إشارات
لا تستطيع مجلة، أي مجلة وربما في أي مكان،أن ترسم ملامحها وتحدد وجهتها منذ العدد الأول أو الثاني، لكنها تحاول أن تقدم المؤشرات الأولى لطموحها ووجهتها عبر الدرب الثقافي الطويل والصعب.
وليس من التهويل في شيء إذا قلنا أن إصدار مجلة ثقافية بطموح يتوسل الجدية والإبداع، والتنوير هو دخول في مغامرة على نحو من الأنحاء، مغامرة البحث والأسئلة والسفر خارج المألوف والمنمط والمستهلك وهو ما تعكسه ردود الأفعال المتباينة تجاه المجلة منذ عددها الأول؛ ردود أفعال من قبل كتاب ومؤسسات وصحافة ومن فئات مختلفة تتراوح بين الاحتفاء وهو الغالب وبين النقد الحقيقي المسؤول الذي نصغي إليه ونستفيد منه وبين الهجوم الواعي لأهدافه، والهجوم الجاهل والعدائي، حيث إن هناك دائما رأيا مسبقا ونمذجة عمياء لا سبيل إلى نقضها، مع غض النظر عن المجلة وأهميتها ومستواها. ومثل هذا الدور التنويري والتحديثي، في مناح شتى، رغم كونه أصبح بداهة ، تظل بداهة متجددة السجال والمراجع والمعطيات، ضمن شروط واقع خاص ، ونظل بحاجة للرجوع اليها والنقاش حولها ربما في الوطن العربي قاطبة، ما أحوجنا للرجوع إلى الكثير من البدهيات وتفحصها من قبل مثقفينا ومفكرينا بتبيان السياقات المتعددة لمنشئها وتاريخها ومسارها، في زمن شهد انفجار كل المفاهيم والرؤى التي سادت برهة وأفضت الوقائع والتاريخ بها وبغيرها الى العطب والهلاك.
ما أحوجنا إلى ممارسة التنوير والابداع ضمن شروط واقع موسوم دائما من قبل الآخرين وحتى من قبل أبناء جلدتنا وقيمنا وهمومنا، ظلما، بأنه واقع نفط وبذخ وليس واقع إبداع وابتكار.
وعلى هذا النحو ترتفع سحب النفط ولمعان سرابها عند بعض الكتَبة لتغطي حقائق الواقع الفعلي، وتغطي قامة التاريخ والخيال وإبداعات الإنسان بتحويله الى واقع الخرافة والاستيهام ولتجعل منا رهائن مكفنة ومنمطة لهذه الشرنقة من الآراء المريضة والخرافية ، مع أن النفط أصبح كنمط سلوك وقيم بعينها، ظاهرة عربية وليس أسير منطقة أو مناطق وحدها..
ومن سخرية القدر أن بعض الذين يشتمون زمن النفط في بلاد عربية وغير عربية ، ضمن مطبوعاتهم وخارجها ويجعلون منه موضوع نقد وهجاء، هم أفضل المستفيدين منه على الإطلاق : انه الفصام العربي في أقصى تجلياته وانحطاطه ..
والرد الوحيد كما أشرت ليس في النقاشات الفراغية وإنما فى الممارسة الثقافية والابداعية وإطلاق طاقة التفكير والخيال والتجديد..
فى كل الحالات تعكس هذه الصورة وضعا طبيعيا لردود فعل الآخرين تجاه أي مشروع أو رؤية ، خاصة في حقل الثقافة والفنون والمعرفة..
لا ننطلق من فراغ في صنع مجلة وتأسيسها فمثل هذا الفراغ محض ادعاء، فأمامنا إرث الثقافة العربية بمجلاتها وصحافتها ومنابرها، لكنا لا نستطيع ولا يخطر على بالنا نسخ ذلك الارث بمعطياته الخاصة زمنا وتاريخا ومكانا، مما يذوب طموحنا في خضم العموميات وفقدان الملامح والوجهة الخاصة للمكان العماني وثقافته وعناصره المختلفة ..
فرحلتنا في هذا المكان وتضاريسه وإنسانه وتاريخه ، تراثا ومعاصرة ، هو هاجس جوهري نطل من خلاله على التفاعل الخلاق بين مختلف روافد الثقافة العربية وجغرافيتها المتعددة المتنوعة ..
وفي سياق طموحنا إلى التعدد العربي والتماس مع ثقافة العصر الموّارة بالتيارات والاتجاهات، ضمن هاجس الخصوصية وإبداعها وملامحها، نطمح إلى أن تكون مجلة «نزوى» مجلة متنوعة وشاملة من حيث الآراء والتعبيرات الفنية والثقافية أو من حيث تنويع المواد وعدم حصرها في اتجاه واحد، أي أن تكون مرآة شمول ثقافي وفني وفكري بما يعني ذلك من محاولة تركيب عناصر مجلة تلم شتات موضوعات تمتد من التحقيقات الصحفية الحية والتاريخية حتى الإبداعات والكتابات الشعرية والمسرحية والسينمائية والموسيقية وصولا إلى التنظير الفكري والأدبي، ضمن وحدة شاملة تتوسل المجلة تطويرها وتوسيعها، عددا بعد آخر..
كل مشروع ، وكل وضع يتوسل الآتي والأفضل في المسار الثقافي والحياتي، لا بد ان يستند الى الطموح والحلم والأمل بالمعنى العميق لهذه الكلمات التي استُهلكت في خضم استعمال عربي لا ينتج دلالة حقيقية بل ربما ينتج عكس ذلك، فحين ننظر في وضعنا الثقافي لا بد ان تتعدد زوايا النظر لهذه الوضعية؛ فلا ننظر الى سلبها ومرابعها المقفرة والخالية ، وإن كان ذلك أحد خيارات مصير الكائن، لكنا ننظر فيما هو قابل للنهوض والحيوية والانبعاث، تراثا ومعاصرة وننظر الى ما يستحق أن ندفع له تعب يومنا ومعاناة وجودنا وهو ماثل وموجود وينطوي على قيمته كخيار وجود وكتابة وأن في إرهاصاته وبداياته، نتوسل الأنبل والأبقى خارج صخب السطع وبريقه السريع ..
فالثقافة في جانب كبير أصابها ما أصاب أنماط الحياة والسلوك من طاعون المظاهر والاستسهال الذي يغرف من نتاج أقلام ومجلات وصور بصرية مهيمنة تحاول تكريس كل ما هو مبتذل ومتوحش في النفس البشرية. وأصبح الحيز الثقافي الذي يستهدف الحياة في صورتها الأنبل والأرقى ويستهدف الارث الروحي للمجتمع والأسلاف كهاجس تجديد واستمرار لا مناص من الأخذ بأسبابه المتجددة، أصبح الإقبال عليه أمرا صعبا وبحاجة إلى جهود مضنية لجزء من هذا القبول ، مما يلقي العبء الأكبر والأكثر شفافية لالتقاط الجوانب المشرقة من التراث ونفض غبار الأزمنة عنها بتجديدها وتقديمها إلى الأجيال في إطار يلائم معطيات الحياة والعصر وبشكل أقرب إلى بهجة المعرفة والأدب.
فأحد محاور الصراع في تاريخ البشرية ، كان صراع الذاكرة بين من يريدون محوها وتدميرها لصالح معرفة ، أو بالأحرى، لصالح وهم معرفي لا نسب له ولا جذور ولا تراب.. وعلى هذا الأساس تمت إبادة شعوب وقيم ومجتمعات حيث قذف بها خارج ذاكرتها وتاريخها وخارج زمانها. فالحفاظ على الذاكرة وأرومتها ونسبها المتناسل عبر الأجيال ، هو حفاظ على قوام الفرد والمجتمع وحفاظ على السيرورة الطبيعية لتاريخ الإنسان . وما التراث والتحديث سوى مظهرين ينضويان بالضرورة في هذا السياق وخارج أي جدل عقيم، لصالح الحفاظ والاحتماء بالذاكرة في صراعها الأبدي..
ليس هناك من اتجاه بعينه يملي شروطه ومناخه على مسار المجلة وإنما نحاول في حدود الممكن أن تكون منبرا مفتوحا على أكثر من مدار واتجاه وعلى أكثر من رؤية ووجهة أدب وثقافة في حدود معايير القيم المعرفية المتعددة ، وربما المتصارعة في الإطار نفسه ، من غير أن تسقط في التسطيح باسم هذه التعددية ..
ليس هناك من اتجاه بعينه يفرض صرامته على المجلة كما تروج لذلك ثقافة الاشاعة في البلاد قبل صدور المجلة أملا في ألا تصدر وبعد بدء صدورها، وكما يروج اولئك الذين يضيقون ذرعا بأي شيء جديد وخارج سياق العادة المتراكمة عبر أزمنة الجمود والتخلف وكما يروج أيضا اولئك الباحثون عن دور عجزوا عن إيجاده على أرض الإبداع والكتابة والحياة فتحولوا الى نسيج شبحي لابداعات متوهمة وعلى طريقة (لا ذا وعاه ولا ذا حصل) لم يبق أمامهم إلا سقف الثرثرة ومضغ خِرق الكلام البالية …
ليست المجلة من ذلك في شيء، وإلا لما كلفنا أنفسنا عناء مسؤولية كهذه في وقت لم نعد قادرين على تبديده بترك الحبل على الغارب ، في وقت نحن بحاجة إلى كل ذرة منه إلا أن مسؤولية إصدار مجلة كهذه ضمن عناصر مناخ عماني خاص ومحاولة إثراء وضعنا الثقافي بما يقع في حدود مقدرتنا، ليس ضياعا للوقت وإنما مسؤولية جوهرية وإضافة لإرث ثقافة وتاريخ ومحاولة إمساك بالزمن من ناصية الحقيقة ..
إن المجلة ضمن هذا المعنى ملك لكتابها وملك للآراء والإبداعات المستنيرة والصادقة من كافة الاتجاهات والأعمار والجهات ..