ترجمة وتقديم خالد الريسوني
ولد الشاعر البرتغالي نونو جوديس عام 1949 في ألغاربي (غرب الأندلس) وأصدر بين عامي 1972 و2022 ما لا يقل عن ثلاثين ديوانا شعريا. تم جمع عدد معين منها في مجلدات للأعمال الشعرية غير الكاملة، ولا يزال في أوج عطائه وإنتاجه. وقد نشر جوديس أيضًا أعمالًا سردية، بالإضافة إلى العديد من البحوث والمقالات النقدية عن الشعر، أشهرها مقالتان واحدة خص بها الشعر المستقبلي في البرتغال والأخرى شاعر البرتغال الأول فرناندو بيسوا.
في هذا المقال التقديمي نرى من الملائم أن نحدِّد موقع الشاعر نونو جوديس في سياق الشعر البرتغالي للقرن العشرين. وفي هذا الصدد يمكن القول، وبدون أدنى مبالغة، أن الشعر البرتغالي قد عرف ضعفا وفتورا بالمقارنة مع ما وصل إليه خلال فترات محددة، وذلك بسبب الرومانسية المفرطة. صحيحٌ أن هناك استثناءات واضحة لا يمكن حجبها عن العيان، ولا يجب ونحن نتحدث عن الشعرية البرتغالية أن نغفل كثيرًا عن الجيل الشعري الذي أطلق عليهم اسم جيل السبعينيات: وبخاصة الشاعران الكبيران اللذان أفرزهما بالتميز، وهما: غِيرَّا جُونْكِيرو وأنْتِيرُو دي كينتال، حتى وهما يتفاعلان مع أجواء الرومانسية المفرطة من حولهما، وعلى الأخصِّ من حيث الجوانب التيماتية، إذ يبرز عند غيرا جونكيرو بشكل جلي، مناهضته الشديدة للإكليروس، هذا الشاعر وذاك الآخر، كلاهما ظل في مكان لا يبرحه، ظل وفيا في نهاية القرن التاسع عشر للشعرية المهيمنة على القرن برمته؛ والواقع، أن جيل الـ 70 -كما يطلق عليه- أبرز قبل كل شيء أسماء كتّاب نثر: روائيين من الدرجة الأولى، عيسى دي كيروث، مجادل له مكانة مماثلة لرامالهو أورتيغاو، المؤرخ والناقد والفيلسوف والسياسي من مكانة من حجم مكانة تيوفيلو براغا، هاته الحالات كانت تمثل بالأحرى صورا منعزلة ومتفردة ومضيئة على أبواب قرن جديد، والتي شكلت من ناحية مع كاميلو بيسانيا، الذي لا يعرف على وجه اليقين ما إذا كان من الضروري القول إنه كان في البرتغال، الممثل الوحيد للرمزية، أو إذا كان على العكس من ذلك، مبشرا سابقا؛ ومن ناحية أخرى، سيساريو فيردي، الذي كان يرى فيه الواقعيون الجدد مرجعًا ضروريًا يعلن عن شعرية معينة من اليومي، وهو توجه سيكتسب أهمية بالغة في العقدين أو الثلاثة العقود المتأخرة من القرن XXI، عندما سيتناوب أو يتعايش مع اتجاه أساسي آخر في الشعر البرتغالي الحديث: انبعاث شعر غنائي للذات. الرومانسية المفرطة والتي يمثلها اسم رمزي هو بلا شك الشاعر تيشيرا دي باسكوايس. مفارقة أم علامة على العصر، تمظهر مثالي لـ: «ما بعد الحداثة» المنتصرة؟ هذا الشاعر، وعلى الرغم من كونه كان محتقَرا وخلال فترة طويلة، فهو قد صار اليوم موضوع استعادة مكانة حد مقارنته بفرناندو بيسوا…
بيسوا، على وجه التحديد، الذي يمكن القول إن الحداثة في البرتغال لو كانت قد ولدت معه، لكانت قد ماتت أيضًا معه… ليس من الضروري الإصرار على ذلك: بيسوا وحده يشكل قارة شعرية حقيقية… لقد جدد وحده الشعر البرتغالي بكامله، لكنه لم يجد الخليفة الحقيقيَّ من بعده… وفي هذا الصدد، يمكن للمرء أن يتحدث عن متلازمة حقيقية لغوته أو توماس مان: محتلا وطامحا إلى احتلال كل المساحة الشعرية لزمانه له وحده. جاعلا، إذا جاز هذا التعبير، من جيل كامل من الشعراء، المتحلقين حول مجلة «بريسينثا» مجرد ظلال له، وهو أمر لا يكف عن أن يكون متناقضا بالنسبة لشاعر لم ينشر إلا القليل جدًا خلال حياته…
اختفى بيسوا سنة 1935. ثم انفتحت فترتان كبيرتان بالنسبة للشعر البرتغالي: واحدة امتدت من عام 1935 إلى عام 1961: تميزت بظهور حركتين، حركة الواقعية الجديدة والحركة السريالية – وهذه الأخيرة لا تمثلها إلا أقلية صغيرة جدًا لأنه لا يستحضر سوى ممثلين اثنين لها هما ماريو سيزاريني وألكسندر أونيل، لكنهما سيتركان آثارًا مستديمة، لا سيما في شعر نونو جوديس؛ لكن ثمة أيضا البروز اللافت لبعض الشعراء الذين لا يمكن ربطهم لا بهذه الحركة ولا بتلك من بين هاتين المجموعتين المهيمنتين، والذين هم أسماء مميزة لا جدال حولها في تجارب الكتابة الشعرية المعاصرة في البرتغال وهي: أوجينيو دي أندرادي، أنطونيو راموس روسا… و الفترة الأخرى، التي بدأت عام 1961، من خلال ثلاثة تآليف لثلاثة شعراء: هيربرتو هيلدر: «الملعقة في اللسان»، روي بيلو، شاعر كبير آخر رحل بشكل مبكر وقبل الأوان: «ذلك النهر العظيم الفرات»؛ وأخيرًا، من جماعة من الشعراء: «شعر61»، وهي جماعة تميز ضمنها عدد من الشعراء هم: فياما هاس بايس برانداو ولويزا نيتو وغاستاو كروث.
ومن خلال القطع الحازم والصارم مع شعر يهتم بالأثر النفسي، كان هربرتو هيلدر يعتبر واحدا من الأسماء الشعرية العظيمة في المشهد البرتغالي المعاصر، وتتحدد هويته من خلال ملامح القوى الكونية، فهو يطور شعرًا رؤيويًا ويتماهى مع عوالم الأحلام، مع جنوح في الخيال ووفرة لامتناهية من الصور. لقد كان رد فعل شعراء جماعة شعر 61 ضد هذا التوجه، لكن شعر نونو جوديس يتموضع على الأقل قريبا من بعض ملامح هذه السلالة الشعرية، إذ ينحدر بشكل مباشر من الموروث الشعري المتميز لهربرتو هيلدر.
وقبل أن أختتم هذه الكلمات الموجزة والأولية عن الشعر البرتغالي، أعتقد أنه من المناسب إبداء ثلاث ملاحظات عامة:
الأولى هي كون الأدب البرتغالي، والشعر على وجه الخصوص، يتميز بشكل عميق بملمح أساس يرتبط بذهنية هذا البلد وأهله: ذاك الذي يطلق عليه مصطلح saudade غير القابل للترجمة والذي يجاور معنى الكآبة والحنين. والشعر الحديث ذاته لا يفلت من هذا الاتجاه -رغم أن بعض تياراته تحاول الهروب-: الشعراء الشباب لـ: شعر 61 أو أكثر من ذلك مؤخرًا شعر اليومي الذي تمت الإشارة إليه سابقا. إنه ملمح يميز بعمق شعر نونو جوديس، بل إنه كما سنرى، يتخذ له معنى خاصًا جدًا في عمله الشعري ومع ذلك فهو لا يمكن، في كل الأحوال، أن يكون سمة مهيمنة فيه بشكل كامل.
والملاحظة الثانية هي أن الشعر البرتغالي يخضع تقليديًا لأشكال صارمة ومتقنة للغاية. على الرغم من أن ألبارو دي كامبوس، أحد أنداد بيسوا، من خلال قصائده الغنائية الحداثية العظيمة (أودا) أو الممارسة للشعر الحر عند هيربرتو هيلدر والعديد من الآخرين الذين تبعوه، قد وجهوا له ضربات قوية وشديدة الوقع، إلا أن هذا الانشغال بالشكل يظل أحد ثوابت الشعر البرتغالي، إذ ولا حتى فرناندو بيسوا، أو نونو جوديس، على سبيل المثال لا الحصر، احتقروا كتابة السوناتات أو ممارسة الشعر من خلال أوزانه العادية.
والملاحظة الثالثة والأخيرة، هي أن اللغة البرتغالية نفسها تتميز بموسيقية رائعة، مما يجعلها، لغة الشعراء بامتياز. هذه السمة لا تزال مستديمة في الشعر البرتغالي، حتى في أكثر تجلياته حداثة، وهذا الملمح هو إحدى السمات المهيمنة على شعر نونو جوديس.
إن العمل الإبداعي الشعري لنونو جوديس، الذي يجب تناوله الآن في حد ذاته، ثري جدا ومعقد للغاية، ومن الواضح أنه مستحيل في إطار مثل هذا العرض الموجز استنفاد جميع جوانبه والإحاطة بكل مكونات تفاصيله المعقدة. ومع ذلك، سوف نحاول تسليط الضوء على بعض من أبرز هذه المكونات…
إن السمة الأولى والأساسية، والتي تضع بشكل حاسم العمل الشعري لنونو جوديس في إطار الحداثة، هي أن الكتابة الشعرية عند هذا الشاعر هي جزء لا يتجزأ من موضوع القصيدة ذاته، في آن واحد وبشكل لا ينفصم عن الشعر. وبهذا المعنى، فإن عنوان كتابه الشعري الأول مهم تمامًا «مفهوم القصيدة»، لكن، ومن خلال تأمل عناوين عدد من أعماله الشعرية، يمكن ملاحظة هذا القلق الميتا- شعري: «آليات التشظي الرومانسي»، «تعداد الظلال»، «غناء في كثافة الزمن»، تأملات في الخرائب»، «قصائد بصوت مرتفع»، «خرائط الانفعالات»، «هندسة متغيرة»، «جغرافية الفوضى»، «مادة القصيدة»، «الإحساس الموجز للأبدي»، «دليل المفاهيم الأساسية»، ناهيك عن إحالات عناوين القصائد: «ذروة النحو» و«قاعدة التأليف» و«فن القصيدة»، و«الفن والشعرية»، و«شذرة من عمل شعري»، و«نص للاستعمال التعلمي»، و«مسار نظري»… إلخ. إحدى القصائد التي تحمل عنوان «شعرية» تعتبر تأملا رائعا حول عملية الإبداع الشعري، وحول تشكل القصيدة ونشأتها. لكن، هذه العناوين ذات الطبيعة النظرية، وينبغي الإلحاح على ذلك: يجب ألا تجعلنا نقع في الوهم وتحرضنا على ارتكاب ما يمكن أن يكون تناقضًا فادحًا: فالنصوص التي يتم تقديمها ليست مجرد محاضرات نظرية بسيطة يتم إلباسُها ثوب قصيدة شعرية بشكل سطحي إلى حد ما، بل هي قصائد مكتملة وأصيلة، فالإبداع الشعري عند نونو جوديس والتفكير في الإبداع الشعري، عمل واحد، أو مساران لا ينفصلان، ويشكلان امتدادا واحدًا: بشكل يجعل التفكير في الإبداع الشعري يصدر عن الإبداع الشعري ذاته ويقدِّم نفسه، باعتباره ممارسة تطبيق عمليٍّ لهذا التفكير أو التأمل.
شعر نونو جوديس يتميز برسوخه في الذات بشدة وفي ذاتيته المتفردة، وهذا يعتبر الملمح الثاني الأساس في قصيدة الشاعر البرتغالي، إذ إن ضمير الأنا المتكلم في القصيدة لا يتعلق بأنا محتمل وفانٍ، غريب عن الذات وغير قابل للتعرف، بل يتم التعبير عنه تحديدا عبر الكتابة الشعرية ولا يلج بشكل كامل الوجود إلا من خلالها، هذا الذي يؤمن في أعماق ذاتي هو من يكتب القصيدة، يقول نونو جوديس. تلك الذاتية القوية هي المصدر الممكن الوحيد للمعرفة الحقيقية، والسبيل الوحيد لولوج الموضوعية الحقيقية، هي ذات الشاعر الكامنة في قدرته على الرؤيا واستشراف النبوءات، فالشاعر -حسب نونو جوديس- يمتلك تلك الخاصية بكونه كائنا نبويا وعرافا حقيقيا. ربما يمكننا أن نقترح، بهذا المعنى، أن نضع مسار نونو جوديس على الطرف النقيض لتفكيك الأنا الذاتي وللعبة المرايا للأنداد التي تحفل وتحتفي بها أعمال فرناندو بيسوا وتمنحها تفردها المطلق. هذا ما يقودنا بشكل طبيعي إلى الإشارة إلى بعض الموضوعات المتكررة في شعر نونو جوديس. مثل حضور النظرة، والشمسي أو المُشْمِس – فالقصيدة أو البيت الشعري، عند جوديس، يقترنان ويوصفان دائمًا بأنهما «شمسيَّان» في تناقض عنيف مع موضوعات أخرى منتشرة بشكل واسع في شعره مثل الليل والظل والعاصفة والموت والتعفن والغروب، أما المماثل أو المتطابق، فغالبًا ما يتم تحديده في اللامتناهي أو الإلهي؛ وأيضًا، بارتباط مع ما سبق وبشكل جد وثيق في ترابطها بعضا ببعض، تيمات الروح والوجه والرسم. إن الأمر هنا يتعلق بالنسبة للشاعر/ النبي/ الرائي بالولوج من خلال النظرة. والقدرة على إبراز ما يسميه جوديس بالتحديد المتماثل، للكائن الحقيقي الوحيد تحت الشعاع المتوهج لضوء الشمس في القصيدة، في تجاوز لكونه مرئيًا أو متشظيًا أو فانيًا؛ وأبعد أيضا من الأحاسيس وحتى من الصور. وبعبارة أخرى، الولوج إلى المعرفة الحقيقية.
من خلال هذا المسار، يرتبط جوديس بلا ريب ببعض الخصائص الأساسية للرومانسية، وعلى الأخص الرومانسية الألمانية: وهنا يمكن التفكير بشكل طبيعي في نوفاليس… وليس من قبيل الصدفة بالتأكيد أن تكون إحدى قصائده بعنوان هولدرلين… لقد استلهمها أيضًا من التأملات الفكرية لهايدغر حول الشعر كمصدر متميز لمعرفة الكائن: ونحن نعلم حقا المكانة التي تحتلها أعمال هولدرلين في هذه التأملات الفكرية. باختصار، في الترتيب ذاته للأفكار، يمكننا أن نسأل أنفسنا بشكل منطقي ومبرر عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الباطنية كأحد مصادر إلهام نونو جوديس، ونعلم أيضًا مدى التأثير السحري الذي أحدثته الباطنية في الرومانسيين الألمان… ويمكن لتيمة الهرم أيضًا أن تشكل دليلًا يقود باتجاه هذا المسار، بالإضافة إلى التعارض والتباين العنيف المشار إليه، بين قوى الظلام والقوى الشمسية…
لكن هنا يجب كذلك أن نتجنب أي فهم جديد يتعارض مع جوهر العمل الشعري لنونو جوديس، إذ إن شعره لا ينطلق بأي حال من الأحوال من التصوف غير المجسد: وهو نفسه يؤكد ذلك بقوة في أحد تصريحاته. بل وعلى العكس من ذلك، يجب ذكر سمتين أساسيتين أخريين في شعر جوديس، فمن ناحية القصيدة عند نونو جوديس كانت دائمًا تولد من الاتصال الجسدي مع الواقع الأكثر حساسية. ومن ناحية أخرى، وهذا يؤكد ويعمق ذلك، أن عملَ التَّكوينِ الشعريِّ كثيرًا ما يوصف عند جوديس، بكونه يستخدم مصطلحات تستحضر بشكل متفرِّدٍ بعض التصورات السيميائية لجماعة تيل كيل.
وأخيرًا، ولكي نختم هذه الكلمات الموجزة، يمكننا أن نقول بأن أسلوب نونو جوديس يتميز أيضًا بالقدرة على أن يعكس بشكل متعارض ومباغت وفرة الصور الجامحة المنتزعة من مدونات الحلم والهلوسة من ناحية، وهي صور سريالية حقًا، ومن ناحية أخرى، صياغة لجمل وعبارات ذات رصانة واعتدال كبيرين مع وضوح جلي – يضع الشاعر البرتغالي بهذا المعنى في مصاف الشعراء الموجودين على طرف نقيض مع الذين يتوخون عمليات بحث معينة عن التحلل من كل ما هو نحوي وتركيبي… الرصانة والوضوح غالبًا ما تقربه من النثر-. لكن تصوره هذا حول الصياغة الذي أخذه عن طواعية من إيقاعية لغته الموسيقية بالتأكيد لا يساء استخدامه عند شاعر لطالما تأمل في العلاقات بين الشعر والموسيقى… والذي يعكس في قصائده حقا الطاقة الموسيقية الرائعة التي يختزنها الشعر في نماذجه الجميلة والمميزة.
خَرِيفٌ
خلقتُ الرُّوحَ. نَبَاتُ بُلدَانٍ لا تَتَكَرَّرُ.
غَابَاتٌ شَاسِعَةٌ تُحِيطُ بالطُّرُقَاتِ.
تُوَاجِهُ الجُدْرَانُ البَحْرَ.
يُنَقِّطُ الطَّيْرُ السَّمَاءَ.
الأمْوَاجُ تَنْقَذِفُ بِاتِّجَاهِ السَّاحِلِ.
والقَصِيدَةُ قَاسِيَةٌ، حَيْرَى.
هَيَّأتُ نُوسْتَالْجِيَا الخَلْقِ العَنِيفَةَ.
جَلَسْتُ فِي الحَانَاتِ البَحْرِيَّةِ لِمُدُنٍ إنْجَلِيزِيَّةٍ أنْتَظِرُ سُفُنًا لمْ تَأتِ.
توَسَّلْتُ عَوْدَاتٍ، أسْفَارًا طَوِيلَةً، اِرتِحَالاتٍ رُوحِيَّةً.
كُلَّ يَوْمٍ أجْتَذِبُ إحْسَاسًا مُخْتَلِفًا.
الأوْرَاقُ تُفْرِشُ الأرْضَ.
وَالرُّعْبُ يُسَوِّي الهَضَبَةَ بِالأرْضِ، والقُرَى السَّقِيمَةَ لِلغَرْبِ.
صَوْتٌ يَتَغَنَّى بِنِسَاءِ سَاوْثهَامْبتُون الحَالِكَاتِ.
يَتَسَاقَطُ المَطَرُ فِي القَصِيدَةِ مُنْذُ بِضْعَةِ أعْوَامٍ.
أخِيرًا يَفْتَحُ الشَّاعِرُ مِظَلَّتَهُ.
مَنْفَى
السُّهُولُ المُجْذِبَةُ ذَاتُ الإلْهَامِ القَدِيمِ مَنَحَتْنِي مَعْرِفَةَ
التَّالِي -أنِّي شَاعِرٌ مُتَفَرِّدٌ، المُبَشَّرُ بِهِ والمُضِيءُ لِلمَسَاءَاتِ
البَنفْسَجِيَّةِ لِلبُوسْفُورِ وأنْتِينْيَا… وألَّا أحَدَ خِلالَ الأعْوَامِ
المُبْدِعَةِ لِخَيَالٍ مُضَاعَفٍ كَانَ سَيَعُودُ لِلوَصْفَات القَدِيمَةِ
الَّتِي تَجَرَّأ عَلَيْهَا الوُضَعَاءُ – الغَاصِبُونَ أخِيرًا…
وهُمْ؟ مُفْتَرِسُو الأثَرِ، أيُّ حَسَدٍ مَا زَالَ يُغَذِّي أجْسَادَهُمْ؟
يُؤَثِّرُ فِيهِمْ بِشَكْلٍ أفْضَلَ سَاتُورْنُ خَالِقُ العَتمَةِالإلَهِيَّةِ…
أوْ يَسْتَمِعُونَ إلَى خَرَائِطِ البُرُوجِ المَكْشُوفَةِ فِي ضِفَافِ الجَنُوبِ العَاصِفَةِ…
أو حَتَّى إنَّهُمْ يَعُودُونَ إلَى مَكَانٍ مَحْمِيٍّ
لِتَفْسِيرِ نُبُوءَاتِ وَتَعْلِيقَاتِ شَعْبٍ عَرَّافٍ لَكِنْ
هُمْ لمْ يَعْرِفُوا قَطُّ الرِّيَاضِياتِ القُطْبِيَّةَ لِلأحْلامِ!
أتَيْتُ إلَى قَارَّةٍ إيرُوتِيكِيَّةٍ.
البُطُونُ الكَرْشَاءُ لِلأشْجَارِ تَجْتَذِبُ الحَيَوَانَاتِ.
أسْمَعُ صَرَخَاتِ أرْضٍ لِلسَّكَنِ.
السَّمَاءُ مِسَاحَةٌ نَبَاتِيَّةٌ تَهَبُ مُوسِيقَى وَبُكَاءً.
وَفِي الظِّلِّ تُضَاعِفُ الحَشَرَاتُ خَرَائِبَ
كُبْرَى في البَاطِنِ الشَّمْسِيِّ لِشُجَيْرَاتِ التِّينِ العَارِيَةِ.
أيَّتُهَا الآلِهَةُ… أنْتِ حَيَوَانَاتٌ مُدَمِّرَةٌ…
أسْتَنْجِدُ بِذَاكِرَةِ ثَمَرَةٍ مُرَّةٍ، بِالحِكْمَةِ الفَاسِدَةِ فِي مَتَاهَاتِ الذَّكَاءِ.
قُولُوا لِي، مَنْ عَلَّمَهَا فِي الضَّوَاحِي الشَّهْوَانِيَّةِ لِلتَّوَقُّعِ؟
مَنْ قَدَّمَهَا قُرْبَانًا لِقصِيدَةٍ شَبَقِيَّةٍ – كَمَا لوْ أنَّ الهِبَةَ تَكْتَفِي بِالنَّظَرِ المَادِّيِّ لِلأصَابِعِ؟
لنْ أحْتَفِيَ بِكُمْ… أبْحَثُ عَنِ الجِذْرِ المُتَوَحِّدِ لِلجُنُونِ
فِي الكِيمْيَاءِ العُضْوِيَّةِ لِلزَّمَنِ… حَضَارَاتٍ، ثِمَارٍ
فَاسِدَةٍ فِي حَدَائِقَ مُعَلَّقَةٍ لِمَدِينَةٍ مَغْمُورَةٍ فِي المَاءِ…
سَوْفَ تُذْعِنُونَ أمَامَ الصَّوْتِ الصَّامِتِ لِشِفَاهٍ عُذريَّةٍ…
أنْتُمْ تَلْتَمِسُونَ أجْوِبَةً مُحَوِّلَةً لِمَسَارٍ سَقِيمٍ…
وَأنَا خِلالَ ذَلِكَ يَجِبُ أنْ أُنْكِرَ عَلَيْكُمُ الأبَدِيَّةَ…
قَصِيدَة تَهْربُ مِنَ الالتِمَاسَاتِ النَّاعِمَةِ لِفَضَاءٍ أخْلاقِيٍّ …
تُعَلِّمُ الفَسَادَ… والحِقْدَ… الأشْكالَ المُتَعَدِّدَةَ لِحُبٍّ مُخْتَلِفٍ…
«مَنْ يُغَنِّي؟» سَألتِ الكَاهِنَاتُ، «مَنْ يُغَنِّي بِصَوْتٍ إلهِيٍّ بَيْنَ الخَرَائِبِ؟»
ذِرْوَةُ النَّحْوِ
كَيْفَ أبْدَأ الغِنَاءَ، الاِحْتِفَاءَ بِالمُدُنِ اللامُتَوَقَّعَةِ لِلقَارَّةِ
السَّاطِعَةِ؟ كَيْفَ أرَتِّبُ المَادَّةَ الَّتِي تُسَمِّي شَقَائِقَ النُّعْمَانِ
المُبَلَّلَةِ بِالنَّبِيذِ، الشَّطْرَنْجَ الأرْضِيَّ لِحِكْمَةٍ تَشْرِيعِيَّةٍ؟
سَوْفَ تُجِيبُونَ: العَتَاقَةُ البَهِيَّةُ لِلانْعِطَافِ،
التَّمَاثُلُ الحَمِيمُ لأسْلُوبٍ تِذْكَارِيٍّ مِنْ شِعْرِيَّةٍ مُغَرِّبَةٍ،
لِبَيْتِ شِعْرٍ يَكُونُ انْقِلابًا شَمْسِيًّا،
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ حَدَّتْ مِنْ عَبْقرِيَّتِي الأنْحَاءُ الرَّسْمِيَّةُ لِذَاكِرَةٍ غَرْبِيَّةٍ.
فرَضَتْ عَلَيَّ عَبْرَ القَبْلِيَّةِ الاسْتِعَادِيَّةِ لِلصَّوْتِ الألْفِيِّ،
المُمَارَسَةَ المَمْنُوعَةَ لِلتَّكَهُّنِ، عَرَّضَتْنِي لِلعَذَابِ القُطْبِيِّ لِلحُلْمِ،
وَهِيَ فِي النِّهَايَةِ مُحَفِّزَاتٌ وَاشِمَةٌ لِعِلْمِ جَبْرٍ حَيَوَانِيٍّ،
أمَدَّتْنِي بِالفُرْصَةِ الفَرِيدَةِ لِلمِرْآةِ، رُؤْيَةَ البَعِيدِ المُضَاعَفِ،
الهَنْدَسَةَ نِصْفَ اللَّيْلِيَّةِ لِلمُنَاوَرَاتِ السَّرْدِيَّةِ.
النَّحْتَ المِبْصَرِيَّ لِلجُمَلِ الكَنَسِيَّةِ لِلجِدَالِ!
إذَنْ، سَوْفَ أبْدَأ غِنَاءً يَلْتَمِسُ الوُدَّ فِي مُتَنَاوَلِ القَرْنِ.
كَلِمَةً، مراودَةً لِلنَّفْسِ مُغَامِرَةً عِنْدَ الاقْتِضَاءِ، فوْضَى مُنْعَطِفَة مَعَ الزَّلَّةِ!
لمْ يَتَجَرَّأ أبَدًا عَلَى الرُّوحِ حَاصِدُو غِلالِ اللَّااسْتِهْلاكِ المُتَرَاخُونَ.
لوْ عَرَفُوا وُعُودَ المُضَاعَفِ مَا كَانَ لأصَابِعِهِمْ أنْ تُبْديَ قَطُّ النَّظَرَ المَنْطِقِيَّ
لِلطُّقُوسِ، الصِّدْقَ الفَوْرِيَّ لِلجَفْنِ!
لو أزْهَرَتْ تَهَجُّدَاتُهُمُ اللادَقِيقَةُ مَا كَانَ لَهُمْ قَطُّ أنْ يُبَجِّلُوا غَرَابَةَ المُغَالَطَةِ المُجَابِهَةَ،
لوْ كَانَ المُبْحِرُ فِي الشِّفَاهِ يَسْتَطِيعُ أنْ يَهْمِسَ بِالعَوْدَةِ
مَا كَانَ لِلصَّيْفِ أنْ يُخَصِّبَ التَّحْلِيقَ المُتَحَرِّرَ لِحَرَكَاتِهِمْ!
هُمْ شَهَادَاتٌ، حُدودُ
عَادَةٍ إلَهِيَّةٍ، بُنَاةٌ مُتَحَسِّسُونَ لِلمُعْوَجِّ،
تَرَاجِمَةٌ لجُحُودِ السِّمَاتِ! يَحْتَفُونَ بِالتَّوَتُّرِ الاقْتِرَاحِيِّ
لِلرَّقْمِ – مُتَألِّمِينَ مِنَ البَصِيرَةِ.
هَا أنَا هُنَا ضِدَّ مَنْ أقْتَرِحُ العَدْوَى الزَّمَنِيَّةَ لِلقَصِيدَةِ.
مُتَيَقِّظًا لِلسُّلْطَانِ الإلَهِيِّ وَمُنْتَظِرًا حَرَكَةَ الجَزْرِ الأطْلَسِيَّةَ
لِريَّاحِ السَّاحِلِ، السَّاكِنَةَ فِي إعَادَةِ بِنَاءِ الشِّقَاقِ،
أمْنَحُ مِيرَاثًا غَيْرَ مُرِيحٍ، الصَّمْتَ الدَّمَوِيَّ لِلقَطِيعَةِ،
أعِيدُ خَلْقَ حَضَارَةٍ مُمَيِّزَةٍ، ومُطَهَّرَةٍ مِنَ التَّبْخِيرِ اليَوْمِيِّ لِلابْتِذَالِ،
أبْدَأُ مِنْ جَدِيدٍ فِي مُمَارَسَةِ أرِسْتُقْرَاطِيَّةٍ صَاخِبَةٍ،
بَعِيدًا عَنْ قِيَاسَاتِ البُحُورِ الشِّعْرِيَّةِ المُتَطَابِقَةِ
مَعَ مُمَارِسِي التَّهْلِيلِ- مُمْتَدِحاً النَّوَايَا الهَذَيَانِيَّةِ لِلقَصِيدَةِ،
اليَأسَ المُفَخَّمَ لِلعُزْلَةِ، اللَّوْنَ الشَّاسِعَ لِلسُّلالَةِ…
قَصِيدَةٌ! – اِقْطَعِ الانْدِفَاعَ المُتَجَمِّدَ لِلتَّسْمِيَةِ!
أنْتَ سَوْفَ تُطَرِّزُ الوَصْفَ الأرْجُوَانِيَّ لِزَهْرَةٍ مُحَرِّرَةٍ.
شَفَتَاكَ يَجِبُ أنْ تَسُدَّا المَيْلَ المَسَامِّيَّ لعِلْمِ العَرُوضِ.
سَوْفَ تُنَظِّمُ الكَشْفَ الفَسِيحَ لِلصَّوَرِ.
لا تَتَوَقَّفْ عِنْدَ المَصَبِّ اللا يَنْعَكِسُ لِلاسْتِعَارَةِ!
حَقِّقِ المَغْزَى الرَّسُولِيَّ لِلتَّرَاتُبِيَّاتِ الخَرِيفِيَّةِ!
قَدْ عَادَتِ الطُّيُورُ الَّتِي تُعْلِنُ اللُّغَةَ وَهِيَ تَقُولُ: «هَا هِيَ قَرِيبَةٌ.»
هَا هِيَ- المَدِينَةُ.
مِثْلَ اعْتِرَافٍ
كَانَ لَدَيَّ إلهَامٌ إلَهِيٌّ.
كَانَتِ الحُشُودُ تَتَسَابَقُ لِلِقَائِي.
فَقَدْ كُنْتُ أنَا حَقِيقَتَهَا.
لمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا يَحْدُثُ. لقَدْ فَقَدْتُ فَضَائِلِي
وَعُيُوبِي. تَسْتَطِيعُونَ أنْ تَعْتَبِرُونِي مَنْزُوعَ الهِبَاتِ.
مَرَّةً فِي التَّارِيخِ قُلتُ: «لدَيَّ مِيتَافِيزِيقَا!»
أنا مُدَنَّسٌ وَمُلحِدٌ. أضَعْتُ عَبْقَرِيَّتِي فِي الصِّرَاعِ
بَيْنَ الكَلِماتِ والذَّاتِ. اعْتَبِرُوا مَثَلًا
أنَّ طُرُقِي كَانَتْ تُحَافِظُ على طُوبُوغْرَافْيَا التَّعَارُضَاتِ:
قَدْ كُنْتُ مُتَنَاقِضًا لكِنْ فِي خُطُوطٍ عَامَّةٍ
فقَدْ كَانَ ثمَّةَ جَلالٌ في تَنَاقُضَاتِي.
تَغَيَّرْتُ، أنَا بِشَكْلٍ جَلِيٍّ أمَامَ الانْحِدَارِ الحَتْمِيِّ لأعْضَائِي، إلخ.
ثُمَّ وَاصَلْتُ رَغْمَ أنِّي لمْ أحْسِبْ مَا الَّذِي كَانَهُ الحَالُ المُحْتَمَلُ لِرُوحِي.
كَانَ الغَمُّ والغَضَبُ وَحْدَهُمَا يُحَفِّزَانِي عَلَى المُوَاصَلَةِ.
واسْتَطَعْتُ أثْنَاءَ ذَلِكَ أنْ أحَافِظَ عَلَى بَعْضِ التَّبَصُّرِ-
وَهُوَ الَّذِي -مِثْلَ إيقَاعٍ شِعْرِيٍّ- تَغَلَّبَ عَلَى المَعْنَى الخَاصِّ لِمَا كُنْتُ أقُولُهُ.
وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ فَتَرَ اهْتِمَامُ سَامِعِيَّ
وَأنْهَيْتُ الخِطَابَ وَحِيدًا فَوْقَ خَشَبَةِ المَسْرَحِ
والدُّمُوعُ تَغْمُرُ عَيْنَيَّ.
فنُّ القَصِيدَةِ
قد كنتُ أفكِّرُ أنَّ الكِتَابَةَ اخْتِيَارٌ صَارِمٌ لمَوَاضِيعَ مُحَدَّدَةٍ،
ليْسَ فَقَطْ ذَلِكَ – بَلْ إنَّ التَّقَدُّمَ فِي القَصيدَةِ دُونَ الخَلطِ بَيْنَ مَوْضُوعٍ وآخرَ
سَيُنْشِئُ عَلَى العَكسِ مِنْ ذَلكَ فَصْلًا حَاسِمًا بَيْنَ داخِلِ الأصْوَاتِ مِنْ جِهَةٍ
وَبَيْنَ الحَاشِيَةِ الخَارِجِيَّةِ لِلمَعْنَى مِنْ جِهَةٍ أخْرَى،
مُطَوِّراً هَذَا الأخِيرَ حَسَبَ الآثَارِ الخَاصَّةِ للأصْوَاتِ
فِي كُلِّ حَسَاسِيَةٍ مُخْتَلِفَةٍ،
هَكَذَا بَعْدَ إقَامَةِ المَنَاطِقِ «الشِّعْرِيَّةِ» المُتَعَدِّدَةِ
سَوْفَ أسْتَطِيعُ تَحْدِيدَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ.
وَهَكَذَا إذَنْ سَوْفَ يَبْقَى،
مِثْلَ دِرَاسَةٍ لِشِعْرِيَّةٍ – أوْ «فَنِّ قَصيدَةٍ».
الطَّاوُوسُ المُصَوِّتُ
أوَطِّدُ الصَّوْتَ المُخْتَنِقَ لِلمَرْأةِ، هُنَالِكَ حَيْثُ القَفَا
المُعْتِمُ لِلتَّعَازِيمِ يَسْتَحِثُّ الوَقْفَةَ الشِّعْرِيَّةَ.
فِي حَوَاشِي الجُمَلِ يَكْشِفُ التَّصْمِيمُ وَجْهَ الشَّرِّ الخَفِيَّ.
وَرُبَّمَا كَانَ دُمَّلَتِي البَيْضَاءَ.
التَّعَاقُبَاتُ اللاحِقَةُ كانَتْ تَنْقُصُهَا الخَاصِيةُ العَمِيقَةُ.
لَا صِيغَةُ تَعْبِيرٍ وَأسْتَحْضِرُ فَقَطْ حَفنَاتٍ مِنْ صُوَرٍ…
الشَّيْءُ الوَحِيدُ الذِي يُقَاوِمُ المَاءَ، أُعَدِّدُ وَسَائِلَ سَحْبِ
الكَلِمَاتِ – اللَّذَّةُ وَالعِبْءُ، لهْجَةٌ مِنْ حَرَكَاتٍ
فِي الجَسَدِ كُلِّهِ،
بَلَلُ العَيْنَيْنِ، إلخ.
أغْسِلُ بِاليَدَيْنِ بَاطِنَ القَصِيدَةِ.
مَا يُوجَدُ فَوْقَ الأشْكَالِ المَرْئِيَّةِ
والأجْوَاءِ المَعْلُومَةِ هُوَ جِدُّ حَقِيقِيٍّ.
بِقَدْرِ الاتِّصَالِ الوَجِيزِ مَعَ المَفَاهِيمِ،
يَتَنَاثَرُ السُّكُونُ عَبْرَ امتِدَادِ فضَاءِ البَشَرِ
عَبْرَ المَطَارِ فِي هُدُوءِ الحَوَاسِّ.
القَبْضَةُ المُتَحَمَّلَةُ عَلَى مَضَضٍ
تَنْفَلِتُ بَغْتَةً. أحُطُّ داخِلَ دُوَّارِ الرُّقَعِ المِتْرِيَّةِ.
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الطَّاوِلَةِ يَنْفَتِحُ الغِطَاءُ،
وَتُلْهِمُنِي الأفْوَاهُ المَعْدِنِيَّةُ لإلَهٍ ثُمَّ تَصُدُّنِي.
لمْ أرَ قَطُّ الطَّائِرَ.
الكَلِمَاتِ المُؤَثِّرَةَ لِمُرَبِّي النَّحْلِ في الأثوَالِ.
فَالحَدْسُ يَحُثُّنِي.
الحُبُّ، واجبٌ عابرٌ
كانَ قد سَمَّمَنِي الألمُ القاتِمُ لِلآتِي.
وكنتُ أعرفُ أنَّ ثمَّةَ شيئًا كانَ يُهَيَّأُ ضِدَّ جَسَدِي.
الآنَ أنا أتَلوَّى مِن العَذابِ
فِي الأبْيَاتِ الشِّعْرِيَّةِ لِهَذِهِ القَصِيدَةِ.
هَذِهِ هِيَ الأرْضُ الَّتِي، قَدِيمًا كانتْ خِصْبَةً، تُمَزِّقُهَا أصَابِعِي.
شَفَتَايَ تَمَّ تَشْكِيلُهُمَا مِنْ هَذِهِ الأرْضِ،
هُمَا وَحَلٌ دَافِئٌ.
سَوْفَ أرْحَلُ عَبْرَ وَجْهِكِ بِاتِّجَاهِ الأبْعَدِ.
جُوعِي أنْ أكُونَ قدْ نَظَرْتُ إليْكِ وأنَا أعْمَى.
الآنَ أعْرِفُ أنَّكِ تَنْفَتِحِينَ عَلَى نَارِ البَرْقِ.
لدَيَّ يَقِينُ العَوَاصِفِ.
لَمْ أعُدْ أعْرِفُ لا مَا أقُولُهُ ولا مَا يَهُمُّ.
دَلِيلُ خصلاتِ شَعْرِيَ النَّاعِمَةِ، دليلُ الكَآبَةِ،
حَيَاةِ الحَرَكَاتِ الفَانِيَةِ.
فِي تِلكَ الأيَّامِ كُنْتُ ممثل أدْوارٍ أفضَلَ مِنْ صِدْقِي.
الوَقْفَةُ تُوَتِّرُ مَعِدَتِي.
قَطَعْتُ فِي الصُّبْحِ أطْرَافَ الأصَابِعِ لكِنِّي أعْرِفُ
أنَّهَا سَوفَ تَنْمُو مِنْ جَدِيدٍ لِكَيْ تَحْمِيَ الأظَافِرَ.
لرُبَّمَا تَكونُ الحَيَاةُ غَرِيبَةً،
لرُبَّمَا تَكونُ الحَيَاةُ بَسِيطَةً
لرُبَّمَا تكُونُ الحَيَاةُ حَيَاةً أخْرَى،
الخَطُّ الأبيَضُ للجَمَالِ هُوَ مَوْقفِي المُتَحَوِّلُ.
عُنْفُ الحُلْمِ يَرْتَفِعُ
فوقَ اعْتِرَافِي.
قد كُنْتُ فِي مَكَانٍ مَا أفُقًا فِي انْفِصَالِ الجَفْنَيْنِ.
نَمُوذَجُ المَوْتِ
الآنَ وَقدْ أُشْبِعَتْ لَهْفَتِي إلَى العُزْلَةِ، أمِيلُ بِلا اكْتِئَابٍ
نحْوَ كَوْكَبٍ مَيِّتٍ،
«أوَّاهُ، أيَّتُهَا الأرْضُ» أصْرُخُ وَوَحْدَهُ الصَّدَى يُجِيبُنِي.
مُنْذُ بِضْعَةِ أيَّامٍ جَاءَتْنِي جَلَبَةُ الأسْلِحَةِ قَادِمَةً
مِنَ الأفْقِ «مَنْ يَكُونُ هَؤلاءِ
المُحَارِبُونَ النَّاجُونَ؟»
سَألتُ ذَاتِي، ولمْ تَرْتَدَّ إلَى سَمْعِي أصْواتُهمْ،
لكنِّي لم أتَوَقفْ عَنِ التَّطْوَافِ فَزِعًا عبْرَ القَاعَاتِ
المُقْفِرَةِ والمَمرَّاتِ
المُعْتِمَةِ. «أوَّاه، أيتُهَا الظِّلالُ، إلخ.»
وَتَأتِينِي الرِّياحُ بضَوضَاءِ البَحْرِ،
رَائِحَةِ السَّوَاحِلِ التِي كَنَسَتْهَا العَاصِفَةُ.
ومُجَرْجِرًا الخَطْوَ أسْتَلقِي فِي الطَّريقِ، أتغَذَّى
عَلَى الزَّوَاحِفِ الحَيَّةِ وَعَلَى القِشْرَةِ المُرَّةِ
لِبَعْضِ الأعْشَابِ البَرِّيَّةِ. بلغْتُ قِمَّةَ الجَبَلِ
الَّذِي مِنْهُ يَلُوحُ السَّهْلُ الشَّاسِعُفِي البَعِيدِ.
«اِحْمِلْ إليَّ الأدْيَانَ القَدِيمَةَ والكُتُبَ الكُبْرَى»،
أقولُ بِصَوتٍ خَفِيضٍ وَأيضًا: «طُيُورٌ، طُيُورٌ، الأجْسَادُ، أصَابِعُ…»
لم أقلْ شيْئًا أكثَرَ ووَحْدَهُ التَّأوُّهُ الغَامِضُ لِشَفَتَيَّ
كَانَ يُذَكِّرُنِي
أنِّي قد كُنْتُ حَيًّا،
وأنَّ عَظَمَتِي المُفْرِطَةَ
كَانَتْ تَهْجُرُنِي.
وَمُتَحَوِّلًا رَفَعْتُ التَّحْليقَ نَحْوَ المَطَرِ
حَتَّى تَنَحَّيْتُ عَنِ الأرْضِ.
هُنَالِكَ تَجِدُونَهُ بذَلِكَ الشَّكْلِ الغَرِيبِ
يَأتيني الآنَ عبرَ الذَّاكِرَةِ بجَلاءٍ مَادِّيٍّ
لِصُوَرٍ لا تُوجَدُ،
الخَرَابُ الرَّهِيبُ لِحَيَوَاتِنَا المُقْلِقَةِ.
وَجْهٌ يُخْفِى فِيهِ فَرَحٌ عَمِيقٌ الحُزْنَ والصَّمْتَ، التَّصْمِيمَ
المُلْتَبِسَ، والجَلِيَّ مَعَ ذَلِكَ
لِرُوحٍ مُضْطَرِبَةٍ، الإدْرَاكَ
بِألا شَيْءَ حَقِيقِيٌّ
أو دَقِيقٌ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ وإنَّمَا مُبْتَذلٌ أو فَقَطْ حَتْمِيٌّ.
بغتةً، أتذَكَّرُ:
هما يداك، الكُتُبُ التي لم أقرَأْهَا قطُّ، الإشَاراتُ المُكَوَّمَةُ
فِي تَعَاقُبِ الأيَّامِ واللَّيَالِي، النُّزُولُ المُدَوِّخُ
لِلنَّورَسِ باتِّجَاهِ البَحْرِ،
مُنْذُ مَتَى إذَنْ وأنَا أتَنَحَّى عَنِ الحَيَاةِ
اللامُتَنَاهِيَةِ، أسِيرًا لِهَاجِسِ المَوْتِ،
لِلحُضُورِ المَادِّيِّ لِليَأسِ فِي كُلِّ نظرَةٍ
سَقِيمَةٍ أثَبِّتُهَا؟
عَلَى الثَّبَاتِ الظَّاهِرِ لِلحُمَّى وللخَوْفِ
يُهَيْمِنُ الهَذَيَانُ بِتَمَلُّكِهِ
الجَسَدَ، هُنَالِكَ تَجِدُونَ المَمْسُوسِينَ بالذَّكَاءِ
أولئكَ الَّذِينَ لا يَجِبُ أنْ يَعُودُوا،
الَّذِينَ كانتْ قد أنْبَتَتْ أقْدَامُهُمْ جُذورًا فِي قِمَمِ الجُرُوفِ،
والَّذِينَ إلى شِفَاهِهِمْ تَمْضِي الحَيَوَانَاتُ لتَشْرَبَ دَماً لا يَنْضَبُ.
أعرف أنَّ لديْهِمْ وُجُودٌ. بَحَثتُ عَنْهُمْ سُدًى فِي عَتَبَةِ الشِّتَاءَاتِ
تَارِكًا خَلْفِي الحَيَاةَ وَالشِّعْرَ دُونَ أنْ أعْبَأَ
بِالضَّوْءِ الأسْوَدِ للبُرُوقِ مُصَاحِبًا هِجْرَاتِ
الطُّيُورِ والتَّنَّفُّسَ البَطِيءَ لِلزَّوَاحِفِ فِي فَجَوَاتِ الأسْوَارِ.
التقيْتُ مِنْ جَدِيدٍ عَالَمَ تَأمُّلاتِي البِكْرَ،
عُدْتُ بِإصْرَارٍ جَنْبَ البَحْرِ، حَيْثُ رأيْتُهَا لآخِرِ مَرَّةٍ، شَاحِبَةً،
تَرْتَابُ مِنَ العَوْدَةِ إلَى الاتِّصَالِ المُضْجِرِ مَعَ اللَّيْلِ.
تَبَادَلْتُ مَعَهَا سِحْرَ تَحَرُّرٍ.
لِلمَرَّةِ الأخِيرَةِ سَمِعْتُهَا تتحَدَّثُ،
كَانَتْ تَدْنُو مِنَ الضَّوْءِ الرَّمَادِيِّ الأوَّلِ لِلصُّبْحِ…
صَوْتٌ
أسْتَمِعُ إلى الصَّوْتِ الَّذِي تَجْلُبُهُ لِي القَصِيدَةُ،
الصَّوْتُ البَارِدُ مِثْلَ اللَّيْلَةِ الأشَدِّ بَرْدًا مِنَ الشِّتَاءِ،
الصَّوْتُ ذُو النَّبْرَةِ الدَّافِئَةِ مِثْلَ المَسَاءِ
الَّذِي تَتَأخَّرُ فِيهِ الشَّمْسُ، الصَّوْتُ العَذْبُ مِثْلَ ثَمَرَةٍ
قُطِفَتْ حَدِيثًا، مِنْ أغْصَانٍ
تَلاشَتْ فِي اليَدِ، الصَّوْتُ المُرُّ مِثْلَ العَصِيرِ
المَنْسِيِّ فِي كَأسٍ مِنَ العَوَاطِفِ،
الصَّوْتُ الأبْيَضُ مِثْلَ ذَلِكَ الشَّرْشَفِ المَوْضُوعِ
فِي سَرِيرِ الرِّيحِ الغَرْبِيَّةِ، الصَّوْتُ المُتَقَطِّعُ
عَبْرَ نَصْلِ الحُرُوفِ الصَّائِتَةِ، الصَّوْتُ الَّذِي يَتَأخَّرُ
فِي أسْمَاعِ القَصِيدَةِ، وَيَمْتَدُّ
فِي الصَّوْتِ الَّذِي يَقُولُ القَصِيدَةَ لمَّا أسْتَمِعُ إلَيْهَا.
مِيتَافِيزِيقَا
أمَامَ فِنْجَانِ القَهْوَةِ، يُشْعِلُ
سِيجَارَةً، ليْسَ رَاغِبًا فِي مَعْرِفَةِ شَيْءٍ عَنِ الإلْهَامِ،
عَنْ أبْيَاتٍ شِعْرِيَّةٍ تَعِسَةٍ، عَنْ وِجْهَاتٍ تَائِهَةٍ
تُشْبِهُ وِجْهَة الأنْهَارِ. لرُبَّمَا
لنْ يُخِيفَهُ الزَّمَنُ، أنْ يَكُونَ المَوْتُ
بِالنِّسْبَةِ لهُ مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ
لا تَمْلِكُ تَحَقُّقَهَا المَرْئِيَّ، ألا تَتْرُكَ
العُيُونَ لِشَيْءٍ مَا مِنَ الحَيَاةِ المُجَرَّدَةِ
وَالمُتَطَابِقَةِ مَعَ الرُّوحِ أنْ يَنْجَلِي.
أحْيَانًا يُفَكِّرُ أنْ يُجِيبَ
عَلَى الأسْئِلَةِ الَّتِي تُطْرَحُ عَلَيْهِ، لكِنَّهُ
يُؤَجِّلُ تِلْكَ اللَّحْظَةَ، يُفَضِّلُ أنْ يُوَاصِلَ
مُكَابَرَةَ الحَاضِرِ الصَّامِتَةَ، كَمَا لوْ كَانَ الحَاضِرُ
سَيَسْتَمِرُّ، وَكَمَا لوْ أنَّ القَهْوَةَ
لمْ تَبْرَدْ فِي الفِنْجَانِ.
وَجْبَةُ فُطُورٍ
حِينَمَا أمْضِي بَاحِثًا عَنِ الخُبْزِ صَبَاحًا
أعْرِفُ مِنَ الرَّائِحَةِ المُنْبَعِثَةِ إنْ كَانَ ثَمَّةَ خُبْزٌ أمْ لَا.
وَأمْضِي دَوْمًا مَعَ الرَّائِحَةِ أوْ بِدُونِهَا.
إنْ كَانَ رَغِيفُ خُبْزٍ مَنْسِيٍّ قَدْ بَقِيَ
مِنْ خَبْزَةِ البَارِحَةِ أوْ أنَّ الخَبَّازَ
قدْ تَذكَّرَ وَاحْتَفَظَ لِي بِرَغِيفٍ.
المَخْبَزَةُ هُنَالِكَ فِي الأسْفَلِ تَمْكُثُ فِي المُنْعَطَفِ،
هُنَالِكَ مِنْ قَبْلُ كَانَتْ فَتَاةٌ
يَنْشُدُ الكُلُّ وُدَّهَا لأنَّهَا كَانَتْ تَضْحَكُ.
حَتَّى الآنَ لا أحَدَ يَعْرِفُ لِمَ كَانَتْ تَضْحَكُ،
تِلْكَ الفَتَاةُ الَّتِي كَانَتْ تَسْكُنُ المَخْبَزَةَ،
أوْ عَلَى الأقَلِّ هَلْ كَانَتْ جِدِّيَّةً أمْ لمْ تَكُنْ كَذَلِكَ؟
وَحِينَمَا كُنْتُ أضَعُ الكِيسَ فَوْقَ المِنْضَدَةِ
كُنْتُ أُشَدِّدُ عَليْهِمْ دَوْمًا أنْ يَعُدُّوا الخُبْزَ جَيِّدًا.
سيرة
وَقَعَ فِي الشَّهْوَةِ، فِي الخَطِيئَةِ المُحْزِنَةِ
لِلحُبِّ، فِي لَذَّةِ الهُنَيْهَةِ الَّتِي يُطْفِئُهَا
الزَّمَنُ. تَنَازَلَ لِلزَّبَدِ المُجَرَّدِ لِلحَيَاةِ
عَنِ العُزْلَةِ المَوْرُوثَةِ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَجَ نَهْرًا
مِنْ كَلِمَاتٍ مُبْهَمَةٍ، هَاجِرًا أمْنَ الضِّفَافِ.
عَرَفَ القَفَا الشَّاحِبَ لِلوُجُوهِ،
أيْقَظَ أجْسَاداً لَمْ يَعُدْ يَتَذَكَّرُ مِنْهَا سِوَى بَرْدِ
الظِّلَالِ، رَأَى تَقَطُّرَ الغِيَابِ
فِي الأحَاسِيسِ الَّتِي يَزِلُّ فِيهَا الخَرِيفُ،
لَا مُبَالِيًا، فِي تَرَقُّبِ البَهَجَاتِ الرَّبِيعِيَّةِ.
فِي المَحَطَّةِ الَّتِي تَأتِي إلَيْهَا الفَتَاةُ
المَأتَمِيَّةُ عَائِدَةً، أثْنَاءَ ذَلِكَ، شَيْءٌ مَا كَانَ سَيِّئًا، لمْ
تَضْبِطِ المُنَبِّهَ عَلَى التَّوْقِيتِ الصَّحِيحِ، لمْ
تَسْمَعِ الاسْمَ الَّذِي يُومِئُ إلَى اعْتِرَافِ
المُحِبِّينَ، إذْ كَانَتْ قَدْ نَامَتْ قَلِيلاً ليْلَةً البَارِحَةِ
فَسَهَتْ.
تَبَقَّى لَهَا مِنْ كُلِّ هَذَا رَوَاسِبُ
غِنَاءٍ: مُكَاشَفَةُ صَدَى صَوْتٍ
دُونَمَا كَثَافَةِ الشِّفَاهِ، مُبَاغِتَةٌ مِثْلَ صُورَةِ
خصلاتِ شَعْرٍ قَدِيمَةٍ
فِي فَرَاغِ القَصِيدَةِ.
ألوانٌ
ثَمَّةَ جِدَارٌ أبْيَضُ، فِي كُلِّ الأصْيَافِ الَّتِي أتَيْتُ بِهَا
مِنَ الذَّاكِرَةِ، يَحْلُو لِي أنْ أكْتُبَ فِيهَا، وهِيَ تَتَمَزَّقُ
كَمَا لوْ كَانَتْ وَرَقَةً، أثْنَاءَ الخَرِيفِ يَغْدُو ذَلِكَ الجِدَارُ
مُعْتِمًا، وأثْنَاءَ الشِّتَاءِ تَمْلَأهُ الطَّحَالِبُ بِكِتَابَةٍ
غَيْرِ مَفْهُومَةٍ. أعْرِفُ أيْنَ يُوجَدُ وَمَتَى أكُونُ فِي حَاجَةٍ
لِلاسْتِنَادِ إلَى ظِلِّهِ، ويَعْلَقُ غُبَارُ الجِيرِ
بِأصَابِعِي. يَرُوقُنِي أنْ أرَى بَيَاضَ الجِلْدِ،
تَحْتَ أشِعَّةِ الشَّمْسِ الكَثِيفَةِ، وأنْ أقَارِنَهُ بِبَيَاضِ
الجِدَارِ، لَكن لَا العَالَمُ يُخْتَزَلُ دَائِمًا فِي شَيْءٍ
جِدّ بَسِيطٍ، ولَا مَشَاكِلُهُ تَخْتَفِي بِطَبَقَةٍ بَسِيطَةٍ
مِنَ الحِبْرِ. فَالوَاقِعُ لمْ يكنْ أبداً أبْيَضَ
مِثْلَ هَذَا الجِدَارِ: دَائِمًا يَكُونُ مُعْتِمًا أثْنَاءَ الخَرِيفِ،
ويَمْتَلِئُ بِالطَّحَالِبِ فِي الشِّتَاءِ وَلا أحَدَ يَبْحَثُ عَنْهُ
أثْنَاءَ الصَّيْفِ حِينَمَا تَصْبَغُهُ الرِّيحُ الغَرْبِيَّةُ بِالأحْمَرِ.
اِنْحِطَاطٌ
حِينَمَا سَقَطَتْ رُومَا أمَامَ هَجَمَاتِ، البَرَابِرَةِ،
كَانَ، بَعْدُ، مَا زَالَ يَتِمُّ الحِفَاظُ عَلَى حُدُودِ الإمْبرَاطُورِيَّةِ.
تَأخَّرَ الخَبَرُ – فِي الوَاقِعِ- أسَابِيعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ، وفَكَّرَ
العَبِيدُ مِثْلَمَا الأسْيَادُ كُلُّهُمْ سَوَاء أنَّ الإمْبراطُورَ
مَا زَالَ مُحَافِظًا عَلَى سُلْطَانِهِ، وأنَّ العَالَمَ لمْ يَكُنْ يَتَرَنَّحُ
حَوْلَ مَحَاوِرِهِ، وَأنَّ الشَّمْسَ الَّتِي كَانَتْ تَأتِي مِنَ المَشْرِقِ
لمْ تَرَ أيَّ شَيْءٍ جَدِيدٍ فِي مَسَارِهَا، وَتَسَاءَلُوا:
لِمَاذَا مُوَاصَلَةُ حَرَكَاتِ المَاضِي غَيْرِ القَابِلَةِ لِلتَّغْيِيرِ؟
لَمَّا صَرَخَ الرَّسُولُ المُتَسَرْبِلُ بِالأرْدِيَةِ الرَّثَّةِ
بِالخَبَرِ المُرْعِبِ. صَمَتَتِ النِّسَاءُ مَا عَدَا
تِلْكَ الَّتِي بَكَتْ حَتَّى نُزُولِ اللَّيْلِ، وَبَعْدَهَا
غَادَرَتْ لِكَيْ لا يُعْرَفَ مِنْ جَدِيدٍ عَنْ مَصِيرِهَا شَيْءٌ.
نَظَرَ الرِّجَالُ نَحْوَ البَحْرِ كَمَا لوْ أنَّ الحُلُولَ كَامِنَةٌ هُنَاكَ.
حِينَ يَنْتَهِي عَالَمٌ، فَلَيْسَ الفَرَاغُ وَحْدَهُ
الَّذِي يَمْلَأُ القُلُوبَ بِثِقَلِ رَيْبَتِهِ،
الكَلِمَاتُ أيْضًا تَتَلاشَى فِي الرُّوحِ
الَّتِي تُسَائِلُ المَاضِي، وَفِي كُلُّ الجِهَاتِ
الَّتِي يُنْظَرُ إليْهَا، يَبْدُو أنَّ الأفقَ يَنْغَلِقُ.
وَحْدَهَا الأرْضُ الَّتِي بَعْدُ مَا تَزَالُ تَنْتَظِرُ أمْطَارَ
الخَرِيفِ الأُولَى، تُقَدِّمُ كَجَوَابٍ صَمْتًا جَافًّا،
صُورَةَ جُذُورٍ كَسَرَهَا الصَّيْفُ،
وَاسْتِرَاحَةَ كُهُوفٍ أشْرَعَتْهَا الحَيَوَانَاتُ
بَحْثًا عَنْ مَلْجَإٍ لِمُحَاصَرَةِ اللَّيْلِ.
ضَبَابٌ صَبَاحِيٌّ كثيفٌ
يَجْعَلُ الشِّتَاءُ أسْوَأَ
أحَاسِيسِنَا تَتَسَاقَطُ مِنَ الغُيُومِ: يَقُودُ
الاكْتِئَابُ والضَّجَرُ والتَّعَبُ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنَّا نَحْوَ سَرِيرِ اللامُبَالاةِ
فِي تَثَاقُلٍ لِلظِّلالِ. إلا أنَّ أسْمَاءَ الفُصُولِ
لا تَتَنَاسَبُ دَائِمًا مَعَ الجَوْهَرِ المَلْمُوسِ
لِلأيَّامِ. صُورَةٌ وضَحْكَةٌ وَجُمْلَةٌ
تَتَعَثَّرُ فِي انْفِعَالاتِ مَا يُرْغَبُ فِي قَوْلِهِ، إنْ
كَانَ ذَلِكَ هُوَ الحُبُّ فَإنَّهَا تُحَوِّلُهُ إلَى هُنَيْهَةٍ، وَتَتَّخِذُ
حَيَاةٌ كَانَتْ تَبْدُو عَابِرَةً مَنْظُورَ
الأبَدِيَّةِ، كَمَا لوْ أنَّ العَنْكَبُوتَ قَدْ نَامَتْ فِي نَسِيجِ خُيُوطِهَا،
وَقَدْ حَرَّرَتْنَا مِنْ نَفَادِ صَبْرِ
الزَّمَنِ. أطْلُبُ دَائِمًا قَهْوَةً، وَأثْنَاءَ ذَلِكَ أُعْجَبُ
بِالحَرَكَةِ النَّاعِمَةِ مِنَ الخَادِمَةِ، كَمَا لوْ كَانَتْ تَأخُذُ
مِنَ الآلةِ زَهْرَتَهَا السَّوْدَاءَ، أرَى هَذِهِ الأجْسَادَ
مِثْلَ مَرَاكِبَ رَاسِيَةٍ: بَعْضُهَا يَنْتَظِرُ لَحْظَةَ المَدِّ
لِلإبْحَارِ، وَالأخْرَى تَتَحَمَّلُ العَطَلَ اللامَرْئِيَّ
لِمَصَبَّاتِ الأنْهَارِ، قَدْ دَعَتْنِي لِوُلُوجِ أسْطُولِهَا
أسْطُولِ المَهْزُومِينَ، لَكِنَّ البَابَ يَنْفَتِحُ، وَتَهُبُّ فِي القَاعَةِ
رِيحٌ مُبَاغِتَةٌ، فَأتَنَفَّسُ ذَلِكَ الهَوَاءَ البَارِدَ الَّذِي يَقْذِفُ بِي
إلَى الخَارِجِ، حَيْثُ أعْلَمُ أنَّكِ تَنْتَظِرِينَنِي.
وَصْفَةٌ لِصِنَاعَةِ الأزْرَقِ
إذَا كُنْتَ تُرِيدُ أنْ تَصْنَعَ الأزْرَقَ،
اِمْسِكْ قِطْعَةً مِنَ السَّمَاءِ وَضَعْهَا فِي قِدْرٍ كَبِيرٍ،
تَسْتَطِيعُ أنْ تَأخُذَهُ إلَى نَارِ الأفقِ،
بَعْدَئِذٍ اِمْزِجِ الأزْرَقَ بِبَقَايَا مِنَ أحْمَرِ
الفَجْرِ إلَى أنْ يَتَلاشَى.
أفْرِغ الكُلَّ فِي حَوْضٍ جِدّ نَظِيفٍ،
حَتَّى لا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ دَنَسِ المَسَاءِ.
أخِيرًا، قُمْ بِتَنْخِيلِ بَقَايَا الذَّهَبِ مِنْ رِمَالِ
مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، حَتَّى يَلْتَصِقَ اللَّوْنُ بِالعُمْقِ المَعْدِنِيِّ.
إذَا كُنْتَ تَرْغَبُ، ألا تَنْفَصِلَ الألوَانُ
بِفِعْلِ الزَّمَنِ، ضَعْ فِي السَّائِلِ قَلْبًا مِنَ الخَوخِ المُحْتَرِقِ.
سَوْفَ تَرَاهُ وَهُوَ يَتَلاشَى، دُونَ أنْ يَتْرُكَ أيَّ عَلامَةٍ عَلَى أنَّكَ فِي وَقْتٍ مَا
قَدْ وَضَعْتَهُ هُنَاكَ، ولا حَتَّى الأسْوَدُ مِنَ الرَّمَادِ سَيَتْرُكُ بَقَايَا الأمْغَرِ
عَلَى السَّطْحِ المُذَهَّبِ. يُمْكِنُكَ حِينَئِذٍ أنْ تَرْفَعَ اللَّوْنَ
حَتَّى مُسْتَوَى العَيْنَيْنِ، وَمُقَارَنَتُهِ بِاللَّوْنِ الأزْرَقِ الحَقِيقِيِّ.
سَيَبْدُو لَكَ اللونَانِ مُتَشَابِهَيْنِ كلاهُمَا، دُونَ أنْ تَتَمَكَّنَ
مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أحَدِهِمَا والآخَرِ.
هَكَذَا صَنَعْتُ ذَلِكَ – أنَا، أبْرَهَامُ بْنُ يَهُودَا بْنُ حَايِيمَ،
مُنَوِّرُ الوَلِيَّةِ المُلْهِمُ- وَتَرَكْتُ الوَصْفَةَ لِمَنْ يَرْغَبُ،
فِي يَوْمٍ مَا، أنْ يُحَاكِيَ السَّمَاءَ.
تأمُّلٌ في الخَرَائِبِ
حَطَّ فِي قَاعَةٍ بِلا مُذَهَّبَاتٍ وَبِلَا كَرَاسِي:
خَشَبٌ عَتِيقٌ وَمِزْهَرِيَّاتٌ بِوُرُودٍ مِنَ البلاسْتِيكِ، نَوَافِذُ
زُجَاجِيَّةٌ مَكْسُورَةٌ مُوَجَّهَةٌ نَحْوَ الطَّرِيقِ السَّيَّارِ. لا رِيحَ،
ولا بَحْرَ: ضَجِيجُ السَّيَّارَاتِ وَحْدَهُ كَانَ يَتَسَرَّبُ مِنَ الشُّقُوقِ
لِيَرْتَطِمَ صَدَاهُ بِالسَّقْفِ (خَشَبٌ يُرَى مِنْ خِلالِ بَقَايَا
الرُّخَامِ الزَّائِفِ). وبَعْدَئِذٍ فِي الشَّارِعِ، تَعَلَّقَ بِالحُطَامِ المُهْتَرِئِ
لِحَواجِزَ قَدِيمَةٍ. وَمَا بَيْنَ الشُّجَيْرَاتِ الَّتِي تَجْتَاحُ كُلَّ شَيْءٍ،
كَانَ يُرَى مَشْهَدٌ جَدِيرٌ بِأنْ يَكُونَ لَوْحَةً
رُومَانْسِيَّةً. الوَادِي، وَقَدْ حَجَبَتْهُ بُيُوتٌ،
وَالجِبَالُ وَقَدْ اجْتَاحَتْهَا خُرْدَةُ الحَدِيدِ المُتَهَالِكِ؛ كَانَتْ تُخْفِي
مَاضِيًا لِقطْعَانٍ ورُعَاةٍ. لَكِنْ رُبَّمَا لمْ يَكُنْ أبَدًا قَدْ سُمِعَ هُنَا
عَزْفُ النَّايِ. هَذَا البَيْتُ، قَدِ اكْتَفَى حَقًّا
بِحِفْظِ صَمْتٍ قَدِيمٍ حَوَّلَهُ الاسْتِعْمَالُ إلَى بُقَعٍ
سَبيدَجِيَّةٍ فِي الذَّاكِرَةِ. وَهُوَ الآنَ، يَلْتَبِسُ بِدِفْءِ
الجُدْرَانِ؛
ويَحْتَضِنُ فَقَطْ جُحُورَ الزَّوَاحِفِ الَّتِي تَنْكَشِفُ فِي الشِّتَاءِ
فَحَسْب، مُتَخَفِّيَةً عَنِ الكَوْنِ. لَكِنْ مِنْ هُنَا قَدْ مَرَّ
شَخْصٌ مَامُنذُ قليلٍ؛
وبَعْدُ مَا زَالَ يَنْبَعِثُ الدُّخَّانُ مِنْ جَبَلِ الأخْشَابِ، بَيْنَمَا
الشَّمْسُ تَتَقَدَّمُ مِنَ المَشْرِقِ، حَيْثُ ألْوَانُ الفَجْرِ
البَارِدَةُ لا تَتَبَدَّدُ، وَحَيْثُ لا طَائِرَ يُحَيِّي
مَوْلِدَ النَّهَارِ.
مَادَّةُ القَصِيدَةِ
إلى صالح ستيتية
ثَمَّةَ جَوْهَرٌ فِي الأشْيَاءِ
لا يَضِيعُ حِينَ تَلْمَسُهُ أجْنِحَةُ
الجَمَالِ. يَغِيبُ عن بَصَرِنَا أحْيَانًا
مَا بَيْنَ زَوَايَا الحَيَاةِ. لَكِنَّهُ
يَتَعَقَّبُنَا بِرَغْبَتِهِ
فِي الدَّيْمُومَةِ، ويَأتِي لِيُلَوِّثَنَا
بِالعَدْوَى الإلهِيَّةِ لِحُمَّى
مِنْ خُلُودٍ. يَشْتَغِلُ الشُّعَرَاءُ
عَلَى هَذِهِ المَادَّةِ. تُخْرِجُ أصَابِعُهُمْ
الصُّدْفَةَ مِنْ بَاطِنِ مَا سَوْفَ يَأتِي
لِمُلَاقَاتِهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ اللامُحْتَمَلَ
يُوجَدُ فِي قَلْبِ الهُنَيْهَةِ،
فِي تَقَاطُعِ النَّظَرَاتِ
الَّذِي تُتَرْجِمُهُ كَلِمَةُ القَصِيدَةِ. أقْرَأُ
مَا يَكْتُبُونَ وَمِنَ الجَذْوَةِ
الَّتِي تُغَذِّيهَا أشْعَارُهُمْ يَرْتَفِعُ
الدُّخَّانُ الَّذِي تُبَدِّدُهُ السَّمَاءُ بَيْنَ
الزُّرْقَةِ، وَهِيَ بِالكَادِ تَتْرُكُ
صَدىً لِمَا هُوَ جَوْهَرِيٌّ، وَبَاقٍ.
ديمقراطية
ذَهَبْتُ لِأرَى الدِّيمُقْرَاطِيَّةَ مُحَنَّطَةً
مِثْلَ جُثَّةِ لِينِينَ، تَعَبقُ بِرَائِحَةِ الفُورْمُولَ وَزَيْتِ التِّرْبِنْتِينَ،
فِي قَبْوٍ مِنْ أورُوبَا. يَسْكُبُونَ عَلَيْهَا
المَرَاهِمَ وَمَاءَ الكُولُونْيَا، يَحْرٍقُونَ لأجْلِهَا البُخُورَ
وَالحَشِيشَ وَيَقْرَأونَ عَلَيْهَا الأعْمَالَ الكَامِلَةَ
لِرُوسُو وَلِدُو سَانْ جُوسْتَ ولِفِكْتُورْ هُوغُو
لَكِنَّ جَسَدَهَا لمْ يَكُنْ يَتَحَرَّكُ. كَانُوا يَصْرُخُونَ لَهَا بِالحُرِّيَّةِ
وَالمُسَاوَاةِ وَالإِخَاءِ وَكَانَتِ المِسْكِينَةُ المَيِّتَةُ
تَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةُ المَقْبَرَةِ كَمَا لَوْ أنَّهَا تَنْتَظِرُ
مُشَرِّحِي جُثَّتِهَا الَّذِينَ لمْ يَأتُوا، تَقَارِيرُ، وَحِمْضٌ نَوَوِيٌّ صِبْغِيٌّ
لكَيْ تُمْنَحَ أسْرَةً وَسُلالَةً. انْتَظَرْتُ
أنْ يُبْعِدَ الجَمِيعُ أقْدَامَهُمْ، لقَدْ تَفَحَّصْتُ
إحْدَى عَيْنَيْهَا وَرَأيْتُ أنَّهَا كَانَتْ تَتَحَرَّكُ. أخَذْتُ
إحْدَى يَدَيْهَا، وَالتَمَسْتُ مِنْهَا أنْ تَسْتَفِيقَ فَرَأيْتُ شَفَتَيْهَا
تَرْتَعِشَانِ لِكَيْ تَقُولَا شَيْئًا. وَصِيَّةً؟
أهِيَ الحَقِيقَةُ الأخِيرَةُ لِلعَالَمِ؟ «مَاذَا تُرِيدِينَ؟»،
سَألْتُهَا. وَهِيَ، تَكَادُ تَكُونُ حَيَّةً: «سِيجَارَةٌ!»