الأحداث لتبلغ الذرى الدرامية التي شاءها المؤلّف تعبيرا عنذروة الفجيعة البشرية الحقيقية، المتمثّلة في مجاعة الحرب العالمية الأولى.
أ- إطار الرواية المكاني :
من المتعارف عليه أنّ الرواية، باعتبارها عملا أدبيا يحاكي الواقع، تنسج» إطارا تتحرّك فيه شخصياتُها، سواءٌ أكان إطارا طبيعيا (الغابات، الصحراء)، أم مصنوعا (منتزه، مدينة، بيت، منجم). « (زيتوني، 2002).
ولو نظرنا الى إطار رواية «الرغيف «المكاني لوجدنا فيها أطرا مكانية فرعية عديدة يتّفق كلّ منها مع
طبيعة المرحلة السردية، أو مع أحد مفاصل الحبكة القصصية التي تتوالى فصولا ؛ فعلى سبيل المثال، فقدجعل الفصل الأوّل من الرواية، وهو بمحلّ الوضع الأوّلي في حبكتها القصصية، واقعا في إطار مكانيّ غالب وواحد، في بلدة ساقية المسك، من أعمال جبل لبنان قريبا من بحرصاف وبكفيا وغيرهما. ولربما كان اختيار المؤلّف عنوانا لهذا الفصل هو «التربة» متّصلا باستراتيجيته السردية التي تدعوه الى رسم ملامح شخصياته في الرواية على أن تنسجم مع محيطها (أو تربتها) الطبيعي أو الواقعي، انسجام النبات مع التربة التي شقّ فيها برعمه ونما وأزهر وأثمر ثمّ ذوى وتلاشى.
1 – الجدول الأول : الفضاء العام للفصل الأوّل (التربة) ……….
ولو أضفنا الى ما سبق أربعة مشاهد، وهي المشاهد الثلاثة عشر التي يتكوّن منها الفصل الأوّل من“الرغيف”، وتتبّعنا الأمكنة التي قصدتها الشخصيات المذكورة أعلاه، لوجدناها كلّها محصورة في نطاق ضيق نسبيا، هو قريتا ساقية المسك وبحرصاف المجاورتان، بما فيهما من مغاور (مغارة الخورية) وطرق، ومقاه، ومطعم (مطعم الست وردة الكسّار، وهو ملهى، وحتى مبغى لصاحبته) . ولعلّ هذا الفضاء المكانيّ الذي اصطنعه المؤلّف توفيق يوسف عوّاد للفصل الأول كان كافيا للدلالة على الأمور الآتية :
أولا – لئن جهد المؤلّف في رسمه فضاء الأحداث (القصصي) التي سوف تتوالى وقائعها، وكان نصيبالصدقيّة فيه منسجما مع رؤيته الكتابة القصصية والروائية القائلة بأنّ “الخلق الفنّي موجود، سواءٌ أكان الأشخاص حقيقيين أم خياليين، وسواء أكانت الحوادثُ التي قاموا بها قد وقعت أم لم تقع..”.(عواد،1973)
فإنّ الواقعيّة هي السّمة اللازمة الأخرى لهذا الفضاء، كون موضوع الرواية محدودا بالتاريخ، ومشروطا بوقائع، يصحّ أن تحاكيها أحداث الرواية.
ثانيا – لكنّ القارىء الموسوعيّ، بل شريكُ المؤلّف في تلقّي الرواية وصنع دلالاتها، على مايقول ، في مقاربته المرتكزة على موسوعية القارىء،هذا القارىء لا يلبث أن يتنبّه (ECO,U.1983 أ.إيكو (لمحمولاتٍ في المكان القصصي لا يسعها إلاّ ردّه الى المكان التاريخي الذي كان عليه جبل لبنان، وبلدات المتن بصورة أخصّ، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، غداة الحرب العالمية الأولى، وإبّان المجاعة الكبرى التي أهلكت أعدادا كثيرة من سكان لبنان، بحسب المؤرخين (عبد المسيح، 2014)، والتي شاء الروائيّ أن يتبسّط في تفاصيلها وخطوطها ؛” لم تكن ورده كسّار في ماضيها صاحبة دكّان…
… كانت ساقية المسك تعيش، قبل الحرب الكبرى، على مواردها المحلّية من زراعة الكرمة وتربية دود الحرير… وعلى حياكة الديما التي أكسبتها شهرة امتدّت حتى البلقان…على أنّ مورد ساقية المسك الأعظم كان من مهاجري أبنائها الى أمريكا… وبيت كسّار لا يشذّ عن القاعدة… ثمّ كان أن نشبت الحرب، فانقطعت النساء والصّبايا في ساقية المسك عن أغانٍ كنّ يوقّعنها على طقطقة المكّوك ذاهبا آيبا..وأنزلت وردة الأنوال الى المراح ينخرها السوس.. واستقبل البيت دوره الثالث : فتحت ورده دكّانا ! اختارت الصالون لبابه المواجه الطريق، وجعلتْ منه دكّانا بمطعم بحانة بمقمرة بكلّ شيء…” (ص.ص:23-26)
إنّ هذا الوصف الذي أجراه المؤلّف عوّاد للفضاء القصصي المزمع تنميته، والمتمثّل بقرية ساقية المسكغداة الحرب العالمية الأولى، يطابق بتفاصيله الجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية الواقع التاريخي مطابقة تكاد تكون تامّة، في ما خصّ الكساد الذي أصاب مواسم الحرير في جبل لبنان ،آخر التاسع عشر، (أنظرْ. عبد المسيح، 2014.ص.213)، واتّكال سكّان جبل لبنان على المساعدات تأتيهم من ذويهم في بلدان الاغتراب، ولا سيّما أمريكا، لولا تفصيلٌ بسيطٌ يتّصل بالطابع الفردي الذي أضفته ورده الكسّار على الدكّان، الذي يُعدّ المكان- النواة، إذجعله الروائيّ مكانا متعدد الوظائف بتعدد أهواء نزلائه من الجنود الأتراك، على صورة صاحبته ورده، وحلبة للصراع الظاهر والخفيّ، العنيف حينا والمتحوّل حينا آخر، بين فئتين من الشخصيات، تمثّل كلّمنهما عالما على قاب قوسين من السقوط أو الخروج الى الضوء من وسط العتمة.وهكذا، يكون الروائي قد أتى على اللمسات النهائية، الفضائية منها والاقتصادية– الاجتماعية، تُضاف اليها الشخصيات المنتقاة بدقة لتكون نماذج تمثيلية عن سكّان البلدة، ما يكفل أن تتحوّل الرواية “عملا دراميا، وملحميّا، يترك انطباعا مباشرا، بل يخلق إيهاما (لدى القارئ) بوجود حياة بشرية كاملة،من خلال عدد محدود للغاية .(LUckacs,1965.P:100) من الأشخاص والمصائر..”.
ثالثا – وقد يخلص القارئ الدارس من وصف الإطار المكاني في الرواية، إلى أنّ لكلّ شخصية فاعلة في الفصل مسرحا مكانيا يتحرّك عبره، وينبئ بمكانته ودوره في السّرد؛ فلو تناولنا شخصيتي وردة الكسّار، وزينة، وتتبّعنا مسارهما المكاني الذي أمكننا رصده، طوال الفصل الأول، وعلى امتداد مشاهده الثلاثة عشر، لتبيّن لنا الآتي :
* أن ورده لم تبرحْ المكانَ – النواة، أي الدكّان (“بمطعم، بحانة، بمقمرة، بكلّ شيء.)، من حيث تمارس سلطانها، على زينة، ابنة زوجها سعيد (من امرأة أولى متوفّاة، اسمها زاهيه) المتوفي، وعلى طام ابنهما وعلى الجدّ أبي سعيد. وبالمقابل، تمارس، من المكان عينه، اجتذابها الجنود العثمانيين، والضبّاط من ذوي المراتب العليا والنقود. وبالتالي، لا يعدو مسرحها المكاني أن يكون المكانَ النواة والذي لن يقيّض لها أن تغادره (في الفصول اللاحقة) إلاّ مرغمة (المحكمة العرفية، عاليه)، أو على حساب توازنها العقلي وسلطانها الذي كان لها.
* أما الثانية، زينة، فقد مثّلت نقيض خالتها (وردة) ،من حيث حركتُها المكانية ؛ إذ بدت نابذة المكان-النواة ومنطلقة منه صوب الساحل (إنطلياس) لتبتاع أغراض الدكّان، من خبز وفواكه وغيرها في سلّة عارمة وتعود أدراجها صعودا، أحيانا وحدَها، وحينا بصحبة أخيها طام، تحت وابل المطر وكلّ قساوات الطبيعة ورغم الجوع الذي بدأ يسري في الأبدان الطرية، ولا سيّما طام، وتحاول جاهدة معالجته مما توفّره السلّة.
وعليه، يكون مسرح زينة المكانيّ، في الفصل الأوّل، ممتدّا طوليا، من المنزل- الدكّان، نزولا الى إنطلياس، فصعودا مرة ثانية في طريق عودتها الى ساقية المسك حيث البيت – الدكّان، والتفاف بسيطٌ
ناحية مغارة الخورية حيث تلتقي بسامي عاصم أو الأخ حنانيا، في نوع من الحركة الدائرية الطولية
الممتدة بطرفيها بين ساقية المسك، بما فيها المكان- النواة وأمكنة التخفّي (مغارة الخورية) وإنطلياس، التي تصير بدورها مكان الجذب للشخصية الرئيسية، أي زينة، ما دام عاملا الحبّ والثورة فاعليْن فيجذبها الى عاصم المتواري في المغارة التي تمثّل ذروة النّبذ.
ولو نظرنا الى الأطر المكانية في الرواية كلّها، موزّعة على الفصول الخمسة، لكلّ شخصية مسرحها المكاني، على غرار ما وصفناه في ما سبق، لتبيّن لنا مسار المسارح المكانية، في الجدول (2) الآتي: (انظر الجدول 2)…
ولئن أحسن الروائي رسم الأطر المكانية لشخصياته، في رواية الرغيف، وتحديدمسرح مكاني لكلّشخصية، يعكس ملامحه النفسية، ويترجم عن دوره ووظيفته السردية و”تجاربه الدالّة على هويّته “،فإنه جهد في أن يطابق، قدر الإمكان، بين صوَر المكان وحركة الأشخاص(Ricoeur,1990,p.175) التاريخيين، وبين المسارح المكانية التي اتّخذها المؤلّف لكل من الشخصيات في الرواية.على أنّ الرواية، مهما تكن ذات أبعاد قريبة من الواقع، فإنها لا يسعها أن تجيب عن بعض التفاصيل في حركة كلّ شخصية،
ولا سيّما البطلة زينة ؛ فعلى سبيل المثال، لا يشير المؤلّف إلى الكيفية التي أمكن لزينة من خلالها أن تصل الى عاليه، حيث حبيبها قابعٌ في سجنه العرفي، من قرية في المتن. وإنما يدع خيال القارىء يملأ الفراغات المكانية التي يوحي بها السياق السرديّ، في زمن (واقعي) تقطّعت فيها لطّرق، وتبدّلت المحطّات، وازدادت أعمال النهب والسلب والاعتداء، إبان المجاعة الكبرى على ما يرويه الآباء اليسوعيون في لبنان، “بحيث أحكم العثمانيون حصارهم على بيروت وجبل لبنان، وصادروا كلّ شيء، من أحصنة وبهائم وجِمال، كما صادروا السكك الحديد وحُصر استخدامها بالنقل العسكري“.
(مي ابي عقل، جريدة النهار، معرض صوَر :اليسوعيون والحرب العالمية الأولى في لبنان)annahar.com /article /133104-17-11-2014 حتّى صار التنقّل بين بلدات المتن والشوف، وهي مسار البطلة زينة من ساقية المسك وإلى عاليه، شأنا محفوفا بالمخاطر على حياة ذوي القوة والشكيمة من الرجال، فكيف بالفتاة المفردة؟ هذا إذا سلّمنا جدلا بتوفّر وسائل النقل لزينة، وعدم اضطرارها لسلوك طريق متعرّجة وطويلة بين قريتها وإنطلياس الساحلية، ومنها الى بيروت، ومن ثَمّ إلى عاليه، عبر القطار أو عربة الخيل التي صادرتها السلطات التركية أو خرج القليل منها عن سيطرتها.
ومهما يكنْ من أمر الوقائع التي يمكن أن تقلّل من واقعية المسرح المكاني الذي يرسمه الروائي لزينة،
فإنه أفلح في إضفاء قدر من الصدقية والمعقولية على هذه الشخصية الأنثوية الملحمية والمخالفة للصورة النمطية التي لطالما مثُلت في أذهان العامّة الى حينه.
ماذا يستخلص القارئ من كلّ ما سبق: أنّ الفروق في الصورة المكانية، بينما يبسطه الكاتب المؤلّف من أطر ومسارح مكانية خاصّة بكلّ شخصية من شخصيات الرواية، وبين ما تقدّمه الوقائع غير الشاملة عن الحرب العالمية الأولى وعن واقع جبل لبنان إبان حقبة المجاعة الكبرى، هذه الفروق واسعة بينهما، وبالتالي فإنّ الرواية لا يصحّ أن ترقى الى الروايات الواقعية التي يؤثر عنها دقّتها في نقل صوَرعن المكان، مسرح الأحداث، المتّخذة إطارا عاما لحركة الشخصيات. لئن أمكن اعتبار الرواية استمرارا لتراث الرواية التاريخية التي تحتفل بموضوع مستمدّ من التاريخ، على الطراز الذي قدّمه جرجي زيدان مطلع القرن العشرين، بسبب تركيزه على حقبة المجاعة الكبرى (1914-1918) في جبل لبنان، وفيبلدات ثلاث (ساقية المسك، بحرصاف، بكفيا) ، وإن بتركيز وإتقان في الحبك القصصي يتجاوز فيهما رائد الرواية التاريخية التعليمية، فإنّ الطابع الاجتماعي – الاقتصادي فيها الذي جعله الروائي يغلّف الصّراع بين الطبقات الممثّلة في مجتمع الرواية، ويرسم عبره انهيار عالم بأسره وإطلالة عالم جديد، هو ما يدفع الى اعتبار الرواية نامية الى النوع التاريخي- الاجتماعي الذي يسعى الى تحقيق “هدف جوهريّ هو (Lukacs,p:160) “…أن يمثّل الاتّجاه الذي يتحرّك المجتمع نحوه
ب- الوصف : المجاعة المتنامية في الخطاب الوصفي
لا يخالج القارئ شكّ في أنّ الرواية “الرغيف” وأي رواية، “لا يمكن أن تكون من غير وصف “، وأنه لأيسر على المرء أن يتخيّل وصفا خاليا من أي عنصر سردي، من أن يكون العكس حاصلا. على أنّالوصف الماثل في بعض الأنواع السردية، من مثل الملحمة والحكاية والقصّة القصيرة الرواية،حيث يحتلّ الوصف حيّزا كبيرا للغاية، لا نراه يكفّ عن كونه معينا للسرد ذاته” على حدّ قول جيرار جينيت. (Genette,Figures 2,1969.p.p.57-58)
ولما كنا لا نزال نستنطق رواية “الرغيف” عن كلّ ما يقرّب من كونها وثيقة تاريخية عن المجاعة في
جبل لبنان، أوائل القرن العشرين، فقد شئنا أن نعالج ما يقدّمه الوصف لنا من معطيات جديرة بالتحليل.
فمن توطئة القسم الثاني من المقاربة الرموزية للرواية (الرغيف) نتقدّم إلى مساءلة الأبعاد” الدلالية “الكامنة في الأوصاف (ما دام الفارق بين أسلوبيْ السرد والوصف، بحسب جينيت ماثلا في الدلالة) ، أوفي وضعيات الوصف المختلفة باختلاف السياق السردي الذي اندرجت فيه.
1 – تشكيل خلفية الأحداث :
من أولى وظائف الوصف، في العمل القصصي الطويل (والقصير علىالسّواء) ، تكوين الخلفية الاجتماعية والنفسية التي يفترض أنّ الفاعلين (أو الشخصيات) الماثلين في العمل القصصي ينطلقون منها، وتغلّف ردود فعلهم، وتشي، الى حدّ ما بمصائرهم ؛ “لم تكنْ وردة كسّار في ماضيها صاحبة دكّان، ولم يكن من تقاليد أهل ساقية المسك أن تفتح النساء الدكاكين ويتعاطين البيع والشّراء.(ص.23)
كانت ساقية المسك تعيش، قبل الحرب الكبرى، على مواردها المحلّية من زراعة الكرمة وتربية دود الحرير، عيشةً متواضعة كسائر قرى الجبل اللبناني، وفي فترة من الزمان على حياكة الدّيما التي أكسبتها شهرةً امتدّت حتّى البلقان….(ص.23)
على أنّ مورد ساقية المسك الأعظم كان من مهاجري أبنائها إلى أمريكا. فقلّما يخلو بيت فيها من أب أو أخأو عمّ.. نزح عن الديار وركب البحار وراء الرزق…(ص.23)
ثمّ كان أن نشبت الحرب، فانقطعت النساء والصبايا في ساقية المسك عن أغانٍ كنّ يوقّعنها على طقطقة
المكّوك ذاهبا آيبا…واستقبل البيت دورَه الثالث: فتحت ورده دكّانا !….”(.ص.24)
ولو نظر القارئ مليا الى التكوين التركيبي الغالب في المشهد الرابع من الفصل الأول، بعنوان “التربة”
(ص ص.23-27)، لوجد أنّ أغلب المقاطع فيه تتكوّن من جمل مبنية على التركيب الآتي : كان + فعل مضارع، أو كان + اسم + خبر. وهي تراكيب دلّت على زمن ماضٍ، مستمرّ في جريانه وقت حصوله، للدلالة على تقاليد أو نمط من العمل كان سائدا بين سكّان قرية ساقية المسك ، بيد أنه انقطع عن الزمنالحاضر الذي هو زمن السّرد، أو إطار السرد الزمني العام، والذي افتتحته ورده كسّار بإدارة دكّان، بديلا عن العمل في غزل الحرير على النول..وعلى أية حال، فإنّ والحال أنّ المشهد برمّته مخصّص بوصف ما كانت عليه قرية ساقية المسك، قبل وردة كسّار، من عملٍ بمغازل الحرير وصناعة الديما، وما كان أفضى اليه من اكتفاء مادّي انعكس رضا لدى العامة، وتجلّىالرضا غناء النساء والصبايا. أما عهد وردة كسار فقد أفضى الى قطيعة مع الحالة الأولى، وتحوّلا، من فرح الكفاف إلى نقمة العوَز ونَكَد انقطاع الصّلات بين الناس وانكفائهم إلىتدبّر أمورهم للنجاة من الموت جوعا، وتركٍ لكلّ لحظات الفرح والغناء. واستنادا الى هذه الخلفية القاتمة، التي باشرها الروائي مطلع روايته، أو من وضعها الأولي، بحسب الترسيمة السردية التي استخلصتها اللسانية البنيوية في فإن الحدث الرئيس بالمسار (Propp.V.1963) في تعيينها مراحل الحبكة القصصية بحسب فلاديمير بروب السّردي المتواصل، سوف يطّرد تعقيدا ويزداد درامية، فيؤول، في عقدته، المتمثّلة في الفصل الثالث بعنوان “الغيث “،إلى تفشّي المجاعة في القرية، وقضائها على ورده كسّار وأبوزيد وآخرين بأبشع ميتةيمكن تصورها:”هذا قمباز أبوزيد، وهذه شعرات ورده، وهاتان يداه…بل يداها هي ملقيتان عليه….
وأسنانها في فخذه، والفخذ معروقةٌ قد انكشط لحمها عنها وعلقت قطعةٌ منه بتلك الأسنان المكشّرة….
وانضمّت قدماها هي وتجمّعتا وغابت إحداهما تحت حجر…” (الرغيف.ص.171) إذا، قضت ورده وهي تقتاتُ من لحم أبوزيد، في ما عُرف بظاهرة أكل البشر أو الكانّي بالية التي يلجأ إليها المشرفُ علىالموت جوعا من أجل البقاء قيدَ الحياة.
2 – إدراج الحبكة في واقع أعمّ (إطّراد المجاعة) :
“ولولا ذوو الشرائط اللمّاعة ومجيدياتهم المُرنّة لماتت ورده جوعًا ومات مَن وراءها، كما يموت الناسُ في ساقية المسك وغيرها بالعشرات والمئات..” (م.ن.ص. 13) ونعني به، استخدام الكاتب الوصفَ لغاية إدراج الحبكة القصصية في الرواية، في سياق حالة واقعية، تتنامى خارج السّرد الروائي، قبلَه وخلاله وبعده. فالمجاعة، التي يُفترض، تاريخيا، أنها بدأت نُذُرها في السنة الثانية بعدَ بدء الأتراك حصارهم الشاطئ اللبناني (هواري،2013) وكلّ المنافذ المؤدية الى الجبل شرعت في قتل سكّان جبل لبنان، ومنهم أبناء قرية ساقية المسك، بعد أن استنفدوا مدّخراتهم وحيلَ بينهم وبين أقاربهم وأبنائهم في المهاجر،بسبب الحصار عينه، باستثناء “ورده ومن وراءها“ لإفادتهم من أموال الضباط الأتراك وجنودهم لقاء ترفيههم وإطعامهم وتحقيق نزواتهم.(ص.26)
ولم تقتصرْ وظيفة الإدراج على إشارة يتيمة، وإنما تعدّتها إلى إشارات وصفية عديدة، تنمّ عن اندراج
شخصيات الرواية في سياق الدراما الكبرى التي جرى توصيفها، والتي تنضوي أحداث الحبكة القصصية الأساسية فيها. وذلك في ما يلي :
– “تصوّر ما كان يحلّ بأبوسعيد وزينة وطام لولا ورده ! بهم كلّهم، حتّى الصبحا كانت تموت جوعا. هل تعرف الصّبحا ؟ تسمعين مني يا ورده، إذبحيها، إذبحيها قبل أن تموت جوعا.. أنا أبوزيد…
الجوع ما عليه أبوزيد، كنتُ أموت أنا لولا ورده..” (ص.17)
-”أنتِ أيضا يا صبحا تجوعين !”(ص.28)
– “جاء طام في اليوم التالي فأعطته الخادمة رغيفين أيضا، فدفع الى أمّه واحدا وأكل نصف نصيبه… ثمّذهب مطمئنا الى أنهما نائلان من البيك كلّ يوم رغيفين يمسكان بهما الرمق مع ما يجمعانه في الحقول من أعشاب..” (ص.150)
3 – توثيق مشاهد من المجاعة :
ونعني بها أنّ الروائي عواد، لا يني يذكّر القارئ بأنّ للرواية أصلا واقعيا مقتبسا من التاريخ، باعتبار أحداثها “وقائع وأخبارًا تاريخية في جملتها، وهي مستقاة من عدة مصادر…” (ص.230)، فيعاود تشكيل مشاهد من المجاعة مستشرية، بين ظهراني الشخصيات، وبتقنية التوثيق الدال على آثارها المفجعة في كرامة البشر وكيانهم الجسماني والروحاني على السواء. (أنظر. هواري، وعبد المسيح.)
– محطّة عاليه : “كانت بلدة عاليه قبل الحرب مصيفًا لأغنياء بيروت وأشرافها، ومقامًا للهو والسرور.. أربع سنوات كاملة مرّت على عاليه وكأنّ عاليه أوقفت الزمان عن دورته في الفلك فهو يزحف بين الأقدام والوحول والسلاسل، يومه شهر وشهره دهر.. والمحطات في العالم مملوءة بالقلوب الخافقة للقاء الأحبة، والوجوه الطلقة والثغور المرنّة بالقبلات دورته أما محطّة عاليه فكان عليها وجومٌ مخيف، يروح الجنود بحرابهم اللامعة ويجيئون،.. والناس أشباحٌ منتصبة، شيوخٌ واطفالٌ يبسطون أيديهم للحسنة، ونساء وصبايا في أسمال بالية، وعيون ملتاعة بارزة، يعرضن جمالهنّ برغيف خبز..”(ص.63)
– جمع الموتى من الطرق :
“ وانصرف الرجلان إلى الزاوية الأخرى من القنطرة، فوقف طام ينظر. يفعلان… كانت في تلك الزوايا امرأة مطروحة على ظهرها يسرح عليها القمل، ويعلق على صدرها العاري طفل له عينان هائلتان. تقدّم الأول فرفسها على خصرها وانتظر…كان رأسها ملقى الى جانب، وشعرها منسدلا علىالبلاط، وقد اندلق من صدرها ثديٌ فيه أخاديد ومشحات، تعبث به اليدان الصغيرتان، وينقضّ عليه الفم الصغير ويجذبه عصرا ثم يفلته ويبكي.
ورفس المرأة ثانية. ونظر إلى رفيقه وقال :
– لقد شبعت موتا..” (ص.169)
* إخراج صورة الأرض الموات :
ومن وظائف الوصف، في رواية الرغيف،أن يُخرج صورة متلازمة مع شيوع المجاعة وتمكّنها من نفوس شخصيات الرواية، من ساقية المسك، ومن نفوس اللبنانيين من سكان جبل لبنان، في حينه، هي صورة الأرض الموات، التي يخدم كلّ مظهر فيها الفناء والعدم.
“كأنّ الربيع، خير الأرض، ذهب مع سائر خيراتها، ما عافه الجرادُ أو لم يقدر عليه أتى عليه الأتراكُ وبغالهم. إلاّ الشّوك والعوسج، وبضع نباتات عاصيات،ما لهنّ اسم اعتصمن بصخرة عاتية..منتظرات يدا تقية في يوم الجمعة الحزينة.
… حتّى الساقية جفّ ماؤها، وأسن ما تجمّع منه في البُرك، وفاحت رائحةُ النتن القاتلةُ من جثث الحيوانات تموتُ فيلقيها العسكر في الوادي. حتّى السماءُ تنكّر وجهها فاربدّ بعد صفائه، ومشت فيها أشلاء غيوم وراء أشلاء. وسكون في الجوّ كسكون القبور لا يصفّق فيه أبوحنّ، ولا يلّونه حسّونٌ بريشه..”(ص.131)
ولا حاجة، ههنا، للإشارة الى التطابق الجزئي مع ما تنقله الوثائق التاريخية القليلة عمّا أصاب اللبنانيين في تلك الحقبة، من مجاعة شاملة “ أهلكت في العام 1916 عشرات الآلاف من السكان (انظر.عبدالمسيح. 2014، وهواري.2013,)، وقد “فاقم النقص في الحبوب، أسراب الجراد التي وصلت إلى البلادمن فلسطين جنوبا خلال شهر نيسان تقريبا من العام 1915” (هواري.2013.تاريخ من لا تاريخ لهم، ص. 267)،”مقضية على الغلال والمحاصيل.. إلى انتشار الأوبئة، مثل أمراض التيفوس والديزنطاريا وغيرهما في ظلّ غياب شامل للأدوية…”
Lebanoninhistory.com/?page_id=205(25-11-2014) (مسعد،ن. لبنان في التاريخ)
وعلى الرغم من التطابق الدلالي، بين مضمون الوصف الذي أجراه الكاتب لمشهد الطبيعة الميْت أو الهالك بهلاك البشر من ساكنيه، بينه وبين النص التاريخي الذي يصف الواقعة عينها (المجاعة وبوار المواسم و أسراب الجراد) فإنّ أمرا لافتا يميّز الوصف في النص الأول : كونه مصوغا بأسلوب أدبي، تمثّل في جمل فعليّة ذات بنيتين : ظاهرة وباطنة ؛ الظاهرة أنّ جمَل الماضي الفعلية تتبدّى وكأنها تُنمى الى السرد، (ذهب، عافهُ، جفّ، أتى على، اعتصمن، أسِن، فاحت، تنكّر، فاربدّ) . ولكنّ النظرة المتأنية تبيّن أنها أفعال يستفاد منها الوصف الذي كأنّه حاصلٌ في ذوات الكائنات الطبيعيّة، بل كأنّ الجفاف والأسنَ في المياه وامتناع الزهر عن إرسال فوحه حاصلة بإرادة خفيّة منها، في نوع من الانسجام الصامت مع إرادة الموت التي مدتّ سلطانها إلى البشر من حولها، فانعكست انطواء وتخلّيا عن النضارة، والضوع، وتنكّرتالسماء لصفائها الذي لطالما أُثر عنها.
ذلك هو الفارق الأساسيّ والحاسم بين طبيعة الوثيقة أو النص التاريخي، وبين طبيعة النص الروائي الأدبي، وإن مبنيّا على أساس ومادّة تاريخيين.و الأسلوب الأدبي يتخطّى به الكاتب رجاحة التاريخ وسطوة الواقع التي تحملها الوثيقة، أسلوبٌ تُستشفّ منه إرادةٌ خفيةٌ للكائنات في قبول الموت، أوالاستسلامله وكأنه بات قدرا إلهيا لا ردّ له.
ج- شخصيات الرواية
تُعتبر الشخصية “عنصرا من عناصر المشهد الوصفي في الروايات الواقعية “ بحسب زيتوني (ص.113). على أنّ التعريف عينه قد يصحّ في الروايات التاريخية، أو تلك التي تتّكئ على التاريخ من أجل توليف رواية قائمة على تيمات الحرّية والعدالة والعروبة (وهذه حال رواية الرغيف)، أي مستمدّة من خطاب) ينظر الى الشخصية GREIMAS . وحتى ولو كان غريماس GENETTE المؤلّف، على حدّ تعبير جينيت (في (من منظار مختلف، فيستخدم مصطلحين بديلا عن الشخصية هما، العامل والممثّل (ص.146-155،، فإنّ القارئ لن يسعه إلاّ أن يلتقط من الشخصيات في رواية “الرغيف “ بعديْن(Du sens-2,1979 كتابه أساسيين، وهما :
1 – أدوار الشخصيات بحسب بروب، وتوزّعها وفقا لأهمية دورها وارتباطه بمجريات الحبكة القصصية، باعتبار إحداها بطلا أو بطلة (أو بطلا سلبيا) وشخصية رئيسية، وإحداها خصما وشخصية ثانوية، .(opposant، أو معيقة عملَه « Adjuvant أو باعتبار الشخصيات صنفين، تبعا لكونها معينةً البطل)
2 – صفات الشّخصيات وطبائعها ومكانتها داخل إطارها الاجتماعي المرسوم لها، وقدرتها على تمثيل فئةمن الناس،ممن ينتمون إلى مجتمع ذلك الزمان، في جبل لبنان الذي يفترض به أن يكون إطارا مكانيا للرواية وأحداثها. وبناء على هذا التمثيل النموذجي يصير من الجائز أن يحلل القارىء هذه الشخصيات ويطرح فرضيّة أن تكون هذه الشخصيات قادرة على تمثيل فئات المجتمع اللبناني تمثيلا واقعيا، أو أنها تُنمى إلى رؤية فكرية وفنّية خاصّة بالكاتب توفيق يوسف عوّاد ليس إلاّ.
الجدول (3) سمات شخصيات رواية “الرغيف “ :
(يتبع الجدول)
مما يتقدّم، يتبيّن لنا أنّ للشخصية، في رواية الرغيف، شأن كلّ رواية حديثة، مكانة محوريةفي بناء العمارة الروائية ؛ حتى ليمكن القول إنّ الشخصية “أثرٌ من آثار الخطاب، ولكنّها تنتمي الى الحكاية “(زيتوني، ص.115) بحسب جينيت، ما يعني أنّ هذه الشخصيات التي أوردناها أعلاه، والتي كادت تتجرّد من أوصافها الحسّية الملموسة، سوى ما اقتضاه السرد أو السياق أو الدور، تبدّت للقارىء وكأنها تحقّق بعضا من تصوّر المؤلّف النموذجيّ في ما يحسن أن تكونه الفتاة الريفية، أوائل القرن العشرين، وفي مايفترض بها أن تؤدّيه من أعمال لتحافظ على وجودها وحياتها، في خلال المجاعة التي تتهدّد كلّ فرد منأسرتها. والحال أنّ الصورة النموذجية هذه، المستفادة من السمات التي توفّرها سياقات الوصف في الرواية، وأغلبها خُلُقي (من طبقة فقيرة، مثابرة في العمل لدى خالتها، ومكابرة على آلامها لأجل أخيها وجدّها،..) لا تلبث أن تهتزّ، لتتجاوزها إلى صورة نقيضة، هي صورة الفتاة الثائرة التي تتحوّل، بعد
موت خالتها ورده وأبوزيد جوعا وبأبشع صورة متداولة، وبعد اختفاء جَدّها واكتشافها أخاها حيا،بين رميم العظام وروائح النهايات، إلى زعيمة العصابة البيضاء، بمعونة طانيوس وأخيها طام، تقتحم بيوت الأغنياء، في قرية ساقية المسك، ممن استغلّوا ظروف المجاعة، واستحصلوا بالحيلة وبالرهن علىبيوت الفقراء وأملاكهم، وتقتل الخونة، وعلى رأسهم خليل معلاّ، ثمّ تمضي الى دمشق لاستقبال جيش الثورة العربية.وعلى هذا لا نحسب هذه الشخصية “مسطّحة “ (مرتاض،ع.1998)، وإنّما هي “مدوّرة”بل قلْ “دينامية “ أو “مكثّفة “ على ما قال به تودوروف ودوكرو.
ولكنّ سياق الرواية كان يحمل في طيّاته سماتٍ دالّة على بطل آخر هو سامي عاصم؛ وإن صحّ أن البطلهو محصّلة “دوالّ قائمة في النصّ ومتكوّنة من ثلاثة معطيات :(PH. HAMMON بحسب فيليب هامّون (معلومات صريحة، واستنتاجات، وأحكام قيمية….مثل جرح ناتج عن عمل بطولي، واستقلال مميّز، وفي الحوار، والتعليقات الصريحة…” (زيتوني، ص.35-36)، فإنّ سامي عاصم يعدّ بطلا في السياق الذي اندرجت فيه أفعاله، وبحسب التعريف المذكور أعلاه، باعتباره ثائرا على الأتراك، أو حاملا لواء الصراع الوطني والعروبي مجسّدا في الجيش العربي الذي دخل مدينة دمشق فاتحا، بعد أن لاحق أرتال الجنود العثمانيين في كلّ بقعة من بقاع الأرض العربية، وأجبرهم على الانسحاب أذلاّء. أما استشهاده في معركة المزيريب فلا يفقده هذه المكانة، لا سيّما أنه كان على قاب قوسين أو ادنى من الاستشهاد على أعواد المشانق، الى جانب رفاق له، من مثل نعّوم لبكي وعمر مصطفى حمد ورفيق سلّوم وغيرهم.
ولو نظرنا الى مسألة البطولة لدى عواد، في رواية “الرغيف”، من منظار كونها “أثرا من آثار الخطاب
الضمني “ بحسب جينيت (زيتوني،م.ن)، لخلصنا الى أنّ زينة وسامي عاصم هما بطلا الرواية، لكونهمايجسّدان الخطاب المزدوج الطرف ؛ الخطاب ذا البعدين: الوطني العروبي، والثوري الاجتماعي في آن.
“البك وأمثاله هم العدوّ الداخلي والأتراك العدوّ الخارجي. الأتراك يسلبون الناس حرّيتهم، وابراهيم فاخر وأمثاله من الأغنياء الجشعين يسلبونهم خبزهم. الخبز والحرّية، هل يستطيع الإنسان أن يعيش بدونهما..” (ص.178- 179)
1 – البعد الوطني العروبي العلماني :
إنّ المؤلّف توفيق يوسف عوّاد،إذ يضع على لسان ثلاث شخصيات من الثوّار (سامي عاصم، وشفيق
أفندي، وكامل أفندي) ، ثلاثة أنماط من التفكير (الإسلامي، والقومي العروبي، والقومي العلماني) ،
ويجعلها تتحاور في ما بينها، فإنه يغلّب النمط الأخير الذي يمثّله البطل سامي عاصم، والذي مؤدّاه أنّ الصّراع الذي يخوضه اللبنانيون والسوريون والعرب عموما ضدّ الأتراك لم يكن صراعا بين مسلمين ومسلمين آخرين، بقدر ما هو صراع بين مستبدين ومتسلّطين، وبين العرب (مسلمين ومسيحيين) الثائرين على الظلم،وأنّ بناء الدولة، بعد رحيل العثمانيين، يجب ألاّ يكون على أساس ديني، إنّما علماني.
أ- “الأتراك في أكثريتهم مسلمون، والعرب في أكثريّتهم مسلمون كذلك، ولكن القضية ليست قضية
مسلمين أو غير مسلمين. بل قضية عرب يقاتلون أتراكا لاسترداد حرّيتهم، وأتراك يقاتلون عربا لاستبقاء سلطانهم عليهم. اليومَ وُلدت القومية العربية الصحيحة. إنّ أمّها هي هذه الثورة التي أمشي فيها أنا المسيحي العربي الى جنبكم أنتم المسلمين العرب لنحارب عدوا مشتركا لبلادنا هو التركي، سواء اتّبع محمّدا أو المسيح أوالشيطان..” (ص.207) “…أمّا نحن في هذا العصر، فعيبٌ علينا أن نبني دولتنا الجديدة على أسس الدين.إنّ قوميّتنا العربية وُلدت اليوم، أقول ولدت اليوم، ولا يهمّها من الخلافة إلاّ بمقدار ما يهمّ الإيطاليين من البابوية. الذين يقاتلون الأتراك اليوم يقاتلون معهم الألمان وهم لا ينازعونهم على خلافة..” (ص.207).
2 – البعد الاجتماعي – الثوري :
ويتمثّل هذا البُعد الاجتماعي– الثوري في مظهرين دالّين :
أ- تبلور الانقسام الأهلي بين طبقتين واضحتي المعالم ؛ طبقة ميسورة، بل فاحشة الثراء، تملك المال وتقاسم الأتراك منافع السلطة، تقابلها طبقة من الفقراء الجائعين، والذين يعانون سكرات الموت على جوانب الطرق جوعا، بعد أن انهك الحصار والجراد وظلم الأغنياء أبدانهم، وأبطل مناعتهم وقدرتهم على الحياة.
وسط هذا الانقسام الحاد نلمح تحوّلا سرديّا لافتا، يتمثّل في انتقال فئة من سكان ساقية المسك من خانة المضطهَدين والمجوَّعين الى خانة الثائرين على الأغنياء (عدوّ الداخل)، ولا سيما زينة ومطانيوس اللذين شكّلا العصابة البيضاء لملاحقة ابراهيم بك فاخر بك وأمثاله، ممن “استرهن بيوت الفقراء بعشر أثمانها “ (ص.165)، وأجهز على مناعة الناس، بعد الجراد والحصار البحري وكساد مواسم الحرير.
ب- بروز الوعي الطبقي في هيئة صراعية، بين الأغنياء والفقراء المشار اليهما أعلاه، يجسّده البيان الذيوقّعته العصابة البيضاء، وقد أُرسل إلىابراهيم فاخر، نفسه، المخاطب الأوّل فيه، ومنه الىكلّ الأغنياء الذين يثبت استغلالهم الفقراء.
– “هذا الكرم وحده يساوي مائة ليرة ذهبا، وابراهيم بكفاخر يسترهن البيت والتوتات التي أمامه، والكرم والحقل الذي في طرفه بمئة ليرة ورقا ! ورطل الطحين بليرة قبل أسبوعين، وبليرة ونصف اليوم وبليرتين أو ثلاث بعد شهر. وإذا طالت الحرب..واستحقّ الرهن فلم يتمكّن من دفع المبلغ وفائدته الثلاثين بالمائة، فهل يعني أنه سينفض يده من الكرم والحقل والتوتات والبيت الى الأبد ؟” (ص.131-132).
– “ إلى ابراهيم فاخر. وجّهنا إليك مكتوبا قبل هذا نبلغك فيه إرادتنا. ولما كانت المهلة التي حددناها لك، وهي أسبوع، قد انقضتولم تنفّذ أوامرنا رأينا أن نكتب لك ثانية ونستمهلك ثلاثة أيام أيضا. فإذا لم تبادر خلالها الى إعطاء أصحاب البيوت المرهونة عندك والمذكورين أدناه المبالغ المعيّنة تجاه اسمائهم نعدمك الحياة…
تعطي هذه المبالغ كاملة الى هؤلاء والى غيرهم ممن استرهنت بيوتهم أو اشتريتها بعشر أثمانها….
العصابة البيضاء.” (ص.164-165)
ولكن، ما الذي يمكن أن يستخلصه قارئ الخطابين على المستوى التداولي، أو ما يمكن أن يشيرا اليه من علاقات كامنة بين أطراف الخطابين وشخوصهما ؟
للإجابة، يتبيّن من الخطاب غير المباشر، والخطاب المباشر أنّ العلاقة المستفادةمنهما هي علاقة في ما خصّ دلالتهما العميقة. في حين أنهما يوحيان بدلالة (Bronckart,1994) المنازعة على المُلكيةخارجية، أي من خارج سياقهما، وعنيتُ بها علاقة التمثيل المضمرة، تمثيل الفقراء من أهل ساقية المسك من قبَل العصابة البيضاء، في ظلّ علاقة استغلال واحتلال طرفاها الأتراك العثمانيون والأغنياء من اللبنانيين.
جدول (4) شخصيات “الرغيف “ بحسب أدوارها :
في المحصّلة الأخيرة تعتبر الشخصيات، في رواية “الرغيف”،على ما بدا لنا من الجدول الثاني، تمثيلا
للعلاقات الصراعية القائمة في مجتمع الرواية : فئة تسعى الى التحرر من الاحتلال التركي، ممثلةً بزينة وسامي عاصم وشخصيات هامشية أخرى، من ذوات الانتماء العروبي الخالص، وفئة تدافع عن سلطانها التركي وعن مصالحها ولا توفّر قمعا ولا قتلا ولا تجويعا إلا مارسته بحقّ أغلب الشعب انتقاما من الفئة الثائرة القليلة. وهذه الأخيرة ممثّلة بالضباط الأتراك، مثل راسم بيك ورفعت بيك وغيرهما، وبالجواسيس وعلى رأسهم خليل المعلاّ الذين يتسقّطون أخبار المناضلين لسجنهم وإعدامهم. ويسعف هذه الفئة جماعاتٌ بل أفرادٌ ينتمون الى طبقة الأغنياء، ممن امتهنوا المتاجرة بأملاك الفقراء، من أهل ساقية المسك وبحرصاف وغيرهما، ممن ساهموا في إضعاف الهيئة الاجتماعية، وجعلها عرضة للمجاعة، بحسب المسار القصصي الذي ترسمه الرواية. ولا أدلّ على ذلك من مشاهد الإذلال التي يصوّرها الكاتب لجموع الفقراء، ومن بينهم طام وأمه ورده المجنونة، وهم يندفعون الى عمارة ابراهيم بك فاخر لينالوا فُتاتا من الخبز كان يُرمى للكلاب، أو في أحسن الأحوال، يحظى كلّب رغيف أو قطعة منه يردّ عنه غائلة الجوع ليوم واحد فقط. وكان جلّ هؤلاء، بحسب الحوارات المنقولة عن أفواه الشخصيات الهامشية، من جمهرة الجوعى، من ضحايا ابراهيم فاخر، الذين رهنوا لديه بالمائة ليرة البيتَ والحقلَ والمراحَ، وبالكاد كانت تكفيهم قوت أيامهم المعدودة. وعلى هذا فإنّ الغالبية العظمى من الشخصيات الهامشية، المشار اليهم بالإسم أو أولئك “عشرات الجياع..، شيوخا ونساء وأطفالا، بعضهم يستطيع المشي، والأكثرون انطرحوا لا يملكون إلا الأنين..” (ص.167)، يشكلون مجتمع الضحايا في مقابل مجتمع الجلادين الذي يتمثّل في الشخصيات المعيقة، بحسب بروب. وقد يسع الباحث، شأني، أن يستخلصما يمكن تسميته بِنية إيديولوجية كامنة في خطاب المؤلّف :إذ ينزع مجتمع الجلاّدين (العسكر التركي، وجواسيسه والأغنياء) إلى ممارسة فعله المألوف، وهو ظلم سكان ساقية المسك وبحر صاف (ممثّلين بشخصيات: زينة، وطام، وأبي سعيد، وغيرهم) إلى استمراره في قهر المعنيين على نحو مطّرد، يصل الى حدّ قتلهم جوعا عقابا على نزعتهم الوطنية الاستقلالية، على ما سبقت الإشارة اليه.
:(Intrigue- الحبكة القصصية (تُعتبر الحبْكةُ “بنية النص، أي النظام الذي يجعل من الرواية بناء متكاملا..”(زيتوني،2002، ص.72).
ولأنها كذلك فقد سعينا، من خلال تتبّعنا مسار الأحداث في رواية “الرغيف”، إلى تحقيق هدفيْن اثنين :
1 – تبيّن طبيعة الحبكة القصصية في الرواية،واستيضاح رؤية المؤلّف منها،واستخلاص الترسيمة السردية التي تنامت على سمتها الأحداث في الرواية.
2 – رصد مقدار الواقعية أو التمثيل الواقعيّ الذي تنطوي عليه الحبكة حيال موضوعها المفترض، عنيتُ به المجاعة الواقعة على اللبنانيين إبان الحرب العالمية الأولى، وفي عهد العثمانيين الأتراك الأخير (1916- 1918).
ولما كانت الحبكةُ سلسلة من الأحداث مترابطة برابط منطقي، قابل للتصديق لكونه يجاري حركة الواقع التي يحيل عليها الأديب، فقد خلُص كلّ منبروب(1973) وفريدمان (1972)، وفي ما بعد رويتر (1991) إلى أنّ ثمّة ترسيمة للأحداث يفترض أن تكون مطّردة بحيث تبلغ المآل المرجوّ والمعبّر عن “شخصيات العالم الروائي الفاعلة “ (طعمة، 1996)، وهذه الترسيمة توجز في خمس مراحل :
1 – الوضع الأوّلي.
2 – إطلاق الحدث.
3 – التأزّم.
4 – الحلّ.
5 – الوضع النهائي.
ولئن كانت هذه الترسيمة تسجّل اطّراد الحوادث الداخلة في مسار وحيد، نظير ما نرى في الأعمال السردية ، فإنها يسعها أن تؤشّر على وجود (Grojnowski,2000) الصغرى، كالقصة والأقصوصة والحكاية مسار سردي واحد أو أكثر في الرواية تبعا لانتماء الأخيرة الى اتّجاه أو تيّار سردي معيّن، أو تبعا لحجم الحوادث ولتشابك مصائر الشخصيات الفاعلة فيها. وعلى أية حال، فإنّرواية “الرغيف” لمؤلّفها توفيق يوسف عواد، تحمل مسارا سرديا أساسيا واحدا، تتفرّع عنه مسارات فرعية أو انعطافات دالّة على تحوّلات في مصائر الشخصيّات التي سبق أن وصفنا سماتها وما تحمله من ملامح تؤشّر الى قدَرها الذي يلائم الخطاب الكامن في الرواية، على ما أشار اليه جينيت (زيتوني، م.ن).ونحن لو نظرنا إلى البِنية الخماسية التي أنزل المؤلّف الرواية فيها (التربة، البزار، الغيث، السنابل، الحصاد) ، والتي جعلها مسارًا رمزيا لحركة التغيير في المجتمع : من الإطار الاجتماعي والطبقي والفكري الذي يشترط وجود الشخصيات نظير ما تؤدّيه التربة للكائن الحيّ فيها، إلى حركة الكائن والشخصيات الدالّة علىتربيتها ممثّلة بالبزار التي تُرمى في تربة المجتمع (مجتمع الريف: ساقية المسك) من مثل شروع الأتراك في اضطهاد الوطنيين وصمود البعض وسقوط البعض الآخر،وإلى الغيث الذي يأتي الأرض فينعشها بعد موات، كناية عن الغيث يأتي الصامدين فينعش آمالهم بالانتصار، فإلى مرحلة السنابل التي نمت فيها الزروع، كنايةً عن حركة المقاومة الوطنية التي شرعت تتصدّى للأتراك وتنتصر عليهم في بلاد العرب، وانتهاء بالمرحلة الأخيرة المسماة الحصاد والتي يرمز فيها المؤلّف الى نضوج حركة المقاومة السّالفة وانتصارها على اعدائها ودخولها المظفّر الى دمشق. وبالمحصّلة فإنّ هذه البنية الخماسية، الدالّة في الظاهر على حركية زراعة القمح ونمائه وحصاده، والدالّة في الباطن على حركيّة المقاومة الوطنية والشّعبية ضدّ الأتراك والظالمين من أغنياء المجتمع، إنما يجسّدها الرغيف، عنوان الرواية، خير تجسيد.
ونحن لو نظرنا الى هذه البنية (الخماسية) الموصوفة رمزيتها أعلاه، لوجدنا بعضا من التطابق بينها وبين بنية الترسيمة السّردية الخماسية واختلافا في توزيع بعض مراحلها. وإليكم الجدولين (5-6) اللذين نعرض فيهما لكلتا الترسيمتين، ونتبعهما بتحليل مضامين كلّ منهما.
الجدول -5- ترسيمة بنية السرد الرمزية في “الرغيف”: (انظر الجدول)
الجدول- 6 -ترسيمة البنية السردية في الرواية:
(انظر الجدول)
لدى مقارنتنا ما بين الترسيمتين أعلاه، تتبيّن لنا المظاهر الآتية :
* تقديم إطلاق الحدث على الوضع الأوّلي : ويتّضح هذا الأمر في تسريع الراوي – والكاتب- حركة القصّ وما يلحق بها من تشويق مأمول،بجعله الرواية تبدأ بمرحلة إطلاق الحدث، والمتمثّلة بشروع الجنود الترك في ملاحقة الوطنيين حتى في الدكّان المعتبر بيئة خادمة لهم، بصورة عامة.
* تأخير الوضع الأوّلي: وقد ترتّب على التقديم السالف تأخيرٌ لحق بالوضع الأوّلي، الذييفيد “تمثيل العناصر اللازمة لوضع الحبكة على سكّة معقولة، وتكون مفهومة من القرّاء، على أن تبقى حالة البطل فيه (الوضع الأولي) مستقرّة ومن دون تغيير..”
Fr.wikipedia.org/wiki/schema_narratif -16-2-2015
* تضخيم مرحلة التأزّم :بيد أنّ اللافت الآخر، في نقاط التمايز بين الترسيمتين، أنّ الكاتب توفيق يوسف عواد يولي مرحلة التأزّم أهمية كبرى، بحيث يجعلها تمتدّ مرحلتين رمزيتين، هما : البزار، والغيث.
ربما ليقينه أن بداية الخلاص، في رؤيته الزراعية الرمزية،والمتمثّلة بنموّ السنابل التي ترمز الى الثورة على الظلم،لا يصحّ حصولها إلاّ بعد مخاض من الآلام عسير وطويل، يعانيه المظلومون سواء أكانوا شخصيات عاديين أم أبطالا ينتصرون على قدَرهم (زينة) أو يسقطون في ساحة الصراع المفتوحة (سامي).
والحال أنّ الصفحات المئة وإحدى عشرة ، التي انطوت عليها المرحلتان الرمزيتان (أو التأزم) كانت حافلة بكلّ صنوف القهر والملاحقة والاعتقال والتضييق على الأبرياء حتى تجويعهم، والشنق في حق الوطنيين، يمارسها المحتلّون الأتراك، ويعاونهم عليها جواسيسهم (خليل المعلاّ)، وتضاعفها أثرا أعمال الاحتيال والنهب والسمسرة واستخدام النفوذ يقترفها الأغنياء بحق الفقراء الجوعى من أهل ساقية المسك وبحرصاف وبكفيا. وبناء عليه، فإنّ مرحلتي البزار والغيث هما المرحلتان اللتان تُرمىفيهما بزور الثورة،……….. في التربة السابق وصفها، فتتعهّدها المظالم المتمادية والدماء المهراقة والأرواح المزهقة بسقايتها حتى الإرواء.
* تطابق المراحل الثلاث: وهي مرحلة التأزّم والحلّ والوضع النهائي، وفيها يتنامى المسار المأساوي الذي تنخرط فيه الشخصيات، خلال صراعها غير المتكافىء مع العدو الذي يقتل بعضا منها ويُقتل على يد البعض الآخر. وللتذكير فقد طابقت هذه المراحل الثلاث، ثلاث مراحل رمزية، وهي على التوالي: الغيث، والسنابل، والحصاد. وإن شئنا تاويل ذلك المسار السردي (المأساوي) لقلنا أنه يترجم عن رؤية نضالية تتّخذ من الرموز الزراعية دالّات ذات أبعاد إنسانية وسياسية واجتماعية. ومن هذا المنطلق، يصحّ اعتبار حبكة الرواية ككلّ ذات وجهيْن متعاكسيْن ومتكامليْن، عنيتُ بهما: النضال (بحسب فريدمان)/ القهر، بحسبنا؛ ذلك أنّ المسارالسردي بذاته ثنائيّ القطب: فإن صحّ أنّ طابع الحبكة العامّ نضاليّ، وأنّ الرواية تنقل حراك العدد الغالب من الشخصيات المحلّية في نضالها للبقاء وصراعها مع المحتلّ التركي، فإنّها تنقل كذلك حراك الشخصيات المحلّية والتركية في سبيل إدامة القهر والاستبداد ما دامت قادرة على إرسائهما. (أنظر:زيتوني،2002،ص.72-73)
– الرواية بين الواقعية والصدقية :
وبعد،ما الذي يمكن استخلاصه من درس الرواية والبحث في شبه عالمها، ما خصّ دلالتها على الواقع التاريخي الذي ترويه (الحرب العالمية الأولى، والمجاعة في جبل لبنان 1916-1918)، وما تتميّز به في صلتها بالمراجع المادية والمعنوية التي تحمل إشارات دالة عليها ؟
“ما من شكّ في أنّ البحث عن الصدقية بحسب ماساقَه كلٌّ من ديفو، وريتشاردسون، وفيلدينغ، إلى إرساء هذا الاقتدار الذي مؤدّاه” وضع الإنسان كاملا في محيطه المادّي “؛ وهاهنا تكمن الصفة المميِّزة .يعني هذا الأمر أنّ الروائيّ توفيق يوسف عوّاد، في (Watt,1971) للشكل الروائي، بحسب آلّن تايت..” سعيه الى تشكيل صدقية معقولة، قوامها المكان والشخصياتوالزمان “بوقائعه وأخباره التاريخية” (الرغيف،ص:230)، وفي تصوّره الحبكة الدرامية الأساسية، والحبكات الفرعية التي اندفعت في مسارها الإحيائي شخصيات الرواية حتى نهايتها المأساوية،أفلح،أقلّه، في تكوين “الأثر “الذي تركه التاريخ . (Ricoeur,temps et recit,p:153) في نفوس القرّاء، على حد ما أشار اليه بول ريكور وقد يكفي هذا الأثر، أي رواية الرغيف، أن ينقل، انتقائيا، مشاهد من الحياة الريفية في جبل لبنان، وفي إطار مكانيّ مضبوط (بكفيا، بحرصاف،ساقية المسك، عاليه، انطلياس..)، وأن تُوقّع هذه الحياة، وهي على مشارف مجاعة لم يشهد لها جبل لبنان مثيلا لفظاعتها منذ أن كان، بإيقاع المخيّلة المتحفّزة واللغة الأدبية الجميلة (تركيبيا وبيانيا وأصواتيا) . أما نسبتها الى الواقعية، واعتبار البعض أنها مثابة وثيقة تاريخية عن حقبة حرب الأربع عشرة (بعد الألف والتسعمئة) فلا تصحّ، لا بالمقياس العلمي الخاصّ بالتاريخ، ولا بالمقياس الأدبي والنقدي الذي يُركن اليه للفصل الحاسم بالمسألة.وفي أبعد الاحتمالات، فإنّ الصدقية هذه، التي غلّف بها الأديب عواد حكايته، هي أدعى لأن تولّد، في نفس المتلقّي، هذا “التوهّم ، ليس إلاّ. وقد كشفت لنا دراسة الشخصيات في (Riffaterre) المرجعيّ “الذي يتكلّم عليه ريفّاتيرّ الرواية أنّ عوّاد، المؤلّف والكاتب، نادرا ما طاول وصفه ملامح هذه الشخصيات الدالّة على فرادتها أو بطوليّتها، أو هامشيّتها. في مقابل انتقائية انطباعية، لدى اختياره المناظر الريفية الطبيعية، وإسقاطه أوصافا وصورا أقلّ ما يقال فيها إنها تنمّ عن رؤية شعرية في السرد، لا عن واقعية تصنيفية صارمة، تكشف لنا عن أبعاد من الحقيقة التاريخية (المجاعة في جبل لبنان) كانت لا تزال خافية في طوايا النصّ الأدبي الروائي، ويستلّها القارىء (الواقعيّ، إن وُجد) الحذق من المتون.
وإلى أن يتصدّى دارسون آخرون غيرنا للاتّجاه الأسلوبي الذي صيغت به الرواية، وأن يعالج حوافزه الفكرية والإيديولوجية الكامنة وراءه، يسعنا القول إن الجهد النقديّ في مسألة علاقة النص السردي بالواقع المرجعي، وآليات دراسة دور القارىء في تلقّي العمل الروائي لا يزال فيأطوارهالأولى،وإن تكن محاولتنا تندرج في سياق القراءات النقدية الرموزية المختصة نوعا ما، والمتداخلة الميادين في آن.
المصادر والمراجع
العربية
* أبي عقل، مي (2014) جريدة النهار، معرض صوَر : اليسوعيون والحرب العالمية الأولى في لبنان. Annahar.com/article/133104_17_11_2014
*زيتوني، لطيف (2002)، معجم مصطلحات نقد الرواية، بيروت، مكتبة لبنان، دار النهار للنشر.
*عبد المسيح، سيمون (2014)، طواحين الرأسمالية، بيروت، لا دار نشر.
* علي خليل، لؤي (1997) المكان في قصص وليد إخلاصي، في مجلة : عالم الفكر، العدد الرابع، المجلّد
25، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
* عواد، توفيق يوسف (لا تاريخ) الرغيف، بيروت، مكتبة لبنان.
* عواد، توفيق يوسف (1980) ط2، فرسان الكلام، بيروت، مكتبة لبنان.
* طعمة، أنطوان (2014)، سيمياء القصة العربية، بيروت، دار النهضة العربية.
* طعمة، أنطوان (1996)، السيميولوجيا والأدب: مقارنة سيميولوجية تطبيقية للقصة الحديثة والمعاصرة، في: مجلة عالم الفكر، المجلّد 24، العدد الثالث،ص ص :207-234.
* مرتاض، عبد الملك (1998)، في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة،العدد
(240)،الكويت.
* مسعد، نسيب (لا تاريخ) ، لبنان في التاريخ، بيروت.
Lebanoninhistory.com/?page_id=205 ?(25-11-2014)
* هواري، زهير (2013)، تاريخ من لا تاريخ لهم ؛ فلاحو المنصورة ومجتمعهم خلال القرنين التاسع
عشر والعشرين،بيروت، منشورات ضفاف.
المراجع الأجنبية
* ADAM,J.M(2011).La linguistique textuelle.Paris,Armand colin.
* Barthes,R. et autres(1971). Litterature et realite.Paris,Seuil,Points.
* BRONCKART,J.p(1994).Le fonctionnement des discours.Paris,Delachaux et Niestle.
* Eco,U. (1985). lector in fabula(le role du lecteur ou la cooperation interpretative dans les textes narratifs). Paris. Grasset.
* Genette,G. (1969). Figures 2.Paris.Seuil.Points.
*Greimas,A.j,Courtes,j.(1979),Semiotique:dictionnaire raisonne’ de la theorie du langage.Paris.Hachette.Universite’.
*Grojnowski,D. (2000). Lire la nouvelle. Paris,Nathan.
*Hamon,Ph. (1971). Pour un statut semiologique du personage,Poetique du recit.pp.115-180.Paris,Seuil.
*Lukacs(1965). Le roman historique.Paris,Petite bibliotheque payot.
*Propp,V. (1973). Morphologie du conte.Paris,Seuil,points.
*Ricoeur,Paul (1983),Temps et recit-1-L’intrigue et le recit historique,Paris,Seuil,Points.
أنطوان أبوزيد