لم يخل الاكتشاف من المفاجأة عندما عثر عليه أستاذ الأدب الألماني يان كنوف (52 سنة) الذي هو أحد الاخصائيين بأدب بريشت وأحد المشرفين على أعماله التي يعاد تحريرها هذه الأيام. ففي خلال عمله الروتيني في أرشيف برتولد بريشت البرليني عثر البروفيسور كنوف على أربع صفحات مكتوبة على الآلة الطابعة تنتظر اكتشافها منذ سنين.
"كل محرري بريشت وناشريه لم يروا القصة، بالرغم من أنها موثقة في فهرست أرشيفه في برلين"، يكتب كنوف. الطريف في الأمر، أن بريشت كان قد بذل أكثر من مرة جهدا غير عادي في تصحيح العمل واعادة كتابته. أنه بالفعل اكتشاف أدبي كبير، لأن القصة التي كتبت في مارس أو ابريل من عام 1942، والتي تترجم هنا الى العربية، تصف لقاء حدث بين بريشت وبين هتلر في مدينة ميونيخ.
كان من المتفق عليه حتى الآن أن بريشت لم يسلط الضوء على الديكتاتور الألماني إلا في عملين أدبيين: في مسرحيته «صعود ارتو رو أوي" وفي قطعته النثرية «حياة وممارسات جياكومو أوي من بادوا». كتب بريشت العملين قبل منفاه الأمريكي.
قبل قراءة هذه القصة المترجمة والتي كتبها بريشت في أمريكا، من الضروري هنا استعراض ومعرفة خلفيات كتابتها لأن إلقاء نظرة بسيطة على الظروف التي أحاطت ببريشت هناك تفتح لنا آفاقا أخرى لفهم نصه هذا. لقد سبق لبريشت أن حاول كتابة قطعة مسرحية في أمريكا (لا نعرف عنها شيئا ذكرها هو فقط في يومياته) اسمها “Gangsterstuck” في الحقيقة كانت تلك محاولة من بريشت للدخول الى مسرح برودواي، على أكثر تقدير،ولكن سلفا عندما وصل بريشت في يوليو من عام 1941 الى أمريكا، شعر بسرعة بعنف الرياح المعاكسة، حتى أن المخرج أرفين بيسكاتور الذي كانت تربطا به صداقة جيدة والذي كان قد استقر قبله في نيويورك وكان له بعض من التأثير هناك أخبره دون تردد: «لقد أعطيت القطعة لأكثر من شخص ليقرأها وكلهم كانوا متفقين،بأنهم لا ينصحون بعرضها». بالنسبة لبريشت الذي كان يأمل في العيش من خلال كتابة المسرح هناك، كان ذلك الجواب صدمة مريرة وقوية. أن هذا الاندحار الذي عاشه في بداية اقامته في أمريكا حمله على النظر الى منفاه الأمريكي بنظرة نقدية لاذعة "العادة تتطلب منا، بأن يبيع المرء كل شيء من هذه الكتف حتى الفكرة" هكذا حاول بريشت في عام 1942 إسقاط ذنب فشله على العلاقات هناك. بعد ذلك بوقت قليل نقرأ له: "أسس اشكال الحياة ليست كريمة هنا".
بريشت الماركسي لم يشأ تصديق أن لا أحد كان في انتظاره في أمريكا، مثلما لم يرد المساهمة بما أسماه «لعبة الروليت مع القصص» (يقصد بذلك سيناريوهات الأفلام التي كان يكتبها في هوليوود معظم زملائه). لم يحتمل أيضا أن يرى نفسه مباشرة بمواجهة «الفاشلين والناجحين»، خاصة وأنه كان يضع نفسه تحت قائمة الأ وائل. كان يشتكي من «عدم كسب المال » هناك. للمرة الأولى لم يشتغل بشكل منتظم منذ عشر سنوات. نتيجة مرة: «لا أتذكر نفسا طريا في كل هذه الأشهر».
تحت هذا الوضع نشأت هذه القصة التي اكتشفت في أرشيفه هذه الأيام، لقد كتبها بريشت أصلا باللغة الانجليزية (عكس دعواته للمنفيين، في أكثر من نص، بعدم تعلم لغة أخرى في المنفى) الى المجلة ريديرز ديغيست Reader Digest كانت تطبع بملايين النسخ، وربط مع ذلك آمالا كبيرة – ليس أخيرا بسبب المكافآت العالية التي كانت تدفع هناك. مع ذلك لم يقرأ الجمهور الأمريكي هذه القصة لأن المجلة رفضت نشرها «الجواب جاء بسرعة»، كتب بريشت بتاريخ 21 أبريل من عام 1942 في دفتر يومياته. هكذا فشل مشروع بريشت في بيع قصص أخرى. ربما كان عزاؤه الوحيد أن ذات المجلة رفضت نشر مادة بعثها لها أيضا أحب أعد ائه في المنفى، توماس مان. بعد تلك الحادثة كف بريشت عن التفكير بإمكانية النشر في أمريكا.
في النهاية يظل السؤال هل أن القصة حقيقية أم هي تنتمي الى خيال بريشت الابداعي؟ هل جلس بريشت بالفعل بهذا القرب من هتلر؟ وقبل أن نشغل أنفسنا بالبحث عن جواب، أعتقد أنه من الأكثر أهمية أن نعرف، بأننا بعد قراءتنا للقصة نكتشف أبعد مما يبيحه النص لنا من إشارات ورسائل عديدة أهمها: أن هذا الممثل الموهوب «هتلر» اكتشف: أن ليس هناك أصلح من الحياة كخشبة يمثل عليها أدوار«. وبهذا المعنى لم يكن «المستبد الألماني» ممثلا موهوبا وحسب إنما كان ينتمي الى أولئك الممثلين الذين يؤدون أدوارهم الدموية بـ«نجاح » وهم بالذات، أولئك الذين لم يجد جمهورا واسعا يصفق لهم ويذهب معهم منشدا الى الحروب التي يقودونها أبدا وليس أولئك الفنانين والمسرحيين مثل بريشت الذين لم تغير نظرياتهم وتطبيقاتهم المسرحية من الـ "جماهير" والـ«بروليتاريا»، لا في المانيا ولا في اي مكان آخر، إنما إن لم تقدهم الى حتفهم فأنها قادتهم الى المنفى.
ممثل موهوب
كنت أجلس مع عدد من الآدباء ورجال المسرح في صحن حديقة مقهى في مدينة ميونيخ. كانت الموائد قد اصطفت في الخارج. كان مارس أو ابريل، ولكن الشمس كانت سلفا حارة. عند الطاولة المجاورة جلس رجل بهيئة تقليدية تقريبا، غائر الجبين بشكل كريه، بلون بشرة مريضة وبجلسة سيئة. كان يتكلم مع بعض الرجال، الذين بدوا كما لو كانوا ضباطا بملابس مدنية. كان محرضا متعصبا، ألقى للتو خطابا ضد اليهود أمام تجمع جماهيري كبير في سيرك عند أطراف المدينة، شخص يدعى أدولف هتلر.
حكى لنا أحد الممثلين بخبث بأن هتلر يأخذ هذه الأيام دروسا في التمثيل عند بازل، الممثل في مسرح البلاط الملكي، ويدفع ثمانية ماركات في الساعة. تسلينا بذك غير عابئين بأن الداعية في الطاولة المجاورة بإمكانه سماعنا.
كان بازل هذا ممثلا من المدرسة القديمة ويلعب طبعا أدوارا ذات صفات بطولية، يلوح بيديه مثل مغني فاجنر ويشعر فقط بالراحة عندما ترطن يامبات شيلر Jamben,: وزن شعري من الأنتيك لم على لسانه. كان ذكاء خارقا من مكر القادم من مدينة صغيرة من ملكة النمسا، بأن يأخذ درس إلقاء ويتعلم كيفية تجنب المرء للبحة. هذا يعني بانه بإمكانه الصراخ بصورة مرعبة أثناء تكلمه. ولكن من الطريف أيضا بأنه كان يزور بالذات هذا الكوميدي الشيخ.
كما سمعنا، تعلم هتلر ما عليه فعله بيديه أثناء التكلم أمام الجمهور وكيفية تنفيذ حركات ايمائية ضخمة وكيف عليه أن يمشي. في هذه الحالة يوقف المرء القدم أولا على الأطراف العشرة، فيما تطل الركبة محافظة على تصلبها. يبدو هذا السلوك ملكيا، وخاصة عندما يضم المرء حينها الذقن.
يجب ان أعترف بان ذلك كف تباعا أن يثير انطباعا يدعو للسخرية.
ذات مرة زرت واحدة من تلك التجمعات الجماهيرية وراقبت هتلر كخطيب أمام الجمهور. كانت طبقة صوته بالضبط ذكورية وبطولية مثلما يتوقع المرء من تلميذ للكبير بازل، يحمل بعض التذمر، ونبرته تحمل نبرة رجل اشتكاه المرء صراحة نتيجة لشر خالص، دون حق.
ولكنه كان قد تعلم من بازل أمورا أكثر، مثلما تأكد لي.
كان قد عود نفسه في خطاباته الكبيرة أن يسلسل ويرقم حججه وخططه:
بـ"اولا" و"ثانيا" و " ثالثا" والى اخره، لمرة واحدة بدا لي بأنه كما لو كأن شيئا ما لم يختمر بصورة كاملة، ذات مرة قال «خامسا» وكان عندي شعور غير أكيد بان الـ"رابعا" لم تسم أبدا.
في المرة الثانية انتبهت جيدا. نعم، نعم، ها هي هناك مرة ثانية: أولا، وثم استراحة صغيرة مؤثرة. كان يريد للتو أن يثبت بأنه كان من الخطأ لألمانيا أن تدفع التعويضات الى الحلفاء. جرى ذلك بالصورة التالية تقريبا: أولا، أنه من الصعب على ألمانيا ان تستطيع جلب هذا المبلغ الضخم، أننا مرهقون ماليا جدا. "ادار تلك الحجة بميوعة بعض الشيء دون أن يأتي بإحصائيات بيانية، ولكنه كان مؤثرا تقريبا. "ثانيا" كان ذلك شيئا مثل "لأن ألمانيا لم تبدا الحرب" و" ثالثا": "لأن التعويضات جلبت فوائد هائلة لليهود فقط" "رابعا" كان شيئا ما مختلفا، وبعدها جاء «سادسا» غريبا!
نظرت حولي كنا نجلس في قاعة كبيرة لشرب الجعة. كان أمام الجمهور الذي كان يتكون بصورة رئيسية من الطبقة الوسطى، اصحاب دكاكين وعمال يدويين مع نسائهم، أكواب من البيرة كبيرة. كانوا بالآلاف، وكانوا يسمعون بإنشداد. كان هتلر يقف على المنصة، بعيدا جدا لدرجة أنه بدا ضئيلا. ولكن من خلال دخان السجائر. كان المرء يستطيع رؤية كيف أن خصلة شعره التصقت على جبهته العارقة. كان قد تكلم بعلو وبدا كما لو أنه يستطيع السقوط في أية لحظة على الجمهور. االـ "أولا"، الـ «ثانيا» الـ"ثالثا" وتلك التباعا، أكد عليهم وهو يرفع عاليا أعداد الأصابع المطابقة مع الرقم.
لم يلاحظ أي واحد في القاعة بأن «خامسا» لم تذكر على الاطلاق !
هتلر كان قد خدع الجمهور بحجة واحدة بعبث دفع التعويضات. لقد أصبح ممثلا كفؤا.
ولكن الأمر تطور أكثر.
عندما وصل الى «ثامنا» او «تاسعا» بدا، دون وصل في التكلم عن شيء مختلف بعض الشيء تماما، مع ذلك أكمل ترقيما، لقد أكل عده بغضب شديد: «عاشرا» لأنهم اضطهدوا الحركة القومية (كان يعي الحزب النازي)، «احد عشر، لأنه كان لأصابع اليهود دور في اللعبة »، وهكذا دواليك، لا شيء غير الـ »جمل- جاءت بسياق ليس له أية علاقة مع عبث دفع التعويضات على هذا الشكل حتى «عشرين»، على ما أعتقد.
كان بإمكان المرء الاعتقاد بأن سلوكا مجرد ألعاب اكروباتيكية طفولية مع الاعداد وأن ذلك أمر ثانوي تقريبا، ولكن بالطبع لم يكن الأمر بالنسبة اليه هكذا، لقد صنع هتلر من تلك الـ«عشرين » شواهد، تبعت بعض بمنطقها غير المتزعزع مثل ضربات مطرقة لكنها انتجت تعبيرا قويا. ليسر أكثر من عشرين جريمة وعملا غبيا ارتكبتها حكومة الجمهورية (يقصد جمهورية فايمار: المترجم)، وهتلر أثبت ذلك. لقد فند الجمهورية وكشف القناع في عشرين نقطة. بواسطة ذلك صعد من خطبته بعنف وهناك حيث تغيب الاثباتات عن الخطيب، عرض، ورغم كل شيء بشكل جميل حركات ووقوف رجل يملك إثباتات تلك كانت حيلته. كان يلعب دور «المنطقي». كان عرضه المسرحي مقنعا. الثمانية ماركات التي كان يدفعها الى بازل عن الساعة كانت موظفة بشكل جيد.
كما ذكرت سابقا، لم أعرف ذلك في تلك العصرية في صحن حدائق المقهى،حيث كنا جالسين تحت شمس الربيع، لأننا كنا نضحك حينها من درس التمثيل. كنا نعتقد بأنه كان أيضا ضروريا.
تلك الساعة في صحن الحديقة انتهت الى خاتمة مرحة.
عندما دفعنا وشرعنا في المغادرة. أراد ليون فويشتفانغر، مؤلف «الحلوة يود»، رفع معطفه عن مسند الكرسي. لكن هتلر قفز من مكانه في منتصف حديثه، وأخذ بانحناءة واحدة مفاجئة معطف فويشتفانغر من اليد وساعده بأدب وهو يتمتم «تسمح لي أيها السيد الدكتور».
من اجل فهم خلفية النكتة،. يجب أن يعرف المرء بأن هتلر كان يختلط بحلقات الفنانين وكان يعرف بان فويشتفانغر يهودي وجمهوري وهو عدم اطمئنانه وحده بما يتعلق بأتيكيتات السلوك الاجتماعي واضطراره لكي يظهر بمظهر مؤدب مما جعله يلعب دور «رجل من العالم » وجعله يساعد «عدوه» في لبس المعطف.
فوجيء مرافقوه مثلنا.
لم يكن في الوضع الذي وصل اليه ليلعب فيه اربعا وعشرين ساعة في اليوم شخصية المعادي للسامية الذي لا يرحم وكان يحتاج لذلك ساعات معدودة أخرى عند بازل.
طبعا لم تحتج تلك الحادثة في صحن الحديقة في عام 1922 لتصنع لي من هتلر "الشخصية غير المنسية". فمن أجل ذلك اهتم هو، عندما اتم دوره كـ "قائد" منجزا دائما تحولات بصورة متقنة، أدت بنا، فويشتفانغر، وانا وآخرين كثيرين في الذهاب الى المنفى وقذفت كل العالم في حرب مرعبة.
نجم والي (كاتب عراقي يقيم في المانيا)