وهو في أسئلته المحضة عن الأب والأم واللون والسماء، لم يفقد صلاته الحميمة الضئيلة بالمكان والبشر. إن شكله الغريب، ووجوده المريب، لم يجعلاه يدمن الكآبة. فكانت الوحدة والعزلة تدريبا على الحفظ وترديد أسماء الناس والأشياء، وأسئلة حارقة عن هذا القدوم، والأب المتواري، والأم القاسية، فيبحث في ثوب الجدة، فلا يجد سوى ورقة واحدة لا يعرف ما الذي كتب فيها. هل هو اسمه وحقيقته ؟ هل تدله هذه السطور على بيته وسعادته ؟ هل ترشده الى اخرته ؟
لم تستطع شفتا القاريء الذي رجاه أن ينتزعها من الصمت والموت، سوى أن تلفظ اسمه وحيدا وراءه صحراء من الرمل والعطش.
ثم كانت هناك فراغات كبيرة سقط فيها بوجه بلا ملامح، وجسد مستعار من الغيب.
إنه يقف فوق رأس الجدة، وهي تستعد للنوم، ومواصلة غيابها الكامل.
يهز كتفها برفق، ويشير الى نفسه، ويرسم اشارات استفهام مروعة كبيرة، لو كان يستطيع أن يشحنها بكل جراحه لفعل، يصرخ مزلزلا كوخ الخرس:
– جدتي.. كيف جئت الى هنا؟
بل كان يريد أن يلعلع بصوته: من أنا ؟ لم أنا قطعة من اللحم النتن مرمية على قارعة الطريق ؟ لم انا وحيد. في كل هذا الوجود الصاخب الشرس ؟
إن الجدة تفك صرتها الصغيرة، محارتها التي تضع فيها أثمن الأشياء، وتقدم له قطعة نقدية صغيرة، كان لا يستطيع انتزاعها الا بشقلبة مروعة على الأرض الصلدة.
– لا أريد.. اخبريني.. يا جدتي!
كأنه كان يخاطب الزمن المتواري، والأحبة المختفين وراء القسوة والشهوة.
ليس ثمة ذاكرة هنا، ليس ثمة سوى خرس ويسقط في حفرة الفراغ والغياب.
إنه يرى كل شرايين المدينة مرتبطة بالأمومة والأبوة.
صبية الحي القذرون الشرسون الهاربون من المدرسة تلاحقهم عصي الآباء الجميلة وتعيدهم القسوة الرائعة الى الفصول.
أثداء الأمهات الفاضحات بالحليب. عباءاتهن سوداء منفوخة بالهواء وهن يركضن وراءهم على الشطوط والزجاج والقواقع الغادرة.
أفواههن المفتوحة الصارخة، والمطر ينهمر، والزوابع تعصف، والحرائق تندلع مخيفة ملتهمة السعف والعظام.
الأباء العائدون من البراري البعيدة، وهم مضمخون برائحة العرق والنفط وأطفالهم يتعلقون بسيقانهم، باحثين عن الكفار. الأولاد العائدون من الظهيرة اللاسعة والجوع المضني ينتزعون أمكنتهم على السفرات الكبيرة الملأى بأطباق الأرز ودوائر السمك المشوي.
هو وحده يتطلع الى الطرق الموحشة، والى المستنقعات الساخنة، حيث تتراءى كالأدخنة الحارقة حشود الذباب والبعوض، وتمني الأحذية عائدة الى المنازل، والى الأبواب التي تغلق على الثلل المتعانقة والشجارات السعيدة،والأكلات الصاخبة.
هو وحده الذي يغفو، ويترنح رأسه على الجريد، ويحتضن كلبة ويطعمها، هو وحده الذي يردها تقاتل من أجل جرائها، وتبحث بلا كلل عن طعام لها.
لقد وضعتها في زاوية غائرة، ووضعت أنيابها سياجا بارزا وتتحول فجأة الى نمرة، ويرى الكلاب العدوة تقذف وهي تنبح صائحة بألم شديد.
كانت صداقة سريعة وأليفة بينهما، لقد أوجد لها طعاما بصورة منتظمة، وتخلى عن بعض حصصه، وقاد الجراء الضالة الى أثدائها الكثيرة. لقد قدرت حنانه وتولهة بحبه. فتروح تمرغ رأسها في حضنه، وتبحث عنه، وتقدم له خدمات كثيرة.. ولكنها لم تصر أمه.
كان يتساءل عن كل هذه السماء اللامبالية. القاسية في القيظ المدمرة في الشتاء. كان لا يطلب من أحد. ويجد أن أصابعه الحجرية هي التي تستحق الثناء. كان الأفق كله رماديا، وصيحات القطة الداعية صغارها كانت تحزنه. ولا يعرف لماذا يبكي حينا، ويصرخ، ويمشي وحيدا تائها أحيانا كثيرة..
كان يمضغ الكلمات عن الصلوات والأمهات ويقذفها بعيدا. كان يتساءل بألم، ثم يعود أدراجه الى الدروب اليسيرة للبشر. يشتاق الى جدته،التي ليست جدته، الانسان الوحيد الذي يفهمه بلا لغة، وبحب عميق يذوب مع الحشائش الخضراء والجراد الذي يتقرقش مشويا في الفم.
يتطلع الى حيه ورجاله ونسائه. هؤلاء الجيران الذين يمضون في أعمالهم الدائبة المجهدة بلا كلل.
هذا علي الدخان وابنه. ان لديهما عربة لنقل الأحجار والرمل الى البيوت. إن الأولاد يسمون الأب فيليب والابن الاسكندر الأكبر، وهو لا يعرف من هم أصحاب هذه الأسماء ولماذا اسقطوها عليهما، ولكنه يرى عليا يقف بقوة وثبات على ظهر الحمار، لاسعا إياه بشدة، ذلك الحمار المتآكل لحما والمقروح، يندفع في الدروب بسرعة، جارا العربة،التي تطرطش عجلتاها الماء والرمل، في حين يجلس الابن في العربة شبه نائم، بجسده الهزيل، مدليا رجليه الحافيتين، ساعلا بقوة مخيفة..
إن الأب والابن لا يكفان عن العمل، وعن جلب الصخور البحرية الرهيبة إلا في الظهيرة، حيث يحتشد حولهما جيش من الصغار والنسوة ويروح يلتهم الأكل حتى يكاد "يخفى" الصينية، ومنذ الغسق يهج هذا الجيش وينام متداخل الأجساد في الكوخ الصغير.
وفي الليل تتفجر الصيحات، فهناك امرأة تصرخ من الطلق. أحيانا يرى جثتها في الصباح محمولة على نعش متوجه بسرعة وتهليل الى المقبرة. ان هذا التهليل كان يدهشه. ان تلك الصيحات المتدفقة بلا توقف كانت تهديه وتوحد ذلك الطابور، الذي سيتفوق بعد دفن المرأة، عائدا الى المقاهي أو البيوت، متحدثا بثرثرة باردة عن شؤون الحياة. لقد تركوا ذلك الجسد البض وعادوا الى الدخان والشاي.
وفي العتمة الملعونة تندلع صيحات الذعر من الحرائق، ويرى الأجساد محروقة، وأجساد الكلاب والقطط مشوية بين الرماد.
لم يكن ثمة مسافة كبيرة تفصله عن الموت. في كل لحظة يطل هذا الملكوت الغامض به. لم يكن يخافه. وطوال ليال كثيرة كان جسده يشتعل، وامعاؤه تنزف، ورأسه تطبخ الكوابيس، وينهض في الصباحات حالما بموقد وشاي.
في المسجد يرى الناس يسرعون الى الوضوء ويسمع أصوات مضمضتهم واغتسالهم، ثم يندفعون للوقوف صفوفا منتظمة، وينحنون بشكل متكرر، ثم يتفوقون متوجهين الى الدكاكين والأعمال والشحاذة والسرقات والأكواخ المريبة.
يرى الكثيرين يتعتعهم السكر ليلا، فتتطوح أيديهم وأرجلهم في الهواء ويتصادمون ويتصايحون ويتشاجرون وينزفون ثم تسترد الطرق هواءها النقي وهدوءها المسلوب.
الليل لا يأبه بالألم، والنار، والصراخ، وكان النهار لا يعد بالفرح، وان ملأ الدروب بالنور، وبدا الزمان معلقا فوق تلك العشش من الخوص والجريد، والعظام، وظل الأب متواريا في روح يحيى، غير إنه لم يعد ماعونا للشبع، بل للاجابة عن طلاسم من الشوك.
وذات يوم لمح فتى جديدا في الحي، استأجر كوخا وحمل عربة وراح يجري بها الى السوق. ولم يعد إلا في المساء ومنذ الفجر نهض ومشى في المكان قليلا اقترب منه، وحدق فيه، لكنه ترسمه وحمل عربته وانطلق بنشاط.
لقد أعجب بذلك الشاب القوي المرح، الذي يمتاز كل ما فيه بالطول، من جزعه حتى أصابعه.
وحين انغمر في "السمادة" يبعثر القراطيس وأكياس الأسمنت الفارغة وأكوام الزبالة الجديدة وسحب الذباب، فوجيء بصراخ وراءه:
– ماذا تفعل.. أيها.. الحيوان ؟!
التفت فوجد الفتى، صاحب العربة، يتطلع فيه متقززا.
لم يستطع أن يجيب، وواصل البحث، عاثرا على خضراوات ليست رديئة.
– هيا.. تعال معي!
لم يقل شيئا واستمر يجمع أشياءه في كيس. تطلع بألم الى ثوبه القذر الذي أصابه نصل حديدي مزقه، وأيقن أن عيني الشاب الناريتين هما اللتان شقتاه، وواصل البحث ويده ترتعش، والأكياس وأكوام القذارة تطلق روائح فظيعة. تظاهر بأنه أنهى عمله، واكتفى من الأطعمة والأشياء، وسار نحو الظل، مارا بالفتى بلا مبالاة وعدم اهتمام.
اندفعت العربة والفتى نحوه:
– لماذا لا تتكلم.. ماذا بك.. هل أنت أخرس ؟
وهدوء. الفتى يرمقه بابتسامة تحولت الى عجب واعجاب.
– تعال الي.. سأعطيك ثوبا.
ولما لم يسمع كلاما:
– الا تريد أن نكون.. ربعا؟!
كانت هذه اللهجة مختلفة، وقد قيلت والفتى يغادر عربته الحديدية المشوهة، ذات الأسنان المفتوحة،والعجلة الصرارة، ترنح قربه، فاتحا العينين السوداوين لتدفق باطني سمح ومعذب.
أمسك يحيى يده مصافحا،وغير مبتسم.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد يحيى وحيدا.
في عريش اسحاق ثرثرا في الليالي الشتائية الطويلة، جاعلين منقلة الجمر تحتضن «غوري» الشاي وتدغدغه بالدفء والسكر. وحين تنثال الكؤوس الحمراء تتدفق أحاديث اسحاق وكأنه كهل تشرد في الأرض، ورعى الماعز طويلا. نسج الحكايات وصار بطلها. خيل ليحيى أنه يعرف كل شيء: سور القرآن وتجار السوق السوء.
وضع أمامه القراطيس الغريبة في بدء النهارات الساطعة الصيفية، معطيا إياه أسرار اللغة المكتوبة الأولى، فرأى أعمدة كثيرة تقود عربته الى جهات مفتوحة للنور.
أعطته هذه الأخوة المصنوعة من الصدفة، والشظف تدفقا وتفتحا، فاندفع مع اسحاق في الأسواق ينقلان الأكياس الثقيلة والألواح وعلب الصبغ وكتل الحديد، ويتناوبان في دفع هذه الكتلة الشرسة وسط تدفق بشري وحيواني كثيف، وفي الظهيرة الحادة يستلفان ظلا من بناية، ويفرشان "خيشة" ويأكلان فوقها الخبز والبصل والعدس، ويغفوان لحيظة، حتى تدعوهم الدكاكين الى ضجتها وأوامرها.
وحين يريان حصيلة النهار في كوخ أحدهما يفاجآن بذلك المبلغ الهزيل، وضخامة التعب الذي يهدهما فيفترسهما النوم بلذة شديدة.
ــــــــــــــــ
الفصل الثاني من رواية تحمل هذا الاسم.
عبدالله خليفة ( قاص من البحرين)