زاهر الغافري
في اللحظة التي أضع فيها خطوتي فوق جزيرة غوتلاند، ينتابني دوارٌ،
مثل دوار مطرقة تور، فيصبح البرقُ شجرةً تحترق بأغصانٍ كثيرة.
لم أفكّر بصيغةٍ للوصول إلى قلق خطوتي ولا في علامةٍ إلى أنني كنتُ أحملُ الجَمالَ في عينيّ.
الصدفةُ وحدها قادتني إلى موشور الضياء في بحر البلطيق،
هناك حيث تقع السهامُ من أيدي الآلهة،
ليس مركبٌ واحد بل مراكب سكرانة تُحيّي الغريبَ الواقف على الشاطئ.
انتظرني أيها الصيف، ليلًا، الحجرُ في يدي يمشّط البحر.
غوتلاند جزيرة تستقبلُ الصمتَ وبريدَ الثلج في الشتاء كمأوى للراحلين في ضوء النجوم.
في غوتلاند منحدرات تقودكَ إلى المغارة، حيث يسكن السيكلوب، محاطًا بالغابات.
غوتلاند بلورةٌ مصنوعة من قوة النار في الليلة العظيمة،
أمشي فيها كأنني أصعدُ بقوة الأنفاس،
أسوارها لا تعرف أن تُغنّي بلا سفنٍ تائهة.
وصلتُ اليومَ كأن شجرةً مقدسةً تستقبلُ خطوتي قربَ مائدةِ النبيذ.
اشربْ، اشربْ أيها الغريب وارقصْ أمام إغدراسيل2 كما يرقصُ الذئبُ. المرأة بجانبي تتأوه كلما لمستُ يدَها في حلقة الرقص وتضربُ برأسها جدرانًا من زجاج.
الفوانيس مشتعلة رغم ذلك، لا أحد يهرب من المتاهة،
لأن غوتلاند تنام وتستيقظ بالقرعة،
وإذا أخذتكَ المصادفاتُ سباحةً ستصلُ إلى الفنار مع تلاطمِ الأمواج وشروقِ الشمس.
الرغبةُ ثانيةً تفتح بابَها للمرأة السرّية وهي ترمي جمرةً من يدها إلى البحر، الأصوات تتنفسُ بصعوبة،
الحجارة تُغني كما لم تُغنّ من قبل لأن الليل صامتٌ في غوتلاند كصمت الآلهة.
تنعكس الأسماكُ في حدقاتِ الصيادين كألوانِ قوس قزح،
وهناك عواصفٌ رعديةٌ تحثّ خيولًا للهرب إلى الغابات.
الطبيعة، آه أيتها الطبيعة،
ها هو الحلزون يهبطُ إلى منحدر سرّة السيدة الشقراء،
النوافذ مفتوحة في المساء لظلال العابرين.
في هيئة منْ تعودُ هذه الإشارات الأخيرة، أهو سنجاب يتسلق شجرةَ العدم، أفعى تحاول الوصولَ إلى الضحية، مجرفةُ الفانين على هذه الأرض، مزمارٌ يُغني لزهرة الأشباح في غوتلاند، والآن ماذا تفعل في هذه الجزيرة بعيدًا عن كابري وإيثاكا!
عليّ أن أجد طريقًا يفضي إلى اللامكان، عتبةً ينام عليها الشريدُ الأبديُّ بعينين مفتوحتين، هو الأكثر شراسةً من الإله.
شجرةُ الدردار احتضنتْ خَوفَها لأن تور في الطريق إلى الغابات. هذه أغنيتكِ الصباحية يا غوتلاند، آسف أنا لأنني تأخرتُ في المجيء، على الأرجح كنتُ في بهلا أنظرُ إلى جمرةٍ في فم الساحر. لكنني سأتعّلمُ من الأساطير، الهجرةَ كنبيٍّ مفلسٍ أمامَ حانة الليل.
يمرّ الرعاة بلا بوصلةٍ، يقودهم غناء الساحرات. المراعي تسرق النظر في اتجاهات عديدةٍ مخلفةً فرحًا في الوجوه والخطوات، لعّل الضوء يقطرُ من الأغصان وأنا أمشي تحت عين السيكلوب ولعّل الإكليل تحطم تمامًا من كثرة البرق، وهذا الأملُ لم يعد ينزفُ دمًا منذ نهاية الفايكنج.
الجُندبُ لا يلبثُ أن يظهرَ من كهفٍ كأنه كان يختبأُ في لعبة المصير في ميناء كالمر3، هناكَ سهرةٌ تنتظرني في العاصفة وعليَّ أن أتهيأَ كما يتهيأ الراهب للقداس. بحرُ البلطيق يُحرّك العبّارةَ يمينًا وشمالاً كشعرةٍ في الأفق ثم يستديرُ للموتى كما لو كانوا نائمين فوق أسرّتهم في القاع العميق.
بريقٌ أكثرُ سرّيةٍ يُتوجُ سريرَ الحب وفي وقت الرذاذ يلتحمُ جسدانِ تحتَ السلالم، في كلِ بيت.
من مسقط رأسي قفزتُ إلى هنا بقدمينِ تتطوحانِ في الهواء كأنني أسيرُ عينينِ تبرقان من المجهول، ضائعًا في الدنيا تستقبلني هذه الجزيرة بحفيف ورق السنفرة في يدِ النجار.
في حانة الليل تقول لي السويدية الشقراء، هل تسمحُ أن أُقبلَ شفتيكَ وأنا أنظر إلى حاجبيكَ الأسودين الجميلين!.
هناك طريقٌ صاعدةٌ يتخفى فيها، عنكبوتٌ وسحليةٌ وذُباب الماء وأنا وحيدٌ كحوت الهُركول الذي يُحب العزلةَ ويهرب من الصيادين والفلاسفة4. حياةٌ رأيتُها في قارةٍ صغيرةٍ، أشدُها من الأطراف كالدمية، كانت العتبة صغيرة أمامَ البيت وعندما دخلتُ انفتحَ الباب تلقائيًا، كنتُ كمن يشبك الذكرى بالحلم ثم انحرفتُ إلى اليسار لأسمعَ موسيقى باخ تُطرّز البيتَ بكامله بالزجاج المُعشق في النوافذ وعندما تنظرُ من نافذةٍ تبدو لكَ من بعيد امرأةٌ وحيدةٌ تنظرُ إلى البحر، إنه طيفٌ، طيف امرأة أمام البحر آنذاك يعبرُ رجلٌ خفيف الظلِ مع كلب الجحيم أمام بنات الملوك، وهو يصرخ لقد أيقظوا العاشقَ من نومهِ والآن ماذا سنفعلُ بالبربري الغريب، أو قولوا ماذا سيفعلُ بنا، نحن أبناء غوتلاند.
وصلتُ إلى الحدْ، أتبعُ آخر الينابيع لأسقيَ شجرةً واحدة كأنني أخرسٌ وأصم.
قد أكونُ مسافرًا إلى أرض الأبد حيث تتخذُ الأشياءُ أشكالًا حقيقية، كالقنوات التي تحملكَ إلى الأغوار. من يدري قد أعودُ بغنيمةٍ من ميناءٍ تُديرهُ امرأةٌ وحيدة، هي نفسها المرأةُ المغويةُ، الوسيمة، والقاتلة، ماذا أفعلُ بحياتها وهي تشوي بيدين حالمتين الكستناءَ وتدعوني للفراشِ لكي أُرَقق عينيها المزججتين بصبرٍ طويل، لقد فَتَحتْ لي، دربًا للسيرِ، عاريًا، مفتوحةً للريح وفي صدرها خيولٌ تركضُ إلى أعلى في طريقِ الفراشات. في اللحظة التي أقطفُ فيها من شجرةِ الأرقام، تنبثقُ حياتي ثانيةً من البئر.
تظهرُ الكلمةُ الأخيرةُ في دمي الميت، يظهر إنكيدو من الغابة في بلاد الشمال، يرقبُ الحلّابات السويديات وهنَ يفكرنَ بصوت أبيض كالحليب، لِم أنتَ هنا يا إنكيدو، هل بحثًا عن الصداقة الأبدية، عن درّة الأفعى وزهرة الخلود؟
كلُ سفرٍ يُعذّب الماضي، كل ملجأٍ يقول لي عدْ إلى دلمون، إلى أوروك. أيامٌ بلا امرأة تعني أيضًا مطرٌ وسحابةُ تهبطُ إلى الأرض.
من أبوابٍ خفيةٍ تظهرُ الموسيقى، يظهر الراقصون، إنه عيدُ منتصف الصيف في غوتلاند، يومٌ أحمرُ في الروزنامة، خفيفٌ كالريش، يومٌ ليس كالأيام، لكنه يصبُ في باخرةٍ ضائعةٍ في بحر البلطيق، لن ينجو منها سوى امرأة من بغداد قذفها السلُّ والحربُ والطاعون لتظهرَ أميرةً في يومٍ ماطر.
وكانوا في انتظارنا، لنصعدَ ثانيةً بلا أضرحة ولا قبلاتٍ صغيرةٍ في الشفتين، هذه هي الدروبُ المقذوفة أمامي تحت شعلة النار.
لن أنتظرَ أكثرَ، هذه رحلةٌ تم تأميمها من قبل الأقزام الصغيرة التي تسعى إلى الضحك أمامَ باب النجار وهو يصنعُ كرسيًا بلا مسامير، لكن بمطرقةٍ هائلةٍ، تسمع أنت الواقف مع الأقزام نشيد الكون الصباحي، آنذاك يرتفع الكرسيُ وهو يحلق وحده في محترف النجار مصحوبًا بضباب البحر، أنقلُ خطوتي إلى المرأة البغدادية حيث تسافرُ يداها على جسدي، في كل برهةٍ كجناحي ملاك خائف.
ما الذي لم تفعله في حياتك يا زاهر!
تسألني هذه الدنيا الحمقاء، كأن الإجابةَ سهلة في يد الأعمى، وللمرة الألف تستيقظُ في صيف غوتلاند على أصوات شعراء ينادونك من المنقلب الآخر للعالم.
أبعد من الكلمات هذه الصاعقة التي تتلطف بي، عندما أتذكر نهود الصبايا العاريات في الأرياف.
بأغنيةٍ مُحطمةٍ تتجمع النساء في بلدي على جمرة الكآبة وكلما أحببتُ واحدة منهن يضحكن كأنني لم أكن وسيمًا كشفرة الحجر على سطح البحيرة. عندما أتذكر سحابة الماضي هناك دومًا مرثيةٌ كرايةٍ تخفق في الهواء.
في غوتلاند لا مهرب من العبور إلى جزر أخرى كأنك تنتقل من نيزكٍ إلى آخر.
آه أيتها السعادة ضاعفي من الموسيقى في سحر المساء كي أجد نفسي تحت لهب الفوانيس أشربُ من كأس اللا أحد.
أنا سأكلّمُ الكهف والأفعى هذه المرة وأقول لم يكن هولاكو سوى صيحةٍ صغيرةٍ في البراري.
ذكريات تستقبلها الريحُ بصمت مُتبادَل وقبل أيام كنت أزرع قمحًا في بيبيلوس، كانت المرأة وهي تغني كما لو كانت تغني في صباح غوتلاند ومن كفها يتدفق نبع الشمال الآن وقد عرفتَ تفاصيل حياتك وانزلقت جوهرة الحنان إلى حضنك مازلتَ تفكرُ في الجزيرة، في تور، في شجرة أغدراسيل، في الصبايا وقت الظهيرة، في الرقصة الأخيرة، في الموت والميلاد. تدخن غليونكَ في الكوخ الصيفي أمام البحر كأنكَ تُحلق مع الدخان للمرة الأخيرة بعد أن اصطادَ قلبكَ غناءُ الراهبات لتكون الشريكَ من اليد اليسرى إلى اليد اليمنى كالقابض على جمرة الليل.
كانت لي حجارة من الأيام، سبحتُ في مستنقع اليقظة أطارد الغيوم في أفق يهرب باستمرار، اللعنةُ، لو كنتُ فيكِ الآن، لو كنتِ في فراشي وبريقكِ يزداد قسوةً حتى قبل أن أعرفَ، قبل أن يصيحَ الديك.
اتعبتني الرحلاتُ والطريق تطولُ إلى ألف سنة حتى ينقضي، حتى ينقضي عمري منسيًا في عينين وفيتين.
وجدتُ نفسي في هذا الكوخ يتبعني أطفالٌ عراةٌ وهم يضحكون، أرمي برأسي إلى الشعلة وهم يضحكون كأن بيننا اتفاقًا أو تواطؤًا لنجعلَ من هذا العالم ممسحةً في يد الرب ….
بضربةٍ واحدةٍ تنفلقُ الموجةُ تحت ذراعي، إنها الشرارة الأولى للحب، نغمةٌ يُسمع صداها من بعيد، نغمةٌ ضروريةٌ لتسلق الجبال والأشجار في قرية نائمة بين الأودية. منذ الآن أضع تعريفات لتدُلَ عليّ
اليد: إشارة إلى أرض بعيدة بين الأدغال
الجزيرة: موطن للعزلة وحرائق القلب
الأرض والسماء: سبيلان يصبان في الأنهار
نقار الخشب: فكرةٌ أليمة في جذع الشجرة
النار: تستحي من الله في جنة مفقودة
الريح: عمياء عندما لا تراكَ في الليل نائمًا أو مخمورًا
الصرخة: أخت المسافات إلى السماء
الموسيقى: تلميذةُ الصمت الوفية
المصير: في يدٍ مفتوحة، حرة
وهناك ليل الألم، الواحد هو أن تنظر إلى العالم بعين الحوت الذهبية.
متاهة غوتلاند تجعلني أنام في بلدةٍ نهرية تستقبل الكلمات دون خارطةٍ بعد أن أكون قد احترقتُ كليًا، فالحياة أحيانا ليست سوى لعبة أطفال.
أتوقع آفاقًا تُطالبني بالسفر إلى أرجاء المعمورة في يوم غائم، اتوقعُ أيضًا نبضاتٍ ذهبية يحسبها البخلاء نقودًا مرميةً في الطريق.
كأن فوق جبيني يدور ختمُ الخطيئة يا غوتلاند، لكنني أمشي واثقًا بهجوم الملاك على الإنسان فهو في الأخير ملاكٌ بثوبِ فلاحٍ في حانة إيسولابيلا.
اسطورةٌ يتبعها حصان دون كيخوته الهزيل حتى لو لم تكن هناك طواحين الهواء.
أية أمسية من الصيف ترسل إليكَ باقات من الأزهار، أية غيمةٍ تجعلني أبكي المنفى الطويل. يدي رطبة وهذا التراب يابسٌ، يدٌ وحيدة بلا هواء لن تفتح نافذة لكن الريحَ تكنس دومًا الكلام الذي لا يعود،
ولن يكون الشاهد سوى هذه اليد وهي تلوحُ من بعيد لضيوف الماضي.
تأكدْ من طيفٍ نائم في تابوت ستكتشف أن يدهُ هي يدكَ تنظر إلى الحافة.
تأكدْ أن الطريقَ طويلةٌ وأن العالمَ صغيرٌ كسلةِ أسماك،
إن كنتَ تعرفُ كل هذا، إن كنتَ تعرفُ حقًا، لِمَ إذن تريدُ أن تغادر الجزيرة وأنتَ ستموتُ فيها؟
مكتوبٌ على الجبين أن حياتكَ تصعدُ وتنزلُ من السلالم بأسمال الغريب.
النزهةُ حاضرةٌ بين الغابات والشاطئ لكنك في مكانكَ دائم الترحل كأن جسدكَ في مكان آخر.
كأنكَ تريدُ بلادًا تُطاردكَ وتخافُ عليها من غضب الآلهة.
ما الفرق بين طفولةٍ في الجنوب وكهولةٍ في الشمال غير المرايا.
لا يشيخُ الهواء في غوتلاند، جزيرة نصفها عُراةٌ على البحرِ
وقلعتها شجرة الناسك، والنساء الطويلات يشهقنَ فوق أسرّة الليل،
وقد لا نذكر زنزانة في غوتلاند بل أكاليل على نهود النساء.
سيأتي يومٌ يقرأ فيه المنجمون أسفارًا تتحدث عن النجوم الضائعة في السماء، عن المناجل التي قطعت الأيدي في بلدان أخرى،
ثم لماذا بعد أن كانت لنا بلادٌ نعود إلى هذه الجزيرة.
هل تسمعين صوتي يا غوتلاند، صوتَ من أنهكهُ السفر، لذلك سأستلقي هنا،
عند مشارف بحر البلطيق، رافعًا يدي في الهواء كراية المنتصرين،
أنا الغريبُ الذي صانَ قفلةَ الإصبع لينامَ في شمال الكوكب.