بـــؤس:
الروائي السعودي محمد المزيني في روايته الأخيرة “انفرادي” يتجاوز الخطوط.. مقتحما بذلك حواجز الممنوع بجميع أشكالها.. من سياسية ودينية وجنسية بل وأبعد من ذلك. فلا يمكن لقارئ هذه الرواية إلا أن يتوجس خيفة عليه.. أو أن تحتويه الريبة!
رواية تتماس بجرأة حادة مع ندوب المجتمع ..وعقدة .. وقد بدأها رامزا إلى تلك الدمامل التي كانت أظافر رياض تعبث بها وتدميها على جسده. روايات ناقشت ولا أقول عالجت مالم تناقشه رواية سابقة في المملكة.. وإن كانت هناك بعض الروايات قد تعرضت لمثل تلك المواضيع إلا أنها اقتصرت على الدين وأخرى على الجنس.. مثل رواية عبدالله بخيت “شارع العطايف”. ورواية يوسف المحيميد “الحمام لا يطير في بريدة”. وروايات أخرى اقتربت من الجنس وعلى دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والقمع الذي تمارسه.
“انفرادي ” رواية فارقة .. بذرت أسئلة هيمنة الاستخباراتية الأمريكية على العالم.. الجزيرة العربية نموذجا. وتبعية حكام الأقطار العربية لها أو لغيرها.. لترسم لنا عرض أرجوزات حيث تحرك عرائسه أصابع خفية لعروض ساخر. وبذلك تأكد انفرادي ما عالجته رواية “قلوب تبحث عن مرافئ” للكاتب محمد حمد الفارس حيث عادت بنا إلى القرن الثامن عشر لنتعرف على حكام الوطن العربي من محمد علي باشا إلى مشايخ الجزيرة العربية: سلطان لحج..إمام صنعاء.. سلطان عمان.. القواسم.. شريف أبي عريش.. حاكم نجد. وقد توزعوا في تبعيتهم بين الفرنسيين والإنجليز.. كوكلاء ..أو ما يشبه الموظفين لديهم .. مثل تلك الروايات التي تدفع بالعقل للتفكير والتحليل والنظر إلى حقائق حاولت كتب التاريخ تزييفها.
الرواية في السعودية بلا شك تجاوزت مخاض البدايات.. وعبرت المنطقة الرمادية لتتصدر المشهد الروائي العربي بجرأة تناولها للمسكوت والممنوع.. وبذلك أضحى عدد من الرواة في عداد أهل الفكر التنويري. محولين هذا الفن إلى فكر لتحطيم قيود مجتمع متطور تواق للتجدد والرقي. وبذلك تسهم عدد من الأعمال الروائي في خلق صدمات وعي متقدم لعقول تبحث عن التخلص من الجمود والتخلف الفكري.. صارخين في وهج الفجر أن يقترب ليبدد عتمة طال ليلها. الرواية في السعودية تصنع وعي الغد بذكاء ومثابرة ملفتة.
وطن بلا ملامح:
وعودة للوحة الغلاف التي تذكرني بروعتهاغلاف رواية “وحشة النهار” لخالد اليوسف.. وبوحها بمضمون النص. يستطيع المصمم أن يقطف إعجاب القارئ.. تحمل الكثير والكثير من المعاني.. وجه الماء بلون نحاسي لهبي .. وكائن يجالس الصمت وسكينة الألم.. دون ملامح وقد ظلله الليل بردائه.. تلك الملامح التي غابت عن إنسان هذه الرواية.. في مجتمعات مشوهة تتطابق السحنات والمصائر.. وتلك السماء وقد خضبت بألوان كئيبة ومخيفة. مشهد حزين وصامت.. ضاج بالكثير. معبرا عما يعتمل في شبه جزيرة العرب من محتوى مخيف.. من تسلط لا يعني إلا سحق كرامة الإنسان من أجل علو كعب السلطان الذي يتبع بولائه ويدار من بعيد.
“400”صفحة توزعت على “33” عنوان داخلي.. تلك العناوين جاءت كنقاط ضوء معبرة عما يحتويه كل جزء.. عناوين مكثفة.. إذ أنها لم تتجاوز المفردة الواحدة في كل عنوان.. عكس عنوان الغلاف الخارجي “انفرادي” الذي لم يكتف الكاتب وأتى بإضافة للعنوان “محاولة فهم ما لا يحدث” ببنط صغير تحت مفردة انفرادي. انفرادي لا تعني غرفة السجن التي يتعمدها الجلاد لحصر الضحية في مساحة تعذيبية.. يمارس بها عذابا نفسيا قبل الجسدي.. ورياض لم يكن سجين تلك الزنزانة فحسب بل إن ماضيه يسكنه .. وتلك المشاعر التي تشقيه.. وإحساس بغربته في وطنه ذلك أنكى وأشد إيلام. إذا جملة “محاولة فهم ما لم يحدث” المضافة إلى العنوان.. كجزء مكمل.. رغم اختلافها عن مفردة “انفرادي” ذي البنط الكبير التي تبدو مباشرة .. بينا الجملة المضافة مخاتلة .. يقف عندها القارئ باحثا عما تحمله من دلالة. فماذا أراد بها الكاتب؟. هل المراوغة ليوحي إلى نصه بأكثر من معنى.. أم أراد الهروب والتملص من رقابة تتربص به.. كما هو رياض الشخصية المحورية ملاحق على الدوام من العسس والمخبرين الذي لا يعرف إلى أي جهة ينتمون .. حين يهرب من أمسه في مدينة الرياض إلى بحر الدمام.. ثم من منها عكس رغبته إلى الرياض.. ثم إلى بيروت.. ليكتشف أن العالم سجن كبير.. وأن المخبرين في مكان .. ويكتشف أن الجميع يتبعون بشكل أو بآخر إلى ” cin” فيفر عائدا بلده.. إلى البحر حيث ينزوي عن أنظار الجميع .. ويعيش على ظهر مركب صيد في عرض الخليج.. يختار حياة التخفي.. لتنتهي الرواية عند تلك النقطة على ظهر “البوت”.
“انفرادي” عمل تخييلي يصل بالقارئ إلى مرحلة الإحساس بواقعية أحداثه. فرياض بشخصيته المتنامية.. يقترب ليلامس وجدان القارئ.. بداية بولادته وموت أمه أثناء المخاض.. إلى رحيل لعمته لطيفة التي كانت بمثابة أمه برحيلها إلى مدينة أخرى.. إلى حرمانه من والده الذي دخل السجن بعد قتله لزوجته الداعرة.. إلى وفاة والده بعد خروجه من سجنه .. ثم وفاة عمته لطيفة .. ثم سجنه بسبب رأيه في مقال حول حرب الخليج مناهضا للحرب ميالا للحلول السلمية.
الملف النسري:
رياض الذي يصل بالقارئ إلى الإحساس بأنه شخصية حقيقية.. وأن ما عاشه حقيقة .. وتلك العلاقات والتداخلات قد حدثت بالفعل. وكل الملاحقات والإملاءات من أجهزة استخبارات الدولة التي يجزم القارئ بأنها امتداد لاستخبارات عظمى.. تلك التي تخطط لحماية مصالحها.. بإشعال الحرائق وتفتيت الدول.. وقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين.. وقد تخيل الكاتب ملف سري أسماه بـ “الملف النسري” جاء فيه الكثير من المعلومات السرية “يجب خلق أكثر من فريق متصارع في المنطقة، والتحكم فيهم جميعا بسرية تامة، ودعمهم من بعيد من خلال عدد من رجالcin”
لم يكن رياض إلا ابن رجل من عامة الشعب.. رجل كريم، أبي .. عطوف صادق.. كادح. إلا أن الأقدار تضعه في طريق الشقاء .. ليشقى بشقائه ابنه الوحيد رياض . فمجرد دخول الأب السجن تنقل الشرطة رياض إلى مدينة أخرى حيث تعيش عمته لطيفة.. وما أن شب حتى وزع وقته بين مواصله تعليمه.. وعمل كمحاسب في مطعم.. تتوفى عمته لطيفة..ليجنح للعزلة.. مفضلا قضاء أوقاته بعيدا عن الناس هناك حيث البحر.. وأثناء ذلك يلتقي بفتاته “شيماء” تلك الفتاة التي تماثل حياتها حياته في الشقاء.. فهي من أسرة ميسورة لكن عندها تعاسة دائمة .. ليجمعهما ذلك الإحساس بالظلم.
“انفرادي” عمل روائي لم يقتصر نطاق مناقشته لمواضيع سعودية وان بدت في ظاهر الأمر كذلك.. فقد جعل الكاتب من المحلية أرضا يثب منها إلى الإقليمية ومنها إلى علاقات دولية.. وتلك العلاقات المتشابكة في النفوذ والمصالح والتحالفات المعلنة وغير المعلنة ما أعطت هذه الرواية اختلافها. “ماذا لو علم الناس هنا أن أحد خيارات الحرب الأمريكية على العراق كانت إفساح المجال الجوي لصواريخ سكود لتدمير الرياض ؟. ماذا لو وافق واضعو سيناريو الحرب على هذه الخطة التي استبعدت في اللحظات الأخيرة لانطلاق الحرب؟” هنا توضح الرواية أن الأمريكي لا يهمه إلا مصالحه.
إذا هي رواية السجون والأقبية.. المخبرون والدعارة.. رواية تشابك المصالح والولاءات .. فلا تستطيع الجزم بتبعية ذلك المخبر الصغير.. هل لسلطة يعمل؟. ورئيس تحرير الصحيفة لمن يتبع؟ “لقد برهن هو بدوره انه يغزل بمهارة ولائه الوطني من أنفاس الصحفيين وأرواحهم ودمائهم . كنت انا ضحيته الأولى ساعة سلمني بفرح إلى أيادي المخبرين الذين كانت أياديهم وقتما استلموني ناعمة وحانية إلى أن قذفوا بي في غياهب زنزانة صغيرة ينبت فيها الظلام ” أم المخبر الصغير ورئيس التحرير في شبكة من المخبرين ومن يديرهم يتبعون البعيد.
الكـــلcin:
لم تكن تجربة سجن رياض القصيرة -ثلاث سنوات- مقارنة بغيره الذين يقضون عشرات السنين والبعض لا يخرج إلا ليقبر إلا مدرسة.. فبعد أن تعرف على حسين المعتقل بتهمة انتمائه للحزب الشيوعي السعودي.. وعلى عدد من نزلاء السجن من الشيعة.. وكذلك على مطوع سلفي ومشاركتهم حواراتهم .. خرج بعدها بوعي مختلف -ليبرالي حذر- وان ظل إطلاقه المفاجئ يشغل تفكيره.. حين قذف به في الصحراوي .. يصادفه جماعة يحملونه على سيارتهم “ليت صوتي يقوى على الخروج لأصحح لهم وأدس في أذانهم أنه قد أطلق سراحي بلا مبرر بالطريقة التي قذفت بها داخل قضبانه بلا مبرر” ذلك هو صوت رياض يحدث نفسه بعد أن سمعهم وقد ظنوا بفراره .. ولا يعرف رياض أن إطلاقه جاء بإيعاز من “cin”
يطرق أبواب الصحيفة التي كان يعمل بها.. يستقبله رئيس التحرير بترحاب حار .. وينصحه بالمغادرة إلى الرياض وهذا ما كانت تريده كريس وجونز عميلا المخابرات الأمريكية. اللذان يسعيان لاستعادة الملف النسري “احتمالات المعركة وإستراتيجية الوجود” ذلك الملف الذي التقطه أثناء تغطية تفجيرات المبنى السكني للأمريكان في الظهران بعد اندلاع حرب تحرير الكويت.
ومثلما غابت ملامح شخصية الغلاف.. تغيب ملامح رياض وكثير من شخصيات الرواية.. ليوحي ذلك بغياب ملامح الوطن.. وكما تظهر شخصيات الرواية دون مقدمات ويتساقطون وينسون دون مقدمات ..مثل غياب عبدالله عرفان وأولاد عمته لطيفة.. وشخصيات أخرى تظهر على مسرح الرواية ثم تنسل.. ليسكن القارئ إحساس بأن الإنسان في أقطارنا دون قيمة.. فظهوره مثل اختفاؤه دون وزن.. ولذلك كان الفقد حاضرا بقوة .. يموتون.. يرحلون والبعض يختفون. وحضرت رؤيا المنام في أكثر من صفحة..منها: 10..73..110..116..181..وغيرها.. تلك التي كان رياض يرى رموز تدله إلى ما سيكون .. كما حضر الفقد. وكان رأيه
في هذه الرواية لا يمكن للقارئ أن يخمن إلى أين يذهب به الكاتب.. فأحداث الرواية ومصائر الشخصيات دوما مبهمة.. ولا يمكن التخمين بأي نهاية ستنتهي الرواية حتى الانتهاء من قراءتها. ولذلك تضاعفت متعة المتابعة حتى آخر صدر.
اتسمت حياة رياض بعدم الاستقرار.. فبداية الرواية بالسجن.. ما يعطي القارئ مساحة من التصورات .. ونهاياتها بالفرار من الملاحقة.. واختيار البحر ملجأ.. هربا من المخبرين.. الذين تعددت جنسياتهم وتبعيتهم.
صور ذلك المعتقل كمجتمع يمثل الشيعة فيه الأكثرية.. ثم الشيوعيون ويأتي السلفيون في أدنى نسبة .. على عكس خارج السجن.. مؤشر ودلالة على ما خلف سقوف وجدران الزنازن من ظلم وعسف.
بينما صور أخرى لذلك الوطن الذي يتسع لجميع الوافدين.. اليماني والسوداني والتركي والتونسي والشرق آسيوي إلى ما هنالك من جنسيات من أوروبيين وأمريكان في الوقت الذي لا يتسع لمواطنيه. ليستشري الشعور بالغربة أكثر من غربة الوافدين.
مواخير:
أمر آخر .. الوجه الآخر للمدينة .. خليط من الثقافات.. ما ينتج تنوع في مواخير.. وشبكات الدعارة السرية.. وكذلك الصفقات المشبوهة.. تلك حياة مستترة.. الكل يعيشها.. والكل ينكرها! انفصام ومرض عضال.. فنهار المدينة لا يشبه ليلها. فالوافدين وقد حولوا مساكنهم إلى مواخير مليئة بالأجساد الغضة وطالبات المتعة اللواتي يفضلن الأجنبي على البلدي بمبرر الستر.. والطبقة المتسلطة لها مواخيرها الفخمة.. تحت الظاهر من القصور والفلل.. أقبية مؤثثة ومجهزة لسهرات علية القوم “هي ساعة انحدارنا عبر السلالم الحجرية إلى قبونا، نمارس فيه موبقاتنا بعيدا عن الأعين المترصدة داخل هذه المدينة المحرمة، حيث الوكر الليلي الذي نهرس فيه أمسياتنا،هناك في قعر وكر الملاعين الخبثاء المنافقين.. حيث ألوان المياه المستوردة المنقوعة بالثلج.. وحيث الأجساد تفرش وتطوى كالخمائل الناعمة، فتياتنا الحسان اللاتي لا نرى مثيلهن في هذه المدينة المصمتة إلا داخله.. ليس أسرع من المحرومين إلى السكر، ولا أسرع من المكبوتين للعهر” في تلك المشاهد الليلة التي تتنوع وكأن المدينة ماخور كبير. تسلمنا الرواية صورتين لمدينة تعيش ظاهرها عكس باطنها.. لتنثر فينا الأسئلة.. هل بالكبت يتطور المجتمع؟ وهل علينا وضع رؤوسنا بين الرمال لنخفي ما نريد إخفاءه.. أم أنها شريعة السلطان الذي يعمل بكافة السبل للمحافظة على سلطانه.. ولذلك يسعى إلى تكريس انفصام المجتمع.
لتكشف وقد صورت الرواية مجتمع الزيف.. زيف ما نعيش وندعي فالمجتمع ليس واحدا وان بدا كذلك.. فهناك طبقة متسلطة تستحوذ على خيرات البلاد .. وتعيش أيامها على طائرات بين الوطن ومنتجعاتها خارج الوطن.. وهناك منتفعون من الطبقة الوسطى.. يلعبون لعبة العبيد لأسيادهم حتى يحافظون على مصالحهم .. وهم يعملون مخبرين وعسسا على بعضهم.. وهناك العوام الذي يعيشون على الفتات .. ويسبحون بحمد المتسلطين والفسدة.. إذا مجتمع الرواية يكشف عن مواطنة غير متساوية. فهناك سادة ورعية.
الأبوة الضائعة:
ظل رياض يشعر بالضياع .. باحثا عن الأبوة منذ تزوج والده بامرأة بعد وفاة والدته.. ليحمله العسكر إلى عمته لطيفة في الدمام بعد سجن والده.. وهناك يستعيد بعض مشاعر الأمان.. لكنه يبحث عن الأبوة في مطوع مسجد الحارة الشيخ عواد.. ثم في صاحب المطعم سعيد اليماني ..ثم احمد مراسل الصحيفة. حتى ظهرت فتاة الشاطئ “شيماء” حينها يتطور وعيه من البحث عن أبوة إلى البحث عن وطن.. ويتبلور ذلك الحس في السجن وبين يدي فقيه السجن صالح.. وحسين الشيوعي.. وبعد خروجه من السجن يمتزج الوطن بالغربة فيجد في الطيب السوداني والمنصف التونسي بعض عزاه.. وفي هذه المرحلة حاول أن يتجاوز شعوره بالاغتراب.. ومع مغادرته إلى بيروت في مهمة رئاسة تحرير أحد المجلات .. يتكشف له الكثير .. فكريس التي نشبت بينه وبينها علاقة محمومة.. لم تكن إلا إحدى مخبري وكالة الاستخبارات الأمريكية .. وعمة كرم الإشبيلي الذي حدثه كثيرا عن شغفها بفحولة الرجال.. ومن أنه كثيرا ما يجلب لها بعضهم .. ما هي إلا حبيبته شيماء التي تزوجت بعد دخوله السجن برجل ذي نفوذ ومنصب كبير في الدولة.. وأبو راكان رئيس تحرير كبرى الصحف المطعونة رجولته أحد رجال واشنطن.. ونجم زميلة في مجلة بيروت ضمن رجال مخابرات يجهلها.. وكل من يحيطون لها صلات استخباراتية لجهات متعددة.. هنا تتضح له الرؤية .. ويتأكد من أن الوطن العربي يتسلط عليه حكام يتبعون لقوى خارجية.. وأن صراعات الزعماء العرب تأتي ضمن مخططات الـ cin ..وجميعهم يسيرون عليها.. لينتهي به المطاف بالهروب من بيروت.. عائدا إلى الدمام.. وهناك يتجه إلى الشاطئ الذي كثيرا ما كان يلجأ إليه في بداية شبابه في الدمام.. يتعرف على العم فراج صاحب مركب صيد الذي يقبل بأن يعمل معه على المركب.. تتوطد العلاقة بينهما.. لكن العم فرج يرحل ويترك له القارب.. الذي يقرر أن يعيش عليه بعيدا عن المجتمع متأرجحا فوق صفحة مياه الخليج. وكأن الكاتب بذلك يقودنا إلى رمزية الخليج ومجتمعه بعودة رياض إلى البحر. وإن ظل ظمآن إلى حنو الآخرين.
قدمت لنا الرواية الشخصية المحورة شخصية متنامية.. وهذا ما أعطى بعدا يرمز إلى تطور الوعي الإنسان الخليجي . فبعد تلك الطفولة البائسة والمشوشة.. ينتقل في صباه إلى التفوق دراسيا.. المتدين بعد مرافقته للشيخ عواد في مسجد الحارة.. وإن ظل منطويا بعد رحيل عمته لطيفة .. لتجاوز انطوائه بعد تعرفه إلى شيماء التي أطلقت روحه إلى فضاءات جديدة من الأمل .. مشجعة له حين تقدم للعمل في أحد الصحف .. وبعد قبوله يندغم مع زملاء الصحيفة ويتعرف إلى جماعة سيهات المناهضين للحرب .. ثم مرحلة السجن الذي دخله بسبب مقالة له تعارض الحرب.. ليخرج منه ليبرالي حذر.. يرى الوجود ويكتشفه بشكل مختلف.. فلم يتأثر بأفكار فقيه المعتقل السلفي.. وإن أعجب بأفكار الرفيق حسين الشيوعي.. ليكون له فكر مختلف ومواقف مختلفة بعد إطلاق سراحه .. وان اتسمت بالحذر والخوف من العسس. ذلك هو رياض المتغير رغم الضغوط والمفاسد.
حروب الأرجوزات:
تلك الحرب العبثية.. من جنون صدام واجتياحه للكويت.. إلى حرب تدمير العراق.. وكأنها فاتحة لتدمير سوريا ومصر واليمن وليبيا .. والقادم أسود.هذا ما تبوح ما بين أسطر الرواية.. بل وأبعد من ذلك.
هي رواية مختلفة.. تطرح دور الأصابع الخفية .. والتبعية غير المعلنة للحكام العرب .. من خلال تخييل محتويات ملف سري “الملف النسري”. لتقدم الشعوب إلى هلاك وخراب .. بينما المتسلطين يحافظون على مواقعهم. “العبيد فيه يتجالدون بالسيوف حتى الموت.. لكسب رهانات السادة … وأنا اليوم أقف كواحد منهم”
الرواية تقول ما لم تقوله غيرها من الروايات.. وتفرخ عشرات الأسئلة التي قد نجد لكل سؤال عدة أجوبة.. وقد لا تكون بضرورة تلك الأجوبة صحيحة.
محمدالغربي عمران