محمد صلاح بوشتلة
باحث مغربي
بين التّاريخي والتّخييلي هناك مسافة قد تصغر وقد تكبر بشكل يُقربنا من الحقيقة، وقد يقطع أي علاقة لنا بها، لهذا كان جورج لوكاتش حازمًا أمام أي عمل تخييلي يجعل من التّاريخ مجال عمل له، بالقول مخاطبًا الرّوائي التّاريخي: «تخيل كما شئت لكن لا تخن التّاريخ ولا تُحرف أحداثه»، بإسقاط ما، لا يمكن لمخرج فيلم مثلًا -باعتبار الأخير مجالا خصبا لتمويهات الخيال والإثارة- أن تستبد به التمويهات هذه لتحرّف حقيقة حدث تاريخي أو تمسخ شخصية تاريخية. موضوع هذه الدّراسة هو فيلم “المصير” لمخرجه الكبير يوسف شاهين، الفيلم الذي أتى مبهرًا للخبير بالسّينما، ولكنه ظل ثقيلًا جدا على قلب مؤرخ الفَلْسفَة أو حتى المطلع على تاريخها حيث ستكون سيرة الحكيم ابن رشد في الفيلم، وكما يحاول المخرج أن يَظهر بأنه يرويها بتفاصيلها الدّقيقة سيرة غير حكيمةٍ بالمرّة لحكيم لم يكن هو أبا الوليد بن رشد.
منذُ أن سيقت روحه إلى عالم ما بعد فلك القمر حيث بارئها الذي تَصوره ابن رُشْد في حافة العالم، ومنذُ أن سِيقَ جثمانه بعد حياة صالحة إلى قبره الثّاني في مقبرة ابن عباس التي استودع الموت فيها جثامين أسلافه بقرطبة مهوى رأسه، ليشغَل جسده مكانه البرزخي فيها، عوض المكان الأول حيث دُفن أول مرة خارج باب تاغزوت بمراكش، ومُنذ هُجِّرت تواليفه معه إلى الضّفة المجاورة لتكون جزءا من “ملحقات” الموكب الجنازئي الحزين للمؤلف وأعماله. ومنذ سلَّم أبو عبديل مفاتيح غرناطة للقشتاليين، ودلف نحو العدوَة الجنوبية للمتوسط، وتبعه بقية العرب قافلين نحو نفس الوجهة، تاركين خلفهم ابن رُشْد، مُنذ ذلك الحين ونحنُ نَتَحسَّسُ ريحَ ابن رُشْد، ومعه نتحسَّس ريح إخوته من المشتغلين بالعلوم الحِكْمية الذين لخص مصيرهم الدّرامي المراكشي ابن عبد الملك بقوله: “وتفرق تلاميذ أبي الوليد أيدي سبأ”، لتنحسر عنا أخبار الفَلْسفَة، غير أننا في بحثنا التّاريخي عن ابن رُشْد قد نكون عملنا على تشويه صورة ابن رُشْد الحقيقي وتلويثها بلوثة الأيديولوجيا، فلا عذر لنا في ذلك، فالصّواب قد لا يجانب أحد رموز حلقة (Iéna) فـ . شليغل إذا يحكم للعرب قانونًا عربيا صِرفا، يتسم به العَربِي منذ القديم إذ إلى جانب ما يَصدق على العَربِي من طبعٍ مُجادل إلى أقصى الحدود يميزهُ ويمتاز به، فهو مُولع دون بقية خلق الله من الأمم جميعها الإتْلاف، مختلفًا عن غيره بعلوِّ المكانة(1).
وكأن الخطأ في حق سيرة وفكر ابن رُشْد هو اللازمة التي تلاحقه دومًا، ولن تنفك تُلازم سيرته المشوهة أصلًا بيننا، وتطارد تاريخه، وتتعقب صورته، الشّيء الذي جرّ أرنست رينان ERNEST RENAN ليؤكد بأن “تاريخ الرّشدية ليس سوى تاريخ خطأ كبير”، وليكون فيلم المَصِير لا تأريخًا لابن رُشْد كما ادعى المخرج يوسف شاهين، ولكن ركْبٌ على اسم ابن رُشْد لصناعة تاريخ آخر هو ذاته تاريخ الخطأ الكبير الذي تحدث عنه رينان. فيلم ابن رُشْد هذا بالطّبع يبقى ابن رُشْد بريئًا منه، براءة الذّئب من دم يوسف وبراءة قاضي قرطبة من خيال كاتب السّيناريو البعيد، الشّيء الذي دفع أحد رموز الرُّشدية في المشرق العربي وهو عاطف العراقي أن يصرّح بأن “الفيلم ليست له علاقة بابن رُشْد، إذ إن تجاوزاته لا حصر لها”. ويزيد فيقول: “أنا لا أريد أن أقوم بدعاية لعمل شاهين عبر مهاجمته، لكنّني مضطرّ إلى التّعبير عن وجهة نظري، كي لا أتّهم بالصّمت!”. فرغم ما يقال عن كتابة سيناريو الفيلم بأنها تمت عبر إحدى وعشرين مرة، غير أنه وإن أتى مبهرًا جدًا للخبير بالسّينما، ولكنه ظل ثقيلًا جدًا على قلب مؤرخ الفَلْسفَة والمطلع على تاريخها في غرب العالم الإسلامي، لتكون سيرة الحكيم كما يحاول أن يظهر المخرج بأنه يرويها بتفاصيلها الدّقيقة في الفيلم غير حكيمةٍ بالمرّة.
1 ـ حكيم قرطبة بين الولع
بالرّقص وشهوانية الأكل
يكتب يوسف شاهين كلمته الملخصة للفيلم كفاصلة لنهاية الفيلم وبداية الجينيريك كالآتي: “الأفكار لها أجنحة، لا أحد يقدر أن يمنعها من أن تصل إلى النّاس”، والتي ربما هي الأخرى تحوير، لكن طفيف وأكثر ليونة لقولة لفرانس كافكا بأن “الأفلام أجنحة من حديد”، لينطبق قول شاهين على الفيلم كله، إذ لا أحد يمنع شاهين من تقويل سيرة وحياة ابن رُشْد ما لم تقله، فقد استمات في أن يسجل، بتجاوزاته، دائرة المسموح به في كل شيء يخص أبا الوليد فقيه قرطبة وفيلسوفها، من استخدام طائفة الغجر، واستخدام العامية المصرية لغة الحوارات الجانبية في رواية زقاق المدق، لا لغة قوم كانت أغانيهم الشّعبية تمتثل لموازين صارمة في موشحات تفيض لغة جزلة، ومجازات بالغة العمق واستعارات هي قمة في الرقة التي تسترق السّامعين، في تجاوزات تشبه تماما كما تصوير سقراط وهو يلعب بالبلاي – ستيشن في صالون مغربي تقليدي وفاسي جدًا، أو تقديم ديمقريطس لابسًا سروال جينز، وجالسًا في حديقة عمومية يقرأ إحدى كتابات فلاديمير إليتش لينين، وزميلته بالقرب منه تقرأ بيضة الدّيك لمحمد زفزاف في ترجمة فرنسية مبتذلة. ليبقى الفيلم في الأخير وفي محصوله الكلي تضحية بشعة بالمعقول من تاريخ ابن رُشْد الحقيقي من أجل غرض واحد يتحكم في بال المخرج وهو التّحكم في ما سيعجب السّادة المشاهدين الذين سيدفعون أجرًا مقابل ما سيقدم لهم من تسلية، ولو على حساب سيرة فيلسوف قرطبة ومراكش، وعلى حساب شرف أسرته التي كانت من بيوتات العلم والفقه والحكمة في تاريخ الأندلس، خاصة والفيلم لا يخاطب المتفرج الأكاديمي المتتبع للنص الرُّشدي ولسيرة ابن رُشْد، وذلك ربما لأن المشاهد العربي وأي مشاهد آخر لا يمكنه أن يغامر بوقته وماله لأجل مشاهدة فيلم وثائقي علمي رصين عن ابن رُشْد، وثائقي لا تخترقه قُبلة على وجنة ابنة ابن رُشْد التي تتفنن في إغواء تلامذة أبيها الفقيه والفيلسوف، ولا يتخلله تحرش بزوجة أبي الوليد، فالمتعة واللّذة والتّسلية هي سيدة السّينما والدراما أبد الدّهر، وهي سيدة الشّاشة العربية خاصة مع الذّوق العام الرّديء الذي اكتسح دور العرض، فمتعة أكثر تساوي نسبة مشاهدات أعلى وأكبر وبالتالي نجاحًا باهرًا للمخرج ولعمله، وهذا ما لن يغيب عن مخرج استغرق عمره في دروب السّينما وجرّب الأفلام التي لا قُبل فيها والتي فيها كثيرٌ من القُبل.
وتبلغ التّجاوزات قمّتها عند إصرار المخرج على إظهار ابن رُشْد مُدافعا شرسًا عن الرّقص والموسيقى أكثر مما هو مدافعٌ عن الفَلْسفَة والكلمة الحرة، فتتكرر على طول الفيلم حصص في الرّقص الاستعراضي، فبعد رقصات الفلامينكو لليلى علوي التي كان يمكن في أي لحظة أن يزيح ابن رُشْد سلهامه الأندلسي ويؤدي رقصة “باليه” بإزائها، لكن الأمر بالتّأكيد ربما كان سينزلق بالفيلم أكثر نحو مهاوي الكوميديا السّوداء، والمغالاة بالتّالي في الخروج عن الحقيقة، والإيغال في الابتذال، رغم أن لا ابتذال أكبر من تصوير فقيه مالكي مثل أبي الوليد ينتمي إلى أسرة محافظة وعريقة، يتم إظهاره ببساطة تامة إلى جانب الأوساط القذرة واختلاطه بها، وهي أوساط العوام (الغجر) الذين لطالما تذمر من معاملتها له(2)، حتى أنه لو كان حيًّا معنا، لما وسعه أن يكون إلا كأحد أعضاء لجنة برامج البحث عن المواهب الغنائية إلى جانب أحد مُعلّمات الرّقص الشّرقي أو أحد فناني الدّبكة الشّامية، يُستفتى في أمر البَحَّات الصّوتية فيُفتي فيها بما علّمه أصدقاؤه الغجر. ابن رُشْد الذي ينتمي لأسرة فقيه كبير تتفق كتب التّراجم في توصيفه بـالفقيه العالم، حافظا للفقه، المقدم فيه على جميع أهل عصره، العارف بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، البصير بأقوالهم، النّافذ في العلوم الدّينية، من أهل الرّئاسة فيها، والبراعة في الفهم، مع الدّين، والفضل، والوقار، والحلم، والسّمت الحسن، والهَدي الصّالح.
وتستطيل محنة ابن رُشْد في الفيلم، حينما لم يكن للمخرج إلا أن يجعل لابن رشد من أصدقاء إلا أصدقاء تستحكم بهم شهواتهم، الشّيء الذي شوه ابن رُشْد الحكيم، فجرأة المخرج الزائدة لم تستطع أن تسحب ابن رُشْد من يده ليشارك الغجرية ليلى علوي رقصها على إيقاع حركات الفلامينكو الإسباني الذي كانت ولادته الحقيقية في القرن الثامن عشر في الجنوب الإسباني، أي بعد موت ابن رُشْد بقرون عديدة، ولكن جرأة أظهرته وهو يردد أغاني محمد منير، ويجرب صوته هو كذلك فيها، أي بأنه ولِعٌ ولِهٌ بالرّقص، ولَهُ رغبةٌ جموحة فيه أيضًا، ليُمسَخ عنوانُ كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشّريعة من اتصال فجأة إلى فصل المقال فيما بين الرّقص والغناء من اتصال، وهو الذي أورث حب المطالعة حد الإيغال إلى تلامذته(3)، فابن رُشْد الذي لم يستطع أن يظل دون مطالعة إلا في ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه بأهله، وأنه سوّد، فيما صنف وقيّد وألّف وهذّب واختصر نحوا من عشرة آلاف ورقة(4)، يظهر بأنه هاوي رقص وأكل فقط، فسائر الحوارات تدور على الرّقص وحول الحق فيه. ومكان الحوار ليس يتم في مكتبة ابن رُشْد الغنية، وإنما حول مائدة الأكل والطّعام الدّسمين الذين تتفنن زوجة ابن رُشْد في طبخه وتجهيز مائدته، حيث يظهر ابن رُشْد الذي لطالما تأفف من ألم وعسر الهضم(5)، وكأنه كائن شره كبير يحترف الأكل وازدراد الأطعمة، وهذا ما يظهر من الخروف المشوي المقدم من لدن زوجته له على مائدة الأكل كذا مرة. وابن رُشْد لا يجد مراغمًا في مجاراة أفلاطون من كون الحفظة من أجل أن يحافظوا على صحتهم التي هم في حاجة إليها كما هي الكلاب أحوج إلى حدة النّظر ورهافة السّمع أن يقتصروا في أكلهم على الأغذية البسيطة كالثّرائد البسيطة المطبوخة في الماء والملح والزّيت وبعض اللّحم المشوي(6). ولحوم الفراريج الفتية بما هي أوفق اللّحوم لصحة البشري وأفضلها كما نبه ابن رشد نفسه في كتابه الكليات، وحتى أن لحوم الطّير المفضلة عنده لم تكن طعامًا دائما، ولعلها طعام مناسبات فقط، فبعد لقاء ابن رشد للخليفة المنصور وتقريب المنصور منه، بعد خوف ابن رشد على نفسه منه، أرسل فيلسوفنا خادمًا له على بيته ليصنعوا له قَطًّا وفراخ حمام مسلوقة ليشعرهم بنجاته، ويطيب قلوبهم الخائفة على مصيره(7).
2 ـ عن أسرة ابن رشد
ينقل الفيلم بالطّبع صورة سيئة وسلبية جدًا عن ابن رُشْد وعن سيرة الفيلسوف، فلا يختار له المخرج من التّلاميذ غير تلميذ واحد هو ذاك التّلميذ الفرنسي، وهو بالتّأكيد أمر منتقى بعناية فائقة لا تخفى مقاصدها التي يخاطب فيها لجان تحكيم غربية، بل يطلب ودها، هذا الذي يعلق عليه مخرج الفيلم مسؤولية نقل كتب ابن رُشْد، في حين لا يفلح بقية تلاميذه إلا في الرّقص أو في التّحرش بابنته الوحيدة اللّذيذة (كما يصورها جيدا المخرج)، والأنيقة والجريئة في الحب والإثارة جرأة فتيات أغلفة المجلات السّوقية جدًا، لا الفتاة التي يكون والدها هو صاحب تلخيص الأخلاق. الابنة صاحبة الغراميات الجشعة والخيانات المرفوعة الرّأس، بابتسامتها الطرية، وثيابها الأنيقة والرّقيقة والشّفافة جدًا التي تحرمك حق تأويل ما تحتها، كلها كانت أوصافًا فاتكة لاجتذاب جماهير هذا النّوع من الأفلام، لا اجتذاب صورة ابن رُشْد من بئر التّاريخ العميقة، فلم يكن دورها باعتبارها بنت الفيلسوف ناسخة لأعماله، فلم تصور في لقطة وهي تستنسخ كتاب الكون والفساد، أو كتاب أكبر منه وهو جوامع ما بعد الطبيعة، وإنما كانت على طول الفيلم جزءا من أجزاء الإثارة والاستثارة، الابنة هذه التي لم نسمع بها لا عند صاعد الأندلسي (419هـ ـ 462هـ) ولا عند ابن الأبار ولا لدى عبد الواحد المراكشي (581هـ ـ 647 هـ) ، ليحوز المخرج أو بالأحرى كاتب السّيناريست على قصب السّبق في ذكرها ويبز في ذلك كثيرا من الإخباريين وأصحاب التّراجم القدماء.
ولم يدع المخرج أحدًا إلا وتحامل عليه، فالخليفة المنصور تم تصويره دومًا -إلا من لحظات- عاري الصّدر بشكل فاضح، بشكل يحيل مباشرة على ما كان يعتمل في قصور تاريخ الخلفاء للسيوطي، وتصوير تلميذ ابن رُشْد الشّاب الفرنسي ـ الذي تخيله المخرج من عنده والذي سيتحمل أمانة نقل تراث ابن رشد للغرب! باعتباره خائنًا لابن رُشْد يستغفل ثقة ابن رشد، ويستغل الفرصة ليظفر بقبلة من ابنة فقيه الأندلس وحكيمها، وأين؟ في بيت الفقيه المسكين والفيلسوف المخدوع من لدن أَبَر تلاميذه الذي لم تأتِ كتب التّاريخ على ذكره، ولكن لحسن الحظ ذكره السّيد المخرج، قُبلة لا تُوازيها في شبقيتها ضمن نوستالجيا القبلات غير قُبلة عبد الحليم حافظ لميرفت أمين في الفيلم النّادرة “أبي فوق الشّجرة”، أو قبلة عمرو سعد لهيفاء وهبي في فيلم “دكان شحاتة”.
المهم أن أسرة ابن رُشْد تظهر على طول الفيلم على شكل أسرة منحلّة أخلاقيًا، وأفرادها دون الحشمة والوقار اللذين يجب أن تطبع بهما أسر القرن السّادس الهجري، أو على الأقل أسرة مفكر كبير وفقيه كبير، وسليل أسرة كبيرة احترفت الفتوى وأحاطت بمصادر ومناطات الأحكام، فبيت بني رشد كان ولقرون بيت فقه وصلاح كابرا عن كابر، فإلى هذا يترك المخرج جميع أبناء صاحب بداية المجتهد الثلاثة الذّكور الذين ذكرهم الإخباريون والمؤرخون ويختار بنتًا لابن رُشْد لتأتية مشاهد ليست في تاريخ ابن رُشْد، ولكنها في بال ورأس المخرج فقط، مشاهد يخترقها الجسد الأنثوي الذي يزيد من حرارة المشاهد، ويدغدغ حرارة تلقيها من مشاهد عربي يعيش أصلًا كبتا مركبًا ومتراكمًا، فادعاءات المخرج عدم توفره على معلومات تخص عائلة ابن رُشْد، ولجوؤه إلى معلومات من بنات خياله، يستلف منها بنتًا من جسد ولحم، هي دعوى لا تؤكدها حتى تأكيدات ابن رُشْد نفسه، فالرّجل يؤكد في كتاباته المتأخرة أنه كان يملك من الأولاد ثلاثة نجباء مهتمين بالعلم، لا بنات مثيرات ومفرطات في شبقيتهن، بنات يتشوقن للقبل اللّذيذة، ويطمعن فيها، بنات سيئات الخلق والمزاج يستدرجن تلامذة والدها الذين أتوا لطلب الحكمة فإذا بهم يتحولون أمام جو بيت ابن رُشْد المثير إلى طلاب لذة، وأباطرة قُبَل وسدنة خيانة، يقول أبو الوليد في تلخيص كتاب المزاج الذي أكمله سنة 588هـ والذي يذكر فيه ولدين له من ذريته الصّالحة “وأكثر ما حركني إليه أبنائي، أبو القاسم وأبو محمّد إذ كان لهما مشاركة في هذه الصّناعة وفي العلوم الحكمية التي لا يتم النّظر في هذه الصّناعة إلا بها، كما بيَّن ذلك جالينوس في مقالته أن الطّبيب الفاضل هو فيلسوف ضرورة”(8).
تظهر بنت ابن رُشْد إذن شبه عارية الصّدر في حين نظرات الذي أنقذ المغني صديق ابن رشد (الناصر ابن الخليفة المنصور) ينظر إليها بشبق فائض، ويمسكها من قدمها وهي طالعة على السّلم بالغنج المأمول في أي أنثى، ثم بعد ذلك يقبل يدها بحنانٍ يجرح العذارى، ويجبر عظم القلوب المنفطرة، دونما رد فعل لها أمام سلوكه غير السّوي ولا الأخلاقي بالمرة، وبرغبة منها، لا منه لا يمتلكان نفسيهما التواقة والقليلة العفة والأدب، فيدخلان في قُبلات حارة وعميقة وشرهة تُسيئ لأسرة ابن رُشْد وتُسيئ لتلميذ ابن رُشْد الخائن !، وفي لحظة أخرى يمسكها من خصرها (كذا !) على مرأى ومسمع أبي الوليد بن رشد صاحب المدونة الفقهية المرجوة الكتابة وصاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ثم لا يفتأ هذا الأمير المحب لابن رُشْد والهائم في حب ابنته بأن يتحرش بزوجة ابن رُشْد أمام ابن رُشْد (كذا!)، والتي من جهتها لا تتأخر في أن تُبادله الغزل ذاته أمام ابن رُشْد مرة ثانية، وتزيد هذه الزّوجة والأم المثالية بأن تتغزل بالعيون الفستقية والمليحة للشّاب الفرنسي تلميذ أبي الوليد بن رُشْد، وابنتها من جهتها تعترف لابن الخليفة النّاصر بحب أمها لعيون الشّاب الفرنسي اللّذيذ، لنكون أمام أسرة فيلسوف فشل حتى في تربية أفرادها فما بالك بتربية الدّولة الموعودة كما عبر عنها ابن رشد في الضّروري في السياسة. كل هذا يحدث مع ولابن رشد الذي قال فيه ابن الأبَّار :”لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا، وكان متواضعًا، منخفض الجناح”(9).
“الأم والزّوجة” إذن لا تظهران في الفيلم إلا بشكل امرأة لا تحب الكتب وتنفر منها، بل وتظهر بشكل يُشبه دور الخادمة القروية في منزل ابن رُشْد الأرستقراطي، مع تغير بسيط في طريقة التّعامل، فهي لا تعرف إلا أن تطهو وتطبخ وتُسارع في تقديم الطّعام لابن رُشْد ولأصدقائه كلما ولجوا بيتها العامر، في تناقض كبير وحكم مجحف في حق فاضل قرطبة ومراكش ابن رُشْد الذي لطالما اعتبر المرأة مُساوية للرجل وقرينته في كل شيء، إذ لم يجد أبو الوليد ابن رُشْد بُدًا من أن يُنكر أي فروق طبيعية قد تكون بين الرّجل والمرأة، إذ يساويها مع الرّجل في الكفاءات الذّهنية والعلمية، فالرجال والنساء نوع واحد من جهة الغاية الإنسانية بحسبه، فإن كان الرّجل أكثر كدًّا في بعض الأعمال، فلا ينفي ذلك أن المرأة أكثر حذقًا منه في بعض الأعمال الأخرى، ويذهب في أمر مساواتها حَدًّا بعيدًا حينما يرى أن وصولها إلى رئاسة الدّولة هو من الأمور الطّبيعية الممكنة جدًا، وأن الذي أبطل أفعالهن هو فقط ما جرت به العادة من اتخاذ بعض المدن لهنّ وسائل للإنجاب والرّضاعة والتّربية وللقيام بأزواجهن، لما رسخ عند البعض من كونهن غير مهيئات للقيام بمهمات الأفعال على نحو من الفضائل الإنسانية. فتكون بالتّالي الأسرة التي وَعَدنا بها المخرج في فيلم “المَصِير” غير أسرة ابن رُشْد ولم يعرفها ابن رُشْد الحقيقي والتي لم يحلم بها بتاتًا، ولما وسعه أن يعترف بها لو أن عاد للحياة وشاهد الفيلم في قاعة سينما اليوم، ولَصرخ من هول ما رآه: “يا ناس، هذا الفيلم ليس عني، كما أن هذه الأسرة ليست أسرتي.”
وعند إعادة تمثيل مشهد جريمة النّكبة لا يظهر لابن رُشْد في الفيلم ما يحمله معه إلى منفاه البعيد عن قرطبة بأكثر من أربعين ميلًا سوى أغراض البيت وأثاثه، وبخاصة “الكنبة” التي تحيل على كل ما يمكن أن يفعل فوق الكنبة، فيحملانها هو وزوجته، ويسألها بخبث ودهاء فلسفيين، إن هي كانت ما تزال تذكر أول ليلة لهما عليها، فتتذكر ذلك بخجل لذيذ وماكر، في حين يبتسم “العم” ابن رُشْد في مكر ودهاء الفلاسفة الشّبقيين، وكأن المرأة -عبر كل الفيلم- هي عند أبي الوليد إما هي للطبخ أو للوطء، في حين كان أولى تاريخيًا وحتى جماليًا للمخرج تمثيل تلك الحكاية الموثوقة تاريخيًا والمتفجرة دلاليًا والتي روى طرفا منها أبو بكر بن عربي عن تشييع جثمان ابن رُشْد ووضعه على طرف دابة.
3 ـ تلاميذ ابن رُشْد
الصّورة السّيئة عن ابن رُشْد وعن سيرته تتكرر عبر الفيلم وتتعدد وتتنوع، وكأن يدًا -بحسن نية أو بسوئها- تود أن تسجل انتقامًا تاريخيًا آخر من ابن رُشْد، فلا يختار له من التّلاميذ غير تلميذ واحد هو ذاك التّلميذ الفرنسي الذي يعلق عليه مخرج الفيلم مسؤولية نقل كتب ابن رُشْد ونشر فكره في أوروبا الوسطوية، في حين لا يفلح بقية تلاميذه إلا في الرّقص أو في التّحرش بابنته الوحيدة الأنيقة والجريئة في الحب والإثارة، فلا يذكر الفيلم من تلامذة ابن رُشْد لا جريج الذهبي ولا ابن حوط الله ولا ابن طُملوس، واللائحة طويلة جدّا من التّلاميذ الذين شاركوا ابن رُشْد نكبته وشاركوه الإيمان بالفلسفة طريقا لتحقيق الفرد وإصلاح الجماعة.
بالتأكيد لم يكن تلاميذ ابن رُشْد والحائمون حوله ممن تستهويهم الأفعال الرّديئة كأن يكون ألصق تلاميذه به من الرّقاصين أو بالأحرى من أصحاب مواخير اللّيل ومن أصحاب الخمارات، فالفعل الرّديء ليس من صفة الحكيم الجيد والعلاقات الرّديئة ليست من اختصاصه مطلقًا، وإنما من اختصاص أهل المدن الجاهلة والضّالة “فإنّ أفعالهم، لما كانت رديئة، أكسبتهم هيئات نفسانية رديئة، كما أن أفعال الكتابة متى كانت رديئة على غير ما شأن الكتابة أن تكون عليها، تكسب الإنسان كتابة أسوأ رديئة ناقصة. وكلما ازدادت من تلك الأفعال ازدادت صناعته نقصا. وكذلك الأفعال الرّديئة من أفعال سائر المدن تكسب أنفسهم هيئات رديئة ناقصة، وكلما واظب واحد منهم على تلك الأفعال ازدادت هيئته النّفسانية نقصا، فتصير أنفسهم مرضى. فلذلك ربما التَذّوا بالهيئات التي يستفيدونها بتلك الأفعال، كما أن مرضى الأبدان، مثل كثير من المحمومين -لفساد مزاجهم- يستلذّون الأشياء التي ليس شأنها أن يلتذّ بها من الطّعوم، ويتأذّون بالأشياء التي شأنها أن تكون لذيذة، ولا يحسون بطعوم الأشياء الحلوة التي من شأنها أن تكون لذيذة. كذلك مرضى الأنفس، بفساد تخيّلهم الذي اكتسبوه بالإرادة والعادة.” (10).
يكبر التّقليل من شأن تلاميذ ابن رشد مع تصوير الفخر الرّازي المتكلم الكبير وهو يتلقى كتب ابن رُشْد من يد ابن الخليفة النّاصر(11)، حيث يأبى المخرج إلا أن يُظهره بمظهر الذي لم يتجاوز أن احتفظ بكتب ابن رُشْد في زاوية في مكتبته المركونة في جامع الأزهر، رغم أن الرّجل كان أبرز من فَتح للفلسفة طريقًا مهمًا نحو الدّسترة والتّوطين داخل علوم عدة خارج نطاقها، وعمد، في سبيل إعادة تأسيس قواعد علم الكلام ومقدماته لغاية تطويره وارتقائه، إلى فلسفة ابن سِينا وإلى إعادة تشغيل وأجرأة مبادئها داخل علم الكلام، لإيمانه بأن من المباحث الحكمية ما لا يقدح في العقائد الملّية، لاستنباط مزيد من الحقائق، والتّقصي عن كثير من الإشكالات والمضايق،.فأولج الكلام في الفَلْسفَة، وخلط المباحث، واعتمد قواعد واصطلاحات الفَلْسفَة، لكن تبقى المصيبة التّاريخية هي أن الذين أرّخوا لحياة الفخر الرّازي لم يأتوا على ذكر زيارة الرّجل للقاهرة، فما بالك التّدريس بأزهرها، وذكروا في مقابل ذلك زيارته لمراغة، وبلاد خوارزم، وما وراء النّهر، وهراة، بل حتى أنهم لم يأتوا على ذكر زيارته لمكة -لا حرمنا الله ولا حرمك – أيها القارئ الكريم من زيارتها.
لتبقى مسألة التّقاء النّاصر بالفخر حكاية غريبة جدًا كما هي الحكاية المهلهلة تاريخيًا والوهِنة التّصديق، حيث يحكي ليون الإفريقي أن فخر الدّين الرّازي، كان قد سمع وهو في قاهرةِ الـمُعز أحاديث عن شهرة ابن رُشْد وذيوع أخباره في قرطبة، فقام الفَخْر الرّازي واكترى سفينة تنقله من الإسكندرية للقاء أبي الوليد في بلدته قرطبة، غير أنه سرعان ما عدَل عن قصده لـمـّا بلغه خبر نكبته، ولربما ما بلغه من أخبار معاداته المتأصلة للأشاعرة، أو لربما حتى لشيخه الأشعري الكبير أبو حامد الغزالي.
4 ـ أصدقاء ابن رُشْد
وفق نفس التّعسفات الإخراجية يتم تحويل الممثلة “ليلى علوي” إلى غجرية ترقص على إيقاعات الفلامينكو الذي لم يكن ابن رُشْد يعرفه، ولا صاحب التّلاحين ابن الصّائغ سمع به، وذلك كله عوض طرب أقرب لحقيقة ما كانت تشتهر به الموسيقى الأندلسية من تلاحين، وبسهولة يظهر لنا أبو الوليد بن رشد بألاّ أصدقاء له سوى الغجرية ليلى علوي والمغني محمد منير والهائم بالرقص ابن الخليفة عبد الله، ولا أحد من الأطباء ممن كانوا يعرفون أبا الوليد ويعرفهم ذُكر في الفيلم، والذين ذَكر العديد منهم في كتبه، وكأن لا ابن زهر ولا أخته ولا جده كانوا من أصدقاء ابن رُشْد، وأصدقاء عائلته، ولا أحد من الفلاسفة يعرفه، ولا الأصوليين، لا ابن طفيل ولا ابن جرج الذهبي ولا أبي عبد الله الأصولي وغيرهم كثير، وكأن “شلته” التي يرتاح فيها هي شلة المغنين والرّقاصين والباحثين عن المتع، بشكل يخرج ابن رُشْد وأسرته عن وقارها، ويجعل رصانة الفيلسوف في خبر كان، فيتم التّوسّع في علاقة ابن رُشْد بزوجته، والتوسّع في إعطاء دور تاريخي ونوعي مزعوم للغجر في تفاصيل حياة ابن رُشْد، وتسطيح وتهميش علاقات أخرى مثل عمله كطبيب وكقاضي القضاة ووزير ثقافي ومفوض لإصلاح مؤسسات ومناهج التّعليم الموحدي، رغم أن المعلومات عن ابن رُشْد داخل سياقه السّياسي والثّقافي هي أوسع وأكثر رحابة من سياقه الأسري، فيسلك المخرج مسلك العارف بخصوصيات بيت ابن رُشْد، وما كان يعتلج داخل بيته، بل في غرفة نومه، وكأنه كاتب العدل الذي وثق عقد نكاح ابن رُشْد.
ويظهر ابن رُشْد صديقًا ولعًا بالغجر وبتجمعاتهم، لهذا لا يدخر جهدًا في الاستماتة في الدّفاع عن حقهم في الرّقص والغناء وحقهم في التّجمعات اللّيلية، وحقهم في السّهر في مواخير المتعة والسّكر، فيجعل المخرج من الرّاقصة الغجرية صديقة لابن رُشْد ولعائلته، صديقة تظهر في الفيلم وهي تشبع رغبات زوجها المغني في الهواء الطلق، تجامعه في طريق فرعية مؤدية لأحد القلاع جسدًا لجسد، فور فراق ابن رُشْد لهما، دونما حشمة من أن يراهما أحد، ودونما احترام للذي ذهب توًا عنهما -ابن رُشْد-، الشّيء الذي يؤهلهما إلى ألاّ يكونا مطلقًا بالصّديقين للفاضل ابن رُشْد حتى لو كانا من أهل الألحان التي مجد منزلتها ابن رُشْد، الأخير الذي ينصح في نفس الوقت بتجنب “الشّهوات لأنه ليس بين العفة والشّهوات ما هو مشترك أصلًا، وذلك لأن الشّهوات تجعل من الإنسان الفطن مترددًا، كالأحمق: كلما استهوته شهواته ازداد رغبة فيها. مثال ذلك لذة النّكاح، فهي من أكثر الأشياء التي تعرض الإنسان للخبل.” (12)، لذا كانت غاية فعل الموسيقى ألا تخلط الحب بالدناءات وغيرها من الرّذائل المكدرة للذة أصلًا، فليس للعاشق والمعشوق إلا أن يكون عشقهما شريفاً(13).
يتم بالتّالي وبنجاح كبير تجريد ابن رُشْد من كل ما يمثل حقيقته التي تعبر عنها انتماءاته التّاريخية والثّقافية التي مثلها وسطه المغربي والأندلسي، فكل ما يحلو للمخرج يجربه على ابن رُشْد؛ بشكل مبالغ فيه، يجعل من شخص ابن رُشْد في أسوأ وصف كهلًا شعبويًا مؤدبًا خرج توًا من أحد أحياء الإسكندرية، أو في أحسن حال جامعيًا مصريًا يُدَرّس في جامعة حلوان أو عين شمس وله “شلّة” يسكر معها ويواظب على تأدية طقوس قتل الوقت وشعائر العربدة، ويؤدي في ذات الآن دور المثقف التنويري، رغم أنه مرة يظهر لنا في سيرة النّاس الشّعبيين، أو بلغة زمن ابن رُشْد أحد الدّهماء الذين لطالما أساؤوا لأبي الوليد نفسه، ولا يمثل طبقة النّخبة أو الأنتلجنسيا في كلامه وفي اختياراته لأصدقائه الذين كان منهم من يدير ماخورا للرقص أو بالأحرى “كاباريه” للشرب، فهو يعيش الحياة إلى جانب أصدقائه بكل شبقها وفي ذات الآن يؤدي دور المثقف العضوي، في إسقاطات إيديولوجية صلبة تسيء إلى ابن رُشْد وتهشم صورته البلورية، والإسفاف يأتي حتى على لغة ابن رُشْد، ما دامت أن لغة أفلام المكسيكية المدبلجة أحسن نطقًا للعربية من اللّسان الدّارج المصري، لتكون التّحفظات والمؤاخذات على مواضيع اللّقطات والمشاهد والموسيقى كثيرة تنوء على العد إلى درجة اختلاط الأمر على المخرج فيما بينه وبين ما يروى عن التّوحيدي من محاولته إحراق بعض كتبه يأسًا كما جاء في الفيلم. ليدل كل هذا ببساطة على تنصل وتهرب المخرج وكاتب السّيناريو عن تحمل عناء أي واجب معرفي واستخباري في الفيلم، لم يولِه أية أهميته مستحقة ليعزز مضمونه ويقوي صوته التّاريخي ويعلي من شرط مصداقيته، ليصبح من الصّدق عوضه المطالبة بحذف اسم ابن رُشْد من على الشّريط، إذ ليست له علاقة به لا من قريب ولا من بعيد، فلم يبق للمخرج إلا تصوير أحد الفقهاء بلحية كثيفة ولباس أفغاني ويبرز للناس خاطبًا في أتباعه، على هيئة ما ساد في أفلام عادل إمام، قائلًا: “لا تقرأوا مقالات ابن رُشْد في صحف الحكومة الكافرة. لأن زوجته غير منقبة”، ولم يبق للمخرج إلا أن يصور ابن رُشْد وهو يقرأ مقال أرسطو الأسبوعي في “لوموند ديبلوماتيك” في نسختها العربية الشهرية، وبيده فنجان قهوة سوداء ثقيلة ممزوجة مكسورة بقليل من الفانيلا، وبقربه علبة سجائر “الحمرا” الشّامية، أو “مارلبورو لايت” الأمريكية.
يصير لابن رشد، في الفيلم، أصحاب كُثر، فصديقته وصديقة العائلة التي مثلت دورها الفنانة ليلى علوي بتاريخها السّينمائي الحار والسّاخن جدًا، وصديق صاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد الشّاب الرّاقص وهاوي العربدة، وبدل دعوات ابن رُشْد التي لا تنتهي بضرورة إعمال العقل للاتصال بالعقل المستفاد وتحقيق سعادة الكائن البشري عبر التّعلم والمعرفة، أصبح شعاره وشعار الرّشدية مع هؤلاء الأصدقاء الذين اضطر المخرج ابن رُشْد لأن يصاحبهم عبر طول الفيلم شعارًا يعيد صياغته الفيلم عبر تلك اللازمة الغنائية المكرورة على لسان مغني الفيلم “الحدث” محمد منير الذي مثّل بدوره صديقا آخر لأبي الوليد ابن رُشْد “عَلِّي صوتك، عَلِّي صوتك بالغُنَا، لسّه الأغاني ممكنة، ممكنة” في تأدية أخرى لنكبة ثانية لفيلسوف قرطبة صار فيها ابن رشد وأصحابه أصحاب لذة وجماعة شبقية.
5 ـ الفقهاء والسلاطين أعداء الحكمة
ومنكِّبو ابن رُشْد
تزداد وتكبر درجة التّشويه في حدتها مع الإصرار على تصوير الفقهاء بأنهم مجرد أناس دمويين متعصبين وسببٌ حتمي في كل أنواع القلاقل التي تعيشها المدينة الأندلسية، إنهم بحسب مجريات الفيلم كائنات يعيشون خارج التّاريخ وخارج التّعاقدات الاجتماعية للمدينة المسلمة، لهذا يصور منازلهم في الفيلم بأنها قلاعٌ خارج المدينة وبعيدةٌ عنها، وأنهم عِلةٌ أساسية في افتعال نكبة ابن رشد وأحد مكونات مشاهد التّنكيل بالحكمة والحكماء، وأنهم أيضا مجموعة من المتشددين لا يستثني منهم المخرج واحدا، رغم أن ابن رُشْد نفسه كان معدودًا على زمرة فقهاء مالكية عصره، هذا الشّيء الذي نسيه المخرج ربما، أو لربما لا يعرفه أصلًا، بل ولا يعرف أيضًا، ولا خَطَر بباله نماذج كثيرة لفقهاء دافعوا عن الفَلْسفَة، وحرصوا على حماية أصحابها والسّالكين في دروبها.
ما لا يعرفه مخرج الفيلم أنه قد تَكوّنت بين الفقيه المالكي والحكيم المشَّائي لمرات ولفترات تاريخية طويلة في بلاد الأندلس، وحدة وتصالح جميلان، خاصة وذاكرة الحكيم السّعيدة تحفزها نحو الفقيه ذكرى تَدَخل فقيه من أقران المازري وابن حَمدين وعياض وهو إمام مالكية وقته في الأندلس ابن رُشْد الجد، لإطلاق سَراح ابن باجّه المعتقل بسبب أحد نشاطاته السّياسية التي قد يكون اختلط فيها الأمر مع أحد تهم اشتغاله بالعلوم الحكمية، وما يعنيه ذلك من نفض الفقيه عمومًا ليديه من أي تـهمة بالزّندقة في حق الفيلسوف، وعدم إعطائه أي شرعية للعوام في متابعاتهم له بهذه التّهمة، فالتّدخل بإطلاق سراح فيلسوف سرقسطة وفاس هو أولا كما أخيرًا شهادة للرجل من الأوليغارشية الفقهية المسيطرة وإعلان صريح بالعلاقة التي جمعت الفَيلَسُوف في الغرب الإسلام بالفقيه. وشكلها أيضا تتلمذ كثير من فقهاء الوقت على مَالِك بن وهَيب الفيلسوف الكبير الذي لم يترك كتابات خلفه، وتضلع مالك هذا بعلوم الشّريعة بحسب مقاييس مذهب السّادة المالكية.
ورغم أن الفقهاء أصلًا لا دخل لهم في نكبة ابن رُشْد، فهم أيضا كانوا كما أبي الوليد لا يملكون من أمرهم شيئا، فمن جهتهم هم أيضا نُكبوا على يد الخليفة المنصور في نكبة تجاوزت نكبة ابن رُشْد بكثير، وتجاوزت حتى ما سُرد في أدبيات النكبة الرّشدية من أفعال شنيعة الوصف، فالنّصوص التّاريخية تروي أنهم لم يكونوا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فكانوا هم الآخرون ضحايا لا فاعلين، يقول المراكشي واصفًا نكبة الفقيه بتحريق أمهات كتب المالكية المدونة التي عدّها المالكية في فقههم بمثابة الفاتحة من الصّلاة، “تجزئ من غيرها، ولا يجزئ غيرها منها”(14)، والتي حُرّقت معها كتبٌ أخرى، يقول: “وفي أيام -أي يعقوب- انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب، وبعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، ففعل ذلك، فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، وكتاب التّهذيب للبراذعي، وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها. لقد شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال، فتوضع ويطلق فيها النّار، وتقدم إلى النّاس بترك الاشتغال بعلم الرّأي والخوض في شيء منه، وتعود يعقوب على ذلك، بالعقوبة الشّديدة”(15)، بل أُصدرت الأوامر بأن يُقتل كل من وجدت عنده ورقة من المدونة.
لا يمكن أن ننسى أن ابن رُشْد كان هو نفسه من زمرة الفقهاء فلا يغرب أن يكرر أصحاب التّراجم والسِّير لازمة سترتهن سيرته والمحكي عنه، من قول المالكي ابن فرحون مثلاً: “وكان يفزع إلى فتياه في الطـب كما يفزع إلى فتياه فــــي الفقه”، ومن قول عبد الله كنون أيضا من كون ابن رُشْد “كان إماما في الفقه كما كان إماما في الفَلْسفَة.”، حتى أنه لم يجد أي حرج في التّصريح بنيته في التّأليف “في فروع مذهب مالك مستلهما المدونة، الكتاب الفروعي بامتياز في التّقليد المالكي”(16)، بل كان متشجعًا لذلك ومتشوقًا له بحسب اللّغة الحماسية التي ذكر بها حلمه، وأمله الفقهي هذا. ومما يؤكد مكانة الفقه والتأليف الفقهي عند ابن رُشْد، ما أعلن عنه غير ما مرة من أنه يفرغ من كتابه بداية المجتهد، قال رحمه الله: “ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابًا. جامعًا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها”(17)، ويقول القاضي مرة ثانية: “وإن أنسأ الله في العمر، فسنضع كتابًا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبًا ترتيبًا صناعيًا يجري مجرى الأصول، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدًا في مذهب مالك، لأن إحصاء جميع الرّوايات عندي شيء ينقطع العمر دونه”(18).
تضيع الحقيقة وتقتل وتشوه، فابن رُشْد الذي كان مهتما برصد النّجوم والأفلاك وقياس حركات الكواكب وتتبع مساراتها طوال مسيرته العلمية التي بدأت وهو في السّابعة والعشرين من عمره عندما قصد إلى بعض الجبال المرتفعة بناحية مراكش بالمغرب بهدف إجراء قياسات علمية حول حركة بعض الكواكب يصوره المخرج يستغل الآلات الرّصدية لا لمطالعة الأفلاك والنجوم بل للتجسس على ثكنات مليشيات الفقهاء، ليخبر أعدادهم وما هم عليه، والرّجل كان عاكفًا على إيجاد الحلول الممكنة لنظام فلكي بأكمله، ودائم التّشكي من عوامل الزّمن ومشروطيات الواقع الذي ينتمي إليه الذي شغلته مشاكله عن هوايته العلمية يقول ابن رُشْد: “وقد كنت في شبابي أؤمل أن يتم لي هذا الفحص. وأما في شيخوختي هذه فقد يئست من ذلك إذ عاقتني العوائق عن ذلك قبل. ولكن لعل هذا القول يكون منبها لفحص من يفحص بعدُ عن هذه الأشياء، فإن علم الهيئة في وقتنا هذا هي هيئة موافقة للحسبان لا للوجود”(19).
ولتمتد يد التّشويه إلى صورة الخليفة المنصور الموحدي، بنعته بالمتشدد والقريب من الفئة الظّلامية والقاسية القلب والمتحجرة العقل، فهو بالنسبة للفيلم أو بالأحرى للمخرج مجرد مقاتل أجلف يتعامل بصلافة ورعونة مفرطة لا يمكن تقبلها، وتتجاوزه يد التّشويه والتنقيص إلى ابنه الصغير الذي يقع في حب غجرية مسيحية راقصة، ويريد أن يصير رقاصًا مثلها، ويدخل حماما هو و”شلّة” من الشّباب يلاعبهم ويلاعبونه إلى أن ينتهي الموقف بما لا تحمد عقباه، فيستغفرون الله على ما بدر منهم، إنه كان غفارًا توّابًا، وهكذا تتكرر صورة الخليفة المنصور حتى عند كثير من المفكرين الرّشديين، لا لشيء سوى لأن في زمنه نكّب ابن رُشْد، بشكل يعاكس محكيات التّاريخ، التي تؤكد حب الرّجل للمعرفة واهتمامه بالعلماء وانصرافه إلى تعلم الفَلْسفَة، فمحمد عابد الجَابرِي يأبى إلا أن يجعل من زمن المنصور زمن أزمة مستديمة(20)، فيهمز ويلمز حتى في طفولة المنصور السّيئة، ويصوره بأنه عاش في شبه عزلة بين أهل دولته، فيتساءل الجَابرِي من هنا بشكل متخوف من مصير ابن رُشْد مع هذا السّلطان الجائر فيقول: “ترى كيف كانت وضعية ابن رُشْد في عهد هذا الخليفة الذي أعدم عمه وأخوين من إخوته، وتسبب في وفاة كثير من شيوخ القبيلة”(21)، ويختار الجَابرِي نصوصًا بعينها من أجل بيان سمعة المنصور السّيئة من مثل اختلاف الموحدين في مبايعة المنصور، تاركًا الكثير من النّصوص المؤكدة على اتفاقهم حوله، حيث يقول ابن الأثير “فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن، فملّكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو، فقام في ذلك أحسن قيام وأقام راية الجهاد وأحسن السّيرة في النّاس. وكان ديِّنًا مقيمًا للحدود في الخاص والعام، فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرّجال ورتب المقاتلة في سائر بلادها وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش.”(22)، وفي هذا الصّدد يقول ابن خلكان: “ولما مات أبوه اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه، فبايعوه وعقدوا له الولاية، ودَعَوْهُ أمير المؤمنين كأبيه وجدِّه، ولَقَّبُوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام النّاس على حقيقة الشّرع، ونظر في أمور الدّين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين، كما أقامها في سائر النّاس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.”(23)، وحتى أن الجَابرِي عندما لا يجد مراغمًا في تجاوز كم المديح الكبير الذي يوجهه صاحب المعجب وكثير من المؤرخين ممن لم يكن هواهم مع الموحدين فإنه ينسب كل أفعاله إلى إنشاءات عمرانية مادية صرفة تبتعد عن الثقافة ولا تقترب منها.
6 ـ فيلم المَصِير واستغلال
ابن رُشْد أيديولوجيًا
على كل فإنك لا تجد نفسك وأنت تنتهي من مشاهدة فيلم “المَصِير”، أو بالأحرى حينما ينتهي أي أمل لك في أن يقول الفيلم الحقيقة عن ابن رُشْد وعن سيرته، إلا وأنت تتذكر فجأة حكاية ابن عربي عن نهاية ابن رُشْد، وبالضبط حادثة وفاته، وبالتّحديد حينما ختم ابن عربي خبر نقل جثمان ابن رُشْد وكتبه على ذات الدابة إلى الضفة الأخرى: “هذا الإمام وهذي أعماله يا ليت شعري هل أتت آماله؟”، فأكيد أن آمال ابن رُشْد كما لم تتحقق على أرض الواقع الأندلسي – المغربي بإقامة مدينة فاضلة تؤمها الحكمة في أرض الأندلس، فآلة التّصوير التي كان غرضها نسخ الواقع الرُّشدي ووصفه وعرضه بحذافيره التّاريخية أمسى دورها منحصرًا في فبركة الأحلام الكاذبة في وجه التّاريخ، لتهييج المشاهد والسّيطرة على انفعالاته، وخدمة أجندات أيديولوجية يبقى ابن رُشْد بعيدًا عنها وبريئًا منها.
فيلم “المَصِير” لا يعكس في الحقيقة إلا تاريخ ابن رُشْد المضطرب بيننا حيث كان ولمدد طويلة مجرد رقم من بين أرقام المزايدات الأيديولوجية المأزومة التي يخوض غمارها البعض من أجل خلق تشابهات بين الأزمنة الحديثة التي نعيشها والأزمنة المتقادمة للفلاسفة محل الاشتغال، يجدون فيها رغما عن شروطها التّاريخية والنصية أشباه أعدائهم اللّحظيين، فيفتكون بهم على مستوى التّنظير، ليتم صياغة وتركيب الواقع التّاريخي بصورة مغايرة تماما، تسيء للزمنين كي تنسجم مع طبيعة القراءات التي يذهب إليها جناحٌ كبير من ممثلي الرُّشدية أو بالأحرى المشتغلين بابن رُشْد، حيث يصبح لديهم من السّهولة بمكان وضع صورة مظلمة عن زمن ابن رُشْد في القرن السّادس في الغرب الإسلامي(24)، لأجل إعطاء صورة بطولية للفيلسوف باعتباره اللّحظة المضيئة الوحيدة في وسط متشرذم وموبوء، وتصويره باعتباره السّد المنيع أمام موجة الجهل الزّاحف، في وسط لا يحترم حرية الفكر ولا يُقدّر أنواره، ومن ثمة إمكانية إلصاق تهمة إفشال دور الفلسفة لا للفيلسوف ولاستراتيجيات عمله، بل لأعدائه المتكثرين أعداء الاجتهاد والذين لن يكونوا غير الفقهاء.
البقاء رهن شروط الإعجاب الغربي لن يسعفنا بالتّأكيد في معالجة الكثير من النّماذج الكبيرة في الحضارة العربية الإسلامية، سنقوم بتفقير غناها وتشويه حقيقتها، وسيقودنا التّعامل المحبط هذا معها إلى الحذف التّعسفي لحقائق منيرة قوية وعميقة تهم حالتنا الثقافية في فترات يمكن عدّها بالذهبية، وسنظل نبحث عن فرص تاريخية أو غير تاريخية بالمرة لإسقاط فكرة إخراجية تكون فيها الرّغبة في الاستثارة وخلق تاريخ آخر هي المحدد، فكما في الفكر كما في السّينما العربية نظرتنا المؤسسة لأي عمل تحددها مسبقا الرّغبة المبيّتة في إيجاد تشابهات في حضارتنا مع ما يشابهها في حضارة الآخر لنسقطه على نموذج آخر من الثقافة الغربية، فيترسخ لدينا ذاك الهم القديم أمام النّموذج المعيار، فــلا نجد للقدامى وتراثهم لذة إلا حينما نقرأ حي بن يقظان ليشرد ذهننا جهة روبنسون كروزو كما يقول عبد الفتاح كيليطو، ولا نقرأ المتنبي دون أن يخطر ببالنا نيتشه وإرادة القوة، ولا نقارب الشّابي إلا من خلال تجربة هولدرلين الشّعرية والحياتية القصيرة أو تجربة نوفاليس، ونتمحل في الحصول على شواهد تجعل رسالة الغفران لأبي العلاء والكوميديا الإلهية لدانتي عملًا واحدًا، لنستدر عطف الغربي على جلّ أعمالنا ويهبنا بالتالي تقييما يليق بنا وبها، نمجد من خلاله أرواحنا التي لم نجد فيما بيننا من يقدرها، وننتزع منه -أي الغربي بطبيعة الحال- شهادة نضمن بها حقيقة نفتقدها أصلًا، ومن ثم البحث في عموميات لن تزيد من قيمة نصوصنا وشخوصنا التّراثية بقدر ما ستزيد من انحطاطنا أمام نصوص الآخر، وستجعل من أفلامنا عن دراما تاريخنا موضوعات غريبة من حيث المقاربات السّينمائية التي تغدر بالتّاريخ وتمسخه، فلا يهمنا التّجاوز بقدر ما تهمنا المحاكاة، ولا يهمنا إبداعنا بقدر ما تهمنا جوائز المهرجانات، وتترسخ عميقا في لا شعورنا كما هي مترسخة في شعورنا الأفكار المحبِطة والمحبَطة، فتتسع الفجوة بيننا وبين الإبداع والحقيقة، ونحن نلهو في اختلاق دراما تاريخية غريبة قد تكون مسخَا يستغبي المشاهد العربي الذي يعاني من أمية قرائية قبل الأمية التّاريخية المتجذرة في كفاءته الثقافية، لنكرر تمامًا أخطاء المفكرين العرب ممن يسلتذ قراءة اللزوميات المعرية على ضوء فلسفة شوبنهاور، ويتوسل شرعية للغزالي ومنقذه من خلال تشابهات نزقة يرتّق بعضها ببعض ليصير أبو حامد ديكارتيا قبل ديكارت، ولتصير المقالة في الطريقة منقذًا تاليا على المنقذ من الضلال، وهكذا يُطوع الجرجاني ليشابه رغم أنفه دو سوسير، والويل والثّبور والنّار والشّنار للمؤلفين العرب الذين لا يُلفي لهم مشابها في ضفة الآخر الأخرى.
خاتمة
وأخيرًا نخلص إلى أنه بالتّأكيد ستنضاف أخطاء الفيلم الإخراجية إلى مجموع الأخطاء الأيديولوجية التي انزاحت بابن رشد وفلسفته عن حقيقتهما والتي جعلت من اسم ابن رُشْد -رغم كل التّحقيقات والدروس عنه- محاصرًا في الاستهلاك القديم ضمن صراع الأيديولوجيات والتي هي أضل أنواع الضَّلال(25) والذي تولى إدخاله في نفقها الذي لم يُنتشل منه بعد فرح أنطون الذي رغب منه دعم أراء عن العِلْمانية السّياسية والمجتمع المدني والعقلانية والتعايش العِلْماني بين الدين والعقل، ولأجل إيجاد سند تاريخي لما سماه “النّبت الجديد” الذي أهداه كتابه إبن رُشْد وفلسفته، وذلك في غمرة وخِضم خصامه المحتدم مع محمّد عبده وتلميذه رشيد رضا.
الهوامش
-1 Friedrich Schlegel’s, Lucinde and the Fragments, translated with an introduction by FIRCHOW PETER, 1971, NED – New edition, University of Minnesota Press, p.194 .
-2 يقول ابن عبد الملك: “أخبر عنه ـ عن ابن رشد ـ أبو الحسن ابن قطر أنه قال: “أعظم ما طرأ فى النّكبة أنى دخلت وولدي عبد الله مسجدًا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه.” (الذّيل والتّكملة لكتابي الموصول والصّلة، تحقيق إحسان عباس، دار الثّقافة، بيروت، ط 1، ج 6، 1973، ص 23.
-3 يقول ابن سعيد متحدثًا عن والده الذي كان أحد تلاميذ ابن رشد الكُثر والذي لم يذكره الفيلم: “ولم أره يوما يخلى مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك، ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب، فقلت له: “يا سيدي أفي هذا اليوم لا تستريح.”، فنظر إليّ كالمغضب وقال: “أظنك لا تفلح أبدًا أترى الرّاحة في غير هذا؟ والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب “المغرب” على غرضي.”، قال: “فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشّأن ولولا ذلك ما بلغ هذا التّأليف إلى ما تراه، وكان أولع النّاس بالتجول في البلدان ومشاهدة الفضلاء واستفادة ما يرى وما يسمع وفي تولعه بالتّقييد والمطالعة للكتب.”.
-4 انظر محمد ابن الأبار، التّكملة لكتاب الصلة، نشره وصححه: عزت العطار الحسيني، (القاهرة: دار السعادة، 1956)، ج 2، ص 553.
-5 عن عسر الهضم هذا يقول أبو الوليد: “كما عرض لي ذلك وأنا فتى، فأكسب معدتي سوء مزاج لست بعد أقدر على دفعه، وذلك أيضا مع سوء المعالجة لي في ذلك الوقت، فإني ما كنت حينئذ حذقت شيئا من أعمال الطب.” (ابن رُشْد، الكليات في الطب، تحقيق وتعليق سعيد شيبان، عمار الطالبي؛ مراجعة أبو شادي الرّوبي؛ تصدير إبراهيم بيومي مدكور، ص 180.) المعدة وآلامها اللعينة هاته هي التّي كانت سبب وفاة ابن رُشْد ونهايته بحسب أحد الرّوايات الملفقة (رينان، ابن رُشْد والرُّشدية، ص 61.)
-6 ابن رُشْد، الضروري في السّياسة، مختصر كتاب السّياسة لأفلاطون، نقله إلى العربية: أحمد شحلان، مع مدخل ومقدمة تحليلية لمحمد عابد الجَابرِي، منشورات دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط.1، 1997م، ص 98.
-7 ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء عن طبقات الأطباء، بيروت، 1965، ص 530.
-8 أبو الوليد ابن رُشْد، تلخيص كتاب المزاج، ضمن رسائل ابن رشد الطبية، تحقيق جورج شحاته قنواتي، سعيد زايد؛ تصدير إبراهيم مدكور، القاهرة، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص 94.
-9 انظر محمد ابن الأبّار، التّكملة لكتاب الصلة، نشره وصححه: عزت العطار الحسيني (القاهرة: دار السعادة، 1956)، ج 2، ص 553.
-10 الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نادر، دار المشرق، بيروت، 1973، ص 132.
-11 المصادر التّاريخية لا تذكر لنا قطعا سفر ابن الخليفة إلى مصر، إذ أن حياته لم تتجاوز مراكش حيث ولد، وسكنه بفاس لمدة طويلة، حيث بنى قصبتها وأسوارها التّي خربها جده، مع خروجه في حركات تأديبية لبعض القبائل في المغرب خاصة جبال غمارة، ووصوله جزائر بني مزغنة، وتوجهه لميروقة ثم عبوره للأندلس. (أحمد بن القاضي المكناسي، جذوة المقتبس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس، دار المنصور، الرّباط، 1973، ص 206.).
-12 ابن رُشْد، الضروري في السّياسة، م م، ص 97.
-13 المرجع نفسه، ص 97.
-14 ابن رُشْد الجد، المقدمات والممهدات، تحقيق، محمّد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 1، 1988، ص 45..
-15 نقلا عن عبد الواحد المراكشي، المعجب في أخبار المغرب، دار الكتاب، 1978، ص ص 400، 401.
-16 إبراهيم بورشاشن، الفقه والفَلْسفَة في الخطاب الرّشْدي، بيروت : دار المدار الإسلامي، 2010، ص 99.
-17 المصدر نفسه، ج.2، ص 212.
-18 المرجع نفسه، ج.2، ص 212..
-19 مقالة اللام من تفسير ما بعد الطبيعة، تح. موريس بويج دار المشرق بيروت الطبعة الثالثة 1990، ص 1663-1664.
-20 الجابري، محمد عابد (1936-2010)، ابن رشد، سيرة وفكر : دراسة ونصوص، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998.1995، ص 55.
-21 المرجع نفسه، ص 58.
-22 ابن الأثير، الكامل، دار صادر، ج.11، ص 505.
-23 ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، ج7، ترجمة رقم: 829.
-24 محمد ألوزاد، في الرّشدية العربية المعاصرة: مقاربات “الكشف عن مناهج الأدلة” نموذجا، مدارات فلسفية، الرّباط: الجمعية الفلسفية المغربية, 1998، ص 82.
-25 انظر ناصف نصار، باب الحرية، دار الطليعة، بيروت، ط.1، 2003، ص ص 29.28.