حمزة عليوي
كاتب وأكاديمي عراقي
تحت أي صنف كتابي ينضوي كتاب القاص محمد خضير «أحلام باصورا: الجمل 2016»؛ هل هو قصص قصيرة، أم هو متتالية قصصية، أم هو رواية بطبقات متعدِّدة ومختلفة تجمعها مخيلة المكان المفقود؟ الكتاب مكوَّن -كما يقول فهرسه- من عناوين رئيسة، واحد منها يختص بتصور باصورا المخترعة «باصورا، وأحلام باصورا». ثمّ نكون في مستهل عنوان جديد ومختلف، هو «الحياة اللذيذة»، ونختم الكتاب بـ«حاشية». فإلى ماذا تحيل موضوعات هذا الفهرس؛ ومعها العناوين الفرعية داخل كل حقل؟ ربما لا يشكِّل السؤال عن النوع أو الصنف الكتابي أمرا مهما في بيئة نقدية ترفض التصنيفات المسبقة وتدَّعي بموت الجنس الأدبي وتقول بتداخل الأجناس الأدبية؟ ولابأس؛ فهذا ما يردده كتاب المقالات الصحفية ومعدو الكتب «النقدية»، لكن «النوع» أو «الصنف» الأدبي يظل هوية الكتابة الأدبية وجوهرها. هذا الاضطراب كان جوهر قراءات نقدية سابقة لكتب القاص الشهير. في بالي، مثلا، دراسات ومقالات، وربما كتب، اختصت بكتابه المعروف «بصرياثا»؛ إذ جعلها بعضهم «قصصا»، وربما عدّها غيرهم «رواية»، ومثل هذا حدث مع كتابه «كراسة كانون» التي كتبت في ظروف سياسية ملتبسة جدا.
حاشية الكاتب المتأخرة… تحديدات لابد منها
لأجل هذا؛ ربما، فقد ترك لنا القاص «حاشية» أوضح فيها بعض مقاصده من كتابه «أحلام باصورا». فنصوص كتابه تتخذ من أحلام صاحب نوبل نجيب محفوظ في كتابه المعروف «أحلام فترة النقاهة: 2003» ذاكرة نصيِّة أولى. ولمحفوظ يعود له الفضل -كما يقول محمد خضير نفسه- في التمهيد لهذا النوع الكتابي في الأدب العربي. وثمة رافد ثانٍ يعترف «خضير» أنه أفاد منه، هو كتاب الكاتب الإيطالي الشهير أنطونيو طابوكي «أحلام، أحلام». فهل انتهت عند كتاب «طابوكي» مصادر كتاب «أحلام باصورا»؟ لا أظن؛ فنصوص باصورا معنية بأحلام الكاتب نفسه، مثلما هي مشغولة بكتاب وشعراء وأهل باصورا، يحضر السياب والبريكان ومهدي عيسى الصقر، وتأتي معهم نصوصهم. لكن التعلّق بما تذكره الحاشية المتأخرة من مصادر تحيل إليها نصوص الأحلام «مزية» جديدة لمحمد خضير؛ إذ إنه من النادر أن يورد لنا «الكاتب العربي»، في كتابه، أو روايته، أو مسرحه، مصدرا اعتمده في «تأليف» نصه. وهذا الأمر يخالف ما يشيع لدى الكتاب العالميين الذين يكتبون «الحواشي» الموسعة أو المقالات المطوَّلة ويذكرون فيها مصادر رواياتهم وكتبهم. إن أقصى من يصلنا في المؤلفات العربية «الأدبية»، لاسيّما في مطلع الروايات، تحذير من «فخّ» مطابقة الواقع فيما تحيل إليه «الرواية» من أحداث وعوالم؛ فهي عندهم «رواية» متخيّلة، ولا تتعلّق بالوقائع المعروفة في عالمنا المُعاش.ولا تنفد «عطايا» حاشية الأحلام؛ فهي «خزين» السرد لستة عقود ماضية كان لها أن تُكتب في لحظة «تاريخية» شبه متماثلة بين مصر والعراق؛ أحلام فترة النقاهة أولا ثم أحلام باصورا ثانيا. وما بينهما من «تباعد» و«تماثل» هو جوهر «حلم» محمد خضير الذي يفتتح به «أحلام باصورا» في الكتاب. تبدأ الرحلة المحفوظية «المتخيَّلة» من وسط بغداد «شريعة في باب المعظَّم»، وتتجه صوب جنوب البلاد في رحلة «تضادٍ» تاريخي مع ما استقرَّ في مخيلة «محفوظ» عن نهر يصعد من الجنوب إلى الشمال، خلاف حركة الماء في «مسناة شريعة بغدادية» تدفع المياه فيها قارب محفوظ وحرافيشه صوب الجنوب. يسكت «محمد خضير» عن الجهة التي وصل منها «محفوظ» وحرافيشه إلى الشريعة؛ هل جاء بقاربه، عبر دجلة، من أقصى شمال البلاد؟ كل ما نعرفه أن حلم «خضير» برحلة محفوظ قد نقله «إلى ما وراء النيل»، بالضبط إلى وسط بغداد، وأن هناك حالمين كثر، مثله، ينتظرون وصوله على المسناة البغدادية. شخصيا كنت أتمنى أن نرافق «محفوظ» نازلا بقاربه المتخيَّل من أقصى الشمال إلى أقصى جنوب البلاد؛ خلاف «النيل» الصاعد من الجنوب إلى الشمال، هذه مفارقة الخرائط والقصص واختلاف البلدان. لكن محمد خضير، وهو صاحب الحلم، سينقل لنا كلام محفوظ الأول المتعجب من المشهد برمته: «يا لطول بال هؤلاء القوم! إن المرء ليحسبهم أيقاظا وهم نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. لا ريب في أن حلمهم أطول من حلمي، ولا شك في أن طول نومهم أيقظ أحلامي المقبلة نحوهم.. ص 59». هل يسرِّب القاص محمد خضير، هنا، رأيا عن مشهد «المحتفين» بقارب محفوظ على لسان محفوظ نفسه في حلم الكاتب، ومن ثمّ بالعراقيين عامة؛ لطول بالهم، ولاستغراقهم بحلمهم الطول؟ ربما؛ فالقاص نفسه سيُنهي حلمه برحلة محفوظ المتخيَّلة بمقارنة ملفتة وذات دلالة بالغة بين نهايات الحلم الحرفوشي عند «واسط»، مدينة الحجاج الثقفي، وبين الحلم العراقي الذي انحدر «نحو مصيره المجهول». وهذا، بالتمام والكمال، ما لم «يصرِّح» به محفوظ عن رحلته المتخيَّلة حتى «واسط»، وما تولى نقله لنا محمد خضير عن رحلة محفوظ في حلمه صوب الجنوب العراقي. وفي حاشية كتابه سيستعيد محمد خضير المقارنة ذاتها بين أحلام محفوظ المصرية وأحلامه العراقية من زاوية أخرى تمثِّلها دوافع الكتابة ومقاصدها؛ فقد «اقترعت» أحلام محفوظ على «نقاهة» الوعي في ظلام الأصولية المتشدِّدة، فيما «اقترعت» أحلام محمد خضير، شأن العراقيين كلهم، على «مستقبل» غامض لا ملامح حقيقية له سوى مشاهد القتل والتهجير. لكن الأحلام كلها، العراقية شأن المصرية، تشترك، معا، في «مقاومة» العالم «الكهنوتي» الزاحف نحو حياتنا. نظل في حاشية الكتاب، حاشية محمد خضير الأخيرة، فهذه «الأحلام» تحتفظ بـ «فوريتها وعلاقتها الوثيقة بالواقع الاجتماعي المتشابك الجذور والمصادر»، وهي كذلك «تحيل» إلى التجربة الشخصية الواقعية للكاتب ذاته، ولمن تحيل إلى أحلامهم، وتعتمدها في تأويل الحلم. ولقد كُتبت بـ«اقتصاد تعبيري، وتنوُّع صوري موثَّق.. ص 225»، وإن ظهرت لنا بصيغ رمزية وإشارية. ثمّ إن «أحلام باصورا» قد راعت صلة الأحلام بالمنامات والمقامات فـ»اقترضت» منهما ثيماتها، وأهمها خاصيتا «الامتداد» و«التحوُّل». تتصل الخاصية الأولى بتمدُّد الحلم سنوات طوالًا، أو قد يكون لمحة قصيرة. فيما تتعلَّق الثانية بما يشهده الحلم نفسه من تحولات مخلوقاته. الخاصيتان تجعلان نصوص «الأحلام» أقرب إلى بنيات السرد العجائبي.
من صورة مدينة إلى أحلامها.. «بصرياثا» أم «باصورا»..؟
كيف تبدو المدينة، أية مدينة، بين صورتها وأحلامها؟ وبسؤال أكثر مباشرة وحميمية؛ كيف تبدو لنا وقائع هذه المدينة وخرائطها المتخيلة، بما في ذلك منطق السرد ذاته، وصور الراوي، ورؤيا الكاتب، في كتابين أدبيين يتخذان من السرد وعوالمه منطلقا رئيسا للكتابة والتمثيل الأدبي، ولا يجمع بينهما سوى المؤلف ذاته وسيرة المدينة ذاتها، فيما يتباين الكتابان في تاريخ الكتابة والنشر؟. صدر كتاب «بصرياثا.. صورة مدينة» عام 1993 عن دار «الأمد»، وهي دار نشر عراقية محدودة «توقفت عن العمل بعد حين!». بينما صدر كتاب أحلام باصورا عام 2016. ومن الواضح أن تاريخ نشر بصرياثا – 1993 -بعد حربين مدمرتين كان للبصرة منهما حصة الأسد- ذو دلالة متفردة، مثلما أن اختيار دار نشر غير حكومية في العراق، آنذاك، يحيلنا إلى رغبة الكاتب بالتخفف، قدر المستطاع، من الرقابة الحكومية المباشرة؛ برغم أن نشر الكتب لا يحصل من دون إذن حكومي «رقابي» مسبق بصرف النظر عن مكان النشر، حكوميا كان أم أهليا على قلته وقتذاك، كذلك فإن الكاتب نفسه يورد لنا، في فهرست كتابه، أماكن نشر بعض فصول الكتاب، وأغلبها مجلات وصحف «حكومية» ثقافية تخضع موادها لرقابة مشدَّدة. يفيدنا الأمران، تاريخ النشر ودار النشر إلى حد ما، بالاقتراب قدر المستطاع من مقاصد الكتابة وطموحها التخيلي المتحقق في «بصرياثا».
صدر كتاب بصرياثا بعد تقشف واضح في نشر القصص والمواد الأدبية، وربما طال التقشف الكتابة ذاتها؛ إذ إننا لا نجد للقاص، بعد مجموعتيه الشهيرتين المملكة السوداء «1972» وفي درجة 40 مئوي «1978»، سوى قصص قليلة نشرت على فترات بعيدة نسبيا. وبالإمكان تعدادها: «وصية جندي- 1985»، و«رؤيا خريف- 1985». (وهذه القصة صنفت ضمن أدب الحرب في العراق، وليس فيها من إشارات مباشرة عن حرب سوى مشهد الشاحنات العسكرية التي تعبر الجسر الحديدي. والقصة، من ثمّ، تحمل رؤية مضادة للحرب)، و«رؤيا البرج- 1988». فضلا عما نشره محمد خضير من فصول كتاب بصرياثا في الصحف العراقية كما أثبته بنفسه في فهرست الكتاب. وثمة قصص أرَّخ القاص زمن كتابها قبل صدور كتاب بصرياثا، منها قصة الحكماء الثلاثة «1986» وصحيفة التساؤلات «1991»، والقصتان نشرتا في مجموعة رؤيا خريف «1995». هذه القصص والنصوص السردية المفردة والمنشورة على فترات متباعدة لا تقدِّم إمكانية حقيقية للبحث النقدي يمكن اعتمادها في دراسة وتحليل «رؤية» محمد خضير الفكرية وضبط ما شهده نصه السردي من تحولات وانقلابات كانت مثار جدل نقدي في العراق يعلو ويخبو من حين لآخر؛ فهي نثار من القصص والنصوص لا يجمعها سوى أن كاتبها هو محمد خضير صاحب المملكة السوداء وفي درجة 45 مئوي. ولعل عزوف القاص نفسه عن جمع هذه النصوص وتبويبها في مجموعة قصصية واحدة نهاية الثمانينيات، أو حتى مطلع العقد التاسع، يفيد أن هناك رغبة في التعتيم على موقف القاص برمته، وقد نقول أن هناك تعمُّدا في هذا القضية من القاص نفسه. برغم ذلك، أو بسببه، سيكتب محمد خضير في تقديم كتابه بصرياثا ما يفيد خلاف ما نفترض ولا بأس؛ فالعبرة بالوقائع: «أريد لكتابي هذا أن يمهِّد للقصص التي تأتي بعده. ولكن ألم تكن فصوله جزءا من قصص ما قبله؟ هو كذلك.. (بصرياثا ص 13)».بصرياثا، إذًا، هي النص السردي الأول الذي يحمل رؤية سردية فكرية متكاملة تختص وتشهد على زمن بصرياثا في زمن الحرب والاستبداد. ولا يعني النص هنا بكلمة «الاستبداد» أن كتاب بصرياثا كان نوعا من المقاومة الثقافية للحرب والموت في عراق الثمانينيات، أو أننا نرغب بتوريط الكتاب بتأويل صادم، إنما يفيد الكلام هنا أن ثنائية الحرب والاستبداد كانت الدافع المهم في البحث عن فضاء موازٍ للكتابة لا يصطدم مباشرة بالسلطة العقابية آنذاك. فكان كتاب بصرياثا تسجيلا لمدينة تخرج للتو من ويلات الحرب، ولا تخرج من ربقة الاستبداد. لكن الحرب كانت الحدث الأكثر أهمية وتأثيرا في تاريخ البلاد، ولا يوازيه سوى صعود الاستبداد ذاته؛ إذ لم تكن الحرب محض «انقلاب» عسكري أو «تغيير» سياسي، أو «صعود» زعيم سياسي، إنما كانت حياة كاملة عاشها العراقيون حدثًا فحدثًا، موتًا فموتًا، خرابًا فخرابًا طيلة ثماني سنوات. تلك الحرب عاشها محمد خضير وشهد وقائها الجسام في مدينته التي كانت تنقل أحشاءها كل لحظة، من مكان لآخر؛ خشية الموت تحت الركام، فكان شاهدا على كل شيء، لكنه كان على علم إنه ليس الشاهد العيان؛ إنه راوي المدينة الذي شهد دمار المكان وتفتته، فكان عليه، ربما، أن يعيد بناءه حجرا فوق حجر، فكانت بصرياثا «صورة» عن مدينة وليس سيرة لها؛ إذ لا سبيل لكتابة «سيرة» مدينة كانت هناك ولم تكن، وجدت ذات يوم أو لم توجد شأن كاتبها. لا أدري فيما لو كان محمد خضير قد غادر العراق، شأن مئات الكتَّاب العراقيين نهاية العقد السابع، أو في زمن الحرب ذاته؛ فهل كان سيكتب بصرياثا، وربما الأصح أن نسأل إن كان سيحتاج لإعادة اختراع مدينته كما فعل وهو يجوب شوارعها وأزقتها ويتحسَّس حيطان بيوتها المخرَّبة؛ مادام قد تخلص من سطوة المؤسسة الرقابية؟ أظنه، سيفعل الأمر ذاته، وهو ما فعله آخرون طالتهم نيران الحرب والمنفى، وإن سكنوا أقصى الديار. ثنائية الحرب والاستبداد كانت أمرا لا فرار منه، وهي الدافع الرئيس لإعادة تخيل صورة المدينة.
«باصورا»: ذاكرة المتلصص
على أحلام الذات والآخرين
بعد حرب ثالثة، طاحنة كذلك، انتهت باحتلال البلاد كلها، يعود محمد خضير لـ«بصرياثا»، فيسعى لاختراعها، مجددا باسم جديد «باصورا»، وقد حسبنا أنه قد نفض يده من مدينته برسم صورة لها؛ فالأحلام تغري «النائمين» بلذة التلصص على ذواتهم فيهرعون، لحظة اليقظة الأولى، ليرسموا لنا صورا يتداخل فيها كل شيء. ربما لا تبدو المسوِّغات المتعدِّدة التي أجملها القاص في مقدمة كتابه ثم في حاشيته الأخيرة، عن لذة «المتلصص» على حلمه وتحكمها به مقنعة لتجشم عناء تخيل مشهد «المتألم» الحالم الذي يكون عليه أن يستعيد أحلاما مضت وانتهت، وبعضها يتعلَّق بـ«أصدقاء» راحلين. أفترض أن الأستاذ محمد خضير رغب، في كتابٍ ثانٍ «لماذا لا نقول في نصٍ ثانٍ!»، ولا أظنه الأخير، بأن يلاحق فعل الحرب ونتائجها على مدينته المتخيلة. وقد يحالفنا الحظ فيكون لدينا كتاب ثالث يحمل اسما ثالثا وعالما جديدا عن مدينته؛ فالقاص الماهر والمحترف عوَّدنا على النصوص المهمة والمختلفة، ربما؛ من يدري؟. المفارقة أن الحرب غائبة، فلا ذكر لها، لكنها حاضرة بأثرها. في صياغة العنوان، ثمّ في حاشية الكتاب، ثمة ما يشير إلى أن «باصورا»، مدينة الأحلام المستعادة، قد «ابتلعت» ناسها؛ بما فيها الراوي ذاته الذي حضر، شأن غيره من كتّاب البلاد، باسمه المستعار «البوراني»، لقاء الرئيس. يحيل عنوان النص إلى مدينة اسمها «باصورا» بينما كتاب باصورا، منقسم على ثلاثة أقسام. الأول، يشغله العنوان «باصورا». والثاني، يختص بـ»أحلام باصورا». والثالث، وهو الأكبر حجما وتوسعا معني بأحلام الراوي كما يقول لنا فهرسه، بينما يعمد العنوان إلى جعل أحلام الراوي جزءا من أحلام باصورا المخترعة، ويجعل منها بعض متعلِّقات المدينة المخترعة. ثمة هيمنة وتغليب يفرضهما العنوان لصالح المدينة على حساب منطق الراوي وأحلامه. وفي الحقيقة إن هذا التغليب يقدِّم لنا هيمنة وتغليبا آخرين، نجدهما في تغليب منطق الراوي المراقب الذي يتخذ، في أحيان كثيرة، صفة المتكلم في فصلي باصورا، وهذا الصوت السردي يسود ويهمن بدلالة العنوان على صوت الراوي الذاتي في فصل «الحياة اللذيذة/ أحلام الراوي». والتغليب الثاني يمثِّله منطق السرد الموضوعي المنحصر في فصلي باصورا، في مقابل التوسع الكبير في السرد الذاتي المرتبط بمنطق الراوي المتكلم/ السارد لأحلامه أو المستعيد لها. هذه المفارقة أحسب أن القاص محمد خضير قد فكر بها كثيرا؛ فنراه يشير في حاشية الكتاب إلى ما يميز «أحلامه» التي جمعها تحت عنوان مستقل «الحياة اللذيذة» عن باصورا نفسها وأحلامها. فكيف ابتلعت «باصورا» أحلام راويها وناسها؟ يشرح لنا الراوي ذو الأسماء والألقاب والرؤوس المختلفة في تقديمه لفصل «باصورا»، تحت عنوانٍ دالٍ «استرجاع باصورا»، كيف يمكن تحقيق هذا الاسترجاع، إذ قد يتحقق الأمر، مثلا، بتتبع «خطوات مؤذن هرم يقصد مكان الأذان خمس مرات في اليوم.. ص 7». فهل يكفي هذا السبيل؟ كلا، قطعا؛ إذ يمضي في تعداد سبل استرجاع باصورا، وهي كثيرة ومتعدِّدة ومختلفة. فهل تكمن المسألة في استرجاع باصورا أم أنها كامنة في «اختراعها»؟ يبدو الكتاب كله، لاسيما فصلا باصورا، أقرب إلى «الاختراع، وفي هذا الترجيح تكمن إحدى الدلالات المضمرة لاعتماد «الأحلام» منطقًا للسرد؛ ذلك أن «الأحلام» تنطوي على التخيل والحفر اللاواعي في الذاكرة، فضلا عما يذكره محمد خضير نفسه عن ثيمتي «الامتداد» و«التحول». وأظن أن منطق الحلم هو ما فرض في خاتمة الفقرة الممهِّدة «استرجاع باصورا» التعريف الموجز وذا الدلالة البالغة لباصروا؛ فهي «مجموعة هذه الآثار والعلامات التي تجردت من حواملها التاريخية ووُلِدت على صفحات حلم منطوٍ في دماغ الحشود المتدافعة على رسلها.. ص 10». ومنطق الحلم فعل فعله كذلك في تغييب خرائط المدينة، وإن وجدت فهي محض رماد تخلِّفه حرائق باصورا غير المنتهية، وألغى أي شكل أو أية صورة عنها كما نجد هذا في بصرياثا. في فقرة «الطريق إلى باصورا»، مثلا، وهو عنوان الكتاب الوحيد الذي يتداوله الناس في باصورا، ثمة طبقات ونسخ من باصورا، لكن لا صورة «أصلية» عن المدينة القديمة. والكتاب نفسه يتضمن فصلا عنوانه «الطرق المسدودة»؛ فالناس ضائعون في باصورا، ولا يصلون إلى بيوتهم، ومنهم الراوي نفسه وقد كان يستقبل الضائعين في بيته، فصار ضائعا مثلهم، بعد أن فقد سبيله إلى بيته فوجد نفسه في بيت آخر واسم آخر. ويحدث مثل هذا في فقرة «بريد باصورا». نسعى، هنا، مع الراوي في النسخة الحادية عشرة أو العشرين من المدينة. فلا رقم مؤكد؛ فالراوي، مثلا، ينتظر قبل غيره «المراسل» الذي سيأتي له بالنسخة الأصلية من المدينة بمخططاتها الحقيقية. وفي فقرة «ألعاب باصورا» يفند الراوي مزاعم المؤرخين عن أسباب نشوء باصورا، وهي عندهم السيف والكتاب وبئر النفط، فيما يعدِّد العشرات من «الألعاب» السطحية والمنظورية ومعها آلاف اللاعبين المحترفين جوار «أكاديمية الوقت». وفي النهاية، نعرف أن ألعاب باصورا، بل حتى وجود المدينة ذاتها محض خرافة صيف. وتفعل الفقرات الآتية: (معجم باصورا، وخُطوط باصورا، ورسوم باصورا) فعلها العجيب في قارئ يقرأ كتاب باصورا حسب خطة الراوي الممهِّدة للكتاب التي تولت شرح كيفية استرجاع باصورا المفقودة، فإذا وصل إلى فقرتي «أكاديمية باصورا» «صورا وكشكول» فلا يجد غير رماد المدينة؛ لا يجد مدينة يجري استعادتها كما يريد البوراني أن «يخدعنا». نحن، هنا، في «أشتات» مخترعة لا وجود لها سوى في مخيلة الراوي العجيبة. تتعزز هذه القناعة بمواد فصل «أحلام باصورا» التي تبدأ بالحلم المحفوظي؛ ففي هذا الحلم، ثم في حلمي «رؤيا السروجي» و«شاعر باصورا» نكون إزاء «حالمين» بباصورا التي لم توجد يوما، إنما يجري اختراعها في «أحلام» الراوي. وربما يفسر لنا هذا الأمر لماذا تبدو أحلام الراوي الشخصية، أو من يظهرون بحلمه أقرب إلى «البورتريهات» الشخصية. نستعيد، هنا، أثر الحرب التي لم تنته. الحرب التي حضرت بقوة في ثنايا وأزقة «بصرياثا»، وهي ذاتها التي حوَّلت «باصورا» إلى مجرد «أحلام» ولا فرار؛ سوى أن محمد خضير كان يسترجع مدينة قائمة بالفعل في «بصرياثا»، لكنه لم يجد سوى «رماد» الخرائط التي تشكَّت منها «باصورا» المخترعة. لا شيء سوى منطق الخاسر الذي يقلِّب رماد مدينته كما يقلِّب أحلامه. إنها الحرب التي لم تخرج منها «بصرياثا»، ولم تصلْها وتعشْها «باصورا»، مدينة الحالمين المخترعة…!