لم يكن إضراباً عاماً ذاك الذي أصاب المدينة في منتصف النهار، فالباصات خلت من الركاب بسبب نفاد النقود من الخزائن العامة والخزائن الخاصة، ومن الجيوب العامة والجيوب الخاصة، وجرابات المتسوِّلين. والبنوك أقفلت أبوابها بسبب هبوط البورصة الناتج عن تحويلات الدولة المفاجئة للاستثمار الخارجي الذي أتى بمليون قرد من أفريقيا، وبثمانية عشر ألف فيل بين ذكور وإناث من آسيا، ومن أمريكا الجنوبية بنصف مليون كيلو «حشيش» من النوع الأسمر الدهني لمعالجته من جديد و«غشِّه» في معامل القطاع الخاص التي يديرها بعض الوزراء وضبَّاط الجيش والمخابرات.. وكذلك أتى الاستثمار الخارجي بعشرة آلاف فتاة من «تايلاند» كدفعه أولى يتم توزيعها على المصائف والمزارع وفنادق الأربع نجوم، وتأتي الخطة بهدف تخفيض أسعار الفتيات الوطنيات اللائي بدأن يزعجن المسؤولين بطلباتهن التي لا تنتهي.. واحدة تريد تعيين زوجها سفيراً، وواحدة تريد علاج والدتها في سويسرا، وواحدة تريد بيتاً وأخرى تريد مزرعة، وأخرى تريد سيارة بي إم دبليو، وأخرى قرضاً لمصنع ملابس الفرو..!…
ومن الاستثمارات الخارجية للمواشي صفقة كبيرة مع بريطانيا العظمى لشراء خمسة ملايين رأس بقر مجنون للاستهلاك البشري والحيواني لمدة عاميْن متتالييْن. واستثنى هذا الاستثمار في المواشي استيراد التيوس من «تركيا» بسبب الحظر الصحي على استهلاك لحومها في موسم الصيف، حيث تبيَّن انتشار رائحة التيوس في أجساد المتسوِّلين والموظفين على حدٍّ سواء من الذين تناولوا لحم التيوس في أيام الصيف القائظة. وكان جهاز حماية البيئة قد حذَّر في تقريره الصحِّي العام من خطر انتشار رائحة التيوس بين صفوف الشعب في الأماكن المزدحمة كالباصات والمترو والمقاهي والحارات والأسواق الشعبية. وقد أورد التقرير أن امرأة في حافلة غمرها أحد القرويين بعرق تيس فأغمي عليها، كما أغمي على ثلاث طالبات بكلوريا كُنَّ عائدات من الامتحان، قطع أنفاسهن ثلاثة موظفين متقاعدين كانوا في رحلة غداء على الجبل أكلوا فيها تيساً كاملاً!..
لم يثر ذلك المنع غضب الأستاذ عبد الودود الذي أخذ على خاطره من الدولة وهو يقود الفولكس في سرعة جنونية جعلت من شُرطيّ مرور على درَّاجة نارية يحقِّق أخطر مطاردة في الظهيرة. الفولكس مندفعة إلى المجهول بصوت مدرَّعة روسية قديمة، وشُرطيّ المرور في أعقاب المدرَّعة يلتهم دخان الزيت المحروق حتى اختنق ونفد صبره فتفل في الدخان وتوقَّف عن المطاردة البائسة دون أن يتمكَّن حتى من التقاط رقم لوحة تلك الفولكس العجيبة المنطلقة وحدها في المدينة ككتلة سحاب نحو المجهول.
***
لم يكن نهاراً رائعاً للشعب أو للدولة التي بدأت منذ ساعات الصَّباح الأولى تمدُّ خراطيم المياه في المدينة، تغسل شوارعها بماء البحر. ترشُّ الملح السائل على الجراح الغائرة في المدينة، على الغلاء الفاحش، وعلى قِلّة الحيلة، وعلى الأحلام التي تتبدَّد منذ الصَّباح الأول على أبواب الباصات وأبواب المقاهي الشعبية. تأخذ المدينة ملح البحر بسخاء، وتأخذ الوجوه الكالحة قيظ النهار والغُبار ورائحة البحر ورائحة التيوس، ويأخذ المساطيل جرعاتهم من التبغ اللاتيني الأسود الذي يحرقه الفحم الأسود الملتهب في خيلاء الجوزات والأرجيلات .. تلك الجوزات والأرجيلات التي تمدُّ خراطيمها وقصباتها إلى أفواه تهدَّمت بفعل الغُبار الأسود والشاي الأسود والدخان الأسود والزمن الأسود والكلام الأسود في السياسة. فكل «شيشة» في فم جائع، يزن دخانها هواء الكلام في السياسة، الهواء الثقيل العابر في الأزقة المحمومة بالحنين إلى طفولتها، والهواء الثقيل العابر في مجلس البرلمان الذي أقفل أبوابه حتى تعود أموال الشعب الضائعة في استثمارات خارجية لم تأت بغير قرود أفريقيا وحشيش أمريكا اللاتينية وأبقار بريطانيا المجنونة، حتى وإن ألغت الدولة صفقة التيوس من تركيا.
***
لم يكن النهار رائعاً بأي حال. حتى الأستاذ عبد الودود الذي فرقع الجامعة بنظريته حول فقدان الثقة وفقدان الصلة أصلاً بمشروع النظام العالمي الجديد، أدرك أن الملح الأبيض المتوهِّج على الإسفلت الأسود لم يزد الطرقات إلاَّ سواداً بسبب هجرة الناس الجماعية عن الحياة. فالمدينة التي شهد لها بتدافع الأمواج البشرية الكاسحة ليل نهار، نامت على صوت الشخير العالي الذي أطلقه البرلمان في الصَّباح، ولم يتصدَّر الصفحات الأولى للصحف الحكومية التي قضت الليل كله في المطابع تهرس الرصاص الأسود على الورق الأبيض خشية اندلاع الرصاص الأحمر في النهار الأسود. وأدرك الأستاذ أن صعود التيس للعيش في السطوح، لا يعني صعود الشعب للعيش في البرلمان. فالتيس الذي لا يحكي في السياسة، قال الأستاذ، ولا يحتاج في الوجود إلاَّ لحفنة من الشعير أو البرسيم، لا يطالب الحكومة بمنع استيراد القرود من أفريقيا، كما لا يطالبها بميزانية الإعانة الاجتماعية أو توفير الغذاء والكساء والدواء والأجور.. التيس لا يأخذ أجراً على النطاح ولا على النكاح ولا على «اللبلبات» التي يطلقها عالياً وراء المعزات الشاردات في الخلاء. لكن الإنسان الساقط من شجرة العائلة، والمُداهَم بمطالبات الحقوق والواجبات، فإنه دائماً رهن إشارة البرلمان.. مثل الكلب تماماً، وسواء جلس هذا الإنسان في البرلمان، أو جلس على البحر، فإن البرلمان هو إشارة المرور السياسية الوحيدة في البلاد التي تفتح وتغلق له الشوارع متى أرادت.. مادام البرلمان تحت طائلة الإرادة السياسية العُليا للحكومة التي صنعت الدستور وصنعت البرلمان ومنحت نفسها حق إدارة الأموال وحق إدارة الشعب.. وهذه الإرادة الكاملة «للحكومة» هي إرادة ذاتية غير مدفوعة، مثلها مثل إرادة التيس الذي صعد الدَرَج إلى السطوح، يرقص مع الكلب في الصَّباح ويمنع الديك من الصِّياح.
لقد أدرك الأستاذ عبد الودود أن حياة النهار الملتهبة كَفُرْنِ الفحم، هي مصدر أحزان المدينة في الليل وهي مصدر التعب الذي جعل من الأحزان الكسيحة تعبر الأزقة مثل الجنازة في الليل، وجعل من طالبه الجامعي، رفيق مشواره في الصَّباح، يتغيَّب عن الكلية في هذا الصَّباح، ويترك له اعتذاراً عند زوجته ريثما تغرب الشمس عن وجه المدينة ليأتي إليه في المساء ويخبره بأمره، والأمر كان صعباً على الأستاذ حين أوقف سيارته ورأى جمهرة من رجال الشرطة يعتقلون التيس ويدفعونه بقوة للصعود إلى العربة.
***
الشرطة أخذت التيس عنوة دون أن تدفع ثمنه، ودون أن تترك إيصالاً بالاستلام، أو أمراً باستدعاء صاحبه، ودون أن يصرخ أحد في البناية أثناء عملية المداهمة والاعتقال.. كان الجو هادئا لحد الارتياب، وبمجرد أن فتح باب الشقة صرخت زوجته في وجهه صراخاً متصلاً فأحرقت خيطاً رفيعاً في الذاكرة كاد ينطق بسؤال.. طفقت تولول وهي تلعن الشرطة والشاويش عطية، وتلعن الحكومة وتلعن الجيران الواشين، وتلعن خليل الجزار مالك البناية، وتلعن الجامعة التي جعلت زوجها يتأخر في المجيء، وتلعن الزحام والحرَّ ورائحة السطوح والسلالم، وتلعن الكلب الذي نهش مؤخرتها في الصَّباح عندما صعدت إلى السطوح لإطعام التيس ببعض فتات الخبز اليابس.
الأستاذ يخلع عهدة العُمر الإنجليزية ويرميها على السرير ويذهب إلى الحمَّام دون أن ينبس بكلمة، والثرثارة وراءه تلاحقه بالمناشف والصوابين والمعاجين والملابس الداخلية والعبارات الطويلة المجنونة. ولم تهدأ شقة الأستاذ إلاَّ عندما ثغت المعزة ثغاءً حاداً طويلاً وارتمت فجأة عند الباب وانبطحت صامتة.
أقفل الأستاذ الدُّش البارد والتفّ بفوطة حمراء حملته إلى الدار وهو يسأل بامتعاض عن ملوخيته وفخذة الأرنب لينام ويزيل عن رأسه أصداء موتور الفولكس، وأصداء الثغاء، ودويّ الصراخ الذي هاجمه عند الباب، وسلة اللعنات التي انهالت عليه دفعة واحدة وكادت تصيبه بالإغماء وإسعافه الفوري بالأنسولين.
***
يحبها باردة قهوة المساء، ويحب البلاط بارداً، ويحب أن يرتدي الجلباب بارداً على اللحم. جلس على الأريكة الحمراء وأطلق مقلتيه بين صفحات النسخة الثامنة من كتاب «جمهورية أفلاطون».. وأطلق أذنيه لحوارات الجارات الساخن عند السلالم. وصوت موتور صاخب يعبر الشارع يقطع سطور الكتاب ويقطع حوار السلالم، غير أن تلك التناغمات المتداخلة في ضجيج الشارع، وتلك الهمهمات الصاعدة من مقهى بركات، جعلته يسترجع تفاصيل تلك الأحداث بهدوء، والتفكير في أمر رجال الشرطة إذا ما عادوا في الليل، أو جاءوا إليه في الجامعة غداً. أقفل صفحات الكتاب عن طيب خاطر وخلع نظارته الطبية ورفع رجليه إلى الطاولة في استرخاء تامّ، وبدأ يطالع أحداث اليوم حدثاً حدثاً ويسأل نفسه السؤال الذي لم يسأله بعدُ رجال الشرطة… وغاب الأستاذ وراء مقلتيه ليقصَّ الشريط الأحمر للحلم ويدخل صالة المحكمة، وليبدأ القاضي الجلسة عبر الضجيج بثلاث طَرَقات على طاولة المجلس، غير أن الطرقات الثلاث تلاها صوت الطالب الجامعي «محمود» يلقي التحية ويستأذن الدخول، فاستفاق الأستاذ من نومه على حين غرة ليستقبل في فزع القاضي والجلاد ورجال الشرطة والكلاب البوليسية. نهض مذعوراً يعتذر لطالبه المثالي على عدم اللياقة في جلسته وغفوته في الصالون والباب مفتوح والجلباب أيضاً، ولعن لقاءات الحريم على السلالم وهو يقفل الباب على صوت امرأته الناشز الذي بدأ يصف حالته المزرية فور تلقيه خبر الاعتقال. ارتعب الطالب حين لطشت أذنه كلمة «الاعتقال» قبل اصطفاق الباب، فسأله عن هَيْأة الرجال الذين دخلوا البناية مندهشاً من توقيت الحملة المبكرة هذه المرة.. لكن الأستاذ الذي انتبه للذعر الظاهر على وجهه طمأنه وهو ينادي زمّارة البناية أن تأتي بالشاي وقال في هدوء: إنهم رجال الشُرطة يا بُني وليسوا رجال المخابرات.. رجال الشرطة اعتقلوا تيسي منذ قليل ولم يعتقلوا أحد طلابي.
لكن الشاي البارد كان حلواً على الأستاذ المُصاب منذ سنوات بداء السكري، وكذلك كان حلواً على الطالب صاحب البحث الطويل في أخلاق القرية، الذي أبدى رأيه سلفاً في مسألة تربية التيوس، إذ لم يحتج على أستاذه صراحة، لكنه أبدى ارتياحه للتحذير الصحِّي الذي أصدره جهاز حماية البيئة وصدر بموجبه قرار حظر استيرادها، وقال بغير سرور أنه لا يحب لحم البقر أصلاً حتى يشتهي الفيليتو أو البتللو، أو حتى الضلوع، وأنه مغرم فقط بأكل اللحوم البيضاء منعاً للكلسترول، وأنه في الحالتين منذ زمن لا يشتري لا هذا ولا ذاك بسبب الفقر الذي فتح العين والشهية على الخس والجرجير والفول والبطاطس المطبوخة بماء الصَّباح، وعلى الرغيف اليابس المتبَّل بالزيت والزعتر، وفي أحسن الأحوال على الطماطم وبيض الدجاج الوطني المقلي بزيت بذره القطن.
كاد الطالب أن يثرثر لو لم يقاطعه الأستاذ بطلب الأنسولين ويثور في وجه زوجته محذراً بالامتناع نهائياً عن وضع السكر في الشاي الذي لم يذق له طعماً منذ الصَّباح، ونزل على عجل إلى – قهوة بركات – صحبة الطالب الذي قطع الحديث في بحثه عن القرية المفقودة في الزمن، وتاه بين وجوه بلون التبغ تخترق العتمة بالأسئلة القديمة والنكات القديمة، غير مبالية بهموم النهار المفلس الذي وضع قدميه الحافيتيْن القذرتيْن أخيراً على باب المقهى، وجعل الحاج بركات يزمجر عند درج النقود ويضرب الراديو ليستقيم صوت كوكب الشرق.
***
على مقعديْن أحمريْن من خشب الزان القديم دار حديث الثقافة بين الطالب والأستاذ. كان دخان الأرجيلة يغطي بسحاباته الرمادية عيون العسس الذين ينامون على المقاعد بلا جرائد ولا نظارات سوداء، فيما نداءات النادل تقطع نداءات أم كلثوم، وتقطع كلام الحديث الجانبي في السياسة والأخلاق وإيقاع لعبة الزهر.
كان الطالب محمود، هداه الله، قد دخل على الأستاذ عبد الودود بعيارات ثقيلة قد تفتك بالعقل قبل أن تفتك بالجسد النحيل الذي كان يقيم لساعات في عقل المخبر القابع بأذنيه الكبيرتيْن في الجوار قبل أن يترك المكان الساخن والشاي البارد ويغادر المقهى يائساً. غير أن الوجوه التي كانت تركن في زوايا المقهى المعتمة، تثير الريبة أحياناً بصمتها وتجهُّمها في طلب الشاي والفُرجة على لعبة الزهر، وتبعث السرور أحياناً عندما تضحك عالياً مع إيقاع الزهرة الحاسمة، ثم يندلع الهرج بإعلان قائمة الفوز فتندلع الضحكات الصاخبة التي تطغى على كل الأصوات بما في ذلك صيحات النادل وصيحات أم كلثوم.
***
قال محمود في الونسة الضبابية يهمس في أذن الأستاذ الذي يبدو أنه سيعيد النظر في موضوع البحث ويطلب من طالبه محمود تناول موضوع أزمة البطاطا وتأثير محصولها على سكان المدينة، غير أن محمود الذي جنح جموحه السياسي حول تأثير القرية على المدينة، قطع الأمل على الأستاذ الذي خضع للطقس الحار يستمع إلى اللهب المندلع من لسان محمود على غير هوادة.
قال محمود الذي التفت حوله وأخرج الوريقات من جيبه يعيد ترتيبها ويميل كثيراً نحو الأستاذ: «إن القبيلة يا دكتور ليست مُنتجة للأخلاق الحميدة، بل إنها كانت عبر التاريخ تُنتج الأخلاق الفاسدة، فمنها جاءت الطائفية، ومنها جاءت الأحزاب، ومنها جاءت الحكومات، ومنها أيضاً نشبت المعارك واندلعت الحروب، ومن الإبل، مفخرة البادية، كانت ناقة البسوس في الجاهلية، وكانت واقعة الجمل في مطلع الإسلام، وما المعارك السياسية التي تزخر بها البلاد العربية إلاَّ نتاج لثقافة داحس والغبراء المتأصلة في هذه القيم التاريخية. وأضاف محمود متجلياً في حديثه الشائك عن القبيلة: «إن القبيلة هي ذاتها منبع الفكرة التي سادت عنوة في المدينة وهيمنت بمفهوم سيِّد القوم، ومنها جاءت القبضة العشائرية على المدينة، وتم في أتون هذه السيطرة، احتكار السياسة واحتكار السلطة.. وتوجيه الحُكم بفكرة القبيلة وبتأثير الاعتقاد بمفهوم سيِّد القوم».
لم يستطع الأستاذ عبد الودود مقاطعته إلاَّ حين خلع نظارته الطبية فجأة ليكشف عن ضلوع بعوضة في الاعتداء السافر على عينه التي نفخ فيها الطالب بريح عاتية خلعت البعوضة الميتة من العين الضامرة، وخلعت فكرة الاعتذار من رأس الأستاذ الذي نطح نظرية الطالب عن قرب والتفت إلى الوراء منادياً النادل أن يأتي بكوبيْن آخريْن من الشاي.. وأن يأتي الطالب بما عنده من أفكار جديدة لا تظلم الفكر ولا تظلم المعتقدات الدينية، وإنما تنتقد الموروث الثقافي لمجتمع يتأثر بسلوك السلف وإن كان السلف طالحاً..
وفيما ابتسم محمود مسروراً لانتباه الأستاذ وتشوِّقه لسماع المزيد، رشف من الشاي ودخل في عقل الأستاذ من جديد وقد بدت نبرة صوته أكثر ثقة في سرد الفكرة، حيث أضاف: «..إن سقوط القيم، السياسية والاجتماعية، وحتى الاقتصادية يا دكتور، جاء من هذا الاعتقاد السائد، وليد الاختلاف في الزمن، بين بيئتين مختلفتين، القرية والمدينة، بحيث هيمنت مصالحهما المزدوجة في الحياة السياسية برؤيتين مختلفتين. فالعاصمة العربية التي تزدهر، اليوم، في مشهدها السياسي، بديمقراطية مزيَّفة، هي في واقع الحال من نتاج هذا الاختلاف الذي جعل من «القروي الجاهل» يحكم المدينة برؤية راعي الغنم. لقد دخلت القبيلة إلى المدينة بعقل سيِّد القوم، ومنحت صوتها للحاكم، لتحسم الصراع على السلطة.. ولذلك فالقبيلة في مستواها الفعلي -يقول محمود- هي أُم الأزمات في السياسة.. فهي التي صنعت الطوائف والأحزاب، وهي التي أنتجت الانقلابات والمعارك والحروب».
***
لم يكن الأستاذ عبد الودود على وفاق أبداً مع القرية، لكنه كان يستعين ببعض قيمها في مواجهة الأخلاق الفاسدة في المدينة، وأدرك أن جارته زينب هي ضحية أخلاق قرية رأس مالها أبقار وجواميس وخراطيش وغربان. لكن لا القرية ولا المدينة تستطيعان العيش معزولتيْن لمجرَّد الاختلاف على فكرة البقاء وممارسة الحياة كما ينبغي لها أن تكون، في عقل القروي، أو في عقل المديني. فالقاسم المشترك الذي يجمع الأضداد -يقول الأستاذ في عقله- ليس الحاكم بأي حال، وإنما التيس ذو القرنيْن واللحية الطويلة. فالحاكم جنس بشري يحمل فكرة سيِّد القوم كما يقول محمود، وقد يبيد أمة بكاملها من أجل أن يسود في الحُكم مدى الحياة، يشتري أصوات الأغنياء والفقراء، ويشتري المخابرات والجنرالات والبكوات والسفارات، ويشتري الأحزاب، ويشتري البرلمان.. وفي النتيجة يحكم. لكن التيس الوقور صاحب القرنيْن واللحية الطويلة، فإنه لا يمكن له أن يبيد أمة بكاملها من أجل مصلحة في السلطة، يكفيه فقط أن ترضى عنه وتكرمه ليكون تيساً مُعافاً في هذه الأمة. والتيس – قال الأستاذ في عقله – لا يشتري الأصوات كي يحكم في التيوس، ولا يشتري الذمم كي يوقع بين التيوس، ولا يشتري المخابرات من التيوس كي تثريه بالمعلومات الكاذبة، ولا يشتري الجنرالات والبكوات كي تحمي صولجانه، ولا يشتري الأحزاب كي لا تنال من حزبه، فحزب التيوس لا يدخل البرلمان كي يكذب على الشعب. التيوس تعيش وتقيم في كل مكان ولا صوت لها في البرلمان. إذاً فالتيوس التي هنا في المدينة والتيوس التي هناك في القرية، لا تختلف في الطبائع والطمائع، فهي في النتيجة كعامة الشعب الذي لا صوت له في البرلمان.
وبهذه المعادلة السياسية -يضيف الأستاذ عبد الودود- يمكن أن يخرج الحاكم من عقل الشعب ليقيم التيس مكانه دونما ضوضاء ولا معارك ولا أحزاب ولا انتخابات ولا زعامات كاذبة. ليأكل التيس من أفكار الشعب، ولينام الشعب على ديمقراطية من ذهب.
كان الأستاذ يحكي، وكان الطالب يحكي، وكان ما بينهما خارج المقهى، في نسيم مجاري البرلمان والذباب والأفواه فاغرة، ومن عقل الأستاذ خرج التيس إلى الشارع يلهو بين خطيْن متوازييْن أمام المقهى، وفي عقل الطالب الذي سهم يتأمل في صمت ضياع الأستاذ أمامه، اكتمل موضوع البحث في القبيلة التي حكمت المدينة، وحكمت عقل الأستاذ عبد الودود..
***
لا كوكب الشرق أعجبها راديو بركات، ولا السيدة فيروز أعجبتها المدينة. المدينة التي تزيَّنها ملصقات شاكيرا وهيفاء وهبي. المدينة التي رفعت أسهم جوعها في الحارات الشعبية، وركنت إلى أحلام تقتات على ذاكره قديمة، ذاكرة تتماوج في رأس «المسطول» مثل الدخان الكثيف في مقهى بركات، ومثل دخان «الجوزة» خلف أبواب ورش السمكرة والميكانيكا في تلك الحارات البائسة، وفي تلك الدارات الصغيرة المشبوهة بتجارة الحشيش والعملة وقطع الغيار، حيث لا صوت هناك يعلو على صوت أحد، فالظلام الذي يجمع الوجوه إلى النار الهادئة، يمكنه أن يصنع النور في الخيال. فكان المساطيل عندما يفرغون من جمع الغلة ويشترون البسبوسة، يأكلون الرئيس مع حلاوة البسبوسة، فيبدأ الضحك يغسل رئة المسطول الذي يسعل ويمضي في الضحك على الرئيس. أحدهم جاء بطرفة جارهم الدكتور عبد الودود، وراح يشرح الفكرة التي دخلت مزاج المساطيل. لكنهم من فرط الضحك على بلادة الدكتور وبلادة التيوس وبلادة الرئيس، رأوا أن يعمل الشعب فوراً على ترشيح البالغين من التيوس، وضحكوا فيما كان الشرح وافياً في عقل المسطول الذي استطرد: أنا مع التيس في حُكم البلاد، وسأقود المعركة الانتخابية القادمة ضد كل من يحكم من البشر. لقد فشل البشر في إدارة حكومة رشيدة، وحان الوقت أن تقود الحكومة التيوس الرشيدة. واستدرك والضحك يغسل صدورهم بقليل من السُّعال: ألسنا حيوانات في نظر الحكومات العربية. أليست الحيوانات في أحسن حالٍ منا، على الأقل هي تأكل وتشرب وتنام وتتناكح وتلد في أي مكان، وليس لها سجلات ولادة ولا بطاقات شخصية ولا جوازات سفر ولا سجن ولا تعذيب ولا تجنيد إجباري ولا حروب بين الأمم.. فقاطع استرساله صاحب الورشة يقدِّم له سيجارة معمَّرة: خذلك نفس يا عم. وعاد إلى حيث كان مع الحيوانات قائلاً: أليست هذه هي الحرية، ماذا فعلنا نحن بمزايانا في الدنيا عن الحيوانات. لا شيء، لا شيء إطلاقاً.. حتى نعمة العقل التي حبانا الله بها لتنير لنا طريق الصواب في الدنيا، أخذتها منا الحكومة ببصمة إبهام على شروط الوطنية، وببصمة إبهام على انتخاب البهيم. صرنا والله بلا عقول، مثلنا مثل البهائم.. بلا عقول. ولأننا بهائم وبلا عقول، ولسنا كالبشر في أوروبا، وبلا ذيول، فإننا نعيش خارج هذه الدنيا بمزاج الدراويش.. بمزاجنا نعيش.. مساطيل أي نعم، وعبيد للحشيش، ولكن لن نكون أبداً عبيداً للرئيس.
صفقوا له وغنوا له نشيداً حماسياً، ثم وقفوا يترنَّحون وقبَّلوا رأسه واحداً واحداً على خطبته العصماء.. وفيما شحذ المسطول نفساً عميقاً في خلال الضحك أضاف قائلاً: أيها السادة، أعضاء البرلمان، في هذا الليل الجميل، وبما أن جارنا الأستاذ باشا الدكتور.. المسطول، أصابنا في عقولنا وجاء بالحل العادل لمشكل الديمقراطية. فبما أن الرئيس قد فشل في توفير الطحين والدجاج والحليب، وتخفيض سعر البنزين. ومثلما يقولون اليوم لك وغداً عليك، فليكن اليوم للتيوس، وغداً إن شاء الله عندما تهدأ النفوس، وتعمّ الفلوس، ربما يكون للبشر مصلحة في إدارة حسابات الحكومة، وجباية الإيرادات من الجمارك والضرائب، على الحشيش.. والتفت إلى مصطفى صاحب الورشة الذي كاد ينام فهزَّه قائلاً: وحينها، أنا ومن معي، سننتخب هذا (الدِّرش) الأحول الجميل رئيساً للبلاد عوضاً عن التيس.
ضحكوا كثيراً مع فتافيت نهاية البسبوسة وعصير اللوز البارد، ونهاية النار التي انطفأت في رماد الفحم، ونهاية القطة الشهباء التي تغط في النوم منذ وقت عند قدمي صاحب الورشة، وفيما كان ندى الليل يثقل أكتاف المساطيل، نبح الكلب على السطوح، فخرجوا يضحكون على فكرة الدعاية الانتخابية للتيوس، وشعشعت صورة التيس (الرئيس) في عقل المسطول الذي كاد يسقط إلى الأرض من فرط الضحك وهو يتخيَّل الدعاية الانتخابية للتيس وشعاراته في الحرية والديمقراطية والوحدة العربية، وعند نهاية الشارع اندلع الضحك من جديد على شكل وحركات المسطول الذي أخذ أوضاعاً كثيرة في وصف صور التيس التي ستملأ الساحات والميادين..
سالم الهنداوي *