إبراهيم السّعافين
يتساءل بعض النقّاد والدارسين: هل هناك نظريّة نقديّة عربيّة؟ وما جذورها؟ وإذا كان لها جذور موغلة في التّراث، هل هذه الجذور عربيّة صرفة، أو أنّها تفاعلت مع الفكر النقديّ لدى حضارات أخرى مثل حضارتي الإغريق والرّومان؟
ومن الطبيعي ألاّ تكون العلاقات الثقافيّة بين الأمم والحضارات محض محاكاة وتقليد، لأنّ الحضارات تهضم وتسيغ ما تقبله من الآخر من زاوية امتلاك الشخصيّة والصّوت والملامح المميّزة، ولا تقف عند التقليد والاستنساخ، لأنّ التقليد والاستنساخ ليسا من صفات الحضارات والأمم الحيّة. وإذا كان ذلك كذلك فما الإضافات التي شكّلت إسهامًا نوعيًّا في النظريّة النقديّة العالميّة.
ونحن إذ نفحص وجود نظريّة نقديّة عربيّة من النّاحيتين الإجرائيّة والمنهجيّة، نتساءل من زاوية منهجيّة بحتة فيما إذا كانت ثمّة نظريّة نقديّة لدى جنس أو قوميّة، أو أنّ النظرية النقديّة الأدبيّة كيان تشارك فيه كلّ الحضارات والأمم والأعراق؟
ويستتبع هذه التّساؤلات سؤال مهمّ: هل قراءة النّصوص الأدبيّة العربيّة لها خصوصيّة تميّزها لدى النقّاد العرب؟ وهل يعني هذا، بالضّرورة، أنّ النقّاد والدّارسين العرب أقدر على فهم النّصوص واستبطانها والغوص في دلالاتها وتجلياتها من غيرهم من النقّاد والدّارسين الآخرين؟ أو أنّ اللغة، أيّة لغة، قد يمتلكها ويسيطر عليها من يمتلك أدواتها وشروط فهمها وطبيعة أبنيتها ومعجمها ودلالاتها في تشكيل نصوصها المختلفة مهما تتباين سياقاتها اللغويّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة.
فما الإسهام الحقيقي للنّقد العربي؟ إنّ الذي يتأمّل حركة النقد الأدبي في العصر الحديث قد يرى أنّ إسهامها الحقيقي لا يتمثّل، بالضّرورة، في إضافة جوهريّة للنظريّة النقديّة؛ لا في المذهب الذي له بعدٌ تاريخي قد يتجلّى في البيئة الأدبيّة، ولا في المنهج الخاص، ولكن في البعد التطبيقي، أي في منهج قراءة النصّ وأسلوب تناوله.
وعلينا قبل الشّروع في الحديث عن نظريّة نقديّة عربيّة أن نلجأ إلى تعريف النظريّة النّقدية من حيث المبدأ. لقد ارتبطت النظرية النقديّة الأدبيّة بالتاريخ من من حيث التركيز على الأسلوب أو بمعنى أدقّ الأسلوب التّكويتي المتمثّل في المدرسة الأدبيّة مثل الرّومانس والرومانسيّة والواقعيّة ومدارس الحداثة مثل الرمزية والسريالية والتعبيرية وحركات التجريب ونحو ذلك.
ولعلّ من يقاربون موضوع النظرية النقدية العربية يقعون في مغالطةٍ منهجيّة؛ طرفها الأوّل: تصوّر أنّ النظرية النقدية مقصورة على تاريخ النقد الأدبي منذ القرن الأوّل الهجري إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وطرفها الثاني: تصوّر أنّ النظريّة النقديّة الحديثة هي نظريّة نقدية غربية أوروبيّة أمريكيّة ذات أصولٍ إغريقية رومانيّة، وأنّ على الذي يتحدث عن نظريّة نقديّة أدبيّة لا يخرج على الحديث عن تطوّر قضايا النقد الغربي ومصطلحاته ومناهجه، وليس ثمّة قضايا ومناهج ومصطلحات تخرج على ما تفاعل من عناصر مختلفة في هذا السّياق.
إنّ هذه المقاربة المنهجيّة تعزل النقد النّظري عن الجانب التطبيقي المتمثل في حركة النصوص وسياقاتها الفنيّة والنفسيّة والاجتماعية، فالجانب الأسلوبيّ مهمٌّ في النظر إلى تطور الاتجاهات والمدارس الفارقة، وليس من المنطقي أن نغفل حركة النصوص أو الجانب التطبيقي ومعاينة النقاد للنصوص التطبيقية في حركة تفاعلٍ دائمٍ بين النظر والتطبيق.
ونحن إذا تأمّلنا واقع النّظريّة النقديّة العالمية نجدها نتاج إسهام شاملٍ للفكر النقديّ من كلّ الأمم والحضارات؛ فالفكر النقديّ منذُ اليونان من نظرية المحاكاة لدى أفلاطون وردود فعل تلميذه أرسطو وهو يتفاعل على نحو دراماتيكي ومؤثر، حتّى إنّ بعض النقاد رأوا أنّ الفكر النقديّ الأوروبيّ ما هو إلّا استجابة للنقد الأرسطي وشروح عليه.
والذي يتابع أثر كتاب فن الشّعر لأرسطو في النقد العربي القديم يلحظ أن كثيرًا من القضايا النقدية مثل المحاكاة وبناء القصيدة والوحدات الثلاث قد ظهرت آثارها في النقد العربي القديم، ولعلّ التّرجمات على فجاجتها وركاكتها وغموضها تُوضح مدى هذا الأثر بغضّ النظر عن التفاوت بين النقاد والفلاسفة في فهم هذا النصّ.
ولم يتوقّف دور النقد العربي عند التأثر والتّأثير؛ بل كان للنقاد العرب دور في التصدّي للقضايا النقديّة كما تجلّى لدى القاضي الجرجاني في قضية العلاقة بين الفنّ والأخلاق أو العلاقة بين الدين والشعر أو كما تجلّى في نظرية النظم أو العلاقة بين المبنى والمعنى لدى الإمام عبد القاهر الجرجاني أو في قضية المحاكاة والتخييل لدى حازم القرطاجني.
والذي يتأمّل العلاقة بين الفكر النقدي والإبداع يلحظ التفاعل بينهما، فالمرجع الأساسيّ لفعل التطبيق هو النظر النقدي الذي استقرّ في الوعي النقدي بوصفه نظريّة توجه القراءة والتطبيق على نحو ما نرى في قراءة عبد القاهر الجرجاني للنص القرآني لاستخلاص الأفكار النقديّة والبلاغيّة لنظريّة النّظم.
وخلاصة الأمر أنّ ما توصّل إليه النقّاد والبلاغيّون من منجز في قضايا النقد ومصطلحاته لا ينفصل بحالٍ عن النصّ الذي يمثّل سيرورة الأدب بتيّاراته ومذاهبه في عصوره المختلفة.
ولعلّ الأمر يختلف في مطلع النهضة حين اتصل العالم العربي اتّصالاً مباشرًا بالغرب الأوروبي ثمّ الأمريكي؛ إذ أصبح الغرب مرجعًا ليس في الإبداع وحسب، ولكن في الأسس النقديّة التي يتعامل بها النقّاد والدّارسون في قراءة النّصوص وتذوّقها وتقويمها. وهذا الموقف أدّى إلى تحوّل مهمٍّ في الذّوق وفي المنهج، وجعل المثقفين يتفاوتون في نظرهم إلى التّراث وإلى الثقافة الغربيّة، وجعل ثمّة تباينًا أدى إلى وجود ثلاثة تيّارات هي: تيّار محافظ، وتيّار تغريبي وتيّار بين بين يسعى للتّوفيق بين ما يمكن أن نسميه التيار الوسط الذي يُفيد من القديم ويستثمر ما لدى الآخر من تجديد في القضايا النقديّة والثّقافية.
على أنّ الدّارسين والنقّاد ظلّوا، حتى في تيّار التغريب، أكثر قربًا إلى النّصوص يستوعبونها ويستنطقونها ويشرحونها ويقوّمونها دون تعسّف وإسراف. ولعلّ طبيعة المنتج الأدبي في ذلك الوقت لم تكن قد أوغلت في حركات التجريب التي ظهرت إبّان نشأة حركات الحداثة التي ظهرت في الغرب أواخر القرن التّاسع عشر، وفرضت اتجاهات أسلوبيّة جديدة.
ولقد استطاع الدارسون والنقّاد أن يتكيّفوا مع المنجز النقدي التّراثي والمنجز النّقدي الغربي، وراحوا يدرسون النقد الغربي وهم يضعون في الاعتبار ما وصل إليه النقد العربي من منظومة شاملة سمّاها إحسان عبّاس على سبيل المثال (كيانًا نقديًّا) سمح بعض الدارسين لأنفسهم أن يُسمّيها نظريّة نقديّة.
ولو تأمّلنا حركات الأدب العربي ومدارسه وتحوّلاتها لوجدنا أنّها كانت تنطلق من واقع النصّ الأدبي العربي على نحو ما رأينا في حركات الإحياء والتيار الوجداني والتيّار الواقعي في الشّعر، والتيّار المتأثّر بالوجدان الشعبي أو تيّار الرّومانس والتيّار الرومانتيكي والواقعي ثمّ التجريبي. فالدارسون والنقّاد كانوا على صلةِ ألفةٍ ومعرفة بطبيعة النّصوص، على عكس ما حدث في المراحل المتأخّرة في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي حين هبّت على العالم العربي موجات جديدة ولاسيما مرحلة البنيوية وما بعد البنيويّة حين تعرّضت الدّراساتُ لموجة الدراسات الألسنيّة الوصفيّة التي ابتعدت عن التقويم، بعيدًا عن الفهم الحقيقيّ لهذه الاتجاهات النقدية واستعاض النقد بالقوالب والمصطلحات الفارغة عن القراءة الحقيقيّة للنصّ.
والأمر الأشدّ خطرًا وقع في نقد النّثر، لأنّ رصيد النقد العربي من نقد النثر أقلّ بكثير، فقد أصدر النقّاد والدّارسون أحكامًا متسرّعة على النثر العربي حين تصوّروا أنّ ما ظهر من فنونٍ جديدة مثل القصة والرواية والمسرحيّة هي فنون جديدة استنبتت في التّربة العربيّة، وكأنّ التّراث العربي خِلوٌ من هذه الفنون مع أنّ كتب الأدب ملأى بأشكال السّرد المختلفة التي أثرت تأثرًا عميقًا واسعًا في الآداب العالميّة، واستلهمتها نصوص الأدب القصصي والروائي والمسرحي والتقطت منها أفكارًا إنسانيّة خالدة. والذي يتأمّل ظهور الرّواية العربيّة الحديثة يلحظ أنّها اختزلت في نصف قرن تطوّر الرّواية العالمية فيما يزيد على قرنين من الزّمان، ليس على سبيل المحاكاة بل لارتباط الرواية بالمجتمع والواقع.
إنّ النظريّة النقديّة هي حصيلة جهود متراكمة في معاينة النصّ الأدبي، ولا يجوز أن نغفل الأفكار الجزئية والمعزولة التي تثير أسئلة، أو تستدعي إجابات، ثم تظلّ حاضرة في أذهان النقّاد والقراء لزمن طويل.
ولعلّ موقف الجاحظ من الشّعوبيّة جعله يلتفت إلى ظاهرةٍ معيّنة تتّصل بالعرق والبيئة قبل قرون متطاولة من نظرية هيبوليت تين أحد أعمدة النّقد الاجتماعي، حين رأى أنّ الشعر تراثٌ عربيٌّ خالص على نحو ما لاحظ إحسان عبّاس بقوله:
” ليس هناك ما يُشبهه لدى الأمم الأخرى إلاّ شبهًا عارضًا، ومن هنا كان إيمان الجاحظ بالصّلة بين الشّعر والعرق، ثمّ بين الشعر والغريزة، ومن هنا كان الاتّجاه نحو القول بالإعجاز في النّظم، لكي يتميّز القرآن عن كتب الحكمة الفارسيّة وأشباهها، وكذلك كان تمسّك هؤلاء بالمصطلح البدوي في النّقد، ثم تمسّكهم بالطريقة التقليدية في بناء القصيدة إلى حدٍّ ما- لأنّ في كل ذلك دفاعًا عن الموروث العربي ضدّ الشّعوبية”.
وقد أشرت في كتابي “إحسان عبّاس ناقد بلا ضفاف” إلى أنّ إحسان عبّاس أولى ملاحظات الجاحظ اهتمامًا خاصًّا على ضوء الأفكار النقديّة الغربيّة جعلته يأسف على أنّها لم تُطوّر على أيدي من خلفه من النّقّاد مثل اعتماد الشعر في الجماعات على ثلاثة عناصر:الغريزة والبيئة والعرق، إذ يرى أنّ آراء الجاحظ النقديّة فيها:
” أصول نظريات لم يمنحها ما تستحق من شرح وتفسير وتأويل، وظلّت مغلقة على الذين جاؤوا بعده، فلم يتقدّموا بها شوطًا، أو تناولوا بعضها وانتزعوه من ملابساته الواقعيّة فأخطأوا تأويله والانتفاع به.”
ومن القضايا المهمّة التي وقف عندها إحسان عبّاس في فكر الجاحظ النّقدي ما يتّصل بقضيّة السّرقات، فقد التفت إلى أنّ الجاحظ لم يُعرها كبير اهتمام لأنّه لا يراها القضيّة الأساسيّة في الإبداع، ولأنّه يرى أنّ الشّكل هو الجوهر والمناط.
فنحن حين نقف عند قضيّة مهمّة هي قضيّة اللفظ والمعنويات، يمكن أن نختزلها في إنجاز عبد القاهر الجرجاني العظيم المتمثل في نظريّة النّظم التي حلّت مشكلة كبرى في النقد العربي هي ثنائية اللفظ والمعنى التي شغلت النقّاد زمنًا، وجعلت بعض النقاد الكبار مثل الجاحظ يُعبّرون عن هذه الثنائية بعيدًا عن اقتناعهم الحقيقي في رؤيتهم للنص الشعري على نحو ما نرى في قوله الذي يوحي في ظاهره بتحيّزه للفظ على حساب المعنى، وقد يفهم من كلامه إذا وقفنا على السّطح ولم نفهم حقيقة مراده أنّه يُهوّن من المعنى، ويعتدّه مشاعًا بين الأدباء وربّما بين النّاس، حين يقول: “والمعاني مطروحة في الطّريق، يعرفها العربيّ والعجميّ، والبدويّ والقرويّ، وإنّما الشّأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللّغة”
ومهما يكن تأويل كلام الجاحظ بعيدًا عن فهم الثنائية، والانتصار للفظ أو الصّياغة على حساب المعنى، فإنّ بلوغنا نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني يضعنا أمام موقف ناضج ونظرية متكاملة تُلغي اللبس حول ثنائية اللغط والمعنى ولا تراهما إلّا في لحمة ووحدة لا تنفصم.
وهي، على هذا النّحو، نهاية نقاش لم ينقطع منذ قرون حول هذه الثّنائية . على أنّ ما وصل إليه عبد القاهر من فكر نقدي أصيل ذو صلة وثيقة بالنقاش و والأفكار المختلفة لدى أسلافه السّابقين.
وليس بوسعنا أن ننسى جهود حازم القرطاجني في كتابه “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” وما لاحظه النقاد فيما يتصل بدراسات الدارسين والنقّاد حول ما له علاقة بالمحاكاة والتخييل والتلقي والأسلوب والغموض وقضايا أخرى. أو جهود القاضي الجرجاني في علاقة الأدب بالأخلاق وقولته المشهور الموضوعية حول الفن والأخلاق مستشهدًا بشاعرية أبي نواس التي لم تغضّ من قيمتها وتفوقها ما أُثر في شعره مما لا يقرّه الفقهاء وعلماء الدّين “ولو كانت الديانة عارًا على الشعر وكان سوء الاعتقاد سببًا لتأخر الشاعر لوجب أن يُمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدّتْ الطّبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ولكنّ الأمريْن متباينان، والدّين بمعزل عن الشّعر”.
ولعلّ إضافات ابن خلدون تُشير إلى أنّ النقد التطبيقي هو الذي يطوّر المقولات النقديّة ويقيم أركان الكيان، فقد وقف ابن خلدون ضدّ البديع والمحسّنات اللفظيّة كونها أمارة من أمارات الصّنعة والتكلّف، أو الموقف من جعل الشعر ميدانًا للمبالغة في رصف الأفكار ومراكمتها ما يؤدّي إلى التّعقيد، وكيف ناقش أثر الحفظ في تكوين الملكة الشّعريّة، فكثرة الحفظ تؤدّي أن يكون أمام المبدع نماذج فنيّة كثيرة، فهو يرى كما يقول إحسان عبّاس أنّه “كلّما كثر المحفوظ تعدّدت النّماذج وأصبح النّسج على منوالها أيسر”، ولعلّ من أهمّ ما أشار إليه ابن خلدون هو إبطال الموهبة التي كانت فكرتها أساسيّة في حركة النقد العربي والعالمي منذ قضيّة الإلهام لدى أفلاطون إلى الرومانتيكيين في العصور الحديثة، وذهب إلى أنّ الملكة اكتسابٌ خالص.
ولعل جهد إحسان عبّاس التّأصيلي في كتابه الجامع “تاريخ النقد الأدبي عند العرب” يكشف عن منظومة نقديّة تتكامل عبر القرون وتكشف عن ملاحظات نقديّة مهمّة في التّنظير والتّطبيق، جعلته يُسمّي هذه الجهود المتتابعة منذ البدايات الانطباعيّة الأولى مرورًا بالنقاد المنهجيين والفلاسفة حتّى ابن خلدون بالكيان النقدي، ومصطلح الكيان يشير إلى جهود تَتَابع وتَتَكامل لتؤسّس هذا الكيان الشّامخ الذي يظلً بعيدًا عن مرمى ” النّظريّة النّقديّة”. على أنّه وهو يُتابع العناصر والقضايا النقديّة القديمة يُلاحظ الملامح والمشابهات بينها وبين النقد اليوناني والنقد الغربي الحديث، في تأكيد الجوامع في التفكير النقدي والفلسفي مهما تناءى الزّمن أو اختلفت البيئات الثقافيّة.
ويتضّح من بعض الإلماعات النقديّة التي أشرنا إليها أنّ الأفكار النّقديّة تنجم في الأغلب الأعم من معاينة النّصوص ومعايشتها، فكتاب فن الشّعر وكتاب فن الخطابة من الإنجازات التي بنيت على قراءة النّصوص واستنباط ما فيها من قضايا وعناصر وموضوعات. وهذه المعاينة هي التي قدّمت لنا كثيرًا من القضايا والعناصر والأفكار التي هيّأت لبروز مفاصل مهمة في هذا الكيان النّقدي الذي لامس كثيرًا من القضايا النقديّة الحديثة. ومعظم هذه الأفكار نبتت من خلال الدراسات التطبيقيّة أكثر ممّا نجم لدى المنظّرين خارج معاينة النّصوص. وقد لاحظت في كتابي “أصول المقامات” أنّ صاحب (حكاية أبي القاسم البغدادي) لأبي المطهر الأزدي وبعضهم ينسبها لأبي حيّان التّوحيدي قد أشار إلى ما يفهم منه وحدة الزّمان الأرسطيّة، على الرّغم من زعم كثير من الباحثين والمترجمين أن كتاب الشعر لأرسطو لم يُفهم حقّ الفهم في سياق الثقافة أو الحضارة العربيّة والإسلاميّة.
هذا الجهد النقدي العربي ليس منفصلاً عن حركة النقد العالمي، بل هو جزء لا يتجزّأ من حركة النقد العالمي على مرّ العصور. وهذه الملاحظة تؤدّي بالضّرورة إلى أن نسلّم بأنّ حركة النّقد العالمي حركة شاملة نساهم فيها من جانبين: النقد التطبيقي الذي يتعامل مع نصوص ٍ تنشأ في بيئة معيّنة وفي سياق اجتماعي وثقافي وحضاريّ معيّن، وبلغة معيّنة لها عبقريّتها الخاصّة ولها تركيبها ونحوهها وصرفها وصوتها ومعجمها وتاريخها، ومن الطبيعي أن يكون النقد التطبيقي ذو إضافات جوهريّة، والجانب النّظري الذي ساهم فيه النقد العربي والنقّاد العرب الذين شاركوا بقوّة في حركة النقد العالمي مثل إدوارد سعيد الذي عرف في مجال الأدب المقارن ودراسات ما بعد الاستعمار والنقد الثقافي حيث نال كتاباه الاستشراق والثقافة والإمبريالية شهرة واسعة، لدرجة حتّى إنّه قلّما يخلو كتاب نقديّ غربي معاصر من فصلٍ حول إنجازاته، ولا ننسى الناقد البارز إيهاب حسن الذي عرف بإنجازاته المهمّة في نقد ما بعد الحداثة، وغيرهما.
وإذا كان النّقد العربي قد تأثّر منذ نهاية القرن التاسع عشر بالنّظريّة النقديّة العالميّة فإنّ نقّاد الأدب ودارسيه حاولوا أن يجدوا الصّلة بين الأفكار والعناصر النقديّة في النظريّة النقديّة العالميّة ومثيلاتها في النّقد العربي القديم على نحو ما أشرنا إلى بعض الأمثال، كأن يدرس ظاهرة معيّنة مثل بناء القصيدة أو التناص أو الخيال أو المحاكاة أو نحو ذلك على ضوء النقد القديم، وكثير من الدارسين من التفتوا إلى ظهور المدارس الأدبيّة مثل الكلاسيكيّة والرومانسيّة والوافعيّة والرّمزيّة في أدبنا العربي القديم.
وقد رأينا بعض النقّاد التّأصيليين ممّن يتحلّى بسعة الاطّلاع والعمق والاستقلال والشّجاعة مثل الدكتور شكري عيّاد إذ قدّم لنا إضافة على مناهج النقد الأسلوبي في كتابه “مناهج النّقد الأسلوبي” حين ترجم لنا عددًا من مناهج النقد الأسلوبي، وقدّم لنا إضافة عميقة في دراسته للبلاغة العربيّة بوصفها منهجًا آخر من مناهج البحث الأسلوبي.
ولعلّ من يتأمّل التحوّلات في جهود النقّاد العرب في أوائل القرن العشرين إلى سبعينياته يُلاحظ أنّ تأثّر النّقد الغربي كان متوازنًا ينطلق من معاينة هادئة للنّصوص؛ بمعنى أنّ النصّ، في الغالب، هو الذي يختار الطّريقة أو المنهج. وهذا لا يعني أنّ الأدب العربي في اتّجاهاته ومدارسه لم يكن متأثّرًا بالآداب العالميّة، وأنّ النقّاد لم يفيدوا في نقدهم من خصائص المدارس الأدبيّة أو عناصر المناهج النّقديّة، ولكن هذا يعني أن الطرائق والمناهج لم تكن تُفرض فرضًا على النّصوص، ولكن تستدعيها النّصوص دون إقحامٍ أو قسرٍ يؤدّي إلى ليّ أعناق النّصوص، ولعلّ تلك المرحلة من تاريخ حركة النّقد العربي شهدت علاقة قويّة بين الفكر والفلسفة ومعاينة الأدب، ولعلّ المعارك الفكريّة التي شهدتها هذه المرحلة شاهدٌ على ما أقول، فالجدل النقدي المهمّ بين أنصار النقد الجديد وممثّلي التيّار الاشتراكي يُلمح إلى شخصيّات نقديّة لها رؤيتها لدور الأدب والفكر في الحياة والواقع. على عكس ما لاحظناه في أواخر السّبعينيات إلى مراحل مختلفة من تحوّلات الفعل النّقدي، ولا سيّما بعد أن شهدنا دخول الألسنيّة في الممارسات النّقدية. فالمتابع لمنجزات البنيويّة على سبيل المثال في النّقد التطبيقي يُلاحظ خللاً كبيرًا في التّطبيق، وليس العيب هنا، بالضرورة، في الطّريقة أو المنهج، ولكن بكلّ تأكيد في التّطبيق، فقد يتساوى أحيانًا في يد النّاقد المتسرّع أو غير الموهوب نصّان متباينا القيمة من خلال استعمال مصطلحات سطحيّة لا تنفذ إلى أعماق العمل وكشف قيمته الحقيقيّة. وليس العيب، هنا، في البنيويّة، وإنّما في مستخدمها الذي لم يُحسن الاستخدام، والبنيوية، كما يقول النّاقد روبرت شولز في كتابه “البنيوية في الأدب”: إنّ البنيويّة لا تستطيع أن تقرأ لنا قصيدة واحدة، وواضح من هذه العبارة أنّ المعوّل عليه هو النّاقد وليس الطّريقة أو المنهج لأنّه القادر على التذوّق والاستكشاف.
وإذا كانت المناهج والمقاربات مرتبطة بالثقافة والحضارة والقيم العامّة فإنّ بعض النقّاد لا يربطون ، بالضّرورة، بين الأفكار الفلسفيّة التي تقوم عليها المقاربات والمناهج وبين تطبيقها على النّصوص المختلفة، حتّى لو كانت هذه الأفكار الفلسفيّة تتعارض مبدئيًّا مع قناعات النّاقد نفسه. ولعلّ نظريّة التفكيك ليست ببعيدة عن هذا التصوّر. فهل بوسعنا أن نمدّ بصرنا إلى منظّر التفكيك الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي ولد في الجزائر وعاش في فرنسا في القارّة الأوروبيّة حيث تتجلّى المركزيّة الأوروبيّة والموقف من السّاميّة والأعراق الأخرى، ونرى أنّ فكرة تفكيك هذه الأفكار عمل مهمّ في هذا الصّدد. فكيف لنا أن نتصوّر بأنه لا يوجد معنى قارٌّ في النصّ، ونؤمن بأن لا دلالة ثابتة، فلا معنى متحقّق بل دلالة، والدلالة نفسها تطفو وتتزحلق، وإذا أمسكت بها، على سبيل الاستعارة، فأنت على موعد مع الموت، ما يعني استحالة الوقوف على معنى، أو الإمساك بدلالة ما.
ومن هذا المنطلق تبقى النّصوص جميعًا خاضعة للتفكيك ومرهونة للتلقّي المشروط بلحظة التلقّي وفهم المتلقّي فيما يُشبه لعبة مسلّية، ولنا أن نتخيّل أنّنا أمام نصوصٍ تحمل قدسيّة أو معنىً قطعيًا مثل القرآن الكريم، فهل نحكّم هذا الفيلسوف التفكيكي في قراءاتنا ومفاهيمنا ومرجعيّاتنا الثقافيّة دون نقاشٍ أو مساءلة كعادة معظم أتباع الحركة النقديّة في هذا الزّمان، وهل لنا أن نكون أتباعًا لكلّ ما يفد إلينا من أفكار نقديّة أو فلسفيّة نجمت في تربة مختلفة حتّى دون مساءلة؟
ولعلّ المثال السّابق يدعونا إلى تأمّل الحركات النقديّة والفكر النّقدي الغربي؛ فنظرة سريعة إلى المناهج النقدية تجعلنا ندرك أن المناهج والأفكار متجادلة متناسلة، فكل منهج يحاور سابقه ويجادله، وليس بالضرورة يلغيه تمامًا، فالجدل والحوار يعني الاغتناء بما ترفض أو تقبل. وهذا يعني أنّ هذه المناهج ولدت في بيئة ثقافيّة معيّنة هيّأت للأفكار المختلفة فرصة المساءلة والمجادلة والحوار، بعيدًا عن الانقطاع، فالأفكار المختلفة تنمو في سياق معيّن وفي بيئة ثقافيّة خاصّة. ومن المتوقّع أن يكون من يتبنّاها على تماسٍّ فكريٍّ أو فلسفيٍّ معها، وألاّ يهجم عليها هجوم المستهلك على غير بصيرة. والذي يدعو إلى القلق أنّ كثيرًا من نقّادنا وخاصّةً الشّداة منهم يتلقّف المناهج والأفكار والقضايا النقديّة دون مساءلة ودون وعيٍ للأصول الفكريّة والفلسفيّة التي قامت عليها هذه المناهج والأفكار والقضايا.
ولا يُفهم من هذا الكلام الانقطاع عمّا يجري من حراكٍ نقديٍّ حولنا، ولكن إدراك ما نأخذ ونتبنّى وإدراك ما ندع، وأن نكون في قلب الحراك الفكري والفلسفي الذي تنبني عليه عناصر الفكر النّقدي ونظريّاته. ولا نفاجأ بأننا خارج السّرب ونكتفي بالمحاكاة والتقليد ولو كان كلّ أولئك يُخالف ثوابتنا وأفكارنا المبدئيّة.
إنّ قراءة النّصوص أو المناهج بمعزل عن الأسس الفكرية والمرجعيّات الفلسفيّة يؤدّي إلى عدم وجود انسجام أو تماسك في عمليّات القراءة أو في تطبيق المنهج؛ فليس من المجدي أن نتبنّى منهجًا من دون تعمّق في منطلقاته الفكريّة والفلسفيّة أو ملاءمته لطبيعة النصّ الأدبي. ولقد لاحظنا في دراساتنا النظريّة أو التطبيقيّة أنّ النقّاد قد يتّخذون مناهج مختلفة تلائم النّصوص المدروسة في كلّ مرّة.
ومهما يكن، فإنّ النظريّة النقديّة نظريّة عالميّة، شركة بين الأقوام والأمم والحضارات لا تنفرد بمنجزها ثقافة دون ثقافة أو حضارة، ولا يستطيع أحدٌ أن يزعم أو يدّعي بأنّها أصلٌ أو مرجعٌ لهذه النّظريّة، فالكلُّ يسهم بالنَظر والتطبيق في فكرة أو قضيّة أو ملاحظةٍ أو رأيٍ أو موقف على مدىً زمنيٍّ متطاول. وتتبقى النظريّة النقديّة غير المكتملة وغير النّاجزة قابلة للتطوّر وعرضة للتحوّلات المستمدّة من تحوّلات الإبداع نفسه في أصقاع الدّنْيا، مثلما تبقى مستجيبة للأفكار والفلسفات والمعارف المختلفة في حيويتها وديناميتها وجدلها وحواراتها.
ومن البيّن الذي لا يحتمل جدلاً أن الكيان النقدي عند العرب منذ زمن مبكّر نشأ من إسهام النقاد العرب ومشاركتهم من جهة، ومن خلال عمليّة التأثّر والتأثير من جهةٍ أخرى، لما للإبداع من خصوصية، ولما للنقّاد من أنظارٍ واجتهادات. ويبقى أمرًا ملحًّا أن ما نبدع من نقد أو ما نتبنى أو نتأثر من مناهج وأفكار وقضايا ومصطلحات مرتبط بفكرنا وثقافتنا وحياتنا وواقعنا وخصوصيّة إبداعنا.