سأنطلق من الفرضية التي أعتقد بها وأدلل عليها . فابن ميمون لاهوتي فقط وليس لاهوتياً أيضاً، ذلك أن البعض يراه فيلسوفاً فتكون أيضاً دلالة على اللاهوتي والفيلسوف معاً . ولهذا آثرنا أن نضع الفرضية مدخلاً للبحث .
ابن ميمون لاهوتي أقصد باللاهوتي ذلك المؤمن بدين من الأديان ولكنه يسعى لتقديم خطاب تأويلي ـ عقلي للترسيمات الدينية المألوفة، والتي غالباً ما تكون أكثر قوة وتأثيراً من الترسيمات في حالها الأصلي، ولكنه ـ أي اللاهوتي يظل مشدوداً إلى الكتاب المقدس أسماء النظر إليه أساساًلتفكيره.
والحق أنني لست أدري على وجه الدقة لماذا لم يظهر في الأندلس فلاسفة من ذوي المعتقد اليهودي ـ كابن طفيل، وابن باجه، وابن رشد،بل لماذا أنتج اليهود في عصر هؤلاء الفلاسفة لاهوتياً كابن ميمون ولم ينجبوا فيلسوفاً ؟ .
بل لانجد في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية فيلسوفاً على شاكلة المسيحي الكندي .
على أية حال فإن الأسئلة التي واجهت المثقف المسلم حول الله وطبيعته والخلق والكتاب والنبوة واجهت بدورها المثقف المسيحي واليهودي على السواء . وعندي أن كتاب دلالة الحائرين ليس أكثر من النسخة اليهودية عن علم الكلام العربي _الإسلامي، رغم النقد الذي يوجهه ابن ميمون إلى علم الكلام هذا .
فالتأويل هو أن لايؤخذ النص على ظاهره، إذ لو أخذت الكلمات على مباشرتها لظهر للقارئ العقل الطفولي في النص .
ولهذا ليس من الغرابة أن يـبد ـ أبو عمران عبيد الله ـ كما يسميه العرب ـ بشرح دلالي لبعض الكلمات، ولهذا يصرح كاتب دلالة الحائرين قائلاً : « بل غرض هذه المقالة تنبيه رجل الدين قد تقع في نفسه، وحصل في اعتقاده صحة شريعتنا، وهو كامل في دينه وخلقه، ونظر في علوم الفلاسفة وعلم معانيها وجذبة العقل الإنساني وقاده ليحله في محله، وعاقته ظواهر الشريعة ومالم يزل يفهمه أو يفهم إياه من معاني تلك الأسماء المشتركة أو المستعارة أو المشككة فبقي في حيرة ودهشة » .
والحق إن فكرة الاختلاف بين ظاهر النص وباطنه ضرورية لتبرير التأويل، وليس الاستعارة والتشكيك إلا منفذ لحمل الكلمات على أن تقول قولاً هو بالأصل في وعي المؤول وليس في النص ذاته، حتى ليمكن القول إن التأويل كتابة جديدة لنص وقد تحرر عبرها إلى حامل ٍلمعان ليس باستطاعة الجمهور أن يصل إليها .
وهذا ما كان هاجس المعتزلة ـ كأول لاهوتيين في الإسلام، فالاستعارة ادعاء معنى للحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه على طرح ذكر المشبه، والتشكيك اتفاق من وجه واختلاف من وجه، أما الاشتراك فهو احتمال أن يكون للفظ أكثر من معنى والتواطؤ توافق وانطواء بمعنى واحد .
ولو أرجعنا إلى الكلمات التي راح ابن ميمون يؤولها لوجدنا أنها هي ما خالف علماء الكلام المسلمين في تأويلها، لا لأنه مقلد لهم بل لأن المشكلة واحدة، فالكل انشغل بالقول إن الله قد خلق الإنسان على صورته وراح يؤول معنى الصورة .
وكذا الأمر في كلمة كرسي الواردة في التوراة والقرآن وقس على ذلك، لاشك أن ابن ميمون واجه كلمات لم يواجهها الكلامي الإسلامي بسبب خصوصية كتابه ولغته، ولكن المبدأ واحد عند الكلاميين اللاهوتيين، لاسيما حين يكون المراد تنـزيه الإله عن التجسيم.
الله ونفي الصفات :
وكما واجه المعتزلة والأشاعرة مسألة طبيعة الله، كذلك واجه ابن ميمون، ولا نكاد نجد فرقاً في الخطابين حول هذه المسألة فالجمهور يقرأ في القرآن والتوراة كلاماً عن الله مباشراً والله ليس موجوداً فحسب، بل كما يقول ابن ميمون موجوداً حياً وعالماً وقادراً وفاعلاً وسائر ما ينبغي أن يعتقد بوجوده (ص101 )، إذ لا يرى الجمهور شيئاً متمكن الوجود صحيحاً ، لاريب فيه إلا الجسم (ص101 ) .
وكذلك يتصور الجمهور من معنى الحياة غير الحركة، وما ليس بمتحرك حركة إرادية مكانية، فليس هو حياً، فلما أرشدت أذهاننا أيضاً نحو كونه تعالى مدركاً وأن تصل معاني منه للأنبياء ليوصلوها إلينا، وصف لنا بأنه يسمع ويبصر، وأشير له العين، والأذن والسمع والفم واللسان ليدل بها على الرؤية والسمع والفعل والكلام … (ص102)
ومن المعلوم أيضاً أن قد وصف الله بأنه له يد في التوراة كما في القرآن …إلخ.
والله الذي يراه المتكلم على شاكلة ابن ميمون « واحد وحدانية حقيقية حتى لا يوجد له تركيب أصلاً، ولا تقدير انقسام بوجه من الوجوه » (115)
ولهذا يكتب قائلاً :« فأعلم أنه لا صفة ذاتية له تعالى بوجه، ولا على حال من الأحوال، وإنه كما امتنع كونه جسماً، كذلك امتنع كونه ذا صفة، ذاتية، أما من اعتقد أنه واحد ذو صفات عدة فقد قال : إنه واحد بلفظة واعتقد كثيرون بفكرته . وهذا شبه قول النصارى .. هو واحد لكنه ثلاثة والثلاثة واحد . (ص 115)
وبعد أن يحلل ابن ميمون علاقة الصفة بالموصوف بعامة يصل إلى النتيجة : إنه تعالى واحد من جميع الجهات لا بكثير فيه ولا معنى زائد على الذات، وأن الصفات المختلفة المعاني المتعددة الموجودة في الكتب المدلول بها عليه تعالى هي من جهة كثرة أفعاله لا من أجل كثرة في ذاته، وبعضها للدلالة على كماله بحسب ما نظنه كمالاً (122 ) .
وهذا عين ما قاله أبو هذيل العلاف : « ان ذات الله واحدة، لا كثرة فيها بأي وجه من الوجوه » .
وكما نظر المعتزلة إلى صفات الله كذلك نظر ابن ميمون، فمعلوم لدى الجميع أن صفات الله عند المعتزلة لا تقال إلا للسلب . وذلك خشية من أن تقع الشبهة بالله بأنه كثير، لأن الصفات ستكون مع الله، وهذا عين ما قاله ابن ميمون :
« اعلم أن وصف الله عز وجل بالسوالب، هو الوصف الصحيح الذي لا يلحقه شيء من التسامح، ولا فيه نقص في حق الله جملة ولا على حال، أما وصفه بالايجابيات ففيه من الشرك والنقص » .
والحق أني لا أنحو إلى شرح طويل في هذه المسألة المعروفة في تأريخ علم الكلام، فليس من جديد في هذه النقطة .
خلق التوراة :
وكذا الأمر، فإن مسألة القرآن ما إذا كان قديماً مع الله أم مخلوقاً وجدت هي الأخرى صيغتها في مسألة التوراة، إذا كانت قديمة أوحادثة عند ابن ميمون .
يقول ابن ميمون :« ما أراك بعد هذه الدرجة وتحقيقك أنه تعالى موجود لا بوجود، وواحد لا بوحدة، تحتاج أن بين لك نفي صفة الكلام عنه، ولاسيما بإجماع أمتنا أن التوراة مخلوقة (162 ) لكنه يضيف أن كل قول وكلام جاء منسوب لله فهو من المعنيين الأخيرين أعني أنها إما كناية عن المشيئة والإرادة، وإما كناية عن المعنى المفهوم من قبل الله( 163 ) .
والألواح هي صنعة الله، وآية ذلك أن القول بخلق التوراة هو تماماً كالقول بخلق القرآن حتى لا يكون هناك قديم مع الله، وفي هذا يقول : « وقد ذكرنا نحن ذلك أيضاً في تأليفنا الكبير أن هذه قاعدة شريعتنا كما بينا هناك، أعني كونه ( أي الله أب ) واحداً فقط لا يضاف إليه شيء آخر، أعني أن يكون ثم شيء قديم غيره » . (167 ) .
خلق العالم من العدم :
مسألة قدم العالم أو حدوثه موقف المدافع عن إيجاد الله للعالم من العدم، ودعوانا أن العالم بجملته أوجده الله بعد عدم . وكونه إلى أن كمل كما تراه .
ولهذا يرفض ابن ميمون أرسطو من هذه الزاوية كما يرفض كل من يقول بالضرورة الناتجة عن فكرة العلة والمعلول، فالله يريد ولا نسأل لماذا فعل ولماذا لم يفعل .
والحكمة من اعتقاد ابن ميمون أن الله قد خلق الوجود من العدم بمشيئته، وهذا رأي الأشاعرة والغزالي أصلاً ( كن فيكون ) كي تصير المعجزات وكلها ممكنة . يقول :
« اعلم أن مع اعتقاد حدوث العالم تصير المعجزات كلها ممكنة، وتصير الشريعة ممكنة ويسقط على سؤال يُسأل في هذا المعنى، حتى إذا قيل لأي شيء أوحى الله لهذا ولم يوح لغيره، ولأي شيء شرع الله بهذه الشريعة لأمة مخصوصة ولم يشرع للغير؟ ولأي شيء شرع في هذا الزمان ولم يشرع قبله، ولا بعده ؟ ولأي شيء أمر بهذه الأوامرونهى عن هذه المنهيات ولأي شيء خصص النبي بهذه المعجزات المذكورة، ولم تكن غيرها ؟ .
ما قصد الله بهذا التشريع ؟ ولأي شيء لم يجعل هذه الأمور المأمور بها والمنهى عنها في طبيعتنا، إن كان هذا غرض .
فجواب هذه المسائل كلها أن يقال : هكذا شاء وهكذا اقتضت حكمته، كما أوجد العالم حين أراد على هذه الصورة ولا نعلم إرادته في ذلك » (ص 351).
والحق أن هذا القول يدل على أن ابن ميمون أراد أن يعلق أي سؤال حول الحكمة من فعل الله ولماذا فعل ما فعل، لأن كل جواب يستلزم إعمال العقل المنطقي، والأسئلة السابقة أصلاً لم تنشأ إلا من الصعوبات التي نشأت من القول الديني البسيط .
وهذا قريب جداً مما قال ابن حزم الأندلسي في الرد على الكندي الفيلسوف حين اتهمه بالإلحاد والزندقة بسبب قوله بأن الله علة العالم . وما يستلزم من ذلك علاقة ضرورية بين العلة والمعلول، والقدم المشترك في الزمان مع وجود الأولوية المنطقية .
وعندي أن ابن ميمون في هذه النقطة ظاهري وليس مؤولاً .
بل إن ما جاء في التوراة تكفي عنده دليلاً أليس هو القائل : « أما أن الملائكة موجودون فهذا ما لا يحتاج أن يؤتى عليه بدليل شرعي لأن التوراة قد نصت ذلك في عدة مواضع » (ص 285 ).
النبوة :
خطاب النبوة عند ابن ميمون خطاب تقليدي وهو يذكرنا بالأسباب التي اختار على أساسها الله محمداً نبياً في قومه، غير أن يقف عند نبوة موسى بوصفها مختلفة عن جميع الأنبياء الذين سبقوه أو جاءوا بعده من أنبياء اليهود .
فهو مباين لكل ما تقدمه، ومعجزاته مختلفة عن معجزاتهم، فمعجزاته تمت أمام عيون بني إسرائيل، أو النبوة فيض يفيض من الله عز وجل بواسطة العقل الفعال على القوة الناطقة أولاً ثم على القوة المتخيلة بعد ذلك … وتلك الحالة هي غاية كمال القوة المتخيلة، والله يخبر عن حقيقة النبوة إلخ .
وصنف الأنبياء هو ذلك الذي يتلقى الفيض العقلي عبر القوة الناطقة والقوة المتخيلة .
وصنف العلماء هو الذي يتقبل الفيض العقلي عبر القوة الناطقة لنقص في المخيلة أو لعلة الشيء الفائض .
وتتميز نبوة موسى بأنه الوحيد الذي صرح لنبي إسرائيل بأن الله بعثني إليكم، وكل ما جاء بعده يحدث في شريعته التي أوحى إليه بها الإله . وبها المعنى يتشابه موسى ومحمد أعظم التشابه فكلاهما قالا ان الله أرسلهما، وكلاهما قدما للناس شريعة إلهية .
هل بعد هذا نقول إن ابن ميمون كان كلامياً مسلماً مادته التوراة ؟.
من وجهة نظري معدم .
ولا شك عندي أن الفلاسفة الذين تعلم عليهم ابن ميمون لم يستفد منهم شيئاً سوى معرفته بأفلاطون وبأرسطو. ولهذا ظل في مرتبة أدنى من مرتبة صاحب كتاب تدبير المتوحد، وصاحب كتاب ابن طفيل، وصاحب كتاب تهافت التهافت .
أحمد برقاوي