صالح لبريني
يعدّ الشاعر محمد بنطلحة من التجارب الشعرية المفارقة في الشعرية العربية،نظرا لما يمثّله من صوْت شعريّ له إضافات متميّزة على مستوى النص الشعريّ المعاصر من حافّةٍ، ومن حَافَّةٍ ثانية تَمكُّنُه من تحرير اللغة الشعرية من الأثر الإيديولوجي، الذي كان يُوسَمُ به الشعر الستينيّ، بإسْباغ روح الذات وخفْق الوجود على الخطاب الشعري، فجاءت القصيدة، عنده، مدبوغة بملامح التجديد والاختلاف عن المألوف في الكتابة الشعرية، وصانعة صوْتَها الدّاخلي المنبثق من حرارة التجربة وعمقها، مبتعدا عن المسكوكات الأسلوبية، التي تتعامل مع اللغة كَحِلْيَةٍ تُجَمِّلُ البنية الشَّكلية للقصيدة، ممّا يُفْقدها جانبين مهمّين في جوهر الشعر، الإبداع والبعد الجمالي.
لذا يمكننا القول إن المشروع الشعري للشاعر هاجِسُه الأساس الخروج عن عبودية القوالب الجاهزة، من خلال، إبداع نص شعري يعبّر عن كينونته بلغته النابعة من خطاب شعري مُتمرّد عن مسالك الأسلاف، ممّا يوضّح أن تجديد الشاعر له منطلقاته الفكرية والثقافية والشعرية، التي تثبت التعدّد والاختلاف والغنى،وهنا مكمن شعريته. بعبارة أوضح فمحمد بنطلحة تَجاوَر وتَحاوَر مع الموروث العربي قديمه وحديثه بعين ثاقبة ورؤية متفحّصة، منفتحا على الثقافة الغربية، خالقا بذلك خطابا تقويضيا- إن صحّ التعبير- لهذه الأشكال، عبْر صَبِّهَا، في بنية تستجيب للحظة الحضارية والمزاج الثقافي المهيمن. لأن « قوة أي شاعر تكمن في مهارته وفي إبداعه في الإبدال والتعويض»، وفي هذا السياق تنجلي ميولات الشاعر نحو الخرق، وتحطيم صنمية النّمط، على اعتبار أن أساس الكتابة الشعرية» الخرق المنظّم والممنهج لكل المعايير والقواعد»1
من هذا المنطلق سنروم محاورَة هذه التجربة والكشف عمّا يميّزها عن غيْرها من التجارب المجايلة والمحايثة، و استنباط الآثار التي بَصَمت صيرورة القصيدة المغربية منذ السبعينيات إلى هذه اللحظة، خصوصا وأن الشاعر – فيما نعتقده- عمِلَ على تأسيس خطاب شعري مفارق ومغاير لما هو كائن في الشعر المغربي، فالأمر إذن متعلّق بتجربة مَنْبِتُهَا شعْر حداثة أسهم في حداثة الشعر، وكرّس «الانفتاح على ماهو حديث ومعاصر من النصوص والإنتاجات الإبداعية المختلفة، يسمح هو أيضا بأن يتنفّس النص الجديد بأكثر من رئة واحدة»2، كطابع تنماز به تجربته الشعرية المتحوّلة والجانحة صوب أفق شعريّ حداثيّ، لا يفرّط في جذوره ولا يرتمي في حضن حداثة بغير وعي في الكتابة والإبداع.
محمد بنطلحة والشعر المغربي:
إن الخوض في الحديث عن الشعر المغربي، يقتضي من الباحث التسلّح بِعُدّة نقدية تكون لها القدرة، على إضاءة مساراته وانعطافاته التجديدية، لأن التجارب التي شكّلت خطابه الشعري ذات خصيصات متنوعة ومختلفة، ذلك أن شعر الستينيات له صوت الإيديولوجيا، في حين أن شعر السبعينيات يتّصف بخفوت صداها (الإيديولوجيا) ، ليفتح أفق الاشتغال على اللغة وبها، والعودة إلى الذات دون التفريط في المرجع. ومادمنا نتناول تجربة الشاعر محمد بنطلحة، فلابد من استحضار سياقات التحوّل التي كان لها أثرها الجليّ على النص الشعري المغربي خاصة، والعربي عامّة. وفي ظلّها جاءت تجربته محمّلة برؤية تثويرية للقصيدة المعاصرة، رؤية مجدّدة مسارها ، وموسومة بالتّمرّد والعقوق ل»أن الخلق يستلزم الخرق، وليس الطاعة والخضوع». إلى جانب تجارب تلة من الشعراء أمثال محمد بنيس وعبد الله راجع وأحمد بلبداوي ومحمد الميموني وأحمد بنميمون ومحمد علي الرباوي وغيرهم، وبالبحث عن هوية للقصيدة المغربية تليق بها،فكان اللجوء إلى توظيف شخصيات تاريخية كأقنعة شعرية، والاحتفاء بأخرى شاذّة داخل المجتمع المغربي كصالح الشكدالي لعبد الله راجع، وإحياء الكتابة الكاليغرافية دليل على هذه الرغبة في ابتكار الشعر المغربي لاستعاراته الإبدالية المتّسمة بالغموض، من أجل خلق ذائقة شعرية تجترح أفقا شعريا مختلفا ومغايرا،» يقودنا صوب عالم جديد، صوب إنسانية جديدة بآفاق جديدة»3، ويمهد لاستراتيجيات شعرية واسعة تزيد من تطعيم الخطاب وتخصيبه بجماليات أسلوبية تبتدع شعرية تتجاوز «المحاكاة والتمثيل، فإنما يضعها، في الواقع، في قالب مستقل، خالص من الاستعمال التقليدي» . هذا الخرق للتقليد يحمل دلالة على امتلاك الشعراء السبعينيين لوعي عميق بالذات و التاريخ والمجتمع، وذلك بجعل مقصدية الشعر كونا جماليا وفنيا على مستوى الخطاب.
وعليه فالشعر المغربي لم يَنْزوِ إلى البدايات، بقدر ما سلك طريقا آخر في الكتابة الشعرية، مَدْمَكُهُ الفهم المُدْرِك للموروث بُغْيَة ابتداع نص شعري يتخلّق من رؤية مُنْزاحَة عن ما في الأعيان وتشكيلها عبْر الأذهان؛ و تشكيل شعر متحوّل يحرّر الخيال ويوسّع الدلالات، إلا أن السبب الذي أكْسَبَ الشعر المغربي تميّزه، فرادته وإبداعيته هو أن « القصيدة لم تعد نموا أفقيا بخط واحد، بل أصبحت تنمو عمقيّا، صارت شبكة مشعّة من المعاني والأخيلة والمشاعر. لم تعد تتوالد انفعاليا وحسب، بل أصبحت تتوالد في التأمّل، والوعي، والصبر والجهد»4.
هكذا تجعلنا القصيدة الفريدة أسرى جمالها، مغلولي الدهشة، ومرتكبي جريرة العشق تجاه تجربة تغوي وتغري بمراودة عوالمها المتخيّلة، ومصاحبتها صحبة هادئة،مصغية، حافرة في أعماقها الضّاجّة بهدير الروح وارتجاج الجسد، والمؤسسة لمجازها الإبداعي الذي يدنو من بلاغة التعبير -على حدّ وصف الجرجاني للمجاز- بأنه» أبلغ من الحقيقة»5 ، وذلك وفق ابتداع إيقاعها الخاص، إيقاع الصور وانسيابها داخل القصيدة في نموّ درامي متنوع6، لأن المرحلة السبعينية كانت مرحلة عنف السلطة، فكان الردّ على عنفها بإبداع مشحون بالرفض والمواجهة، بعبارة أخرى مرحلة السيف في مقابل القلم، فتولّدت تجارب شعرية لها «من القدرة على العطاء والتجدّد ما يضمن له(ا) البقاء حيّا(ة) على مرّ السنين، بعد زوال ظروفه وملابساته. فإن كان فوق ظروفه وملابساتها بقي، وإن كان محكوما بها زال معها»7، ولعلّ هذا ما كان من نصيب تجارب شعرية تجرّدت من المرجع الخارجي وانتسبت إلى ذاتها لتكون أكثر انفتاحا، خالقة لغتها الشعرية لخطاب مثقل بالهاجس الإنساني والوجودي. خلّف أثره لمتلقّ ينتج النص، بلغة رولان بارت، الذي يعبّر عن تجربة» تعرّف النص، وتحدّد مضمونه، وتجذب القارئ إليه وتغويه»8، وفي هذا الإطار يندرج هذا الشعر، الذي يبقى تعبيرا عن حالة الانفصال مع الواقع، أي أنه لايقوله كما هو، وإنما يصوغه انطلاقا من تصوّر يدرك دور اللغة في تشكيل ملامحه بعيدا عن التصوير الساذج، حتى يحقّق الاتصال معه. وأيضا لكي تكون هذه التجارب الشعرية ذات قيمة إبداعية تخلصت من الفكرة القائلة أن « الشكل الجديد هو تاريخ القصيدة، أي أن دراسة الأشكال وتطورها، أصبح الوسيلة الوحيدة لفهم هذه الحركة الجديدة وتقييمها»9، إلى الفكرة المؤمنة بضرورة التنقيب عمّا يميزها لغة وتخييلا، لأن النص الشعري الذي لايحدث القطيعة مع التجارب السالفة، دون نكران وجودها، نص ميّت لاروح فيه ولا حياة، ذلك أن التجارب الشعرية التي نالت ديمومتها وتداولها إنسانيا هي من تمكّنت من تجسير صلتها بالمنجز السابق، حتى تمتلك شرعيتها الإبداعية. فالشاعر هو القادر على التعبير عن مكنونات النفس ودواخلها، بوساطة، لغة شعرية تعتمد على الإيحاء، وتعتبر « من أبرز وسائل التصوير الشعرية التي ابتدعها الشاعر المعاصر عبْر سعيه الدائب وراء اكتشاف وسائل تعبير لغويةـ، يثري بها لغته الشعرية، ويجعلها قادرة على الإيحاء بما يستعصي على التحديد والوصف من مشاعره وأحاسيسه وأبعاد رؤيته الشعرية المختلفة»10
وانطلاقا مما سبق فمحمد بنطلحة شاعر اختار الإقامة الدائمة في مملكة العزلة مُطرّزا وناسجا تجربة شعرية مختلفة،صادمة، وصادحة بصوتها الشعري المتميز، فشعره- فيما أعتقد- « يفتح لنا أبواب العالم، ويضيء أمامنا آفاق سيرنا الإنساني الطويل» – كما يقول أدونيس- هذه الأبواب التي نَلِجُها مُبْتهجين، ونحن نعانق عوالم تجربة شعرية تتخلّق من رحم التأمل الهادئ، والغوص العميق في ذات تعشق الحبر لتسوّد به بياض الأرض ، وتكشف عن أزلية الشعر مادام الجسد في ساحة الحرب مدججا بظلّ يكتب تاريخ الجسد، الذي يخوض حرب الكتابة؛ حيث انهزام الذات أمام سطوة البياض، وتلك شيمة من شيم الشعراء النادرين يقول:
(أن أجعل من جسدي/ساحة حرب/وأن يرى ويسكت/على الورق هزمت وانهزمت/ وفي الحقيقة، لم أكن أنا من ذهب/إلى آخر الأرض/لم أكن أنا صاحب الجبروت/وإنما ظلي…..)
تلك سيرة شاعر خَبِرَ المسالك الضيّقة للكتابة الشعرية ، وكان جديرا بها ولها، باحثا عن حكمة الحياة في كتابة شعرية متجدّدة ومدموغة بصوت منفرد ومتفرد؛ لا لشيء إلا لكونه يُبدع من رؤية لا تكرِّر الكائن السّائد إبداعيا، بقدر ما تؤسس لخطاب شعري قادم من المجهول،من المناطق البعيدة المُعتمة، أساسه حداثة شعرية تبتغي الكشف عن المعاني الخفية والمضمرة، وسبْر الواقع الذي « تتناوله بطريقة تزيل ألفته بما تضفي عليه من تغريب . الواقع في القصيدة الحداثية يتجرّد من منطقيته ووتيرته الإيقاعية المعهودة إلى واقع لا يخلو من تنافر ونشوز وتشوّه أحيانا بسبب غياب علاقاته»11. يقول:( نهريّ النّبرة/ يأتيني صوتكِ من خلف الأسوار / مبغوما، ورخيما يبعث في نفسي أكثر من حسرة/ ويفاغمني نغما أتسقّطه، وأعانق منه صدى ينهار في أذني./ وأقوم لأعبر هذي الأسوار،/ فيباعد بين خطاي وبينك سور دخان ودم، أتسلقه،/ فيطاولني/ ويرين على الصوت شحوب الزّمن) ، فالذات تنوجد بين الصدى والصوت مختلف الإيقاع يثير الألم ويعكس الزمن شاحبا دلالة على مكابدة الشاعر في خلق تجربته الشعرية وابتداع صوته القادم من أقاصي الالتباس، فالرؤية الشعرية مشحونة بصدى المرحلة غير أنها تروم صُنع صوتها الحالم والمفصح عن اشتباك الأسئلة مع تجربة الذات في الكتابة والحياة.
الوعي بحداثة الشعر:
إذا كانت الحداثة وعيا مغايرا ميزته الحركية والتجاوز، والرغبة في ارتياد الممكن لكتابة تشرع أبواب التحديث على مصراعيها للتجديد والخلق، وتشيّد خطابها من تصور مختلف ومتخطّ لوعي يتّصف بالجمود والتّكلّس في نظرته إلى التراث، بخلْق وعي جديد يؤمن بالإبداع وينبذ الاتباع. ولا بد من الإشارة إلى أن كل تجديد، في العالم العربي، إلا و يتعرض للمقاومة من الأشكال المنمّطة، التي تأبى الخلق وترتضي السائد. فالوعي بالحداثة إدراك لجوهر الإبداع، وتبئير للحياة والأشياء والوجود حتى تحمل أبعادا جديدة وتشحن بطاقة تزيد من الرغبة في تحطيم الثابت بوعي مكين ومتأصل،خصوصا إذا « عرفنا أن من ملامح شعر هذه الحركة تجاوز الإطراب والغنائية -بمفهومها الحسّي في القديم- إلى الرؤيا والكشف والحفر في أعماق النفس والأشياء، أدركنا أن هذا يتطلب ثقافة فيها من البعد والعمق والشمول ما يُقدّر الشاعر على أن ينهض بتقنيات خاصة لهذه الرؤيا وهذا الكشف والحفر ، وهي تقنيات أسلوبية، لا تخلو من جِدَّة وغرابة وتعقيد»12 .
فالحداثة لا ينبغي أن تُفهم على أنها ضد التراث ونسْف له، وإنّما الغاية المثلى تكمن في بذرها بروح جديدة ونَفَسٍ متجدّد ، والسعي إلى إخراجه من حالة الاحتباس إلى حالة الانفتاح على كل الممكنات التعبيرية، التي لا توجد إلا وفق إبدالات طبيعية تطول الإبداع.أي الخروج من المطابقة والائتلاف إلى عالم المخالفة والاختلاف، فلا وجود لإبداع يظلّ مُتشبثا بكهوف الماضي ومغاراته، بل إن قيمة الإبداع الحيّ تتمظهر في إثارة الأسئلة، والحيرة في العقول ، وإحداث رجّات في القلوب، والتّحرّر من قيود النقل لمعانقة حرية الابتداع.الأمر الذي يجعل « قراءة نص شعري حداثي، تشبه السّير في دروب ملتوية معقّدة مليئة بالنتوءات والانكماشات والفجوات، دروب صعبة التضاريس، مبهمة المعالم لا تتضح فيها المحاطّ التذوقية والدلالية مثلما تتضح في دروب الشعر القديم. لهذا فمهمة القارئ هي الاهتداء في هذه الدروب بالنّبْش والتساؤل والتّأمّل والحدس، وهي مهمة مجاهدة ومكابدة»13 . انبثاقا من هذا التصور نعتقد أن الشاعر المغربي محمد بنطلحة ينتمي إلى هذا الوعي الحداثي الشعري لكونه» حالة وعي متغيّر، يبدأ بالشّكّ في ماهو قائم، ويعيد التساؤل في ماهو مسلّم به، ويتجاوز ذلك إلى صياغة إبداعية جذرية لتغيّر حادث في علاقات المجتمع، ليجسّد موقفا من هذا التغيّر، يصوغه صياغة تتجاوز الأعراف الأدبية للماضي، وتفيد من الكشوف الفكرية للحاضر»14 وتجترح سبيل المجهول لاستشراف الزمن الآتي، ولا غرابة في ذلك مادام الشاعر، منذ البدايات، يكسّر بنية الشكل بخلق شكل يستجيب للزمن المنتمي إليه، فلكل زمن إبداعه، ولكل إبداع زمن يخلقه. فتجربته ترفض الماثل وتكراره واتباعه، وتنزع صوب المغامرة التجريبية .
إن الثنائية التي تحكم تصورنا في هذه المناولة تحكمها رؤية موحّدة تنطوي على التفاعل والتواشج، إذ لا يمكن أن نتحدث عن شعر حداثي سمتُه الخروج عن سِمْتِ الاتباع إلى أفق إبداعي مطلق يتغيى الإتيان بالمختلف، وحداثة شعرية تؤسس للإبهار وللمتع والإدهاش، وتحريك بواعث الرغبة الكامنة في لا وعي المتلقي، وعليه فما نَرُومُه يتمثّل في التّنقيب والحفْر في مواطن التجربة وبواطنها عن شعرية جوهرها خلق جديد للعالم، لأن في « الفن يقول هيجل أودعت الشعوب أسمى أفكارها ومشاعرها» ومن ثمّ فكل نصّ إبداعي يشكّل مستودع الذاكرة بتشعباتها المتعددة، ومساربها الملتوية، فتجربة بنطلحة تنطلق من مبدأ أساس يكمن في العمل على ابتداع نص شعري يثير الذائقة ويستفزّها، ويذهب بعيدا في التمرّد إلى أقصى الحدود، رغم أن بداياته الأولى كان صوت الخارج حاضرا، إلا أن هذا لا ينفي عنها صفة الخروج عن النمط في الشكل والمضمون، اعتمادا على الرمز الطافح بدلالات جديدة يقول: ( قد شحّت الأشجار بالثّمْر اللذيذ فليس غير الحنظل المر/ وسوى خُطى الصّمت،/ وصدى هديل يقْرع البابا./ الطائر المقهور طلّق وكْرَهُ. ركبَ السّرابَا/ وعلى نوافذنا القديمة/ من ريشه نسَج الأسى عشّا/ وعنكبيتِ المرارة…) فالملفوظات في هذا المقطع علامات محمّلة بمعان تنزّ بأنفاس مخنوقة ومقيّدة، مقموعة حيث لا أمل في الخلاص من واقع مدلهم، فالحرية المجسّدة في الطائر مقهورة والأمكنة الحميمة لا حياة فيها، سوى الأسى والمرارة، عناوين تحفل بها سيرة الذات والمكان، لكن المخالف في كل هذا جمالية البناء، فالصمت له خطى والطائر راكب السراب، ناسجا الأسى عُشّا وقد تعنكبت المرارة، علاقات بين المفردات مفارقة وغريبة بالنسبة لذوي الذائقة المحنطة، إلا أن جماليتها تتمظهر في القدرة على إلباس اللفظ دلالات مفتوحة على الإبهار البلاغي،ذلك «أن الكتابة الشعرية لا تؤدي، بالضرورة، إلى اللامعنى، بل هي إهانة لكل معنى متداول، لأن هذا الأخير يقوم على الاستقرار داخل نسق معيّن، وعلى الاطمئنان إلى المنظومات التأويلية لمصير الكائن في العالم.»15، وفي هذا السياق لابد من التأكيد على أن الإبداع الشعري غايته الجوهرية هي خلق الجمال،وتحفيز الذات القارئة إلى ارتياد عوالمه المُبْهرة،وذلك عن طريق الخيال الذي يشكّل صُلب العملية الإبداعية، التي تمتح « من الشعور واللاشعور (…) ومن الواقع والخيال، ومن الحاضر والماضي، ومن العقل والعاطفة معا» 16، يقول الشاعر بلغة شعرية تنبض ببلاغة التحسّر والتوجّع : (فآه وطني ! / أُحسّك في عيوني/ نفايات من البارود تصعد في فوانيس البيوت/ وفي دواويني..) فالصورة التي يتمّ تشكيل ملامح الوطن بها، ممسوخة تبطّن سخرية لاذعة وقاسية له، مادام أصبح مجرّد كيان مصاب بالشلل،وفي حال الغياب. وهي أيضا صرخة في وجه الفراغ. إلا أن هذا التشكيل التراجيدي تمّ بلغة شعرية عمادها الإيحاء والإيغال في الترميز والتلميح. هكذا نلمس في الشواهد الشعرية السابقة حضور صوت الواقع غير أن حضوره خافت نظرا لرجاحة الرؤية الشعرية التي تنسج خطابها الشعري. و» هي لغة ذات طبيعة رمزية إيحائية تميل إلى التشاكل والتكرار، وهي خلاقة للمعاني والدلالات والصور والرموز في سياقات وأنسقة متعددة منفصلة ومترابطة في نفس الآن، بمعنى أنها تميل إلى التعدد والتنوع وإلى الوحدة والانسجام الشعري في آن واحد»17.
فالعمل الشعري له استراتيجية محكمة تقوم على أساس تجاوز لغة الصفر إلى لغة التصوير والإيحاء، و تثير «المسافة الجمالية» التي تربك المتلقي وتستثير كل ذخائره المعرفية والثقافية للوقوف على البعد الجمالي ف» المضمون في الشعر الحديث يجب أن يكون نابعا من تجربة الشاعر وفرادة شخصيته. وأن يكون الإنسان في وحدته أمام مصيره هو الموضوع الأول، وأن يعرب هذا المضمون عن رؤية جديدة للعالم»18، فخلق رؤية جديدة للعالم لا تتم إلا بنهج لغة شعرية أكثر تلميحا، ولعلّ هذا ما يجعلنا من التأكيد على أن الشاعر بنطلحة خالق لغة شعرية يتفرّد بها،ذات بنية موغلة في الإرباك، فبالرغم من هيمنة المعطى الواقعي يعبر عنه بنطلحة بطريقة تعبيرية تزيد المعنى قدرة على التخفي واستحالة القبض عليه يقول: (وفي مدينتي/ النّسر جاثم على مداخل الأسوار/ وفرس البحر، على رؤوس البجع انقضّ،/ لقيت هامتي/ نضّاحة بعرق الشجا.) فواقع الحال يستحيل إلى عالم مدجج بأشكال التعذيب، عالم العنف والألم، فالشاعر لم يعكس الواقع بشكل مرآوي وإنما عكسه ترميزا مما فتَح للتأويل مجالا يثوّر الدلالات. فعلاقة الوشج بين الذات والواقع تؤدي إلى خلق» وعي جمالي يعمد إليه ليفسح في المجال لعبقريته في الصياغة والإبداع»19 ، فسلطة الغواية حاضرة في تجربة بنطلحة مما يحوّل الخطاب الشعري إلى علامات مشرعة على قراءات عدّة، تسهم في العمل على شحن اللغة الشعرية وتخصيبها. وفي السياق نفسه ندرج هذا الشاهد الشعري الذي يحيل على (الخارج نصي) يقول فيه:( في رصيف الشارع المهمل/ غصّت كلماتي/ بالفراشات/ وأزرار الجنود/ مرّتِ الأخبار عجلى/ وأتت أزمنة مختلفة/ أبدا تملأ صندوق البريد الأغلفة/ ويغيب وجه في ريح المسافات…)، إلا أن بنطلحة قام بعملية التحويل أي جعل الواقع منطمسا في البنية الداخلية للقصيدة، مما يعكس تحول وعي الكتابة الشعرية، فالمقطع حابل بالإحالات الخارجية التي تعبّر عن مرحلة عصيبة من تاريخ المغرب، غير أنها لم تطف على سطح النص، وإنما غارت فيه، والذي حقق هذا التماهي المتنافرات اللغوية )غصت كلماتي/ الفراشات/ أزرار الجنود) التي ساهمت في إبراز معالم الضيق والاختناق، التي تشعر بها الذات في مواجهة الواقع، وهنا يبدو الاشتغال الواعي للشاعر،حيث يُشغّل اللغة في أقصى حدودها الاستعارية، ويبرز» وعي الذات الكاتبة بدور الدال في بناء الشعر، وهو وعي تخلّق في سياق تاريخي أعلى من شأن الخارج نصي، على نحو قلّص الحدود بين الشعر والخطابة»20 . فاللغة بالنسبة لمحمد بنطلحة وسيلة لاختراق الممكن النصّي وبوابة عبْرها تلج الذات عوالم مغمورة المفضية هي الأخرى إلى أكوان أكثر التباسا وقدرة على شحن الخطاب بتخييل شعري محفّز على مطاردة المستحيل، والتفنّن في تشكيل الخطاب الشعري بتشكلات سوريالية ورمزية تصيّره صدفة يصعب فكّ مغالقها ، والمتأمل في هذا المقول الشعري يكشف حقيقة هذه التشكّلات السالفة الذكر 🙁 غُنّتها جسر آيل للسقوط/ هكذا إذن هو الوقت/ حذاء في قدم أفلاطون./ فمَن ذا الذي يقول الآن: ما أشبه الصمت بالرّعاف؟ زمَن ذا الذي سوف ينبُر الهواء بقُفّازات من الورق المقوّى؟ يا إلهي!كأنّ الصمت مفتون بشعائره…) إن التشكيل اللغوي من المميزات الأسلوبية التي تُوصَمُ بها اللغة الشعرية عند محمد بنطلحة، مما يجعلنا في حضرة عوالم شعرية ذات بعد سوريالي رمزي فيها الكثير من الالتباس، تستدعي ذاكرة شعرية موغلة في المجهول، حيث التجربة تؤثث الخطاب الشعري بينابيع متنوعة وذات تجذر في أرض الإبداع الإنساني. وهذا الطابع الرمزي نعثر عليه في التعلق النصي مع نصوص سواء شعرية / دينية / فلسفية/ تاريخية، ولعلّ هذا ما منح للتجربة جدارتها الإبداعية يقول: (وقتئذ كانت حنجرة الليل عمشاء./غير أن الليل نفْسَه كان ذا بصَر./ بصَر بأعماقه./ وبصَر بالنهايات المدبّبة لأنفاس حلزونية لا تعرف-بالتحديد- أين تكمن نقطة ضعف المرايا، ولا مِن أين يؤتى بأخبار عشب الخلود..) ففي هذا النص يستحضر الشاعر دين الجن ولكن بأسلوب شعري يمتصّ فيه حياته ورؤاه الشعرية وصبّها في قالب شعري رمزي مثير للكثير من الالتباس والأسئلة، مستضيفا تلميحا أسطورة جلجامش مما أضفى جمالية شعرية خالية من كولسترول العبارة، بل مشبعة بروح الدلالات البعيدة القصد والمرام.
خاتمة:
فالتجربة الشعرية لدى محمد بنطلحة تخلق كينونتها الشعرية من التمازج القائم بين برانية النص وجوانيته، ففي المرحلة الأولى كانت الانهمام بالإحالة استجابة طبيعية للسياق الاجتماعي و التاريخي والسياسي، لكن مسار تجربته الشعرية، في المرحلة الثانية، سيعرف تجاوزا لصدى الواقع بتمزيق الحجب كافّة لخلق صوته الشعري المنبجس من عمق التجربة.