على الساحل الشمالي..
إلى مبارك العامري
على الساحل الشمالي لولاية السيب كان الصياد كُلَيب يجمع، بمساعدة ابنه، سمك العومة من شبك صيد عريض تتراقص بين ثقوبه الأسماك وهي تلمع بحراشفها الفسفورية.
كان الشبك يعجّ بالسمك، مثل شجرة كريمة أدنت قطافها وانحنت لصاحبها لينزع منها كل ما أتت من ثمار. فقد غادر كليب بيته قبل الفجر، فكان رزقه سربا من العومة محصورا في شباكه أتى به إلى الشاطئ. استقبله ولده وجمعٌ من الأطفال اعتادوا أن ينتظروا عودته وفي يد كل واحد منهم وعاء، يطمعون في حفنة مجانية من سمك العومة دأب العم كليب على أن يهديها في اللحظات الأولى لقطافه إلى كل من يقترب من الأطفال الذين يرسلهم أهاليهم، كما حدث معي حين أرسلتني أمي إلى الشاطئ وفي يدي وعاء.
ولأنها كانت المرة الأولى لي، إذ خلفت أخي الأكبر، الذي بدأ يشق طريقه إلى المدرسة، فقد بدا لي نطق اسم العم “كُليب” مصغَّرًا خاليًا من الأدب واللياقة. ولكن صدمتي كانت كبيرة حين شرع الصياد يأمرني بأن أخرس وهو يضع سبابته في منتصف فمه وينزع من يدي الوعاء ويقذف به في الهواء، بعد أن هتفت بأعلى صوتي:
-عَمّي كَلبْ، عمّي كلْب.. أعطني صِيدْ. أعطني صِيد.. عمّي كلبْ!
صرخة مونش*
إلى بدر النعماني
«إن الأشياء في الخارج أعيان، وفي الذهن صور» محمد بن علي التهانوي.
مستمتعان بالشمس، البذخ الإلهي الذي يصعب احتكاره، وبالظل الذي حفظناه، وبالهواء الحر وبالكلام .. أنا وأخي.
أخي يعمل مصورا ومصمما ورساما في شعبة الإعلام بالجامعة. عليه أن يجمع صورا كثيرة قبل أن نعود إلى البيت. الكاميرا في يده. وعيناه تنظران إلى كل شيء، وعيناي تراقبان عينيه في هذه اللحظة من الشمس.
وحين وصلنا إلى البحر، طلب مني أن أصمت. بدأ ينصب شبكته التي ستجمد الأشياء وتحبسها في إطار الصورة.
-لا تتكلم . قال لي هامسا. سيأتي الغروب بعد قليل ولابد أن يجر معه بعض الطرائد.
الشمس كانت أقرب مما يجب، هكذا تفعل قبل أن تنسحب، تصب جام نورها مقتربة من رؤوسنا ثم تزحف رويدا إلى البحر وتغوص وهي تكبر وتتحول إلى برتقالة.
-البرتقالة . قلت له.
-أرغب في طائر تحت البرتقالة. أجاب. علينا أن نصمت . لا تشتت تفكيري. الطيور ستمر بسرعة، لابد أن أكون مستعدا .
كانت إحدى عينيه على ثقب الكاميرا و أصبعه متوثبة للكبس على الزر حين عبر نورس عجوز ثقيل الخطى.
ضغط أخي على المكبس عدة مرات، وكأنه يصطاد شيئا من السماء بخرطوشة صيد. كرر الضغط وقام من مكانه وهو يتبع مسار الطائر.
-لكي تحصل على صورة واحدة جيدة عليك أن تصور مئة صورة . بعد المئة وواحدة يمكنك أن تختار.
-هل ستشارك هذا العام أيضا؟
-سأظل أشارك كل عام حتى أفوز. لا بد أن صورة ما غريبة ستجد طريقها. ولكن الصور الغريبة لا تأتي بسهولة، ربما هي الأولى بعد الألف. صورة واحدة فقط هي ما أبحث عنه.
**
في غرفتينا كانت قناني الماء الفارغة تتوزع في كل مكان. أكثر من ثلاثين قنينة فارغة تسبح في الأرض.
-اقذف بها للأعلى وأنا أصورك . قال أخي.
بدأت بالقذف، فكان يصوب آلته كمن يحاول اصطياد القناني في الهواء.
-عليك أن تقذف بها جميعا للأعلى . يجب أن أصور جميع هذه القناني الفارغة حتى أظفر بواحدة تصلح لأن تبقى.
– سأجلس كي لا ترتطم بالسقف.
-افتح فمك وأنت تقذف بها.
-أفتح فمي ؟
-يجب أن يتلاقى فمك بفم القنينة وهي تسبح في الهواء. ستكون صورة في غاية الابتكار.
– وكيف أفعل ذلك ؟
– ستساعدنا الصدفة . ما عليك سوى رمي كل قنينة للأعلى وفمك مفتوح، وأنا سأنقض عليها.
كان أخي يرقص أمامي بكامرته متحفزا ونصف وجهه مغطى بجسد آلته. يقرفص ويقفز واقفا يتقدم ويتراجع، وأنا أقذف القناني في الهواء وفمي مفتوح.
-افتح فمك عن آخره. عن آخره.
ظل أخي يزعق من خلف آلته الصماء التي كانت ترسل رصاصاتها الضوئية بحماس.
ولكن فجأة سمعني وأنا أخرج صراخا غير مفهوم من فمي. أزاح كامرته عن وجهه ونظر إلي متعجبا.
أشرت له بدوري بأن فمي يرفض أن ينغلق. لقد انحرف شيء ما عن مساره في عظام فكي. كنت أطلق الصراخ في وجهه دون معنى . وحين تيقن من جدية قسمات وجهي وبأنني لم أكن أمزح شرع يصور بحماس أشد. قفزت ناحيته وأنا أركله ولكنه تراجع إلى زاوية الغرفة سريعا وانقض علي برشقات متتابعة من كامرته.
-ألم أقل لك أن الصدفة ستساعدنا؟
فتحت الباب وشرعت اصرخ بأعلى صوتي، هرع أخي خلفي ثم تقدمني وهو يمطرني بالصور ويهتف :
– صرخة مونش*. صرخة مونش . استمر في الصراخ.
كان البيت فارغا، وشعرت وأنا أصرخ وكأن وجهي استطال واختفت وجنتاي وضاقت عيناي وانكمش ذقني واستحال نقطة باهتة، فقد اكتسحت الصرخة جميع ملامح وجهي وطوتها في تفاصل فمي المفتوح كهاوية. وكان أخي يرسل أضواء كامرته وهو يهتف منتشيا:
– اصرخ .اصرخ .اصرخ..
* صرخة مونش: نسبة إلى لوحة الصرخة الشهيرة للفنان النرويجي ادفارد مونش.
وفاء
بين صف شاحنات الحدود، المعبأة بالأكداس الصلبة واللينة، ستّة أرجل تركض في ارتباك؛ تذهب لتعود وتعود لتذهب، والنباح، الذي كان على أشده، يسبقها ويوجهها كبوصلة خفية. يقفز الكلب فوق ظهر إحدى الشاحنات المصطفة أمام بوابة العبور، ثم يهبط راكضا نحو أخرى تربض بعيدا. وحين يصل إليها يقفز فوقها، قبل أن يغادرها متجها نحو شاحنة ثالثة بعيدة عن سابقتها. ثم لا يلبث أن يقفز منها ليعود إلى الشاحنة الأولى، في سعار متوتر؛ والشرطي المناوب يركض خلفه لاهثا، محاولا اللحاق بلجامه الذي يطوق رقبته حتى يمْكنه السيطرة عليه وتوجيهه.
ربما لو كان للكلب حينذاك لسان بشري لشرح الأمر الخفي الغامض الذي يقلقه، ولَفهم العالم أنه أعقل المخلوقات في هذه اللحظة. ولكن صراع الفهم لم يطل كثيرا، إذ ظهرت سيارة صالون، من نوع “نيسان سيدرك” وصدمته. استطاع أن ينجو بأكثر من تسعة أعشار جسده، ولكن السيارة المنطلقة كرصاصة تمكنت من إحدى قائمتيه الخلفيتين، وكان ذلك كافيا.
تقلب “ويسكي” في الهواء ودار بين السماء والأرض (دار وتقلب كما كانت تدور وتتقلب حياته). وبعد أن أكمل جميع دوراته في الفضاء، لم يسقط مباشرة على الأرض، كما كان مرسوما له، إذ سينفجر جسده ويموت، لأن ظهرا وثيرا مفتوحا لشاحنة تحمل قطع أثاث وأقمشة تلقّفه، وكأن سريرا قدَريا برز فجأة ليحميه من موت محقق.
غاب ويسكي جزئيا عن الوعي، ولكنه ظل من وراء ذلك الغياب، ينبح وينبح وينبح…
* * *
ثلة من المتقاعدين، نجتمع كل صباح ونحتسي الكرك أو شاي “المسالا”، المطبوخ بمزيج مما تيسّرَ من بهارات هندية. نحتسيه بمهل في صباحاتنا المعطلة داخل مقهى المسافر في سوق الخوض، المتاخم لشعبية الخوض، ذلك الحي الذي عوضتنا عنه الحكومة بعد أن تم تنظيف حي “جبروه” في مطرح، الموبوء بروائح الجريمة والعنف.
كنت أعمل ضمن أفراد الشرطة، وتحديدا في قسم الكلاب البوليسية. وحين أُحلت على التقاعد، طلبت أن يهدوني كلبي “ويسكي”. سلوقي إسكتلندي، متحفز وفدائي، يؤدي واجبه بإخلاص. ويوم أصيب بالعرج في مهمة عمل، لم يتخلصوا منه، وكان لتدخلي دور في ذلك، فأُعطيت الكلب الأعرج هدية.
أخذته إلى بيتي في الخوض الشعبية كحارس وونيس. ولأن الكلب مدرب على استكشاف الروائح الممنوعة، فقد ظل ينبح وينبح وينبح أياما دون أن يهتم به أحد، إلى أن وجدته ذات صباح جثة هامدة.
هذا مختصر ما حدث لويسكي. ولكنْ إحقاقا للحق، فإن حياته ليست بالقصيرة، كما قد يظن القارئ من أول وهلة، بل كانت حياة بعرض وطول مناسبين لكلب. كانت حصيلة ويسكي في كشف المخدرات توازي حصيلة عنبر بشري كامل في السجن المركزي، خاصة حين يتم ربطه برفقة شرطة الحدود. فما أن تطلق استشعاراته أو ملاقيط أنفه إشاراتها حتى يقفز محاولا نزع الحبل وهو يرسل نباحا حادا. وإذا قُدّر وكنت المناوبَ في تلك الأثناء، فإني أقوم بفك يدي من رباطه واللحاق به.
يقفز ويسكي فوق الشاحنة ويشرع في ضرب قائمتيه الأماميتين بقوة، وهنا أتدخل، بتهدئته والمسح على رقبته وظهره، إيذانا بنجاح مهمته، ليأتي بعد ذلك فريق التفتيش ويكملوا عملهم.
ولكنْ، ذات يوم، وفي زحمة طابور من السيارات المصطفة، كان ويسكي يركض في أكثر من مكان، حتى أني احترت في اتجاهه وظننت أن مسا أصابه. فهو يذهب إلى حافلة ويتراجع عنها، في آخر لحظة، ليقصد حافلة أخرى، ثم ثالثة. ظل يحوم في أكثر من مكان وهو ينبح مهتاجا. ولكنْ، فجأة، ظهرت سيارة مسرعة من الاتجاه المعاكس وتجاوزت الصف لتصدمه وتطوح به بعيدا. تمت ملاحقة الفاعل وتفتيش سيارته، ولكنهم لم يجدوا فيها أية ممنوعات، فسُجن لتجاوزه مسار المنتظرين ولقيادته السيارة وهو في حالة سكر.
كان رفاق المقهى، حين أصل عند هذه النقطة في سردي، يضحكون ساخرين من أن الكلب كان منتبها أكثر منا، مؤكدين أن كل ذلك لم يكن سوى تمويه، فقد كاد ويسكي يكشف عن موكب كامل من المهرّبين، وتلك السيارة “النيسان سيدرك”، ذات المقدمة العريضة، الشبيهة بمقدمة جرافة، التي ظهرت في الوقت المحدد وصدمته، كانت على علاقة بخطة التهريب؛ بل إن سكر السائق المطارَد كان كذلك ضمن الخطة..
عولج ويسكي من معظم جراح جسده، ولكن إحدى قائمتَيه الخلفيتين تعطلت تماما.
-كيف مات ويسكي؟
-لا يمكنني التحديد، لأنه في لحظة موته لم تكن فيه أي علامة أو جرح، ما يرجّح أن أحدهم رمى له أثناء نومي، ومن خلف السور، سُمَّا لإخراس نباحه إلى الأبد. ولأن موت كلب لا يمكن أن يدقَّق فيه كثيرا ولا يمكن أن يشغل بال أحد، فقد رحل ويسكي.
الحجل العربي
يحكى أن دجاجتين هبطتا من جبال ظفار إلى السوق لشراء مؤونة. (حين كانت الجدّات يسردن هذه الحكاية لم يكن الصغار ينظرون إلى الشفاه المتغضنة التي تصدر منها الكلمات، بل يرفعون أعينهم إلى السقوف الطينية التي تحفها الظلال الداكنة لرؤوس الأشجار، حيث تبدأ الصور في التشكل، فيرسمون بخيالهم الحر -وهم ينظرون في شاشات بلا إطار- صورا لدجاجتين تهبطان خفيفتين من الجبل، تتدلى من ظهريهما سلال سعفية فارغة.)
رجل جبلي اعتاد في كل جمعة أن يشق طريقه النازل إلى سوق صلالة ويبيت عند أحد معارفه هناك، ثم يغادر في الصباح عائدا إلى الجبل، محملا بمؤونة أسبوع كامل، من سكّر وطحين ونحوهما. وحين مرض، قامت دجاجتاه بذلك الدور وشقّتا، بدلا منه، طريقهما المنحدر إلى السوق!
وجبال ظفار، التي يعيش فيها الدجاج آمنا، إذ يأنف الجبليون من أكله، تصنّف ضمن مناطق قليلة جدا في العالم يعيش فيها الحجل العربي، وهو يختلف اختلافا بيّنا عن الحجل البري، بل يمكن عدّه، وبدون مجازفة، من أجمل المخلوقات الريشية على الإطلاق، بما يمكن أن يشكل أمنية البلوغ لأي طائر في البسيطة، نظرا إلى الألوان القزحية النادرة لريشاته ورشاقة حركات مؤخراته وخفره الملكي وهو يعبر سهوب الفجر متخفيا، وكأنما يعبر أدغال الخيال.
هبطت الدجاجتان وتبضّعتا، ثم عرّجتا على ذلك البيت الذي اعتاد أن يبيت فيه مالكهما حين يحل بسوق المدينة، حيث أفرد لهما أهله مكانا دافئا في قنّ دجاج وألقوا لهما حَبّا وبسطوا لهما ماء. وهما تستعدان للنوم، قالت إحداهما للأخرى:
-إن شاء الله، غدا صباحا سنصعد الجبل.
فردت عليها صاحبتها:
-نحن ذاهبتان حتما إلى هناك حتى بدون الحاجة لأن نقول إن شاء الله.
في الصباح عوقبت إحداهما بأن ظلت كما هي دجاجة منزل، بينما كوفئت الأخرى بأن حُولت إلى حجل عربي.
صفحة من خيالها
في شبابها كانت جدتي “مهلة” أو “مهلوه” كما كان يدللها جدي، تعيش على مشارف “غابة جوزاني” بزنجبار؛ ولم يكن قريباً من مسكنهما سوى بيت وحيد يبعد مسافة ساعتين على ظهر حمار. وكان زوجها كثيراً ما يتركها في البيت ويختفي للعمل حطّابا، ثم لبيع ما جنى في أسواق القرى المأهولة، قبل أن يؤوب إليها محمَّلاً بالمؤن.
تركها، ذات يوم، وهي حامل، وفي فترة انتظار الطلق. لم يكن يظن أنه سيتأخر قرابة عشرين يوماً. لدغته أفعى. ظل يجر رجله في الغابة إلى أن وصل إلى مشارف السوق، فمكث لدى أحد معارفه هناك يصارع السهر والحمى أياماً بلياليها. وفي تلك الأثناء كانت جدتي مهلة تجر ما في بطنها جهة بيت الجيران البعيد حين باغتها الطلق، فارتكنت إلى جذع شجرة وهي تصارع وحيدة خروج الوليد منساباً من بين أحشائها، فنامت بعد أن أعياها التعب.
كان يغزو غابةَ جوزاني -وكانت تسمى كذلك بغابة القرود- أسد يقدح الوعيد من عينيه، وقد درجت القرود على منحه أحد أبنائها بمجرد ما يظهر مزمجراً. كانت تفعل ذلك خوفاً من سطوته وخوفاً من قتله إياها جميعاً دون رحمة، فتقدّم له في كل مرة يغزو الغابة آخر الرُّضَّع قرباناً للمحافظة على حياة المجموعة. كان آخر ضحاياه ابنٌ لتلك القردة الأم التي ثكلت، قبل مدة قصيرة في وحيدها الذي قدمته قربانا للأسد.
وبينما كانت تذرع الغابة حزينة، شاردة الذهن، وجدت الأم نائمة وبجانبها رضيع يصرخ.
أخذت القردة الأم الرضيع ورفعته إلى صدرها وأرضعته، فأشرقت عيناها بالأمل والحياة وتقدمت، فرِحة، صوب الغابة. صعدت شجرة عالية حيث كانت تسكن وحيدة.
استفاقت الأم من إغفاءتها وبحثت عن طفلها فلم تجده.
بكت كثيراً وحزنت، ثم استسلمت لقدَرها، معتقدة أن رضيعها أنقذ حياتها، وقد أكله حيوان مفترس وهي نائمة. ولكن قلبها ما فتئ، في كل مرة، يخفق بأمل غامض.
في الغابة كان الرضيع يكبر بين يدي أمه الجديدة ويتعلم حركاتها وإيماءاتها. كان أيضا ينزل من تلك الشجرة ويشرع في اللعب مع صغار القرود. في البداية، استنكرت القرود وجود كائن غريب لا يشبهها وأخذت تصيح، مالئة الغابة بالضجيج. ولكنها ما لبثت أن تفهّمت وضع الأم التي قدّمت، في ما مضى، رضيعها للأسد قرباناً لإنقاذ حياة جميع قردة الغابة.
كبر الصبي في تلك الغابة. ولأن لديه عقلاً لا يستكين فقد اهتمّ بأمر القرود حين شاهد عدة مرات من أعلى شجرته الأسد وهو يجر أحد الصغار بعيداً إلى قلب الغابة أمام النظرات العاجزة للجميع.
صارت للصبي قوة وصلابة وهو يأكل مما تمنحه الطبيعة ويتسلق الأغصان العالية ويقفز خفيفا ويصرخ فرحاً متحدِّياً بأعلى صوته. لكن فرحه لم يُنسِه التفكير في غزوات الأسد، التي لم تقابل بأدنى مقاومة.
ذات يوم، باح الصبي لأمه القردة بأنه ينوي، بمفرده، أن يقتل الأسد. كانت الأم حتى تلك اللحظة تعُدّ الأمر جزءاً من طبيعة الحياة، لذلك ارتسمت على وجهها تعابير سخط واستغراب من إمكانية تغيير شيء مقدّر في حياة القرَدة إلى الأبد. ولكن الصبي أخبرها بأنه قد وضع خطة محكمة لا تحتاج منه سوى إلى دقائق قليلة ليختفي من حياة القرَدة هذا الرعب الجاثم على قلوبها كل هذه المدة.
حفر الصبي -بمساعدة القرَدة- حفرة واسعة وعميقة تطلّ على شجرة مربوط فيها حبل، وقد ركز في عمق الحفرة أشواكاً غليظة مسنونة الحواف، ثم غطى الحفرة بورق الموز الذي ينزلق منساباً إلى قاعها بمجرّد ما يطأه جسم ثقيل.
تقدم الصبي إلى أطراف الغابة منتظراً الأسد. مكث أياماً هناك. وكانت أمه ومجموعة من القرود تأتيه بالطعام والشراب. وحين سمع زئير الأسد قادماً، هبَّ من مكانه وهو يشير إلى الأسد. وثب الأسد مسرعاً ناحيته، فهرب الصبي راكضاً. وحين وصل إلى حيث تلك الحفرة الواسعة، قفز متسلقاً الحبل الذي يرفرف على حوافها، والذي أوصله إلى قلب الشجرة. ومن هناك استطاع أن يرى الأسد وهو يغوص عميقاً في بئر الأشواك.
وثبت قرود الغابة وفي يدها الأغصان الغليظة والحجارة وأخذت تقذف بها الأسد وهو يصارع الموت إلى أن أجهزت عليه ودفنته مكانه.
حُمل الصبي على أكتاف القردة وعبرت به الغابة كلها وهي تصرخ انتشاءً. الأمهات قبّلته، وخاصة الحوامل منها والمرضعات.
رأت أمه، التي افتخرت به، في ليلة الانتصار تلك ما يشبه وميض الحزن في عينيه، فسألته عن سبب حزنه وهو الذي حقق للتو انتصاراً وهزم الأسد.
-أشعر بأنني لست منكم. صحيح أنني تربيت بينكم وعشت ولعبت وفكرت، ولكن كل شيء حولي لا يمتّ لي بصلة، أشعر بأني مخلوق مختلف، مختلف يا أمي.. أرجوك وضّحي لي السبب، لماذا أنا مختلف هكذا؟
صمتت الأم ساعة وأطرقت برأسها، ثم سردت للصبي التفاصيل الغائبة عن حياته.
حين اقترب الصبي من بيت والديه رأى، للمرة الأولى، مسكنا بهذا الحجم فوق الأرض. كانت مخيلته المحلقة لا تحمل في انطباعها سوى تلك المساكن التي ترتفع في أعالي الأشجار، لذلك ضحك وهو يتقدم بصحبة أمه القرْدة:
-هل كان والداي ديداناً عملاقة تسكن في شرانق؟
تركت القردة ربيبها يتقدم وحيداً جهة البيت، وظلت تراقبه من بعيد من خلف الأشجار.
طرق الصبي الباب وجبينه يتعرّق حيرة. تساؤلات كثيرة كانت تمور في رأسه عن شكل أمه الحقيقية وكيف تراها ستكون..
لم تفتح البابَ أمه، بل ثلاثة أطفال، أخذوا يصرخون وينادون أمهم، متراجعين إلى عمق بيتهم. هرعت الأم متقدمة جهة الباب، وحين لمحت الصبي فزعت وأغلقت الباب بقوة في وجه الغريب.
تسمّر الصبي طويلاً أمام الباب المغلق، الذي انفتح قليلاً عن عيني الأم، ثم وجهها. كان صدرها، ذو الوجيب الهائل، يخبرها، برسائل سريعة، بأن هذا الصبي ليس سوى ابنها الغائب. وما أن سألته وأجابها بقصته حتى هجمت عليه تحضنه وتقبّله. ومن خلف الأشجار انسحبت القرْدة الأم جهة الغابة والدموع تُغرق عينيها.
محمود الرحبي *