إيتل عدنان
1- على ضفاف القمر
وضع بائع الحليب الجو ال الذي لا أعرف وجهه مبكرا زجاجة على عتبة بابي والتقط النقود التي تركتها له ثم مضى في صمت مثلما أتى. وكعادته في مثل هذا الوقت, خرج الجبل المنتصب أمام نافذتي من ضبابه. جبل منذور لآلهة هندية خاضت حربا مع الشمس وانهزمت فاحتمت بالغسق الملتهب. ومن يومها, أصبحت العشيات حمراء قانية والليالي عميقة السواد.
أمام بابي, سألني رجل منهك عن الوقت, فأخبرته بأن الصبح صحا لتوه من النوم. دعوته إلى الدخول وقدمت له فنجان قهوة بلا سكر. خلع الرجل المنهك حذاءه ومعطفه ليتدثر بالغطاء الصوفي الدافئ الذي حملته له. كان واحدا من أولئك العمال المكسيكيين الذين يفدون إلى كاليفورنيا في موسم قطاف البندورة.
ثرثرنا معا بإنجليزية ركيكة. وضع المكسيكي علبة سجائره على الطاولة بينما كان الدخان وضوء النهار يزدادان كثافة في الغرفة. تناولنا وجبة الغذاء على مهلنا, ثم سألني الرجل إن كان يستطيع النوم قليلا , فأعرته السرير الوحيد المتوافر في منزلي. غرق في قيلولة طويلة رحت خلالها أتأمل جواربه المنخورة بالثقوب وفمه نصف المفتوح بأسنانه المتناثرة وقميصه المحلول الأزرار, ولما تعبت من تأمله, أغلقت الباب ورائي متسللة على رؤوس أصابعي إلى الصالة الكبيرة حيث الواجهة الزجاجية مشرعة نحو الجبل المقدس. وضعت أسطوانة جاز لأحمد جمال على الفونوغراف واستمعت إليها على الوجهين ثلاث مرات أو ربما أربعا.
على عادته في بداية الاستماع, راح قلبي يخفق بشدة بينما كانت أضلاعي ترتعش وأذناي تزدادن انشدادا واتساعا . ثم غزاني النعاس واسترخاء الروح. إقتربت كثيرا من أقاليم النوم دون أن أدخلها, إلى أن أخذت أصوات الموسيقى تفترق ولم أعد أسمع سوى إيقاعاتها. إختفى البيانو, وباختفائه غمرني التعب من الرأس حتى القدمين فجررت جسمي نحو الفونوغراف لأسكته. جلست على كرسي منخفض بسيط أحبه. كان الوقت عصرا والشمس تنداح في الصالة تحت غلاف ثقيل الوطأة من الحرارة والرطوبة اللزجة. في تلك الساعة عادة يفسد الحليب …
إستيقظ الغريب الغافي في غرفتي. سمعت وقع خطواته وتنفسه القوي الأشبه بالشخير. فتح الباب بهدوء وجلس إلى جانبي. قدمت له قهوة وفوطة فغسل وجهه ويديه وعاد للجلوس قربي. وفيما كنا نحتسي القهوة, لملمت شجاعتي وسألته عما يشغل باله, فأجاب بأنه ينتظر المساء.
إنتظرناه معا , وكنا في موقع يتيح لنا ترصده. كان الجبل الكبير ينزلق وئيدا من الألوان المشعة إلى الألوان المعت مة. وفي لحظة من اللحظات بدا لي وكأنه شبح. وقتها, انقبض وجه ضيفي ثم استرخت ملامحه وعاد إلى الانتظار. وحين أصبح الجبل قرمزيا وتراجعت السماء خلفه, وضع جليسي يده الكبيرة الباردة على يدي ثم سحبها بهدوء. هاهو المساء يحل أخيرا .
فجأة , انتبهت إلى أن الليل يخيم علينا. إستأذنت ضيفي أن أضيء الغرفة فتوسل إلي أن لا أفعل. وبسرعة أدركت أن لا جدوى من الإنارة, فالسماء لاتزال متوهجة بضوء قمر كبير يملأ فضاءها. قمر ساطع بلا هالات. وبحركة مباغتة, نهض الرجل, أغمض عينيه وغمر وجهه بنور القمر كما لو كان يستحم بأشعته. بدا لي كأنه ينام واقفا , في سكون عميق.
شعرت بأن علي أن أكلمه, فسألته عن المشاعر التي تخالجه في هذه اللحظة. ألقى إلي بنظرة امتعاض جلية لكن لباقته الشديدة دفعت به إلى الإجابة على سؤالي بأنه كان طوال حياته يعشق القمر, وبأنه سمع من الإذاعات أن رجالا يستعدون للهبوط على سطحه, وأنه لا يتحمل وقوع هذا الاغتصاب تحت بصره. لذلك قرر هذا الصباح أن يضع حدا لحياته, لكنه لم يجد في نفسه الشجاعة لتنفيذ قراره. وأضاف أنه رآه الآن … رأى القمر يدعوه للقدوم إليه قبل وصول الآخرين, مضيفا أنه في هذه اللحظة وصل إلى حدود القمر ولم يبق عليه سوى الدخول.
قال لي : »إنني ذاهب«. شكر ضيافتي مطولا ومضى …
2- ساقية قرب دمشق
في أواخر النهار, مع دنو الغروب, ينس ل الضوء رماديا موشحا بالصفار, وبين موضع وآخر تخطفه أشجار البتولة الناحلة كما لو أنها منخل ذو ثقوب مربعة واسعة. كانت الأرض تتشقق وتذوي تحت وطأة العطش, تنهار أمام التعذيب الذي يمارسه الجفاف في البساتين المحيطة بالمدينة.
صعدنا, زوجة أخي وأنا, نحو ساقية غير بعيدة لإلتقاط نسمات منعشة تعيدنا إلينا إنسانيتنا في حرارة آب اللاهبة, كان واحدا من تلك الجداول التي لا يتجاوز عرضها المتر والتي كانت تتلوى مسرعة في الحدائق والبساتين على امتداد وادي بردى لتنفحها بعض الشاعرية العربية أو لتغسل أقدام الفلاحين وتزودهم بماء الشرب. كان الأطفال يعومون عراة في هذه السواقي, بينما لم تكن النساء تقترب منها إلا متلف حات بحجاب أبيض.
على هذه الضفاف, ثمة دائما نسمات منعشة تلامس بعذوبتها أرواحنا مثلما تداوي جلدنا الذي تضطهده الشمس الحارقة طوال صيف دمشق. جلسنا على الحافة الإسمنتية الصغيرة وأسلمنا أرجلنا لماء الساقية البارد. عند مستوى الركبة كان يمتد خط وهمي يفصل بين عالمين : تحت الركبة, عالم الصفاء والبرودة المنعشة. وفوقها, جحيم الحرارة والجفاف.
هكذا جمعت ساقيتنا الصغيرة بين نقيضين يتحك مان بحياة الوادي. كما لو أن جداول هذا البلد لا تخترق قشرة الأرض, وإنما تنزلق فوقها كالزئبق. في القرى السورية تموت الأرض من الظمأ أمام أعين الينابيع !
من بعيد, كان يتجه نحونا شكل مبهم مغطى بالبياض : إمرأة تبتسم لنا وهي ترمق الساقية وتتحدث لوحدها كأنها تحلم. وحين اقتربت منا, قالت لنا : »لا تنخدعا بالمظاهر, فهذه الساقية التي تبدو صغيرة وهادئة تستطيع القتل. منذ أيام, وقعت فيها فتاة في الخامسة عشرة لم تكن تجيد السباحة, فحملها الماء مسافات بعيدة. وحين عثر أهلها عليها – وهم مصطافون كويتيون – كان جسدها منفوخا كمنطاد وعيناها مفتوحتين وبطنها متورما . لقد اغتصبها الماء, لكن شابا رآها من بعيد جثة طافية, فحملها ومدد جسدها فوق التراب ثم وشوشها بكلمات غامضة ونفخ في فمها فارتدت إليها الروح. الجميع رأوها ميتة, لكن هذا الشاب من أصحاب الكرامات, وهو يملك بالتأكيد طاقات محرمة على سواه. سبحان الله والصلاة والسلام على النبي : كانت ميتة فبعثها الله بقدرته! أللهم نجنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين« !
ها نحن الآن ثلاث نساء جالسات بصمت على ضفة الساقية. فجأة , بدا لنا من بعيد جذع شجرة ضخم بفرعين يطفو نحونا كذراعين ممدودتين مغمورتين بالماء. جعلني هذا المنظر أرتعش قليلا كأنه ذكرني بشيء ما.
إنتصبت الفلاحة ذات الحجاب الأبيض وأمسكت بالجذع الطافي من أحد فرعيه لتوقفه, فأمسكنا نحن بالفرع الآخر لنساعدها على مقاومة التيار الجارف. قالت الفلاحة إن هذا الجذع الكبير يصير حطبا بعد أن يجففه الفلاحون.
لكن التيار كان أقوى منا فلم نستطع انتزاع الجذع من براثنه. طلبنا إلى ثلاثة رجال عابرين مساعدتنا عليه, فحاولوا سحبه نحو الضفة دون جدوى. في تلك اللحظة رأينا ظلا بعيدا يعبر حقل اشجار البتولة. نادته الفلا حة بصوتها الجهوري فأتى إلينا. شاب يرتدي بنطالا منتفخا . كان نظره مثبتا على الساقية. وحين وصل, أزاح بيده أحد الرجال الذين كانوا يحاولون الإمساك بالجذع, وبمساعدة الرجلين الآخرين, استطاع إخراجه من الماء.
كان الجذع جريحا ومبللا . وما أن وضعه بحنان فوق غبار الأرض العقيم, حتى انبجست منه بلمح البصر عين ماء سحرية. وبحركة احتفالية ملحوظة, أسداه إلى الأرض كمن يواري حبيبته التراب وذهب متابعا طريقه.
لحق به الرجال الآخرون, فقطعة الحطب هذه لا تهمهم, لذلك تركوها بسخاء للنساء … لكن الفلاحة رفضت أخذها, وكذلك فعلت زوجة أخي. أما أنا, فكنت مجرد ضيفة عابرة في البلد.
بصقت الفلاحة على الأرض لطرد الأرواح الشريرة, ثم توجهت نحونا وهي تهز برأسها : »هل رأيتما وجه هذا الشاب? إنه هو نفسه الذي أحيا الفتاة الغريقة«.
أمل حياتي
عند انتصاف الليل, راح القمر يلتمع عبر الأغصان وسط سماء شاحبة وشفافة, كأنه سيف صلاح الدين. لكن ضوء القمر كان في تلك الليلة ملتبسا برائحة غريبة منغصة.
سألني جارنا البقال »أبو أحمد« إن كان في بيتنا فأر ميت. فتشنا معا كل زوايا البيت بحثا عن فأر ميت, فلم نجده. ذهب الرجل ثم عاد ثانية إلينا ليكرر بقلق واض
ترجمة: فايز ملص
كاتب ومترجم من سوريا يقيم في باريس