أوسكار وايلد- كاتب إنجليزي
ترجمة: ناطق فرج- كاتب ومترجم عراقي
يُحكى أنَّ تمثالًا شامخًا لأميرٍ سعيدٍ توسَّطَ إحدى المدنِ. تمثالٌ مطليٌّ بالذَّهبِ الخالصِ، عيناهُ مِنَ الماسِ الأزرق، وجواهرُ أُخرى حمراءُ تدلَّت مِن خصرهِ، وكُلُّ مَن رآه ظنَّ أنَّهُ تُحفةٌ فنيّةٌ نادرة.
لِمَ لا تكونوا كالأميرِ السَّعيدِ؟ قالت الأُمُّ لأولادِها الصِّغار حينَ بكوا؛ وقالَ رجلٌ كانَ يقفُ أمامَ التِّمثالِ يومًا: أنا سعيدٌ لأنَّ هُناكَ مَن هو سعيدٌ في هذا العالمِ.
في إحدى اللَّيالي، حلَّق طائرٌ صغيرٌ فوق المدينةِ، بينما هاجرت الطُّيورُ الأُخرى إلى مِصرَ، وقالَ في سرّهِ: أينَ سأرقدُ هذه اللَّيلةَ؟ فَجأةً، لمحَ تمثالَ الأميرِ وقرَّرَ أن يقضيَ اللَّيلةَ معه، لعُلوِّهِ ونقاء الهواء مِن حوله.
حَطَّ الطَّائرُ بين قدمي الأميرِ السَّعيدِ وقال في سرّهِ: سأبيتُ ليلتي في غُرفةٍ مِن ذهبٍ، وما إنْ وضعَ رأسَهُ بين جناحيهِ حتى سقطتْ على ذيلِهِ المنفرجِ قطرةُ ماءٍ، فنظر إلى الأعلى وقالَ في سرّهِ: هذا أمرٌ غريبٌ حقًّا، إذ لا أرى غيومًا في صفحةِ السَّماءِ، فمِن أينَ يهطلُ علَيَّ المطرُ؟
بعد فترةٍ قصيرةٍ سقطتْ عليهِ قطرةٌ أُخرى فقالَ في سرّهِ: لن أبقى بالقُربِ مِن تمثالٍ لا يقيني مِنَ المطر.. عليّ أنْ أبحثَ عن مكانٍ آخر.
قرّرَ السُّنونو أن يطيرَ، وفي اللَّحظةِ التي فَرَد فيها جناحيهِ، سقطتْ عليهِ قطرةُ ماءٍ ثالثةٍ، فنظر إلى الأعلى فأبصرَ ما أدهشهُ. رأى عيني الأميرِ السَّعيدِ وهما مغرورقتانِ بدموعٍ سرعانَ ما بدأت تنهمرُ على وجهِهِ الذَّهبي.
بدا ذلكَ الوجهُ جميلًا تحتَ ضوءِ القمرِ، إلا أنَّ السُّنونو حزِنَ لأجلهِ.
مَن أنتَ؟ سألهُ الطَّائر.
أنا الأميرُ السَّعيدُ.
غمرتَني بدموعِكَ أيّها الأمير، فهل لي أن أعرفَ لِمَ تبكي؟
حينَ كنتُ على قيدِ الحياةِ، كانَ لي قلبٌ مِثلَ كُلِّ الرِّجالِ، ولم أكنْ أعرفُ معنى الدُّموعِ؛ عِشتُ في قصرٍ خالٍ مِنَ الحُزنِ؛ في النَّهارِ ألهو مَعَ أصدقائي في حديقةٍ غنَّاء، وفي المساءِ أرقصُ مع الجميلاتِ. كانَ القصرُ محاطًا بسورٍ عالٍ، ولم أكنْ أدركُ ما يحصُلُ خارجه، لذا سمّوني “الأمير السَّعيد”. كنتُ سعيدًا بعالمي الصَّغير، وحينَ مُتُّ وضعوني هُنا فبدأتُ أشعرُ بحُزنِ مدينتي وناسها. قلبي الآنَ مصنوعٌ مِن معدنٍ رخيصٍ، غير أنَّهُ مُترعٌ بأحاسيسَ مُرهفةٍ.. لهذهِ الأسباب تراني أبكي.
مممممم! قالَ الطَّائرُ مَعَ نفسِهِ: الأميرُ إذن ليس مِن ذهبٍ، إنّما هو مَطليٌّ بالذَّهبِ.
على مسافةٍ بعيدةٍ مِن هُنا، قالَ الأميرُ السَّعيدُ بصوتٍ خفيضٍ، ثمة منزلٌ في أحدِ الأزقَّةِ الضَّيقةِ؛ في ذلكَ المنزلِ أرى، مِن خلالِ نافذتهِ، امرأةً تجلسُ حولَ طاولةٍ.. امرأةً ذاتَ وجهٍ نحيفٍ ويدٍ خَشِنَةٍ مِن كَثرةِ العملِ. هذهِ المرأةُ تَخيطُ ثوبًا لصديقةِ الملكةِ لترتديهِ في حفلٍ راقصٍ، بينما يرقدُ ابنُها المريضُ على سريرٍ في زاويةِ الغُرفةِ. طِفلُها الصَّغيرُ يتضوَّرُ جوعًا وهي لا تملكُ ما يسدُّ رمقهُ.
أيّها الطَّائر، هلَّا أخذتَ جوهرةً حمراءَ وأعطيتَها لهذهِ المرأة، إذ ليسَ بوسعي أن أتحرَّكَ مِن مكاني هذا.
إنَّ أصحابي ينتظرونني في مِصرَ، أجابهُ السُّنونو مُعتذرًا.
أيّها الطَّائر، يا أيّها الطَّائر، قالَ الأميرُ: ألتمسُكَ أن تبقى معي لليلةٍ واحدةٍ لتُحقِّقَ رغبتي.. فالطِّفلُ يبكي وأُمُّهُ حزينةٌ.
تعاطفَ السُّنونو مَعَ الأميرِ بعدَ أن رآهُ حزينًا وقال: مع أنَّ الطّقسَ باردٌ هُنا، إلا أنّني سأبقى معكَ ليلةً واحدةً، وسأحملُ الجوهرةَ غدًا وأمنحُها للمرأةِ.
شكرًا لكَ أيّها السُّنونو الصَّغير.
في اليومِ التَّالي، أخذَ الطَّائرُ جوهرةً ثمينةً وحلَّقَ بها فوق المدينةِ، اجتازَ القصرَ الملكي وسمِعَ صوتَ الموسيقى يصدحُ، فرأى فتاةً جميلةً مَعَ عَشيقِها وهي تقولُ لهُ، أتمنى أن يجهزَ فُستاني في الأُسبوعِ المقبلِ.
حلَّقَ السُّنونو فوقَ النَّهرِ وأماكنَ مُتفرِّقةٍ أُخرى، حتى وصلَ إلى منزلِ المرأةِ الفقيرةِ فرأى ابنَها راقدًا على سريرِهِ وأُمَّهُ المتعبة نائمةً إلى جانبِهِ، فدخلَ مِنَ النَّافذةِ ووضعَ الجوهرةَ على الطَّاولةِ، ثمُّ طارَ بالقُربِ مِنَ السَّريرِ وحرَّكَ الهواءَ القريبَ مِن وجهِ الطِّفلِ بجناحيهِ. أحسَّ الطِّفلُ بتلكَ النَّسمةِ وانخفضتْ حرارتُهُ على إثرها وشعرَ بتحسُّنٍ.
حينَ طلعَ النَّهارُ، ذهبَ السُّنونو إلى النَّهرِ ليستحمَّ فرآهُ أحد الرِّجالِ وقال: هذا أمرٌ غريبٌ حقًا، طائرٌ مِن هذا النَّوعِ يستحمُّ في النَّهرِ في فصلِ الشِّتاءِ.. لا بُدَّ لي أن أتحرَّى عن هذهِ الظَّاهرةِ.
قال السُّنونو في سرّهِ: يجبُ أن أذهبَ إلى مِصرَ هذهِ اللَّيلة، وحينَ بزغَ القمرُ عادَ إلى الأميرِ السَّعيدِ وقال: هل مِن خدمةٍ أُقدِّمُها لكَ قبل أن أذهبَ إلى مصرَ؟
أيّها الطَّائر، هلَّا مَكثتَ معي ليلةً أُخرى؟
لكنَّ أصدقائي بانتظاري في مصرَ، أجابَهُ السُّنونو.
قال الأميرُ السَّعيدُ: في الجانبِ البعيدِ مِنَ المدينةِ أرى كاتبًا شابًّا، في غرفةٍ صغيرةٍ في الطَّابقِ العلوي مِنَ البيتِ، يجلسُ على طاولةٍ مُغطّاةٍ بالأوراقِ وإلى جانبِهِ باقةُ وردٍ ذابلةٍ، لم يكنْ بوسعهِ أن يُنهي روايته لشدَّةِ البردِ في الغُرفةِ، كما أنَّهُ جائع.
سأمكُثُ معكَ ليلةً أُخرى، قالَ الطَّائرُ بكُلِّ رِقَّةٍ، ولكن قُل لي ماذا سآخذُ لهُ غدًا؟
خُذ له إحدى عينيَّ، فهي حجرٌ هنديٌّ أزرقُ، إذ بوسعِ الكاتبِ أن يبيعَهُ ويشتري بثمنِهِ طعامًا وخشبًا للتدفئةِ، حينها سيكونُ بمقدورهِ أن يُنهي روايتَهُ.
اقلعْ عينكَ بيدِكَ يا صديقي، إذ ليس بوسعي أن أفعلَ ذلكَ، ثمّ خَنَقَتْهُ العَبرةُ.
بل اقلعْها أنتَ، قال الأميرُ.
قلعَ السُّنونو عينَ الأميرِ السَّعيدِ وذهبَ بها إلى غُرفةِ الكاتبِ. كانَ مِنَ السَّهلِ عليه أن يدخُلَ إلى غرفتِهِ مِن ثُقبٍ في السَّقفِ.
كانَ الكاتبُ وقتها جالسًا ورأسهُ مدفونٌ بين يديهِ، لذا لم يسمع رفرفةَ جناحي الطَّائرِ حينَ دخلَ، وعندما رفعَ رأسَهُ رأى جوهرةً زرقاءَ جميلةً على باقةِ الوردِ الذَّابلة.
قال الكاتبُ والابتسامةُ على محيّاه: لا بُدَّ أنَّ هُناكَ مَن أُعجبَ برواياتي. لا شكَّ في أنَّ هذهِ الهديّةَ هي مِن شخصٍ قرأَ أعمالي..
أظنُّ أنَّ بوسعي الآنَ أن أُكمِلَ الرِّوايةَ التي بينَ يديّ.
في اليومِ الثَّاني، حلَّقَ السُّنونو فوقَ النَّهرِ ورأى البحَّارةَ يعملونَ على متنِ سفينةٍ، فقالَ في سرِّهِ: سأذهبُ إلى مِصرَ.. غيرَ أنَّ أحدًا مِنَ العُمَّالِ لم يسمعْهُ.
حينَ بزغَ القمرُ عادَ إلى الأميرِ السَّعيدِ وقالَ: جئتُ الآنَ لأُودِّعَكَ.
أيّها الطَّائر الصَّغيرُ، هل بإمكانِكَ أن تبقى معي ليلةً أُخرى؟
إنَّهُ فصلُ الشِّتاءِ وسرعانَ ما سَيتساقطُ الثَّلجُ؛ الشَّمسُ في مصرَ دافئةٌ والأشجارُ خضراء. لا بُدَّ لي أن أرحلَ، إلا أنّني لن أنساكَ أبدًا.
هناكَ فتاةٌ يتيمةٌ تقفُ في وسطِ السَّاحةِ تبيعُ البيضَ. سقطتْ سلَّةُ البيضِ مِن يدِها وانكسرَ كُلُّ ما فيها ولم تعُد تملكُ مِنَ النُّقودِ ما تأخذهُ معها إلى البيتِ، وتخشى أن يضربَها عمُّها بسببِ ذلكَ، فخُذْ عينيَ الأُخرى وهبها لها.
سأبقى معكَ ليلةً أُخرى، قال السُّنونو، إلا أنَّني لا أقوى على قلعِ عينكَ الأُخرى. لئن فعلتُ ذلكَ فلن تُبصرَ بعدَ اليوم.
خُذها أيّها السُّنونو واذهبْ بها إلى تلكَ الفتاة! قالَ الأميرُ.
أخذَ الطَّائرُ عينَ الأميرِ الثَّانيةَ، وطارَ بها نحو الفتاةِ الصَّغيرةِ ووضَعَها في يدِها.
هذهِ جوهرةٌ ثمينةٌ، قالت الفتاةُ، ثم ذهبتْ إلى بيتِها فرِحةً.
عادَ السُّنونو إلى الأميرِ وقالَ لهُ: لا أظنُّكَ تُبصرُ الآنَ، لذا سأبقى معكَ.
لا، قالَ لهُ الأميرُ المسكينُ.. عليكَ أن تذهبَ إلى مِصرَ.
أجابَهُ الطّائرُ: سأبقى معكَ وأنامُ بالقُربِ مِن قدَميكَ.
في اليومِ التَّالي، بدأ السُّنونو يروي للأميرِ حكاياتٍ عجيبةً عن الأنهارِ والجبالِ والمناطقِ التي حلَّقَ فوقها، فقاطعهُ الأميرُ قائلًا: أنتَ تروي لي حكاياتٍ عن الأرضِ، حدِّثني عن مَن يعيشُ فوقها، حدِّثني عن معاناةِ النَّاسِ، إذ هي أكثرُ غرابة مِن أيِّ شيءٍ آخر. حلِّقْ فوقَ المدينةِ وأخبرني بما تراه.
حلَّقَ السُّنونو فوقَ المدينةِ فرأى الأغنياء يأكلونَ ويشربونَ في قصورِهم المنيفة، أمّا الفقراء فيجلسونَ على عتباتِ أبوابِهم يتملَّكُهُم المللُ والإحباط. حلَّقَ أيضًا فوقَ الطُّرقاتِ المظلمةِ فرأى وجوهَ الأطفالِ الشَّاحبةَ وهم يتضوَّرونَ جوعًا؛ أطفالٌ تحتَ الجسرِ مُلتصقونَ ببعضِهم مِن شدَّةِ البردِ.
نحنُ جياعٌ، قالَ أحد الأطفالِ.
سمِع السُّنونو أيضًا كيفَ أنَّ حارسًا صرخَ بأولئكَ الأطفالِ قائلًا: لا يمكنكم التَّسكّعُ تحتَ الجسرِ.
عادَ السُّنونو وأخبرَ الأميرَ بكُلِّ ما رآه وسمِعهُ في المدينةِ.
أنا مُطعَّمٌ بالذَّهبِ، قالَ الأميرُ، اقتلعْهُ قطعةً إثرَ أُخرى وأعطهِ للفقراءِ.
بدأ الطَّائرُ يُزيلُ قِطعَ الذَّهبِ عن جسدِ الأميرِ حتى بدا شاحبًا بشِعًا، ووزَّعها بينَ الفقراءِ والأطفالِ الجياعِ فَبثَّ في أرواحِهم سعادةً لا توصف، حتى صرخَ أحدهم قائلًا: أصبح لدينا خبزٌ الآنَ!
حينَ سقطَ الثَّلجُ وغطَّى سقوفَ المنازلِ، ولبِسَ الجميعُ معاطفَهم، شعرَ السُّنونو بالبردِ، لكنَّهُ لم يترك الأميرَ لتعلُّقِهِ الشَّديد بهِ، مع أنَّهُ كانَ يُحتَضَرُ.
وداعًا أيّها الأمير، هلَّا قبَّلتُكَ؟ قال الطَّائر.
أنا سعيدٌ لأنَّكَ ستذهبُ إلى مِصرَ. لقد مكثتَ معي طويلًا.. قبّلني قبلَ أن ترحلَ لأنَّي أحببتُكَ وتعلَّقتُ بكَ.
لن أذهبَ إلى مِصرَ.. أُفضِّلُ أن أموتَ هنا.
قبَّلَ السُّنونو الأميرَ وفارقَ الحياةَ بينَ قدميهِ.
في هذهِ الأثناء، سُمِع صوتٌ غريبٌ داخلَ التِّمثالِ.. إنَّهُ صوتُ تهشّمِ قلبِ الأميرِ.
في صباحِ اليومِ التَّالي، مرَّ موظّفٌ كبيرٌ، يعملُ في بلديّةِ المدينةِ معَ صديقينِ لهُ، مِن تحت التِّمثالِ ونظروا صوبه، قالَ أحدهم: لا يبدو تمثالُ الأميرِ السَّعيدِ برّاقًا ولامعًا كما كانَ، الأحجارُ الحمراءُ لم تعُد هُناكَ، عيناهُ اختفتا، ويبدو لي الآنَ مثل أي شحَّاذٍ.
أجابَ صديقُهُ: نعم أتَّفقُ معكَ، وهناكَ طائرٌ ميّتٌ بالقربِ مِن قدمي التِّمثالِ. لا بُدَّ مِن أن نستصدرَ قرارًا بإزالةِ الطُّيورِ الميتة عن منصّةِ التِّمثالِ.
في النِّهاية، قرَّروا أن يُهشِّموا التِّمثالَ ويحرقوهُ. الغريبُ في الأمرِ هو أنَّ أحدَ العُمَّالِ قالَ إنَّ قطعةً معدنيةً برَّاقةً خرجت مِن داخلِ التِّمثالِ ولم تذُب، فرماها معَ الطَّائرِ خارجَ المحرقةِ.
يُحكى أنَّ شيخًا صالحًا، كانَ يعيشُ بالقُربِ مِنَ التِّمثالِ، دعا ربَّهُ أن يُعيدَ شيئينِ اثنينِ للحياةِ، فأعادَ اللهُ قلبَ الأميرِ والسُّنونو.