أنور اليزيدي
«كعبةُ جُهَيْمان» نصّ مسرحي للكاتب التونسي عبد الحليم المسعودي، وهو من أحدثِ إصدارات دار مسكلياني للنشر. آلَفَ فيه المؤلّف بين لسان الفصاحة وشفاه المحكيّ، وجمع في شخوصه ممّا يجتمع في الكعبة من جنسيّات (سعودية، تونسية، مصرية، جزائرية، سنيغالية، أمريكية، باكستانية)، ما عدا شخصيّتيْن إحداهما صامتةٌ يجري حضورها على ألسنة شخصيّات أجنبيّة عن المكان دون الزمان (أعضاء بعثة أمريكية للتنقيب عن الآثار)، فلم يكن لها وجود ركحيّ باعتبارها خارجةً عن زمن الأحداث منتميةً إلى تاريخ موغلٍ في القِدَمِ.
لعبة الزمن:
ما يسقط مِن الزمن وما يسقط فيه
غير أنّ عبد الحليم المسعودي يشغله الزمن أكثر من انشغاله بالتاريخ. فكأنّ الركح لا يستضيف سوى مَن كان «كَعْبِيَّ» الزمن، وكأنّ النّص يقترح علينا تقويمًا آخر لا الشمس ولا القمر يحكمانه بل الكعبة النابتة من الأرض. كما لا نُغفل أنّ الكعبة الأرضيّة في المعتقد الإسلاميّ هي «إسقاط عمودي» لِكعبة سماوية تطوف بها ملائكة. ما يجعلنا لا نفوّت الفرصة لتَلَقُّفِ رؤيةٍ مّا قد تخصّ الكاتب أو تتجاوزه، وقد ينطلق منها دون أن يتوقّف عندها أو العكسُ. رؤيةٌ تنبني عليها العلاقة بين النصّ مكتوبًا والنصّ مُشاهَدًا، حيث الزمن النصّي وِفْقَها إنّما هو زمن مفارق لا شيء «يُعقّل» مُطلَقه ويعطّل ألوهيّته سوى الّركحِ الذي يجعله زمنًا إنسانيًّا نكاد حين نمدّ أيادينا نلمسه بل ويحوّله إلى كائن/شخصيّة يتحرّك على مرأى من الأعين. لكنّ المسعودي يغامر بالزمن -وهو فيه- أكثر من ذلك في «كعبة جهيمان» فيجعله هو الآخر مكانًا حتى تلتبس علينا الكعبة هل هي مكان أم زمان، ويغامر بالزمن الذي نحن فيه (مشاهدون) فَيُماهِي بينه وبين الركح ليعيد تشكيل الفضاء حتى تلتبس علينا أنفسنا هل نحن مشاهدون أم شاهدون، هل نحن نتفرّج أم نطوف؟
الكعبة على الركح:
تسييل الأمكنة لتشكيل الرموز
لا مسافة إذن بين الركح بكل وظائفه ورمزيّاته وتاريخه وبين الكعبة بما لها من مثْل ذلك. وقد نكتفي بتلك الرؤية التي تلقّفناها، تلك التي سَيَّلَ بها المسعودي الزمن حتى يكون جاهزًا للانسكاب في فضاء الركح، لنبني استنتاجا رياضيًّا مفاده (وفق ما تبيّنّاه آنفًا): بما أنّ الزمن هو الكعبة، والزمن هو الركح، فإن الكعبة هي الركح، ولا مسافة بينهما. فكأنّ الممثّلين فوق الركح/الكعبة هم «بلالٌ» وهو يصدح بالآذان لأوّل مرّة، وكأنّ المتفرّجين حجيج. فالكاتب إذن لا يفوّتُ فرصة التقاط حدث تاريخي دنّس الكعبة لا ليدعونا إلى إعادة النظر فيه نبشًا عن أسئلة راهنة طُمرتْ في رسائل الماضي فحسب، بل وأيضًا -أو ربّما أساسًا- ليقدّم لنا بَدَلَ هذه القداسة الساقطة عموديًّا من السماء إلى الأرض قداسةً أخرى أفقيّةً، قد تعلو علينا قليلًا أو نعلو عليها قليلًا، لكنّها في كلّ أحوالنا وحالاتها تنتمي إلى الأرض. إنّه الركح المقدّس، الركح باعتباره تاريخًا وإعادة كتابة للتاريخ، وبما هو واقع رافضٌ لواقعه حالمٌ بممكناته الأخرى -التي قد تكون أكثر واقعيّة- دون أن يكون موازيًا.
على هذا النحو يصبح كلّ ما يحدث خارج الركح مدنَّسًا ومدنِّسًا، زائِفًا ومزيّفًا، في المقابل فإنّ كلّ ما يحدث «داخل» الركح أحقّ بالقداسة مادام يكشف هذا الزّيف ويطهّر المكان والذوات. هذا ما تلحّ عليه شخصيات المسعودي في مسرحيته «كعبة جهيمان» إذ هي تنقسم إلى شخوص داخل الكعبة وأخرى خارجها. أمّا شخصيّات الخارج فمعرّفة وإن كانت بدرجات متفاوتة وفْق ما يستدعيه دور الشخصية، وأكثر ما يجمعها أنّها معلومة الجنسيّة. في حين كانت شخصية الشيخ محمد نكرةً رغم التسمية، فلا نعرف لها جنسيّةً ولا أيَّ انتماءٍ مهما كان نوعه. هذه الشخصيّة كان حضورها داخل الكعبة حصرًا، وإن كانت غير منتمية إلى العالم الخارجي فإنّها متّصلة به بل عارفة بحقيقته فاعلةٌ في أحداثه من وراء حجاب أو لنقل من وراء جدار، جدار الكعبة. وممّا يُخفّف من عتمة التنكير في هذه الشخصية خطابُها. خطاب نورانيّ يزيد غموضُه في رجاحة تمثّلنا للشيخ محمد على أنه شيخ متصوّف، لكنّ عبد الحليم المسعودي يقتصر عند تقديم الشخصيات في مستهل النصّ على أنّه شيخ غامض، فكأنّي به يلحّ على تنكير هذه الشخصيّة كي تظلّ منزّهة من كلّ تعريف قد يجعل لها نسْبةً فيُنسّبها. فالكاتب يريد غير ما يسعى إليه العقل البشري عامّة وهو الحدّ الذي به تتحقّق المعرفة وخلافَ ما يجنح إليه العقل العربي خاصة إذ لا بدّ بالنسبة إليه من انتماء مّا وفق جدول ينقسم إلى ثنائيات: نحن/هم، مسلم/كافر، معي/ضدي… تحت عنوان كبير وهو الخير والشر. وقد وُفّق المسعودي إلى حدّ كبير في بناء شخصيّته هذه على النحو المناهض لما نريد، ليظلّ الشيخ محمد شخصيّة مبنيّة على القول أكثر من كونها متجسّدة، أو ربّما هي تجسيد لقول النبي: «من دخل الكعبة فهو آمن». الشيخ محمّد هو المعنى العميق المتواصل الذي أسّسه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في علاقتنا بالكعبة (على اختلاف موضعنا منها).
طبقات التجسيد والمعنى المتعدّي
لقد توزّعت شخوص هذه المسرحية على ثلاثة أمكنة: صحراء النفوذ، مصلّى بالمدينة المنوّرة، ثمّ الحرم المكيّ حيث اجتمعت أغلب الشخصيات وانتفى وجود بعضها بحكم منطق الأحداث. لكنّ المسعودي قد خصّ ثلاثًا منها بمكان ممتنع عن الجميع وهو الكعبة من الداخل، كما ميّز كل واحدة منها عن جموع الشخصيات بسمة ما. فكان الشيخ محمد شخصية غامضة نورانيّة ظهرت في سيرورة الأحداث كأنّها حلمٌ أو رؤيا. أمّا السّمة المميّزة للمريد السنيغالي فهي كنيته حيث وقع استبدال لون بشرته باسمه فكان أكثر ما يُذكر أو ينادى بـ«الأسود». وثالث الاثنين هو الطفل التونسي إسماعيل، وما يجعله فريدًا بين الجمع هو كونه طفلًا.
هذه الشخصيات الثلاث لم تقتصر على كونها اُختُصَّتْ بدخول الكعبة. فالشيخ محمد والمريد الأسود والطفل إسماعيل هم الكعبة عينها مجتمعين. الشيخ العارف نورها والمريد الأسود حجرها وإسماعيل الطفل بانيها. لذلك، لم يظهر لا الأسود ولا الشيخ النوراني إلّا بعد ظهور الطفل إسماعيل، بل بعد ضياعه من أمّه في الحرم المكّي، بل لم يظهرَا إلّا من أجله، لينقذاه ممّا يحدث خارج الكعبة من جرائم، فلم يخرجاه منها إلّا بعد انقضاء الزّيف، لا بانتهاء واقعة جهيمان الذي هاجم الحرم المكي، فهذا انقضاء حينيّ سيخلفه زيف آخر، وإنّما ينقضي الزّيف إلى الأبد باستمرار أسئلة الطفولة، تلك الأسئلة التي قد تطول أكثر الأشياء قداسة لا بدافع التطاول، وإنما هي أسئلةٌ ظاهرُ غايتِها بسيطٌ إذ يريد الطفل من ورائها أن يسمّي ما يدهشه وما لا يدهشه على حدٍّ سواء، لكنّ خَفِيَّ مقصدِها التجربة والمغامرة. فكما يجنح الطفل إلى تجريب الأشياء بيديه وإلى اختبارهِا ومعرفتِها بجسده وحواسّه مهما قوبل بالمنع والرّدع فإنه كذلك يفعل بالسؤال في محاولة لأن يتذكّر من أين جاء ولماذا هو الآن هنا؟ وما حدث داخل الكعبة كان سؤالًا يلقيه الطفل فيزيده الشيخ حيْرةً بجوابه الغامض، ولعلّ كمال الجواب هو مردّ الغموض فيه. ولعلّ غموض الشيخ محمد سليلُ غموض الملك الذي جاءت تبحث عنه سارة باحثة الآثار الأمريكية فكان مصيرها مثل مصيره: غامضًا.
لقد أنشأ عبد الحليم المسعودي -وهو يلعب بالكعبة مؤرجِحًا حضورها بين وجودها المكاني المادي وبين تَعْدِيَتِها الإحاليّة الرمزية، مفرّقًا بذلك بين عامّةٍ خارجَ الكعبة/اللعبة وبين خاصّة داخل الكعبة عارفةٍ باللعبة متحكّمةٍ بها- تاريخًا ليس كذلك الذي يحدث خارج الكعبة وإنما هو ما يحدث داخلها، داخل الذات، بل في أعماق أعماقها، تحت موج من فوقه موج، حيث الظلمات بعضها فوق بعض، وسنظل نراها كذلك ما دمنا ننظر إلى قاعنا من عَلٍ، ولا سبيل لبلوغ النور، إلّا بالنزول إلى ذلك القاع، ثم النظر إلى أعلى، حينها فقط، تصبح الذات نافذة، لكنّ «الكعبة لا تحتاج إلى نافذة».
الآن، يمكننا أن نتخيّل ما حدث قبل النص: كاتب يتوقّف عند حدث تاريخي يهمّ الحركات الإسلامية، كلّ محاولةٍ لإعادة كتابته إبداعيًّا، هنا والآن، قد لا تعدو أن تكون اجترارًا لكليشيهات، وفي أحسن الحالات تنزلق في الأيديولوجي الفجّ. لكن بحدسٍ مّا ماكرٍ على الأرجح، يلقي عبد الحليم المسعودي بهذا الحدث في رحى الأسئلة الطفوليّة. ومن ثمّ انخرط في لعبة الأطفال الأبدية: لعبة «الزعمة زعمة» التي تقوم على الافتراض والتبديل والتحوير والمحو والزيادة، ببساطة هي لعبة الخيال بامتياز. فوجد الكاتب نفسه أمام ممكنات لما حدث وانقضى تجعل حقيقته التاريخية حقائق متعدّدة يستحيل حصرها أو يكاد. ثم جاء النص ممكنًا يفتح على ممكنات لا متناهية ما دام ثمّة طفل يسأل: «هاااي يا عبدو… قلبك مثلّث أم مربّع؟». سؤال يحلّ في غموضه المتجدّدِ النّصُّ دون أن يستقرّ عليه، وإنّما يتعدّاه إلى «سلّملي على لاكي لوك». رسالة أشدّ غموضًا على الإطلاق إذ هي تفترض وجود تواصلٍ مّا فعلاقةٍ صريحةٍ أو ضمنيّةٍ بين المريد الأسود «عبدو ماليك بامبا» وبين «لاكي لوك» الشخصية الكارتونية: قد نوصد هذه المسرحيّة بالضحك من هذا الطلب الطفولي الغامض حدّ البراءة، لكن حين « يعمّ الظلام رُويدًا رُويدًا وتصعد أغنية ]جنيريك سلسلة لاكي لوك[ : I’m poor lonesome cowboy …» سنجد أنفسنا في الصحراء مرة أخرى (بوادٍ غير ذي زرع) حيث تاهت سارّة، باحثةُ الآثار الأمريكية كما تاه فيها الملك البابلي «نبو ميد» الذي جاءت تنقّب عنه، غير أنّ حجر المسرحيّة الأسود، عبدو ماليك، أعلن للطفل إسماعيل أنه ذاهب لإنقاذها كما أنقذ هاجر مِنْ قَبْلُ، وكما أنقذه هو للتوّ، إسماعيلً الطفلَ، الذي عرف أنّ عبدو ماليك، راعي الغزالتيْن، الخارجَ من الكعبة، كعبةِ إسماعيل، هو المخلّص الحقيقي مَثَلُه مَثَلُ راعي البقر، لاكي لوك، وليس المهدي المنتظر الدّاخل على الكعبة، كعبة جهيمان.
عودًا على بدء: تطهير الزمن
إسماعيل الطفل خارج الكعبة الآن، الآن التي هي الأمس الأبدي حسب توقيت «أوميغا»، الساعةِ التي عثر عليها الطفل إسماعيل منسيّة في مكان التطهّر، ساعةٌ من نوع أوميغا معطّلةٌ… هل بتعطيل الوقت يتطهّر الزمن؟ غير أنّ الشيخ النوراني قد أصلح الساعة نزولًا عند رغبة الطفل، دارت عقاربها لكنْ عكسَ اتّجاه الوقت. فهل تطهّر الزمن؟
على الزمن أن يغتسل ثلاثًا كي يتطهّر، كان الأولى بالتعطيل والإبطال، تعطيل الباطل وإبطاله. والثانية بعكسه، لا بمعنى الانكفاء والعودة إلى الوراء في إدبار، وإنما سيْرًا إلى الذات وفيها بحواسٍّ مقلوبة إلى الداخل، حيث الزمن الحقيقي، حيث حقيقة الزمن. هناك، بل هنا، عند النقطة الأبعد في الذات، الأقرب إلى الكون، يكون العبور من زمن الأوميغا إلى زمن الألفا. ولقد تطهّر الزمن في الطفل إسماعيل الذي دخل فتجلّى، والذي عَبَرَ فرأى ثمّ خرج يسعى بالسؤال حتى أنبأه «عبدو ماليك: ساعتك صارت ألفا Alpha.» ثمّ سمّاه «صاحبَ الوقت». وصاحب الوقت في التصوّف هو المتصرّف في الخلق بحكم تصرّفه في الزمن.
قد يكون من اليسير أن نلاحظ أن عبد الحليم المسعودي –في مراحل تطهير الزمن الثلاث- يعود بنا دومًا من أرض نَجْدٍ والحجاز إلى تونس أرض التصوّف. فعقاربُ الساعة الدوّارةُ عكسَ الوقت لنا مثيلها في جامع تستور (وقد تمّت الإشارة إلى ذلك في نص المسرحية)، ثمّ يطلق عبدو ماليك في فضاء الحرم تَسمِيةَ «صاحب الوقت» على الطفل التونسي إسماعيل فتنخطف النفس والوجدان وتلتفت العقول والأذهان، ليحلّ القارئ المشاهد السّامع في مكان غير المكان، محمولًا إلى الثاني دون أن يغادر الأوّل، راكبًا بِساط الإحالة يقوده التأوّل، فينتقل من مكّة إلى قفصة دون تنقّل، حيث جامع «سيدي صاحب الوقت».
هذه الإحالات المكانية تَلازمَ ظُهورها تلازمًا وثيقًا يكاد يكون آليًّا بالحديث عن الساعة سواء في دلالتها على الوقت أو التاريخ أو الزمن وربّما كذلك بمعناها القياميّ الذي أشار إليه الشيخ النوراني وهو يعالج ساعة الطفل من نوع أوميغا. كيف لا نعود إلى تونس كلّما كانت الساعة مدار الكلام وصاحب الوقت تونسي (الطفل إسماعيل). فكأنّ الزمن ينبذ أمكنة الأحداث فيفيض عليها وعلى تاريخها جاريًا عبر الذات نحو نبعه، أو سائلًا في الذّات، تلك الذّات العارفة به، المتحكّمة بحدوده ومجراه، أو لعلّه زمن طوفانيّ لا يستقرّ إلّا بمحو المكان… فتغرق كلّ الشخصيات التاريخية المنتمية إلى مكان الأحداث انتماءً مادّيًّا (جغرافيًّا) ولا تنجو غير الشخصيات المتخيّلةِ، تلك الخارجةِ عن الحدث التاريخي (اقتحام الحرم المكي) الوافدةِ على الكعبة تجرّنا وراءها بحثًا عن المعنى. وهل الحج شيء آخر غير بحث عن المعنى: انتقال في المكان فوقوفٌ فطوافٌ وسعي؟ أوليست هذه هي رياضة العقل حين يفكّر ورياضة الروح حين تتوق؟ أليس الكاتب –حين تخلّص أخيرًا وإلى الأبد من الشخصيات التاريخية في نصّه مُبقيًا فقط شخوصَه المتخيّلةَ- إنّما هو يفعل ما قاله الله في كتابه: «وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم»؟ إنّ عبد الحليم المسعودي يستبدل بمخلِّصِ جهيمان وأمثالِه مخلّصًا آخر، فيقدّم لنا التّخييل خلاصًا من تاريخنا المظلم وواقعنا الأشدّ ظلمةً، لا باعتباره (التخييل) عالمًا موازيًا نهرب إليه، بل بما هو ممكنات أخرى متحققّةٌ في النص قابلة للتحقّق في الواقع واجبة التحقّق بتحقّق شرطها (وإن تتولّوا يستبدلْ)، فالاستبدال حتميّ ما إن توفّرت شروطه واستُوْفِيَتْ ظروفُه سواء أكان بالقانون الإلهي أو بقانون التّاريخ، وفي كلّ الأحوال ذلك هو قانون الطبيعة.
من تونسيّة الزمن إلى توْنَسة الحدث:
كونية المعنى في محلّيته
هكذا حقّق الكاتب خلاصه الذاتي، الخلاصُ الفنّيُّ من زجاجة التاريخ إلى أفق الإبداع، من ربقة التأريخ إلى فضاءات الكتابة المسرحيّة، إلى حيث ينتمي. ماذا إذن عن انتمائه الاجتماعي الثقافي، ماذا عن الخلاص الجمعي، وهو التونسي بتاريخه المغاير لتاريخ جهيمان وبواقعه المختلف عن واقع حال الكعبة؟ ما جدوى أن يكتب (نصًّا مسرحيًّا قابلًا للفرجة) عن حادثة في أرض غير الأرض وفي زمان غير الزمان؟
مرة أخرى يجيبنا ما هو تونسيّ في النص، فعلاوةً على تلك الإحالات التي تعيدنا في كل مرة إلى تونس، وبالإضافة إلى كون الشخصية التي تحمل سمات البطل هي تونسية (الطفل إسماعيل الذي انصبّت الأحداث السابقة في مداره ليصبح محور ديناميكية النص ومستقرَّها)، نجد أنّ تلك الشخصيات المتخيّلة النّاجية دون غيرها إنّما هي تونس التونسية: جليلة أمّ إسماعيل، أو تونس المهاجرة: المهندس حيزم الطبيب، أو تونس الإفريقية: السنيغالي عبدو ماليك، أو تونس الأندلسية: ذلك أن الشيخ محمد إنما هو محمد محيي الدين ابن عربي، ومعلوم أن ابن عربي أندلسي من مرسية كما هو معلوم أن الأندلس هي امتداد لتونس وتونس امتداد للأندلس. غير أنّ الحوار الذي دار بين الطفل وبين الشيخ قد نتلقّاه أوّلًا ضاحكين من براءة الأطفال وسذاجتهم لنرتدّ فيما بعد مُقرّين بمكر الكاتب وانثناءات النص على دلالاته:
«إسماعيل: قال إنك مرساوي، فهل أنت مرساوي من المرسى يعني تونسي؟
الشيخ: أنا من «مُرسية « من بلاد الأندلس، لكنّني أعرف المرسى وجبل المنار ومقصورة ابن المثنّى في جامع الزيتونة الكبير، ولي في تونس خلّة كُثْرٌ.»
إذ بالطفل يستيقظ وينتفي ابن عربي. فنكاد نقرّ بأنّه لا وجود للشيخ أصلًا إلّا في حُلُم الطفل إسماعيل. هو إذن شخصيّة تنتمي إلى إسماعيل التونسي، بل هو خالقها كما خلق الكاتب لقاء الشخصيّتيْن من حلم ابن عربي الوارد في كتابه «الفتوحات المكّيّة»: «فكنت بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة، أرى فيما يرى النائم الكعبة مبنية بلبن فضة وذهب، لبنة فضة ولبنة ذهب، وقد كملت بالبناء وما بقي فيها شيء، وأنا أنظر إليها وإلى حسنها، فالتفتّ إلى الوجه الذي بين الركن اليماني والشامي هو إلى الركن الشامي أقرب]…[واستيقظت…» فما عدنا ندري أنحنُ في رؤيا إسماعيل التونسي أم في رؤيا ابن عربي التي أوّلها له عالم من أهل توزر بمكّة كما جاء في الفتوحات المكية: «فقصصت رؤياى على بعض علماء هذا الشأن بمكة من أهل توزر فأخبرني في تأويلها بما وقع لي». ولعلّ كِلَا الرؤيتيْن سَلِيلَتَا رؤيا إبراهيم: السائحِ في الملكوت: (كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، الثائر على الأصنام هادمُها (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا)، الباحث عمّن/مّا يحبّ: (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)، باني البيت في قلب الصحراء بعد أن اطمأنّ البيت الذي في صدره (ولكن ليطمئنّ قلبي)، فأَمِنَ البيتان: (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)…
«إسماعيل: عم عبدو قال إنّها عاصفة ستمزّق ستائر الكعبة.
الشيخ: ليست ستائر الكعبة بمهمّة إذا مُزّقت، المهمّ أنّها لا تمزّق القلوب.
(…)
إسماعيل: لماذا هي فارغة؟ الكعبة فارغة، لا أرى إلّا ثلاثة أعمدة خشبيّة تحمل هذا السّقف، هذا كل ما فيها…هل تسكن هنا؟
الشيخ: لا… هي التي تسكنني، أزورها كلّ مرّة لأخفّف من عتابها لي.
إسماعيل: هل تعاتبك جدران الكعبة؟ كيف لها ذلك؟
الشيخ: إنها ليست جدرانًا ولا سقفًا كما ترى.»
بل هي المعنى، المعنى الذي فاض بدخولك إلى الكعبة يا إسماعيل، كعبة ابن عربي، ليخرجنا من كعبة جهيمان. فكان لقاءٌ فمعرفةٌ فكشفٌ، ثم انتفاءٌ وحلولٌ، وفي أثناء كل ذلك ضحكٌ. وهل غير هذا يمكن أن يحدث عند اجتماع العالَميْن في قلب الكعبة: عالم الطفولة وعالم التصوّف؟
فالحادثة التاريخية إذن كانت مجرّد مطيّة فنّية تنتهي مهمّتها بإيصالنا إلى داخل الكعبة، رغم استقوائها بمكبّر الصوت لقَطْعِ صَوْتَيْ الشيخ والطفل استقواءَها بالسلاح «للخلاص من وهمها بالدم». وصوتُ جهيمان الذي يُفترض أنه العنوان الأبرز والرئيس على امتداد المسرحية يصبح مجرّد نشاز في حضرة ابن عربي والطفل إسماعيل.
إيقاع النص:
لا نهائيّة الانقطاع وديمومة الاختراق
هكذا يضرب التخييليُّ التاريخيَّ فيدمغه ويقطع سيرورته في النص وينفيه خارج المكان (الكعبة/الركح)، فارضًا على بديهة القارئ/المشاهد الانشطارَ مثل خليّة إلى بديهتيْن: واحدة تواصل متابعة النص/المسرحية وأخرى تعود إلى كلّ ما أُهِمِلَ من تفاصيل حيث يسكن الشيطان. فكأنّ الكاتب لا يخاطب سوى من كان قادرًا على التكثِّرِ، إذ بالنصّ ينغلق عمّن لمْ يكن حجرَ الكعبة مثل عبدو ماليك، ومَن لم يَسُدَّ كُوّتها ويكمل نقصانها مثل الشيخ ابن عربي، وعلى الذي لم يبنها بيديه مثل إسماعيل، والذي لم يدخلها مثل الطفل فيجهره الضوء الداخل من الكوّة. وما يعطّل فكّ الشيفرات ويرجئ الإبانة هو تعقّد بناء العلاقات أكثر فأكثر كلّما تقدّم النصّ ومن ورائه تعقّد نظام الترميز. فأوميغا نوع الساعة، ولهذا دلالاتٌ في مستوى ما، لكنه المستوى الصفر مقارنةً بالثنية التي يخفي المسعودي وراءها النظام الذي يحاكيه في إنشاء نصّه وهو يحكيه. فتشابك العلاقات حدَّ التداخل وتحوّلها من بينيّة إلى بين-ذاتية ومن ثَمّ إلى ذاتيّة صرفٍ في مسار غير خطّي دون إمكان الجزم بأنّه لولبي أو دائريّ لعدم اتّسامه بالتواصل الدائم واللانهائي إذ أنّ العلاقات تتقاطع وتنقطع فينتكس ما أُنشِئ من رموز وتُطمَسُ الدلالات وتُغمر لتنكشف أخرى، لا على أنقاض سابقتها، بل فيها وعنها. وكلّما تأسّس معنى اخترقه آخَر قد يغيب سريعًا مثل شهاب مقذوف أو يمتدّ لبرهة حتى إذا قلنا هذا هو المعنى أفل وذوى فيرتدّ إلينا البصر وهو حسير مكتفيًا بإلماعة برق أو صدى يتردّد… هذا النظام المفرط في انتظامه حدّ التمنّع عن الانكشاف يتستّر ببناء ظاهريّ يمثّل سطح النص وقشرة المعنى وستارة الرّكح: إنّنا في الحقيقة لا نرى الكعبة حتى إن كنّا لصيقين بها وإنّما نرى ستارتها، ذلك ما دمنا خارجها. وإنّنا في «كعبة جهيمان» إزاء نظام يحاكي نظام الكون الذي لا ندرك منه سوى قوانينه الظاهرة، ولعلّ الزّمن أكثر الأدلّة سطوعًا، وما خفي كان أعظم.
فساعة أوميغا إذن ليست مجرّد نوعٍ من أنواع الساعات، ولا هي فقط رافدٌ من النص الإنجيلي كما جاء صراحةً على لسان الشيخ النوراني «أوميغا؟ أوميغا (وكأنه يقرأ السّاعة)… «أنا هو الألفا والأوميغا، البداية والنهاية، يقول الرّب الكائن، والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء»1
إنّ إيقاع هذا النص المسرحيّ في نسقه وحركته ومحرّكاته مُنْشَأٌ داخل نظام كلّي وفق تصوّر للوجود يحاور تصوّر بيير تيلار دي شاردان الذي يعتبر أنّ نظام الكون يزداد تعقّدًا في صيرورته (أي في تحوّله النوعي) كلّما تقدّم في سيرورته (أي في تراكمه الكمّي) حتى يبلغ أقصى نقطة من التعقيد المنظّم والتي عبّر عنها بمصطلح أوميغا. غير أنّ عبد الحليم المسعودي وإن كان قد بنى نصّه على النحو «الشارداني» من حيث نظامه المتعقّد إلّا أنّه ينقلب على هذا النظام، تحديدًا لحظةَ استيقاظ الطفل إسماعيل بعد لقائه بالشيخ النوراني وخروجه من الكعبة. وها هو يُنبِئُنا على لسان عبدو ماليك أنّ السّاعة قد أصبحت أَلْفَا، وألفا هي البداية. فهل عدنا إلى حيث كنّا، أم أنّ كل ما حدث هو مجرّد إرهاصات للبداية؟ حسب دي شاردان فإنّ التراكم سيفضي بنا إلى النهاية (الأوميغا) حيث وحدة الروح، لكنّ تراكم الأحداث في «كعبة جهيمان» سار بنا نحو البداية (الألفا) حيث تتحقّق وحدة الطاقة داخل كعبة إسماعيل. وفي كلّ الأحوال ما كانت الطفرة لتكون لولا ذلك التراكم الكمّي للأحداث، ما كان لإسماعيل أن يدخل الكعبة لولا عثوره على ساعة منسيّة عند إحدى الحنفيّات الزمزمية المباركة، فراح يبحث عمّن يصلحها له بعد تعذّر إيجاد صاحبها، وما كان صاحبها ليكون هناك لولا انتماؤه إلى جماعة جهيمان، وما كان للمريد عبدو ماليك أن يلتقط الطفل التائه ويدخله الكعبة لولا الهرج والمرج الذي طرأ باقتحام الحرم المكي مع ما حفّ بكل هذا من أحداث سابقة وموازية ومتقاطعة. ثمّ وبانقطاعها جميعًا وانتفائها تمامًا يرفع الديالكتيك إصبعيْ النصر، إصبع هيغلية وأخرى ماركسية. غير أنّ تواصل النص بعد ذلك بانعدامٍ كلّيٍّ للأحداث يحذف من الإصبعين السبّابة فتبقى الوسطى. ثم يسقط لاكي لوك في غير سياقه خارجًا عن كل منطق -عدا منطق الطفل- مُبطلًا من الإصبعين الوسطى، وتبقى السبّابة مرفوعةً تشير ولا تقول.
إنّ المعنى الذي يبثّه المسعودي إنّما هو من عجينة الشعاع نراه ولا نستطيع إمساكه، وأقصى ما يمكن أن نطمئنّ إليه هو أنّنا لم نبدأ إلّا لحظةَ دخلنا الكعبة بعينيْ الطفل اللّتين جهرهما الضوء الدّاخل من الكوّة، فنجفل وننكفئ محاولين بأيدينا رَدَّ الضوء/الإضاءة عن أعيننا… ثمّ نخرج كما الطفلُ في حضن المريد الأسود يحملنا السؤال:
«إسماعيل: ودون ذلك ماذا ستفعل في الصحراء؟
عبدو ماليك: أرعى.
إسماعيل: ترعى؟ ترعى ماذا؟
عبدو ماليك: الغزالتيْن الذهبيّتيْن… غزالتيْ الكعبة.»
من العسير فعلًا في مساحة ضيّقة كهذه، الشبيهة بذواتنا، أن نرعى «الغزالتيْن»، غزالة من ضوء وغزالة من ظلمة، شمس وقمر، نعجز عن ذلك حقًّا ما دمنا لا نعلم أن الكعبة/الزمن مثلّثة مثل قلوب الأنبياء، وأنّ قلوبنا مربّعة. فكيف لنا أن ندرك أيّ الشكليْن هو الكامل؟ هندسيًّا إذا ألصقنا مثلّثيْن متقايسيْ القاعدة فإننا نحصل على مربّع. عرفنا أن الزمن هو أحد المثلّثيْن الذي يملأ نصف قلوبنا المربّعة، وأنّ الأنبياء في غنى عنه أو هم خارجه باعتبارهم حدثًا إلهيًّا مفارقًا، فما يكون المثلّث الثاني ليكتمل المربّع؟ أم علينا محو هذا الفراغ الزّائد في القلب ليصير مثلّثًا مكتفيًا بذاته؟ وما دام المربّع يتضمّن المثلّث بالضرورة أليس إذن كلّ إنسان هو نبيّ بالقوّة؟ من حقّ الأسئلة أن تحملنا إلى أبعد من هذا، نحو الأعلى أو الأسفل، ولها أن تخرج من النصّ وعنه، لتستقرّ مرّة أخرى ودائمًا في التونسيّ، في الآلهة القرطاجية «تانيت»، برمزها المثلّث.
يسحبنا نصّ المسعودي، أو يدفعنا، يتقاذفنا أو يستدرجنا… مشيرًا إلى رمزٍ من فوقه رمزٌ يحيلُنا إلى رمز، حتى يستيقظ إسماعيل الطفل بعد خروجه من الكعبة في حضن عبدو ماليك وهو نائمٌ، يبحث عن الشيخ محمد فلا يجده، يسأل عنه ولا مجيب… إذ هما ثاني اثنيْن في واحد.
والكعبة؟ ما في الكعبة أحدٌ.
يتعطّل زمن الركح.
القيثارة في أغنية لاكي لوك تعيدنا إلى «عزف مكتوم لقيثارة غجريّة، في وادٍ وعْرٍ جنباتُه قرب «جبل سواج». ومن خلفيّة الأحجار البركانية السوداء، بينما تتراءى سراباتُ الصّحراء النّجديّة حيث الضوءُ يغسلُ كلّ الموجودات والصحراءُ تغربلُ أصواتها الخرساء في طواحين الأزلية…»
وكلمات الأغنية تشغّل محرّك الزمن النصّي ليبسط سطوته مرة أخرى
«أنا راعي البقر المسكين والوحيد
أنا بعيد جدّا عن البيت
«وأمامي طريق…
طريق طويل لأقطعه»2