رنا نجار
فرضت ثقافة «كوفيد 19» نظامًا زمنيًا مشوّشًا. صار يومنا «لا متناهيًا» كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إحدى خطاباته التي توجّه فيها الى شعبه للإعلان عن إعادة إقفال البلاد في أكتوبر 2020. وبتنا نعيش في تسلسل زمني جديد ضبابيّ الأفق. اضطربت معه إيقاعاتنا البيولوجية الفردية وصار الوقت يتدفّق غزيرًا هائمًا في حياتنا من دون أن نتمكن من التحكم به.
تمضي ساعات طوال بلا جدوى وتتوسّع وتطول. خلال فترات الحَجر المتقطعة التي شهدها العالم في 2020 وامتدّت في بعض البلدان مثل الهند الى 2021، صارت الأيام متشابهة وعطلات نهاية الأسبوع لم تعد للخروج من البيت ولا للاستراحة بشكل واضح كما كانت سابقًا. فكثيرون اختلطت أيام عملهم بعطلاتهم أو ساعات الرياضة مع ساعات النوم، أو وقت الطبخ مع وقت اجتماعات عمل افتراضية لا تنتهي. ومع ذلك مرّ الوقت سريعًا ونحن ننتظر الفرج هائمين، كما مرّ قطار محمود درويش سريعًا وهو ينتظر حيث لم يكن زمنه وحيث اختلفت الساعة واليوم، على ما كتب في قصيدة «مرّ القطار». وبتنا ننظر الى ما قبل كورونا كأنه دهرٌ سبق حياتنا الآنية المتوترة، أما الغدّ فهو كلعبة الإخفاء أو «السحبة» التي لا نعرف بما تُفاجئنا؟
الحَجْر كسر وَهْم الإنسان بالسيطرة على الوقت
لقد كان البحث في مسائل الزمن وقضاياه المتشعبة موضوع بحث عميق ومعقّد منذ القِدم لكثير من الفلاسفة من هيراقليط الى أفلاطون وصولًا إلى أرسطو وأوغسطينوس وكانط وبروست وهايدغر، خصوصًا أن فلسفة الزمن والمكان هي من الأفكار المركزية في علم الفلسفة منذ نشأته وشغل حضارات قديمة مختلفة مثل المصريين واليونانيين والهندوسيين والأنكا والهنود.
تنطلق الباحثة في علم الفلسفة والأستاذة في جامعة البلمند اللبنانية الدكتورة مارلين كنعان للحديث عن هذه القضية الشائكة في حديثها مع مجلة «نزوى» من مبدأ أن «الإنسان في علم الفلسفة هو الزمن».
«لكن كي نُبعد البُعد التراجيدي عن الزمن، نحاول أن نحوّل المعنى من «أنا الوقت» الي «عندي الوقت»، أو بمعنى آخر أن أجدوِل الوقت وأنظّمه وأقسّمه بحسب المشاغل، وقت للنوم وقت للعائلة وقت للقراءة وقت للعمل وما إلى ذلك»، بحسب قولها.
وتفسّر أن البشر هم كائنات حادثة أي لديهم وقت محدد لا يمكن أن ينفصلوا عنه، لذلك جوهر الإنسان هو الزمن». وتشير إلى أن الإنسان كائن مرتبط أيضًا بالمكان وهو «زمكني» أو «Spacio-temporel» بالفرنسية، لكن على عكس الزمن الذي لا يستطيع الإنسان السيطرة عليه بما أن علاقته به واهنة ولا رجعة فيها، يمكنه السيطرة على المكان والتحكم به وتغييره والعودة إليه وقت يشاء».
وتحاول كنعان أن تشرح أن الإنسان بفطرته موهوم بأن الوقت ملكه وهو يتحكّم به بمجرد تحديد مهامه اليومية ضمنه، لتؤكد أن «الحجر الصحي والعزلة وعدم الاختلاط والتلاقي وغيرها من السلوكيات التي فرضها وباء كورونا، قدّمت كلّها مزيدًا من الوقت وأوقات الفراغ والكسل للإنسان العصري المشغول دائمًا وليس لديه الوقت ليفكّر بنفسه ولا براحته ولا بالملل، لأنه ليس لديه وقت للاسترخاء والتأمل». فالوقت في حياتنا المعاصرة يجري كمياه النهر لا يلتفت إلى الوراء، وكما يقول الشاعر اللبناني طلال حيدر «الوقت ما عندو وقت ينظر حدا».
بينما اخترق كورونا كل تلك النظريات ومنحنا أضعافا مضاعفة من الوقت وبالتالي «كسر الحَجْر الوهم الذي كنا نعيش فيه بأننا نسيطر على الوقت ووضعنا في مواجهة مع كل هذه الساعات اللامتناهية»، كما ترى كنعان.
نظرة إيجابية
وتحلّل كنعان بأن «الناس تفاعلت على مستويات مع مسألة الوقت خلال الحجر، فمنهم من وجد في المسألة أمرًا مميتًا وسلبيًا ومنهم من وجد ضالته في الحجر لينفّذ أمورًا كان يحلم بتنفيذها كالزراعة والمشي في الطبيعة أو الرسم أو تنفيذ مشاريع عالقة أو من رأى في هذا الكسل فرصة للإبداع الذي كان يحتاج الى هدوء ما».
وتعتبر كنعان أن «هذه نقطة إيجابية كنا نحتاج إليها في خضم عشرات السنوات التي غزتها السرعة، لنأخذ استراحة ونتوقف عن الدوران ونجلس مع أنفسنا ونفكر بذواتنا وهو ما يخاف منه كثيرون لأنهم خرقوا منظومة الروتين والعمل والسرعة ولم يستطعوا إيقاف عقارب الساعة». وبالنسبة لكنعان هذه نقطة إيجابية في تغيير النظرة إلى علاقتنا بالوقت كبشر، إذ يحتاج الإنسان إلى الكسل وإلى أن يتدفق الوقت ليُسائل نفسه ويعاود الانطلاق من جديد».
يومان في يوم
لكن بالنسبة لـ «هناء» إحدى العاملات في جمعية خيرية في بيروت (45 سنة) لا يمكن لهذه العزلة التي فرضها الوباء أن يكون فيها أي إيجابية. وتقول: «طبيعة عملي هي العمل مع العائلات الأكثر حاجة والنساء المعنفات، وبالتالي كانت فترة الحجر الأولى كارثية على هذه العائلات التي سجنت في المنزل من دون أي مردود مادي وازداد التعنيف المنزلي بشكل هائل، لذا كنت أعمل من البيت لكن نهاري اتصل بليلي ولم أستطع أن أتوقف عن العمل، وكانت أيام الأسبوع كلها سواسية حتى أنني ما عدت أطبخ ولا أتحرك، من الكومبيوتر إلى التلفون الى النوم والعكس». وتضيف: «كان الوقت ولا يزال لكوننا لا زلنا نعمل من المنزل بعد ظهور متحوّرات «دلتا» وغيرها»، يمر من دون أي نقطة مرجعية أو رادع أو جدول زمني يجعلني أرتب أموري، تداخلت الأمور ببعضها وصرت مرهونة للعمل المتواصل من دون أن أستطيع التحكم بشيء. فقدت السيطرة وأكاد أنفجر».
الوقت المتضخّم
عاش كثيرون ما عاشته هناء خلال فترات الحجر المتقطعة على مدى عامين تقريبًا، حيث لم تعد الجداول الزمنية هي التي تتحكم في إيقاع حياتنا، إنما النشاط أو العمل نفسه من يفعل ذلك.
ففي فرنسا مثلًا، درج مصطلح «اثنين-أحد» (Lundimanche) خلال الحجر الأول في ربيع 2020، للتعبير عن العيش في يوم واحد. وفي الدول الأنغلوساكسونية استعار الناس صفة «Blur» أي ضبابي أو مشوّش، وأضافوه على أيام الأسبوع ليصبح «Blursday» أي يوم ضبابي أو يوم مشوّش. وهو ما تحدّث عنه الفيلسوف الفرنسي باسكال شابو (Pascal Chabot) الذي وصف تلك المرحلة في علاقتها مع الزمن بـ «الوقت المتضخم» (Hypertemps) ليعبر عن ديناميكية المزامنة الدائمة بين أنشطتنا وعملنا وإيقاعات حياتنا، حيث ينشأ أحيانًا الإحساس الفضولي بالعيش يومين في واحد، للتأكيد على طموح هذا العملاق الذي يسمى الوقت لغزو أيام الإنسان التي كانت منظمة بشكل طقسي وتحولت إلى متفلتة من أي حدود واضحة عبر الأدوات والتطبيقات التكنولوجية الحديثة.
انقلاب الوقت على صاحبه
وتُرجع الدكتورة مارلين كنعان هذا الذوبان في الحدود بين الأيام والليالي وما نتج عنه من ضيق وتشوّش، الى أن علاقة الإنسان بثنائية الخارج والداخل والعمل والبيت هي علاقة متجذرة وقديمة نظمت حياته على مرّ السنين. ولكن «عندما بتر الحجر هذه الحدود قتل علاقتنا المنظمة بالوقت (الذي هو نحن بينما نحن موهومون بأننا نتحكم به) وفرض علاقة جديدة مشوّشة معه»، تقول كنعان. وتشرح أن الإنسان عندما يولد تترسخ في ذهنه أن الحياة قصيرة وعليه الاستفادة من الوقت القصير الذي سيعيشه، وفجأة رأى أن الحجر يُضيّع وقته فيما كان يجهد ليستفيد من كل ثانية فيه فخرّب عليه برنامجه ومخططاته الزمنية».
وتردف أن كورونا خلخل أيضًا علاقة الإنسان بصفته كائنا اجتماعيا مع الآخر الذي بترت علاقته به وسكّر عليه كل تواصل حقيقي وفعلي تاركًا له العالم الافتراضي فقط كمنفذ». وتستنتج في النهاية أن «الوقت الذي هو نحن انقلب اليوم علينا».
للمتقاعدين صراع آخر مع الوقت
هذه السباحة في سحاب الوقت، لم تشوّش العاملين الذين عاشوا سنوات طوال تحدّد مجرى أيامهم حدود زمنية بين العمل والمنزل والعطل، لكنها أيضًا شوّشت وتشوّش المتقاعدين ومن يعملون أصلًا في بيتهم. إذ أن هذا الضياع رافقه حجر تام منع البشر من لقاء عائلاتهم وأقربائهم والأصدقاء والزملاء، فباتوا بحكم المنبوذين لا يمكنهم حتى المشي في الحديقة العامة لشهور طوال أو الذهاب الى نوادي الرياضة والرقص والرسم لأكثر من عام…
تقول سميرة (66 سنة) وهي جدّة تعيش وحدها في بيروت بعدما تقاعدت من التعليم الثانوي، أن عدم مخالطة الناس أوقعها في الاكتئاب وجعلها تنسى متى يعرض مسلسلها المفضل أو حتى في أي يوم هي!
«لم أعتد المكوث في البيت لأكثر من يومين في حياتي، بعدما تزوج أبنائي وتوفي زوجي، شغلت وحدتي بنشاطات اجتماعية ورياضية مختلفة مثل التطوّع لتعليم محو الأمية ثلاثة أيام في الأسبوع، وأجتمع في الصباح يوميًا بأخواتي وأصحابي على شرب القهوة، ثم أمارس الرياضة ثلاثة أيام في الأسبوع أيضًا بين النادي والحديقة العامة القريبة من منزلي»، تقول سميرة التي تحوّلت حياتها منذ ظهور الكورونا الى «جحيم». وتضيف: «قضيت وقتي في القراءة وكتابة الشعر وهي هواية قديمة، لكن الوقت لم يكن ينتهي، اليوم ينبت كل فترة متحوّر جديد وما أن تفرج وتفتح الأبواب حتى يعاد إقفالها…. النهارات والليالي كلها متواصلة، أنسى في أي يوم نحن وأحيانًا أنسى إن كنت أخذت الدواء في موعده أم لا لأنني فقدت الإحساس تمامًا بالوقت».
80 في المائة علاقتهم بالوقت تشوّشت
أجرت روث أوغدن الباحثة في جامعة «جون موريس» (John Mores) في ليفربول، دراسة نشرتها مجلة «بلوس وان» (Plos One) تضمنت مقابلات مع عيّنة من المحجورين بسبب كورونا في ربيع 2020، وتبيّن لها أن 80 في المائة من هؤلاء الأشخاص شعروا بتشويه في علاقتهم بالوقت. ووجدت أن الضغط النفسي المتعلّق بهذا التصوّر، يرتبط ارتباطًا مباشرًا بـ «مستوى الرضا الاجتماعي»، أي بعدد ونوعية التفاعلات مع الآخرين. هذه النتيجة التي توصلت إليها الدراسة، توضح بحسب عالمة الاجتماع روث أودغن أن «الأصغر سنًا الذين هم الأكثر نشاطًا، لديهم شعور بأن أيامهم تمرّ بشكل أسرع على عكس كبار السن».
الخوف من الفراغ
بينما تعتبر عالمة النفس الفرنسية فرانس مارشان أن «ما يزعجنا هو الحصول على وقت إضافي نتحكّم به من دون أن نكون قادرين على التخطيط أو التفكير في المستقبل»، مشيرة الى صحيفة «لوموند» الفرنسية، أن «عدم التأكد من أي شيء يثير المخاوف من المجهول ومن الفراغ، كما كان الأجداد يتوجّسون من الفقد والفراغ والموت».
إعادة اختراع عادات جديدة
من جهته، يقول عالم الاجتماع الفرنسي جان فيارد للصحيفة الفرنسية: «نحن نعيش في مرحلة تراجيدية، لكنها أيضًا مرحلة الفُرص، وعلينا أن نضع أنفسنا في موقع قتالي لخلق عادات جديدة». ويضيف: «علينا أن نعيد اختراع أنفسنا ووضع ذواتنا في موقف قتال لنبتكر عادات جديدة (مثلًا الذهاب الى المسرح في الصباح) وتطوير عالم ثانٍ من العمل من خلال ترتيب مساحات مجتمعية جديدة ليست المكتب ولا المنزل، وبناء مجتمع رقمي مبتكر وربما الانتقال… وإلا سنقع في الاكتئاب ونحبس أنفسنا في «قلاعنا» المحصّنة».