عبد السلام الطويل*
1
أحيانا، تحت أسوار مدينة أوروك البيضاء
لا ينتهي الوقت،
يظل مُنَكّسا أعلامه وسط الشارع الوحيد الرابط بين ماضي المدينة وحاضرها
مثل جيش مُحاصَر
وتظل الأحداث على وشك أن تحدث والفرص على وشك أن تسنح والحياة على وشك أن تقع وتعفي الزمن من تكراره.
2
يلزم لمن يفكر في بناء أسوار مدينة أوروك أن يحظى بقوة كبيرة ، ومن جهة أخرى ، وفي أفق التطلع إلى تحقيق نفس الفكرة ، فقد سافر أنكيدو لملاقاة أوتنابيشتم الذي نجا من الفيضان بأعجوبة. وأما فيما يخص جلجامش نفسه فقد ذهب لكي يبحث عن الخلود ثم يعود لحكم أوروك أطول مدة لا يمكن أن تكون ممكنة إلا بالنسبة لإله ، لأنها مدة شاسعة وتريد “اقتناص الزمن كله “..
3
ومع ذلك فكم هو موحشٌ
عالمٌ يخلو من الساعات،
ويكتظُّ بالأيام .
4
يجهل اللاشعور الزمن ، إنه خزان للذكريات، يتذكر ما حصل حرفيا ، قد تكون الأحداث أحيانا غير ذات أهمية ، مجرد ذكريات ، غير أنها خلفت جروحات نفسية ، تقول لنا الأحداث أنه في لحظة ما من حياتنا حدث ما حدث ، قد لا تكون له أهمية ،غير أنه حفر في أنفسنا تشققا . توجد عدة أزمنة جامدة وهي تطالب بأن يتم الاعتراف بها وأن تسمى لكي ينتهي التكرار ويجري الزمن على نحو طبيعي فيأخذ الماضي مكانه المشروع ويصير حاضرا من ثم وإلا فإنه سيعود ويعمل على تسميم الحياة العاطفية للشخص . كان فرويد يؤمن بوجود لاشعور جماعي ، غير أنه كان يرفض أن يكون الجهاز النفسي لشخص ما متأثرا منذ الولادة بتاريخ السلالة أو العشيرة التي ينتمي إليها – مثلما يقول يونج – وأنه تحددنا ، فضلا عن صراعات الماضي ، رغبات ومعتقدات وأحلام والدَيْنا وقبل حتى الولادة ، وأنَّ ذاكرتنا تحمل صور الوقائع التي وقعت قبل مجيئنا ، وأننا نعيش تحت تأثيرها ، أسرى قلق دائم ، ونعيش رواسبَ حروبٍ ومعارك وميتاتٍ لم نعشها وغالبا ما لم يتمّ اطلاعنا عليها لأنهم أرادوا إعفاءنا وعدم إزعاجنا بقصص قديمة ورثة ومؤلمة ، غير أن الصمت هو أكبر بكثير من الكلمات ، فقد سجل لا شعورنا كل شيء، وأبقى على كل شيء سليما ولقد تم كل شيء في غفلة تامة عن الوعي. يرتبط الجهاز النفسي بالزمن ، وهو ما تعبر عنه مسرحية سوفوكليس “أوديب ملكا ” ، فلكي يعمل الجهاز النفسي ولكي ينبني هو في حاجة لنظام للأجيال يجب احترامه : فالإبن لا يصح أن يتزوج من والدته [على غرار ما تخيل ذلك جورج باطاي في روايته الأخيرة “الأم”]. حينما تزوج أوديب جوكاسطا ، أمه ، فإن مرضا غريبا ضرب المدينة وانقلبت دورة الحياة ، وتلفت المحاصيل وأبيدت الغلال وانْتنت ونفقت المواشي وماتت الدواب . لقد حرَّفَ أوديب مجرى الزمن فيما أن الزمن هو ابن للطبيعة وهي تثأر ممَّنْ ينتهكها : فالمرض النفسي ينشأ بسبب عجز الطفل عن الانفصال عن جسد أمه. يقع كبح في تعاقب الأجيال ، فالشخص يفشل في أن يتخذ له موقعا في حضن الأسرة وفي الغالب هو لا يتوصل إلى الاستخدام الصحيح لمختلف الأزمنة النحوية ويظل في متاهة اللاشعور : إنه يهذي إن هو تكلم .
ولكي يتعافى المريض عليه بالعودة للماضي، ليس من أجل تكراره أو حتى إحيائه ، بل من أجل التحرر منه ، هكذا ينصح المحلل النفسي ، يتعلق الأمر بزحزحة أو بدحرجة الكتل الزمنية المتكلسة ، إن لم نستطع تغيير الماضي بأن نقرأه على نحو آخر وغالبا ، بحسب التحليل النفسي ، ما تكون هذه القراءة لوحدها هي ما يسمح بتغيير حياتنا .
آن لوريا ، مجلة “بسيكولوجي “. أبريل 93. ص. 3 (بتصرف ) .
بخلاف اللاشعور الفردي ، فإن اللاشعور الجمعي هو مطابق لذاته عند مختلف الناس ، بالنسبة لكارل غ. يونغ ، فلا يتضمن لا شعورنا الفردي سوى تجربتنا الخاصة ، فهو لذلك محدود، أما اللاشعور الجمعي فهو يتضمن ذكريات لم تكن قد اختزنت في حياتنا اليومية ثم إنه بلاحدود . يذهب يونغ أبعد بقوله أنه من الضروري، من أجل توازننا اليومي أن نكون على اتصال بذاكرتنا الجماعية اللاواعية ، ومما يدعو للمفارقة أن هذا الجزء الذي يتجاوز الحياة الفردية ، يسمح لنا أن ندخل في علاقة مع أسس جهازنا النفسي .(يأسف الرواقيون على الخاصية اللاجسدية للزمن، فهو مثل الفراغ غير قابل للإمساك ولا يتحول أبدا إلى حاضر فهو لا يني يهرب ويستحيل إدراكه ، فما كان في اللحظة السابقة منتميا للمستقبل يتحول إلى لحظة ماضية ..بالنسبة للرواقية مرة أخرى فإن الزمن يرسم دائرة وتعيد الوقائع لتحدث من جديد وطبق الأصل : أي أنها تعود عودا أبديا نفس الأشياء. وكل شيء يعيد ترميم نفسه . يؤكد التناسخ أنه بعد موتنا بسنين كثيرة فإننا سنعود لنفس الجسد . لقد كان الرواقيون متأكدين أن للناس أقدارا مقررة سلفا ويرون أن الزمن صفحة للكتابة قابلة للقراءة. لبناء أخلاق للحكم أعاد نيتشة تناول فكرة الرواقيين فيما يخص العود الأبدي …إننا إن نحن انطلقنا من الفلسفة اليونانية فسوف نجد نسقين كبيرين للزمن : الأول تحكمه الرؤية الدورية ..، وأما إن نحن احتكمنا إلى رؤيتنا فسوف نجدها رؤية خطية. آن لوريا.ص. 36(نفسه).
يحكي الكاتب الإنجليزي (كاتب وليس عالما ) أنه وجد نفسه في حجرة –دعي إليها وكان كل من دعي معه يرتدي أثوابا حمراء قرمزية. تعثر في رداء امرأة فاعتذر لها . وبعد إلقائه لمحاضرة أقبل عليه أحد أصدقائه وخاطبه : هذه الشابة ترغب في رؤيتك ، أفليس كذلك يا آنسة ديديي ؟”و”ديديي” لم يكن اسما غريبا عنه فقد رآه بالأمس فقط في حلمه . يقول صاحب المقال: هذا مثال عن الأحلام التحذيرية . مبدئيا فكل شيء يتحرك من مكان إلى آخر ، فهو يستغرق وقتا . هذا القانون الفيزيائي الذي يعرفه الجميع والبديهي الذي تستجيب له العديد من المقاييس (الكتلة والمسافة وسرعة الضوء) ولا شيء يمكن أن يخالفه كأن يصل قبل أن ينطلق .[…] غير أن بعض الأحداث المُحيرة تؤكد العكس ، فكارل غوسطاف يونج الذي حلم هو نفسه أحلاما تحث على أخذ الحيطة ، كان يقول : “آخذ بعين الاعتبار أن هنالك أحداثا تنفلت من ضوابط الزمن والمكان والسببية، لكن ليس هناك شيء [بالنسبة للوعي المطمئن] يمكنه أن يهز أركان العالم ، ولا شيء غريب . ثلاثون سنة من قبل (1905) ، قامت ثورة علمية حطمت ما كان يعرفه رجل الفيزياء الكلاسيكية.. “وحده الحاضر موجود، [أما] الماضي ،[فهو] غير موجود والمستقبل غير كائن بعد ” ، الزمن والمكان نسبيان بمعنى أنهما يقبلان الخضوع لبعض التعديلات غير المنطقية . الزمن المعترف به اليوم ، بالنسبة للفيزياء صار يشكل تحديا علميا . بالنسبة للفيزيائي أوليفيي كوسطا دوبوغارت لا يوجد الماضي ولا المستقل بل شكل من الاستمراية حيث تتحرك النفس البشرية في كل الاتجاهات ، جريان الزمن وفقا لما ندركه فيه ليست له أية قيمة منطقية ، إنه نسبي . بإمكاننا مقارنة الزمن بكتاب كبير يمكن لذهننا أن يقرأ فيه في اتجاه واحد ، لكن بالنسبة للفيزياء الكوانطية ، فليس من المستحيل أن نضع نقطة في [كل ] اتجاهٍ وهو ما استشعره أرسطو ، تقريبا : بحسبه ، فإن وجود الزمن من غير جهاز نفسي هو أمر مستحيل. إن امتلاء الكون هو ماكان قد أحسه كاتب وليس عالما هو جون كوكتو الذي عبّر عن ذلك تعبيرا أدبيا : إن زمن الناس هو أبدية منتهية . للأسف أنه ليس لعلماء الفيزياء شعراء ولا مغنون يغنون، إن المستقبل هو من ابتكار المصادفة كما قال ذلك شكسبير . يتحدث الفيزيائيون عن الحركة والسكون وعن المسافات والديمومات ، وعن السنتيمترات والثواني . إنهم يقيسون ما لا يقبل لمسا ثم يصوغون استنتاجاتهم في معادلات ، لذلك يكون خطابهم صعب الإدراك ، غير أنهم ، مثل الشعراء يبدعون المعادلات التي خلفها يختبئ الخيال . المشاعر القاهرة التي تعلو على المنطق وتكشف عن الجوهر . النفاذ إلى الحياة ، الزمان والمكان هما من الألفة بحيث نعتبرهما في غير ما حاجة ، في الغالب ، إلى تحليل .
ألان غلاس (نفسه ).
يقول عالم الفيزياء النظرية كارلو روفيللي:”أعتقد أن الزمن [ هو ] ظاهرة شديدة التعقيد ، إنه ليس شيئا واحدا ، بل [ هو ] مفهوم متعدد الطبقات ويستحيل فهمه إلا من خلال النظر إليه من زوايا مختلفة “.
ولقد اقتضاه هذا “النظر إليه من زواياه المختلفة ” أن يصرف عمره كله عاكفا عليه من غير أن يستنفده .
5
يسلم علم النفس اليونجي، مثلما سبق أن رأينا ، بأن كل مشاهدات ومشاعر الأزمنة السحيقة مخزونة في أعماقنا ، يسميها المحللون النفسيون الفرويديون واليونجيون باللاشعور أو “العقل الباطن “، وهي مفعمة بالحيوية والرغبة في الإفلات من أسر العقل المنطقي لتظهر في الأحلام على نحو حر ، أو هي تظهر في الجنون على نحو مرضي ، أوهي تظهر في الآداب والفنون على نحو جمالي، وهذا لا يتعارض مع العلم.
6
يقول خورخي لويس بورخيس (ليس عالما ولافيلسوفا ومثلما يقول عن نفسه أنه “ليس أديبا”، حتى ..، بل هو، بحسب الصيغة العربية القديمة : “فيلسوف مع الأدباء وأديب مع الفلاسفة ) في محاضرة عن الزمن : ” لم يكن يروق لنيتشه أن يتم وضع غوته وشيلر في نفس المستوى [ وعلى غرار ذلك، يمكننا أن نقول بأنه ] من الوقاحة أن نقرن الزمن بالمكان ، ذلك أنه بإمكاننا تجريد المكان ذهنيا من غير أن نتمكن من ذلك بالنسبة للزمن .
لنفترض بأننا لا نملك سوى حاسة واحدة ، بدلا من خمس ، وأن هذه الحاسة هي حاسة السمع ، حينئذ سيختفي العالم المرئي [ من أمامنا ] ، بمعنى أنَّ القُبّة السّماوية ستختفي، [ كما ] ستختفي معها النجوم … وإن فَقد أحد ما حاسة اللمس فستختفي حينئذ [ صفات] الخشن والغليظ والأملس، إلخ. وإن كنا نفتقد لهذه الإحساسات التي تكمن في الأنف والأذن [ ولست أدري فيما إن كان ممكنا أن نستغني عن المكان وأين يمكن ] لعالم الأفراد أن يتواصلوا فيما بينهم ، ويمكن أن يكونوا بالآلاف أو بالملايين وأن يتواصلوا فيما بينهم بواسطة اللغة . [ وأعتقد أنه لاشيء يمنعنا من أن نتصور [ أيضا ] لغة في مستوى تركيب لغتنا أو أشد [..كالموسيقى مثلا] . يمكن أن [ نتصور عالما ] لن يكون فيه أي شيء آخر فيما عدا الموسيقى، ويمكن أن نعترض على القول بأن الموسيقى [ تكون في حاجة إلى حاسة السمع وإلى آلة ]. بيد أننا إن نحن فكرنا في هذه التوليفة الموسيقية أو تلك ، فلن نحتاج إلى أية آلة لكي نتصورها . سنحصل على عالم هو في تعقيد عالمنا ، عالمٌ ينهض على شعور الأفراد بالموسيقى [وهوعالم منفصل ] ينضاف إلى العالم ، وكما يقول شوبنهاور “إنها عالم في حد ذاته” .” سنصير إذن إزاء عالمين،إنها تكثف الزمن أو تمحوه إلى أن نصير مع عالم لا زمن فيه ، في حين أن معنى الزمن هو التعاقب .
يقول :
“إن تخيلت نفسي ، إن تخيل كل منكم نفسه في حجرة مظلمة ، فسيتوارى العالم الحسيُّ [ عن مجالنا البصري ، حتى نفقد الإحساس بأجسادنا، فكم نفقد الإحساس بها ، فمثلا إني لا أحس هنا نفسي مستقلا عن العالم المرئي ، كما لا أحسني موصولا به، إلا إنِ احتككتُ بالطاولة [أو ] حينما ألمسها بيدي ، [ حينئذ] يحصل شيء ما، ما هو ؟ ربما إدراكات حسية ، ربما أحاسيس ، أو إن الأمر يتعلق بذكريات أو تخيُّلاتٍ، بشيء ما يحدث على أية حال . أتذكر بيتا شعريا لتينيسون ، وهو من أوائل الأبيات التي كتبها : “تايم إزْ فلوينغ إنْ ذَ ميدل أوف ذ نايت “[ “يجري الوقت في منتصف الليل”] . قد تكون تلك فكرة شعرية جدا : حينما ينام الجميع ، فإن النّهرَ الثّابتَ للزّمن يجري في الحقول ، تحت الأنفاق الأرضية ، في الفضاء ، يجري بين النجوم (لا يمكن تفادي الاستعارة) . الزمن إذن هو مشكلٌ جوهريٌّ ، أقصد أنه لا يمكن أن نغض الطرف عنه. ينتقل شعورنا باستمرار من حالة لأخرى . وهذا هو الزمن ، إنه التعاقب. أعتقد أن بيرغسون[ هو من قال ] بأن الزمن هو المشكلة الرئيسية للميتافزيقا : كل شيء سيجد حله إذا ما تم َّ حلُّ هذه المشكلة ، ليس هناك من خطر إن تم حل هذه المشكلة . بمعنى آخر[…] بإمكاننا القول دائما ، على غرار ما قال القديس أغوسطين : “[ترى] ما الزمن ؟ إن لم يسألني عنه أحدٌ ، فإني أعرفه، [ لكني لن أعرفه ] ما أن يسألني عنه أحد”. لا أعرف فيما إن كنا بعدعشرين أو ثلاثين قرنا من التأمل قد تمكنا من حلِّ مشكلة الزمن هذه”.
7
يقول روفيللي : ” أعتقد أن عثرة زماننا [ تتمثل في ] الفصل الفادح بين التخصصات ، لذلك ففي مسألة معقدة كالزمن، نحن نحتاج حوارا بين علماء الأعصاب والفلاسفة والفيزيائيين والأدباء أيضا .أتحدث في كتابي عن [مارسيل] بروست .نقطة أخرى هي أن الإحساس بالزمن يتم على مستوى [انفعالي] ، لذلك فهو مفهوم مشحون بالإنفعالات بدرجة كبيرة .بالنسبة لنا فإن ما يجعل الحديث عنه [ ناقصا ] من غير الإشارة إلى عاطفة الزمن وهي حقيقة أن الزمن يمرُّ ، وأنَّ مصيرنا [ يسير ] إلى فناء . أظن أنه حتى بالنسبة لفيزيائي ، لو نسينا هنا الجانب العاطفي فستصيبنا الحيرة لأننا نتوقع أن نجد في الفيزياء إحساسا بمرور الزمن لا يمت إليه بصلة ، بل يرجع إلى بنيتنا العصبية و[إلى ] حياتنا الانفعالية. أعتقد أن جريان الزمن هنا [إنما هو ] من تأثير دماغنا ، إذ لا وجود له في الفيزياء […]،ربما تستطيع الفلسفة أن تلقي عليه ضوءا جديدا […] لذلك نتحدث عن كتاب لفيلسوف اسمه هانز رايشنباخ” ،[الذي يعتبره] من “أفضل الكتب التي كتبها […]”إننا نقرأ فيه عدة كتابات فلسفية هي بمثابة “رد فعل على خوفنا من الزمن ” وهي تتأمل الزمن على صعيد “ما هو ثابت وأبدي ، في مقابل “ما هو زائل وفانٍ “- ما أطلق عليه [اليونانيون ] “عدم تباثٍ “.
8
يقول بورخيس في محاضرته عن الزمن ، الذي، كما لو أنه لم يعد يفاجئ أحدا، فهو قد صار من الألفة والبداهة … أتذكر قولة لسيوران يقول ما مفاده أنه على أحد منا أن يختفي فلا محالة أن هذه المواجهة ستؤدي إلى الخراب . يقول بورخيس في محاضرته نفسها عن الزمن ” بأننا لازلنا نحس بعد بهذه الحيرة القديمة تلك التي أحسها هيراقليطس على نحو قاتل في هذا المثال الذي أعود إليه دائما : لا أحد يسبح في [نفس] النهر مرتين. لماذا لا نسبح [فيه] مرتين؟ أولا لأن مياه النهر لاتتوقف عن الجريان . وثانيا ، وهو أمر يمسنا على نحو ميتافزيقي ويثير فينا ما يشبه بداية الرعب المقدس ، لأننا نحن بدورنا [ مجموعة ] أنْهُرٍ ، وأننا نجري بدورنا باستمرار . هاهنا تكمن مشكلة الزمن ، إنها مشكلة العرضي . الزمن يعبر. أتذكر هذه الأبيات الجميلة لبوالو :”لنُعَجّلْ ، فالوقت ينسحب ويسحبنا معه ، اللحظة التي [كنت] أتحدث فيها ابتعدت عني “.إن حاضري ،أو ما كان حاضري/ قد صار ماضيا ، غير أن هذا الزمن الذي مَرّ، لمْ يمُرّ بالكامل ، ذلك أن أمورا جمّة قد حدثت لنا في مجرى هذا الأسبوع، ومع ذلك ، فما زلنا نحن هم أنفسنا وأنني حاولت أن أفكر في بعض المشاكل أمامكم ، وأكيد أنكم تذكرون بأنكم كنتم معي هنا خلال الأسبوع السابق ، فذكرى الزمن تبقى عالقة بالذاكرة […] على أية حال , فنحن مجبولون في جزء كبير منا من ذاكرة [ كما أننا مجبولون ] في جزء [ آخر ] من نسيان .
هناك إذن مشكلة الزمن، وربما كانت متعذرة على الحلِّ ،ولكن مع ذلك، فلنتفحص الحلول المطروحة ، الحل الأقدم يعود إلى أفلاطون ، ثم لدينا حل أفلوطين ، وأخيرا [ لدينا ] حل القديس أغوسطين ، إنه حل يحكي أجمل مكتشفات الإنسان ، ذلك لأني أزعم أن الأمر يتعلق باكتشافٍ إنسانيٍّ ، وهذا الاكتشاف الجميل هو الأبدية . ما الأبدية ؟ إنها ليست مجموع أماسينا ،[ بل] إنها كل أماسينا ، كل أماسي الكائنات الواعية، كل الماضي الذي لا نعرف متى ابتدأ [ وأين مضى ] ثم أين كان الحاضر الذي يشمل كل المدن وكل العوالم ، كل الفضاء [القائم ] بين الكواكب. وأخيرا المستقبل الذي لم يتحقق بعد ، وإن كان يوجد مع ذلك”(المحاضرات ) .
ما الأبدية ؟ يتساءل …في نفس السياق: “يفترض اللاهوتيون أن الأبدية هي ، على نحو من الأنحاء ، [ مجرد] لحظة [ ولكن] تجتمع عندها هذه الأزمنة [ الثلاثة ] على نحو مُعْجِزٍ . يمكن أن نستعيد كلمات أفلوطين الذي أحسَّ بعمقٍ [هو الآخر] بمشكلة الزمن . يقول أفلوطين : ” هناك ثلاثة أزمنة وهذه الأزمنة الثلاثة هي بأجمعها الحاضر ، أولها هو الحاضر الراهن ، اللحظة التي أتكلم فيها أو اللحظة التي تكلمت فيها لأنها أصبحت منتمية للماضي ، ثم لدينا حاضر آخر ، وهو حاضر الماضي، والذي نسميه الذاكرة ، ثم حاضر ثالث هو حاضر المستقبل وهو الذي نأمل فيه ، على نحو ما ، ونتوجسه” .
9
يستعرض بورخيس تاريخ الزمن منذ العصر اليوناني ومن خلاله نعرف أن أفلاطون قد
“قدم لنا فكرة عن الزمن وقال عنه أنه الصورة المتحركة للأبدية، فالزمن بدأ بالأبدية، بكائن أبدي ، وهذا الكائن الأبدي يريد أن ينعكس في كائنات أخرى ، غير أنه لا يمكن أن يفعل هذا في أبديته ، بل يتعين عليه أن يفعل هذا في التعاقب ، إن الزمن هو الصورة المتحركة للأبدية على نحو ما . يقول لنا المتصوف الإنجليزي الكبير ويليام بلايك “الزمن هِبَةُ الأبديَّة، فإن نحن أعطينا كلية الكينونة مرة واحدة ، فسوف نُسْحَقُ ونفنى، في حين أن الزمن هو هِبةُ من هٍباتِ الأبدية . تتيح لنا الأبدية هذه الخبرات بالتعاقب ، فلنا الأيام والليالي ، ولنا الساعات والدقائق والذاكرة والإحساس بالحاضر ، ثم لدينا المستقبل الذي نجهل كيف سيكون حتى إن كنا نهجسه ونتوجسه” .
10
لدينا كل ماسبق ، متعاقبا، لأننا لن نطيقَ الثقلَ الباهظَ ، الرَّطْمَ المتعذّر على التحمُّلِ لكينونةِ الكون كله. سيكون الزمن هِبةٌ من الهبات التي تسمح لنا بالعيش في التعاقب .
يقول شوبنهاور بأنه من حسن الحظ بالنسبة لنا أن ينقسم وجودنا إلى أيام ولياليَ ، وأن يقطع ذلك بالنوم ، نستيقظ صباحا ، نقيم النهار ثم ننام [ ليلا]، فإن لم يكن هناك نوم فسيكون العيشُ أمرا لا يطاق ، لن نتحكّمَ في متعنا ، لن يكون بإمكاننا إطاقة كلية الكينونة . فلقد منحنا كل شيء ، لكن بالتدريج .
يتجاوب التناسخ مع فكرة قريبة من هذه ، فقد نكون كما يقول الحلوليون، كل المعادن وكل النباتات والحيوانات [ حتى ] وإن كنا لا نعرف هذا لحسن الحظ ، ولحسن الحظ [أيضا] أننا نصدق بالفردانية وإلا فسوف نرزحُ ونهْلكُ تحت هذه العرامة .
11
– نعود مرة أخرى إلى “القديس أغوسطين “. يقول بورخيس : لا أحد – فيما أتصور – أحسَّ بمشكلة الزمن ، [ وطرح على نفسه هذا ] التساؤل حول الزمن ، على نحو أشد احتداما منه . يقول القديس أغوسطين بأن روحه تحترق من معرفة ما الزمن ، وهو يتمنى من الله أن يكشف له عن ماهية الزمن ، ليس بدافع عبثي، بل لأنه [ لن ] يتمكن من العيش من غير أن يعرفه ، إنه السؤال الأساسي ، أو كما سيقول بيرغسون [فيما بعد ]: إنه “المشكل الجوهريُّ للميتافزيقا” . يعبر القديس أغوسطين عن كل هذا بحرارة .
12
دعنا الآن من هذه الثرثرة “العقلانية’ المملة. يقول القرآن الكريم : “اقتربت الساعة وانشق القمر ”
13
هنا لا يتولى الزمن ، أي أنه لا يتعاقب وإن كان ينسحب إلى الخلف، طوال الوقت ، فهو إذ يفعل “يسحبنا معه ” ، وكما لو أننا نعيش في عالم فارغ من جهة أخرى وبلازمن ، إذ لا انتقال فيه شأنه شأن الزمن الحقيقي، وحتى إن كان هناك زمن شبيه فهو من غير ماض ولا مستقبل ، زمن لا يمر ولايحمل مساجينه إلى زمن آخر ، تحس نفسك فيه حبيسا لزمنية حديدية ، لا تنفك تعود، وتبقى أمامك، تحدق فيك بمنتهى الوقاحة ، نفس الأعياد والأساطير والفولكلور … ولا تاريخ أيضا حتى للأسرة ذلك الذي يحكيه الأجداد للأطفال ويشهد على كون أن ثمة انتقالا ما قد حصل ولو كان بيولوجيا أو انتقالا للذاكرة، يجعلك تحس بأن الوقت يمر بالفعل وأن رغبة ما في نسيان الماضي ، أو في “تشغيله ” عساه أن يتغير ، لأنه يزعج حينما يعود ثم يبقى ولا يرحل .
14
بالمناسبة ، فليس اللاشعوروحده هو الذي يجهل الزمن ، بل حتى الأنظمة العربية التي أفلتت من الموجة الأولى للربيع العربي ، إنها تذكرنا بأحداث تعتقد أنها مهمة ، في حين أنها كانت ربما مهمة في زمنها ، وهي إن تكررت تحمل جمودات من وجودنا وأبقت على اتجاه مصيرنا حيث هو وانعكست على جسدنا وبلدنا ونفوسنا فأكسبتها تكلسات وشقوقا وانكسارات. صور تحيي جروحات سرية وصدمات نفسية تقول لنا بأنه في لحظة معينة من حياتنا فإن حدثا (لا أهمية له في غالب الأحيان) ، قد حدث ، وأننا التقينا بالمستقبل ، لكنه لم يشفنا ، بل حفر فينا صدوعا و”أغلق ” علينا أزمنة مندثرة ، لا مستقبل فيها ، بل هي كُتلٌ من الزمان متوقّفة تطالب بأن يتم تحليلها لكي يتوقف التكرار ويجري الزمن من جديد وعلى نحو طبيعي فيأخذ الماضي مكانه الطبيعي ثم الحاضر والمستقبل. إنها تحتكم إلى تحقيبات وأنظمة زمنية لم يعشها حتى الأنبياء .كان فرويد يحث المريض على العودة للماضي لكي لا يبقى جهازه النفسي (أو حياته النفسية ) متأثرا منذ الميلاد بتاريخ السلالة وتاريخ العشيرة و”تاريخ ” الماضي ، أو أن تحدده الصراعات ورغبات والديه وحكامه قبل حتى الولادة .
15
ماهي اللحظة الراهنة ؟ هي اللحظة التي تنطوي على القليل من اللحظة الراهنة وعلى الكثير من الماضي والقليل من الحاضر ولا شيء من المستقبل .
16
تناول الفلاسفة القدامى بالدراسة العناصر التالية : المادة والصورة والزمان والمكان والحركة والخلاء المتناهي وغير المتناهي.. الزمن عندهم مشخص ومحسوس (يقول لنا حسام الألوسي في كتابه :”الزمان في الفكر الديني والفلسفي.. 2005) “..ونسجوا عدة مشاكل فلسفية حول الزمن ، ستظهر لاحقا في قراءات اللاهوتيين والفلاسفة اليهود والمسيحيين والإسلاميين” .
وبحسب الكتاب فإننا نجد الزمن حِسيّا في التفكير الميثولوجي ، له صفة الموضوعية وله وجوده الحقيقي ، وحتى إن كان لا نهائيا فهو مظهر من مظاهر الوجود البشري . ثم مع أفلاطون تبدأ المذاهب والمدارس ومعها تنشأ “المشاكل الفلسفية” مثل الفرق بين الأزلية التي هي ديمومة وثبات أو مدة وجود “الثابت اللازماني ، مثل الله والمادة الأولى وبين الزمان الذي هو مقياس الحركة أو التغير، كذلك مشكلات كيف يقاس الزمن وما هي مكوناته وهل هو كمٌّ متصل أم هو كم متصل؟ وما علاقته بالمادة ومظاهره الأخرى كالحركة والمكان ثم هل للزمن وجود حقيقي أم هو مجرد تصور ذهني أم هو مدرك ذاتي ؟ إلخ
ثم “تعددت المذاهب وظهرت مشكلات جديدة وحلول جديدة للمشاكل القديمة وهكذا حتى وصل الأمر في آخر فترة النضج للفكر الفلسفي الإسلامي مع أصحاب الفكر الموسوعي […] حدا كبيرا من التعقيد ” … توصل الباحث بالاستناد على مؤرخي الفلسفة وبالعثور على إشارات متفرقة و”بالاستعانة بعدة ناقلين ومصنفين للمذاهب حول الزمان – سواء بمعناه اللغوي أو الديني أو الفلسفي إلى أن يضع التصنيف التالي :
1.مذهب أفلاطون وأتباعه
2.مذهب أرسطو وأتباعه
3 . مذهب أفلوطين وأتباعه
4. مذهب المتكلمين في الأديان السماوية الثلاثة.
ومحاولة منه لتيسير القراءة حاول أن يفصل أحيانا وأن يقيم مقارنات وكل ذلك يجعل من كتابه “مرجعا” (بالتأكيد ، غير أنه مرجع عويص ، ..) .
هناك صيغة جوهرية تكاد أن تكون حاضرة في كل المذاهب ، فالزمن، سواء أكان مقدارا للحركة أوكان مقياسا لوجود الشي ء” أو كان هو الحركة نفسها. وسواء أكان “أوليا” وسواء أكان ذريا أو كما منفصلا أو متصلا ، فإن جميع هذه المذاهب “تعرفُ [بالمصادفة؟] الموضوعية ولا نجد فيها مدرسة تصور الزمان ذاتيا. أما فيما يتعلق بالمجادلات عن تناهيه أو لاتناهيه وهل يمكن أن تحقق وجودا كاملا بالفعل ، لشيءغير متناه فإنها تبلغ في الفكر القديم أقصى درجات التعمق والاستنفاذ والاحتمالات […] ومقارنتها مع نقائض “كانت ” [ كانطْ] ، مثلا ، ومعالجته لأدلة وجود الله فإنه سيجد هذه النقائض ، ماهي إلا غيض من فيض ، وأن ما ذكره في كتابه “نقد العقل الخالص “عن الزمان وحجج فريقي القائلين بقدمه أو بحدوثه ، ما هو إلا تبسيط إذا قورن بمعالجة الأقدمين.
تساءل الفلاسفة اليهود والمسيحيون والمسلمون : َ1. لماذا اختار[ الله] زمنا بعينه أوجد فيه العالم ؟
2. قبل وجود الزمن (الذي ابتدأ مع بداية العالم وحركته ) أين كان ولماذا أوجده الله في 6 أيام ؟وهل للعالم ولزمانه نهاية أم هو لا نهاية له على غرار الله؟
هل الله خلق العالم في زمن محدد أم أنه (العالم ) كائن لا زماني يشارك الله في لا زمنيته ؟
لم تجب الكتب المقدسة عن هذه الأسئلة أو إنها لم تعمل على تقديم إجابات فلسفية عنها ، غير أن ما حدث هو أن المؤمنين بهذه [ الكتب ]، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى طرحها ثم إلى البحث عن إجابة عنها ، وهي، إجابتهم ، في مقدور الباحث هي مجرد اجتهادات وتأويلات تعكس وجهة نظر ومقاربات .
فسفر التكوين يتحدث عن إيجاد العالم في 6 أيام (ولكننا لا يمكن أن نعرف لماذا 6 أيام ).
يحسم المؤلف : “تتكون [ تتكلم ] الكتب المقدسة عن أصل العالم وعن الزمان وعلاقته بالله بشكل غير محدد مما يترك المجال للمذاهب الإجتهاد فيما بعد .
وأما في القرآن والحديث
فالباحث يشيرإلى شيئين : هناك نصوص تتحدث عن أصل العالم وهل أوجده الله من مادة أم من عدم ؟ ونصوص أخرى تتعلق بفكرة التوقيت وهل الله ينسحب عليه الزمان أم لا ؟
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وفقا لما قالته الأديان السابقة فما قاله المؤلف عن الفترة الزمنية “ستة أيام ” في اليهودية والمسيحية هو ما نجده في الإسلام أيضا. وقد تساءل اللاهوتيون لماذا ستة أيام فقط ، ولكن على عكس سفر التكوين ، فإن الله لم يسترح في اليوم السابع ، بل استوى على العرش ، اليوم هنا يساوي ألف سنة من توقيتنا ونجد عند المفسرين اختلافات حول من بدأ يخلق في اليوم الذي استراح فيه ثم هل استراح يوم السبت أم يوم الأحد ؟…
17
ما علينا فقد أفادت نظرية أنتربولوجية أن الإنسان الأول ، بدل الحديث عن اللحظة الأولى ، الذي -(من خلقه ؟ )- لم يكن ، مثلما ترسخ في الأذهان لاحقا ، صيادا ، ولاحتى مقاتلا ، بقدر ما كان طريدة ، لقد كان مجرد طريدة ، فالنظرية الجديدة تنفي القناعة التقليدية التي نشأت عن عقيدة يهودية / مسيحية تنظر إلى الإنسان الأول باعتباره كان شريرا ، ونشأ منذ البداية منطويا على نزعة عدوانية مبيتة ، مجرما وقاتلا بالسليقة . ولقد تأكد لاحقا أن هذه القناعة غير صحيحة ، لسبب خاص وهو أن الإنسانية تطورت عبر التعاون ، لا عبر القتل ، وهكذا يرى بعض الأنتروبولوجيين أن الإنسان الأول كان من فصيلة الطرائد التي تقتنصها ضباعٌ من أحجام الدّببة والقطط الوحشية وغيرها من آكلاتِ اللّحومِ .
18
ألقى هايدغر درس “مقدمات في تاريخ الزمن “، سنة 1925 ، وهي السنة التي أعقبت انتهاءه من تحرير كتابه الأطروحة “كينونة وزمن”(1924). ما يشكل أصالة هذا الدرس هو أن صاحبه لم يشرع في الخوض في مسألة الكينونة ، أو هو لم يطرحها أصلا، إلا من خلال التفكير في مسألة الزمن (الذي قال عنه بيرغسون بأنه يُمثّلُ جوهرَ الميتافزيقا ولماذا هو- هيدغر – يؤسس للكينونة انطلاقا من العدم أولماذا يجعل سؤال الوجود يطرح انطلاقا من الميتافزيقا ؟ ) ولكن عند تفكيره في هذه القضية كان مضطرا إلى العودة إلى فينوميولوجيا هوسرل ، أي أن الدرس حول الزمن ، كان يتضمن إجابة عن السؤال : ولماذا هو يعود إلى الفينومينولوجيا تحديدا ؟ أنه يعود إليها لكي يشير إلى كونها أغفلت طرح سؤال الكينونة، فيما هي تضع أرضية طرحه .
19
ولكن بمناسبه ذكره للزمن هنا، فإنه لا مفرَّ من ذكره ثم إغفال إثارة قضية الساعات باعتبار أنها كانت –ولاتزال – تشكل صناعة (سابقة أم لاحقة ؟ للزمن) ،فهي لم تبرز إلا من أجل قياس الزمن . بمعنى أن الزمن – كنظر وتجربة يعملان على تقدم المعرفة ، كان أمرا سابقا وكانت الساعة أمرا لاحقا ، ثم إننا كلما فكرنا في مثل هذه الصناعة في إطار التراث الإسلامي مثلا، إلا واستحضرنا تلك الساعات المائية وكثير غيرها باعتبارها ظواهر تطبيقية لعلم خاص هو علم الهندسة ، الذي يشمل كل الآليات الأوتوماتيكية (“ذاتية الحركة “)والتي تتضمن أيضا كل التقنيات الدقيقة من “مواعين ” بارعة وأدوات حاذقة وآلات في منتهى الدقة …، واختصارا كل ما اصطلح عليه في الهندسة القروسطية الإسلامية بـ”علم الحيل “الذي كان له تأثير كبير وغير مباشر على قيام الثورة الصناعية في أوروبا (هذا وقد أدخل العلماء المسلمون تقنيات أخرى ، إن كانت أشد تعقيدا من الناحية النظرية ، فإنها كانت “قابلة للتطبيق” – فلقد كان “التطبيق ” هو معيار تقدم المعرفة أ لا “النظر ” .. ولقد كانت الساعات صناعة فعلية وليست مجرد “إنشاءات ورقية لعلماء نظريين ” فقط ، فقد كان التطبق / أي النفع هو المعول عليه عند العرب وليس “النظر ” – الذي يغني العلم ) .
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أننا كلما ذكرنا هذا العلم في مثل هذا السياق، إلا ومَثُل أمامنا مخطوط “كتاب الحيل ” للإخوان الثلاثة أبناء موسى بن شاكر باعتباره يتضمن تعريفا وافيا بهذا العلم ، وعدنا ، بناء على ذلك ، إلى القرن التاسع الميلادي ، غير أن الأمر المفاجئ حقا ، أن ابن خلدون ، وهو من يذكر كل هذا – إلا أنه ، يبدو متشككا وغير مُسلمٍ، من باب التسليم حتى – بأن يعود المخطوط بالفعل إلى الإخوان الثلاثة أو حتى إلى أبيهم، فهو يقول عنه بأنه “يتضمن من الصناعات الغريبة والحيل المستطرفة، كل عجيبة وربما استغلق على الفهوم بصعوبة براهينه الهندسية (…) وهو بأيدي الناس (الذين )ينسبونه إلى أبي شاكر (ولكن ) الله تعالى أعلم ” ، لذلك دعنا من أبي شاكر هذا ودعنا من أبنائه ، إذ فضلا عنهم ها هو العالم الفلكي “الزرقالي ” وساعتيه القائمتين على نهر “تاغ ” بطليطلة منذ العام 1080م، ثم تهمنا الأوصاف التي تضمنتها كتب “ابن الرزاز الجزري” و”رضوان الساعاتي ” ، حيث يصفان الساعات المائية بأنها ساعات ضخمة ، تتكون في نموذجها الأصلي من شاشة برونزية (أو خشبية ) ، في الجهة العلوية منها تقوم دائرة الأبراج وهي مصنوعة من نحاس تم تطريقه حتى صار يبدو لا معا ومصقولا . تنقسم الدائرة المذكورة إلى اثنتي عشر قسما. داخل هذه الأبراج توجد دائرتان من زجاج تمثلان الشمس والقمر ، بالإمكان تدويرهما يوميا في موقعهما الصحيح . تحت دائرة الأبراج اصْطفَّ فيْلقٌ من الأبواب الورقية الأحادية والمزدوجة . أمام الورقة الأولى ، المزدوجة ، قام هلالٌ من فضّةٍ . أما الورقة الثانية ، الأحادية ، فتحيطها نِصفُ دائرةٍ ، وينهض على جانبها صَقرٌ ، يكمن داخل مِشكاةٍ ، وتحته مزْهريّة مُعلقٌ عليها صِنْجٌ. أما على مِنصَّةُ الساعاتِ فيقفُ خمسةُ موسيقيين : طبّالين ونافخين على البوق وصَنّاجٌ .
تبدأ دائرة الأبراج دورانها عند الفجر، ثم تتوالى ، بعد ذلك ، إلى أن يغيب أحد الأبراج وراء الأفق ،وكلما أشْرقَ بُرْجٌ آخر إلا وتحرك الهلال بانتظام ثم مرَّ من أمام الأبواب. بعد مروره من أمام البابين الأولين مثلا تكون قد اكتملت ساعة ، وبعدئذ تنفتح ورقتا الباب الأول ، في النِّصْف العُلوي ، فيما يدور الباب الأسفل الذي يظهر بلون مغاير ، فيما تنحني الصقور ثم تفرد أجنحتها ثم تنشرها وقبل أن تحلق يرمي كل واحد منها من منقاره بكرة على الصِّنْجٍ . وفجأة تضاءُ دائرة الأبراج التي تكون قد دارت 180 درجة في اليوم ثم انفتحت كل الأبواب العليا وتحركت كل الأبواب السفلى في مَحاورها وأضيئت الدائرتان ثم عزفت الجوقة الموسيقية ثلاث مرات (مرة في الساعة السادسة صباحا ومرة على الساعة التاسعة ومرة في منتصف الليل ).
وثمة أيضا ساعات أخرى زئبقية في تاريخ صناعة الساعات في العالم الإسلامي ، وتوجد في كتاب “المعرفة الفلكية ” الذي كتب أصلا بالإسبانية سنة 1227م، بإيعاز وتوجيه من ألفونسو القشتالي العاشر ( وجدنا تعليقات عن الكتاب باللغة العربية ) والكتاب يشمل أوصافا لثلاث ساعات ، منها ، مثلا ، هذه الساعة التي تأخذ هيأة أسطوانة كبيرة من خشب ، وهي ، مثلما جرى تركيب أجزائها بإحكام، جرى أيضا إغلاقها بنفس الإحكام . هذا وينقسم الجزء الداخلي لهذه الساعة من إثنتي عشر حجرة صغيرة يجري الزئبق عبرها ، وقد تم تركيب الأسطوانة على المحور العائد إلى دولاب كبير تستمد منه الساعة طاقتها على الحركة ويوجد على المحور نفسه ترس يتكون من ستة أسنان معشقة ، مع 36 سنا آخر من خشب السنديان . ينهي التّرسُ وأسطوانةُ الزّئبقِ دورة كاملة كل متمّ أربع ساعات . تتضمن الساعات المائية خزانات مياه وعوامات وأحواض وقنوات أخرى وأنابيب ، وهي تشتمل على تنظيم دقيق لحركة المياه وسريانه الذي يملأ صفيحة ذات شكل دائري ، ويعزف الموسيقيون بواسطة إطلاقٍ للمياهِ فجائيٍّ وسريع . ومما يجدر ذكره أخيرا أن مثل هذه الساعات ظهرت في العالم الإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي ، بمقاييسها الأصغر من الساعات المائية أو الزئبقية – لكن بجودتها ودقتها إذا ما قورنت بتلك التي يتضمنها كتاب “المعرفة الفلكية ” (يمكن العودة إلى كتاب الجزري ، خاصة الفصول الأربعة الأولى ) .
20
“إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض “(حديث شريف). وفي النعت “استدارة ” إشارة ضمنية إلى شكل الكون ، وبدوره المكان المستدير على غرار باقي الأجرام السماوية ، وثبات ذلك عبر تاريخ الكون إلى قيام الساعة.