محمد سليم شوشة*
المجموعة الشعرية (ما أنا فيه) للشاعر المصري أحمد الشهاوي الصادرة عن المصرية اللبنانية بالقاهرة 2020 تمثل نصوصها تجربة جديدة ، ومرحلة مختلفة في خطابه الشعري الممتد، وذلك لما جسّدت وقاربت من حالات شعورية شديدة الخصوصية ، نفذت الشعرية فيها إلى أعماق غائرة لدى الذات الشاعرة ، وقاربت ما يختبئ في النخاع وخلايا العظام ، وما يتوارى من معان شديدة المراوغة والخفاء والالتباس في مصير تلك الذات، واختلفت هذه النصوص الشعرية – تبعا لذلك الغوص البعيد وراء تلك المعاني – في لغتها وصورها ، وبدت كما لو أنها نسيج شعري جديد اهتدى إليه الشهاوي في تلك المرحلة.
بعض من جذور تلك الحال قد تظهر في بعض نصوص مجموعته السابقة (لا أراني)، لكنها هنا تصبح حالات شعرية مكتملة الخصوصية، شديدة الوطأة ، وتترك لدى المتلقي أثرا انفعاليا يتسم بالثقل ؛ فيبدو مشحونا بالمعاني المطروحة كافة ، ويتماهي مع تلك الذات الشاعرة أو يصبح شريكا لها في أزمتها ، أو على الأقل يكون المتلقي منحازا لها عاطفيا ، وتبدو النصوص مرشَّحة للبقاء في ذاكرته ووجدانه طويلا.
بالطبع تتجلى في هذه المجموعة بعض السمات والملامح الخاصة بالخطاب الشعري المعهود والدال على شخصية الشهاوي، ولكن ما يعنينا هنا هو الجديد وما يمثل إضافة أو اكتشافا سواء على المستوى الفردي لهذا الخطاب أو فيما يخص الشعرية العربية بشكل عام.
في تصورنا أن كثيرا من جماليات هذه النصوص الشعرية ، يكمن في تأسسها على معنى كامن ، تعمد الذات الشاعرة إلى حذفه ، أو الحيدة عنه ، حتى يبدو كأنه سرٌّ كبير مدفون في النصوص ، هو النبع الذي تدفقت منه ، وكاشف جوهرها في الوقت نفسه، وفي مستوى قرائي أعمق يمنح فهم السر فيها طاقة جمالية كبيرة للقارئ، فهذه الحالات الشعرية الخاصة والمشكِّلة لروح شعرية مختلفة ، وذات شاعرة تبدو أقرب إلى المنتحر اليائس والبحار الخاسر والبطل الأسطوري العائد بهزائم لا تُحصى، كلها ترتبط بسرِّ كبير، بلغز تخفيه النصوص في أعماقها عبر مسار تشفيري له نسق جمالي ليس بالمتاح لمستويات القراءة كافة ، والطريف أن اكتشاف السر – الذي يفجِّر كل تلك الحالات الشعرية الصاخبة بالصراخ والوجع والنفي – وإدراكه على نحو كامل لا يفكِّك النصوص أو يقلل من قيمتها، بل يكشف عن ارتباطها فيما بينها من جانب، وعمقها لأنها نبعت من الوجع الدفين ذاته ، عبر تمثلات جمالية وشعرية متنوعة، فضلا عن أن كشف سرها يجعل صلة المتلقي بها أكثر عمقا.
هذا السر هو الخيط الجامع لنصوص تلك المجموعة الشعرية ، ويحضر في كثير منها بعلامته الصريحة ، وهو غياب الشمس، وينتظمها مثل خيط يربط حبات اللؤلؤ ببعضها.
وفي تقديرنا وتأويلنا أن غياب الشمس هنا رمز لغروب المعشوقة وخروجها من حياة الذات الشاعرة، وهو خلف تلك الحياة السريالية التي تغلب عليها العدمية والنفي والتهدّم.
هذه الشمس الغائبة بعثرت كل أوراق تلك الذات الشاعرة وخلفتها في حال أقرب للجنون والعدم وغياب المعنى أو الفهم.
التصوير الشعري في الحقيقة لا يقارب حياة عدمية، بل وجودا كاملا منفيا وعبثيا وبلا جدوى وليس واضحا فيه وحقيقيا غير عناء الذات الشاعرة وخساراتها وآلامها.
وهذا الخروج من الخاص إلى العام عبر مركزة الكون حول الذات وجعلها بؤرة الوجود وأساس انتظامه ، هو إحدى القيم الجمالية المهمة التي تجعل النص الشعري قابلا دائما للتعبير عن العام المطلق ويجد المتلقي فيه نفسه.
وتبدو الذات الإنسانية التي تقاربها النصوص ذاتا مُفتَّتة ومتشظية تحت وطأة كل هذا الألم الناتج عن غياب شمس المعشوقة الغرائبية مخفية الملامح. ذات مفتَّتة تتشكَّل بهيئات أخرى أو تحل في كائناتٍ غريبة مثل الديناصور وتنقسم على نفسها أحيانا أو تصبح نموذجا غرائبيا من التاريخ السري المجهول للبشرية، كأن يكون نموذجا أسطوريا قديمًا مطمورا في التاريخ كان يحارب ممالك النمل أو تركه نوح للغرق ولم يحمله على سفينته ، برغم أنه صانع السفينة الحقيقي، وهكذا فيمنح الصوت الشعري نفسه وأفكاره ومشاعره أبعادًا تمثيلية تخرج المعنى عن المباشرة ، وتسقطه على شيء آخر ، أو قصة أخرى ، أو ذات مختلقة ولو كانت حيوانا أو طائرا أو حشرة أو حتى السوس الذي ينخر خشب السرير.
تهيمن على نصوص هذه المجموعة الحافلة بالحزن والأسف النبيل حال من النفي، فكأن الكون كله سقط في دورة النفي والعدمية ، وبالطبع كل هذا النفي أشبه بزلزال عنيف مركزه الذات الشاعرة ، واستتبع بعد ذلك هدما وقيامة للوجود.
في الديوان تصوير لما يشبه القيامة الصغيرة، حال من الجنون الكوني وغياب المعنى من كل شيء في عناصر هذا الوجود نتج عن غياب شمس هذه المعشوقة التي تتجلى عبر تصورات شعرية متنوعة، مرة تصبح وحشا أو كائنا خرافيا محشوا بجراد يأكل قارتين ودولة أو تصبح الشمس ما تهفو إليها الروح ولا سبيل إلى الخلاص إلا بالعبور إليها، يقول:
لا جَيْبَ لِيْ
لا سَرِيْرَ
لا طَرِيْقَ يَدُلُّنِي عَلَيّ
لا امْرَأةً فِيْ رَأْسِي أَشْتَهِيْهَا
وَلا غُرَبَاءَ مِثْلِي يَهْتِفُونَ لِلْفَشَلِ
لَيْسَ سِوى العُبُورِ فِي العَالَمِ الآخَرِ لِلشَّمْسِ. الديوان ص36.
أو في مرة أخرى يستجير من عذابها: يقول
قِنِيْ عَذَابَها
فَهْيَ أَعْلَى مِنْ جَهَنَّم. ص95.
حضور المرأة أو بالأحرى حضور غيابها وقسوتها في النصوص مقترن بالشمس الغائبة هي الأخرى، فهي في عالم آخر أو على ضفة أخرى أو في الأحلام، والطرق أو الشوارع المؤدية إليها في الغالب مسدودة.
يصبح الشاعر هنا الغريب الأوحد في الكون ، فليس يوجد مثله يمكن أن يمنحوه بعض الأنس ومشاركة الألم. ويصبح فقد الحبيبة ضياعا للوطن ، وتحقيقا لحال الغربة الكاملة التي كأنها الغربة الأشد ألما والفريدة في قسوتها عبر تاريخ البشر.
تغترب الذات عن نفسها وتصبح كائنا خرافيا تائها أقرب لمسخ، وهي حال تبلغ قمة القسوة التي ليس بعدها قمة، كما أن هذه الحال نفسها أقرب لروح ما كان من خط ممتد في الشعرية من هجاء النفس والاعتراف عليها بالنقص كما نجدها عند الصعاليك والهجائين مثل تأبط شرا أو الحُطيئة أو أبي دلامة، لكنها بصورة عصرية وحداثية ولأسباب مختلفة تتركز كما ذكرنا حول غياب شمس العشق، وتصنع لدى المتلقي حالا من الشجن النبيل والانحياز. يقول:
صِرْتُ غَيْرِي كَثِيْرًا
مزحومًا بالشياطينِ والمرَدَةِ
وسفَّاكي الدماءِ
أطلُّ على رَأسِي مِن شُرفةٍ صَغِيْرَةٍ
لا تزالُ صاحيةً في العنقِ. ص38.
وفي بعض الأحيان تبدو الذات الشاعرة في قمة الجهل بذاتها لدرجة أنه يتوقع من نفسه أن يقتل أحدا في أي لحظة. وربما الطريف والشعري أن هذه الحال من تلاشي المعالم وانمحاء جماليات الذات والاعتراف عليها بالمجهولية والنقص تقابلها حال قديمة من النبل والجمال والفروسية في الشاعر القديم وقت سطوح شمس المعشوقة وقبل غيابها، يقول مثلا:
” أهذه رَأسِي
التي مَلأْتُهَا بِالقَصَائِدِ ونُصُوصِ المَوْتَى
هَلْ صَحَا الأمْواتُ فِيْها
هَلْ جَاءوا لِلْقَصَاصِ
أَنَا الذي عِشْتُ أَحْيَا بِهِمْ
لَمْ أَكُنْ وَغْدًا مَعَهُم
لَمْ أَسْرِقْ عُيُونَهُم
لَمْ أَبِعْ سِيَرَهُمْ لِلْعَابِرِيْنَ. ص 39.
ومن تقابل هاتين الحاليتن المتناقضتين تتشكَّل المفارقة الكبرى التي تصنع التبدُّل في المصير وتغرس في قلب المتلقي حالا من الأسى والأسف. وهذا النسق من المقابلة بين الصورتين؛ النبيل القديم والصعلوك الآني يمتدّ خيطا ثابتا في غالبية النصوص.
بانتظام (الشمس/العشق) في حياة الذات الشاعرة ينتظم كل شيء وبعثراتها يكون كل الهلاك الذي تجَسَّد في النصوص. هذه المعشوقة التي لا خطاب يوجه إليها ؛ لأنها صارت عالما منفيا ونجما مطفأً تبدو كائنا مهيبا وغريبا، وقد كانت تمثلات حضورها في النصوص ذات طبيعة مراوغة ناتجة عن محاولات الذات الشاعرة التملُّص منها أو من التَّماسّ معها ؛ لأنها مركز الوجع، ولا محاولات حتى لإعادتها ، أو بالأحرى استعادتها ولو بالتخييل، بل على النقيض ثمة نوع من التذمُّر في التماس معها لغويا ولو عبر التسمية لأنها مركز الوجع، فيمكن أن نقول إن ثمة نوعًا من الحيد عنها أو الرغبة في تجاوزها والاكتفاء بأثر غيابها أو انسحابها أو انطفائها أو أكاذيبها التي حوّلت ما كان من الأحلام والآمال إلى أوجاع وعدمية وانتفاء وألم لا يكفي معه أي طاقة صبر.
عبر روح خفية ترتبط هذه النصوص بالمشروع الشعري العريض للشهاوي وأحواله وتجلياته في العشق، فهذه المرة ثمة دراما ما عملت الاستراتيجية الشعرية على إخفاء أطرافها واكتفت بأثر ذاك الصراع وما بعد الفراق وغياب الشمس لتهيمن مفردات أشبه بقيامة الكون وانتحاره تبعا لتشبع الذات الشاعرة برغبة الانتحار.
هي تجربة شعرية تتأسّس على الفردي نعم ؛ لكنها تأخذ ذلك الإطار الإنساني الجمعي أو المطلق عبر الارتباط بتلك القيم الكلية وتمثيلها في تجربةٍ فريدة، فكأن رسالة الخطاب الشعري وغالبية نصوص هذه المجموعة ، هي أنه بغياب الحب أو انسحاب الحبيب ينهدم الكون وتقوم القيامة ، حتى ولو بقي بمظهره ومفرداته، لكن هذه المقولة يطرحها الخطاب الشعري عبر كيفيات شعرية عديدة ، وحافلة بالثراء التعبيري والانفعالي ، وهذا هو مكمن الجمال الأدبي وجوهره، فالعبرة ليست بما يقال بقدر ما هي كيف يقال وكيف يبدو المعنى الأزلي قابلا لأن تطرحه مخيلة الشعراء وفق تصورات مغايرة توهم المتلقي بأنه كما لو كان يكتشف هذه المعاني والحقائق ويدركها لأول مرة، فضلا عن كونه يعايش تلك المعاني ويتماهى مع حالاتها في أثناء القراءة.
” كُلُّ الخَيْبَاتِ تلاحقُ ظِلَّكَ فِي الشَّارعِ
والذاكرةُ اهترأتْ
وامتلأتْ بِخَزِيْنِ السَّنَواتِ الأُوْلَى فِي القَريةِ.” ص24.
عبر تنويعاتٍ جماليةٍ كثيرةٍ تتشكَّل لدينا في هذه المجموعة ذات شاعرة تعيشُ رعبًا في البيت وفي الشارع ، في الآني ، والذكرى ، والمستقبل، تمثَّلت الخيبات في الورق المتساقط والخريف الذي يهيمن ، و(لا النافية للجنس) التي تأكل لغته، ويحس بها تحاصره أو علامة التعجب التي يتماهى معها أو عجز الرياضيات ، وحساب المثلثات ، والفيزياء ، وعلم النجوم ، وكل العلوم تقريبا عن أن تمنح تبريرًا أو تفسيرًا لهذا السقوط وغياب الشمس، يلجأ مرة إلى تفسير الأمر بالعلم، وتارة إلى العرَّافين والرسُل أو قراءة الطالع والنرد وألعاب الحظ وما من شيء يفيد أو يمنح بعض الطمأنينة.
ربما لو أحصينا لا النافية للجنس ؛ لوجدنا أنها تهيمن على مساحة كبيرة ربما تزيد على 30 % من لغة النصوص، وبالرغم من ذلك لا يشعر المتلقي تمظهرها اللغوي بل تنفذ هي إليه بأثرها الدلالي والنفسي وتورثه حالا ثقيلةً من النفي والعدمية والغضب والحزن على ما كان موجودا وتبدد أو ضاع.
لا النافية للجنس تنفي ما كان موجودًا ومعهودًا ومعروفًا وما كان أليفًا أو مأمولا أو متوقعًا أحيانًا، فهي خطٌّ فاصلٌ بين عالمين؛ عالم حضور شمس العشق وعالم غيابها، عالم الحياة وعالم الشتات والضياع والتيه ، ولا أقول عالم الموت ؛ لأن الموت قد يكون أفضل حالا وأكثر استقرارًا وطمأنينة من تلك الأحوال الشعرية التي تقاربها النصوص.
في تقديرنا أن القيمة المهيمنة في نصوص هذه المجموعة تتمثل في حال الصرخة الممتدة العابرة للنصوص ؛ لتصبح روحا تنتظمها، وتجعل المتلقي مجبرا على الانحياز والتوقف، وهي وإن كانت ممتدة تتشكل بتشكلات فرعية كثيرة ؛ فتتجدد ولا يصيبها التكلس والتكرار، وتجسّد الألم في إسقاطات عديدة أرضية وكونية خارج الذات، وانعكس هذا الانسلال خارج الذات على لغة النصوص فنجد الذات الشاعرة تخاطب نفسها/ أو الابن الذي هو تمثيل آخر للذات فتأخذ عبر الصور الشعرية الطريفة تشكيلا خرافيا، يقول:
المجهُولُ الذي يهجُمُ على مزرَعةِ رأسِكَ
يحصدُ الغِلالَ .. يسرقُ المعاني
لا اسمَ لهُ أو عائلة. ص34.
هذا المجهول ليس جرادا وليس شيئا معهودا من كل أنماط الشر التي تحصد الغلال أو تسرق المعاني، وهذه المجهولية الكاملة تجعله أكثر إرعابا فكأنه غول تأبط شرا أو كائن أسطوري غريب، ولو عرف اسمه فقط ربما تتبدل الحال تماما إلى النقيض فتسترد الذات الشاعرة كامل قدراتها، فتدفع الأذى أو تزرع أمام البيت شجرة لا تطرح سوى التوتِ والذهب بحسب نص التعبير الشعري.
في نصوص هذه المجموعة الشعرية روح سردية مختلفة، تتسم بالتماسك وتنبع من وحدة الحال الشعرية ، وتمركزها حول شعور معين وتنغزل وتُنْسّج فيها تفاصيل حياتية بعضها عابر أو يبدو هكذا، لكنها تصبح جزءا أساسيا في لوحة الحال الكلية التي تقاربها القصيدة، هذا السرد ينطلق من الذات أو تهيمن عليه الشخصية الواحدة لكنه يبدو متنوعا لأن الذات الواحدة نفسها تمرّ بمراحل عديدة بين سفر وترحال وبيت وشارع وكأننا أمام روح هائمة في الوجود تركض بين أركانه محروقة بنار الفرقة والفقد والوحدة، تحاول أن تتحصَّن بأشياء العالم وعناصره لكن عطشها يتنامى وتتأكد مأساتها.
بعض المشاهد الشعرية يأتي رصدها من داخل الذات ، وبعضها يأتي عبر انسلال خارجها وبعضها يعتني بالتفاصيل الصغيرة ، وبعضها الآخر يحلق مع المطلق والقيم الكلية، والحقيقة أن التصوير الشعري في هذه المجموعة ربما لا أكون مبالغا إن قلت إنه يختلف كثيرا عنه في شعر الشهاوي السابق كافة ، لأن الصور تبدو أكثر التحاما بتصويرات الفقد والخسارة وصرخات الاستغاثة والاستجارة، تبدو راسخة في الحالة الشعرية أو كأن الصور تشكلت وارتسمت دون أدنى وعي من رحم الحال الشعورية الضاغطة على المخيلة الشعرية، فنحن هذه المرة أمام ذات شاعرة متخمة ومنضغطة وينفجر الشعر منها متشكلا بكيفياته الخاصة ، وكأنه ارتسم وأخذ مظهره اللغوي والتصويري في الداخل بشكل كامل، أو كأنه مفروض على لسان الشاعر بهيئته هذه، ولذا ربما لم أصادف أبدا في هذه النصوص وفق خبرتي بالشعر صورة شعرية تبدو غريبة أو خارج سياق الحال أو يحتمل التعديل عليها.
ومثل الصور الشعرية بالضبط التناصات والمحاورات مع النصوص الدينية والمقدسة حيث تأتي الاستعانة والأخذ منها أو التناص معها عفويا إلى أقصى درجات العفوية، مثل قوله:
أتيتكُم ضيفًا
أتيتُ آمنًا وأريدُ عَوْدًا سالمًا
معي ذُريَّتي تحملُ مكانكُم ميلادًا لها
اكشفُوا الحُجُبَ .. اتركُوني مع الأهلِ . ص100.
فهي تناص نادر في نعومته مع قول إبراهيم }رَّبَّنَآ إِنّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ{ ، لأن الاستراتيجية الشعرية تجاوزت اللفظ ، وقبضت على روح المعنى وخصصته أو رهنته بحال الشعرية الكاملة للنص، ولكونها وهو الخفي الذي ربما لا تصل إليه مخيلة جمعت قصة إبراهيم مع قصة موسى، ونداء إبراهيم مع ذريته برجاء موسى وطلبه لقومه بالخروج والأمان من فرعون، فمزجت القصتين عبر هيمنة لغة القصيدة وهيمنة روحها ومعانيها التي بدت شامخة وغير خاضعة أمام لغة المقدس.
والحقيقة هي مجموعة شعرية شديدة الخصوصية والثراء ، وتحتاج إلى مقاربات أخرى على مستوى الشكل والموسيقى والصور الشعرية ، وغيرها الكثير من المستويات.