يتأسس النص الشعري، بوجه عام، من جملة من التراكيب يحكمها نسيج من العلاقات الترابطية والسياقية. وينبني التركيب الشعري على الملفوظ الذي يوجه بدوره مسار الخطاب وتحولاته. ومن هنا، فإذا اعتبرنا أن الجملة هي أساس الخطاب(1) وأنها في اللغة تتأسس على التأليف القائم على تشابك علائقي، أمكننا أن ننظر إليها على اعتبار المحتوى الخبري؛ فيمكن وصف الجملة بسمة واحدة متميزة، ألا وهي أن لها محمو لاًPredicate أو مسنداً. وقد لاحظ بنفنيست(Benveniste) أن اللغة قد تستغني عن الفاعل أو المبتدأ أو المفعول وغير ذلك من المقولات اللغوية ولكنها لن تستغني أبدا عن المسند(2). ويحدد تودوروف Todorov النص الأدبي بقوله: «إن العمل الأدبي، لم يعد إلا كأي منطوق لغوي آخر، غير مصنوع من الكلمات، بل إنه مصنوع من جمل، وهذه الجمل خاضعة لمستويات متعددة من الكلام. » (3).
وكان لكثرة اهتمام النقاد بكشف القوانين الداخلية للنصوص دور كبير في إعطاء صبغة جديدة للنقد؛ إذ أصبح «وصفا للعبة الدلالات، وبحثا عن قوانين تبنين النص»(4).
ولقد توسعت فكرة الاعتقاد بأن النص عالم ذري مغلق. بل لقد أصبح فضاء مفتوحا من العوالم الدلالية التي تجعل من الإنتاج الأدبي مشروعا كتابيا قابلا لمستويات عدة من القراءات والتأويلات. ذلك أن النص «ليس تلك اللغة التواصلية التي يقننها النحو، فهو لا يكتفي بتصوير الواقع أو الدلالة عليه. فحيثما يكون النص دالا… فإنه يشارك في تحريك وتحويل الواقع الذي يمسك به في لحظة انغلاقه»(5).
فالانطلاق يكون من الواقع والعودة قد لا تؤول إليه ومن هنا نقتنع بفكرة «تحول النص إلى مجال يُلعب فيه ويمارس ويُتمثل التحويل الإبستمولوجي والاجتماعي والسياسي. فالنص الأدبي خطاب يخترق حاليا وجه العلم والإيديولوجيا والسياسة، ويتنطع لمواجهتها وفتحها وإعادة صهرها.»(6).
وعليه يصبح الأمر كما يقره توجه رولان بارث من أن الكتابة عن النص ما هي إلا احتفال معرفي، وأن الخطاب حول النص لا يمكن إلا أن يكون نصا هو ذاته، فقد بدأ الجميع ينظرون إلى النص غير منجز ما دامت قراءته متواصلة، بل إنه في دلالاته يتضاعف مثل المتوالية الرياضية، تبعا لتعدد القراءات.(7).
على هذا الاعتبار، يمكن التفريق بين مصطلح نص ومصطلح خطاب وذلك أن الخطاب هو«فعل الإنتاج اللفظي ونتيجته الملموسة والمسموعة والمرئية، بينما النص هو مجموع البنيات النسقية التي تتضمن الخطاب وتستوعبه»(8).
إذ تتحول الرسالة –في منظور جاكبسون (Jakobson)- إلى نص أدبي في حالة القول الأدبي. و«تنحرف الرسالة عن خطها المستطيل، وتعكس توجه حركتها، وتثنيها إليها، إلى داخلها، بحيث لا يصبح المرسل باعثا والمرسل إليه متلقيا. وإنما يتحول الاثنان إلى فارسين متنافسين على مضمار واحد يضمهما ويحتويهما هو القول أي النص.»(9).
وتتموضع الرسالة على سياق يفرض عليها توجها معينا فتكون خاضعة له «فالسياق كتقليد أدبي راسخ قد يتغلب على النص ويجعله مجرد محاكاة لما سبقه من نصوص مماثلة. ولو حدث هذا – وكثيرا ما يحدث – فإن النص سيسقط ويصبح نصا فاشلا كتقليد مفضوح. ولا بد هنا من ذكاء المرسل الذي هو المبدع كي ينقذ النص من السقوط. وخير السبل في ذلك هو الاستعانة بالشفرة. والشفرة هي اللغة الخاصة بالسياق»(10).
ومن خلال هذه الإطلالة السريعة، يمكن القول: إن النص الشعري يخضع في مساره إلى مجموعة من المستويات، تنبع أساسا من جملة العلاقات. فتتحرك الصورة الشعرية وفقها، متلمسة أحيانا درجة معينة من الكثافة والتوترات. وكرة أخرى تتحرك حول الانسجام والتضاد، وتارة نحو التشاكل والتباين. ولعل البحث في كل المستويات يصبح ضربا من الوهم، نظرا لكثرة هذه المستويات وتشعبها. وإنما يمكن الاسترشاد ببعضها لتكون عينة على مدى التفاعل الموجود بين مختلف المستويات التي ينشئها النص الشعري، والذي ينبني أساسا على العملية التخييلية. واستكمالا لذلك، نحاول استنباط مظاهر الكثافة الحاصلة في النص الشعري لدى الحطيئة في تفاعله مع دلالات الصورة الفنية.
أ- الكثافة:
يتشكل النص الشعري من جملة من المستويات التي تحدد خصائصه النوعية. فيعمل الجانب الإيقاعي على بلوة التشكيل الصوتي والنغمي له. ويعمل الجانب النحوي على تنظيم كيفية استغلال الطاقات التركيبية من خلال معاني النحو. وعليه يصبح كتلة معقدة تسير حركيته اعتمادا على قدرة التعبير، وسلسلة الاختيارات التي تتحكم فيها الشخصية المبدعة الشاعرة. وتأتي درجة الكثافة بالمقدار الذي يجعلها تتوخى الفعل الإبداعي المساهم في تحديد نمط الصورة «وهي ذات خاصية توزيعية بارزة، وهذا يجعلها قابلة للقياس الكمي والنوعي، وتتصل أساسا في تقديرنا بمعيار الوحدة والتعدد في الصوت والصــورة، وهذا
يجعلها ترتبط بحركة الفواعل ونسبة المجاز وعمليات الحذف في النص الشعري»(11).
إن الصياغة اللغوية التي يملكها الشاعر، والتي بها ينتج نصه الشعري وفقا لسياق الشعور والإحساس، يجعل «اللغة الشعرية تبدو كأنها تكشف عن بنيتها الأصيلة التي لا تتمثل في شكل خاص محدد بصفات معينة، وإنما في حالة، في درجة من الحضور والكثافة التي يمكن أن تصل إليها أية متتالية لغوية، بحيث تخلق حولها هامشا من الصمت يعزلها عن الكلام العادي المحيط بها»(12). وصفات الصورة تتشبع بنمط الحياة الاجتماعية ومظاهر الأشياء والموجودات البيئية. «وينبغي أن نشير إلى أن الصورة الشعرية باعتبارها وثيقة الصلة بنفسية الشاعر فإنها حتما سوف تنطبع بطابع هذه النفسية، ونفسية المجتمع الذي ينتمي إليه الشاعر، لهذا غلبت النزعة الوصفية المادية على معظم الشعر الجاهلي؛ لأن نفسية الجاهلي نفسية بدائية مادية تدرك معاني الأشياء في إطارها الحسي أو في أشكالها الظاهرة»(13).
ويمكن للسياق أن يكون ذا حضور قوي في توظيف التجربة الشعرية و«تظل العلاقة بين الصورة والسياق الكلي للتجربة الشعرية المحرك الأساسي الذي ينبغي أن تنبع منه الدراسة. وتبلغ هذه العلاقة حدا من الكثافة والتوتر في صورة شعرية ما يحيل فاعلية الصورة إلى عملية من الفيض والإضاءة والكشف لا حدود لها»(14).
وتتبعا لمظاهر درجة الكثافة، نسعى إلى مدارسة قصيدة قالها الحطيئة في عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو في شدة من الضيق عندما منع من قول هجائه في الناس، وعليه أصبحوا لا يخشون لسانه، فأفل نجمه، وصعُبت عليه الحياة في ظل الأم والبنين، وقسوة ابناء العمومة، وظلم ذوي القربى. يقول:
يا أيها الملك الذي أمســتْ له
بُصـــرى وغزَّة سهلها والأجرعُ
ومليكها وقسيمها عن أمــره
يُعـــطي بأمركَ ما تشاءُ ويمنـعُ
أشـكو أليك فأشــكني ذريَّة
لا يشبـــعون وأمهم لا تشــبعُ
كَثُرُوا عليَّ فما يموت كبيرهم
حتى الحسابِ ولا الصغيرُ المُـرضَعُ
وجفاء مولاي الضنين بمالـه
وولُوعَ نفسٍ هَمُّها بيَ مُــــوزَعُ
والحُرْفَةَ القُدْمى وأن عشـيرنا
زرعوا الحُروث وأننا لا نـــزرعُ
فبعثتَ للشعراء مبعث داحـسأ
و كالبسوس عِقَالَهَا تتـــــكوَّعُ
ومنعتني شتم البخيل فلم يـخفْ
شتمي فأصبح آمنا لا يـــــفزعُ
وأخذتَ أطرار الكلام فلم تـدعْ
شتما يضرُّ ولا مديـــحا ينفــعُ
وبُعثْتَ للدنيا تُجمِّعُ مــــالها
وتَصـــــُرُّ جزيتها ودأْبا تجمعُ
ومنعتَ نفسك فضلها ومنَـحتها
أهل الفِــعال فأنتَ خيرٌ مـــولعُ
حتى يجئ إليك عِِلْجٌ نـــازحٌ
فيصيبَ عَفْوَتَها وعــــبدٌ أوكـعُ
والعَيْلةُ الضَّعْفي ومـنْ لا خيْرُهُ
خيـــْرٌ ومثلُهُم غُـــثاءٌ أجْـمعُ(15)
تنبني اللغة الشعرية لهذا النص على درجة من الكثافة التي تحقق له خصوبة فنية. ويتمثل الأمر في ظاهرتين فنيتين الأولى الحذف، والثانية الأبعاد المجازية المبثوثة في بعض التراكيب الشعرية. إن الحذف هو خاصية لغوية عربية تبناه الكلام العربي، بل إنه تحول إلى مزية كلامية. فالحاذق من يحسن الكلام بأقل جهد، وأقل عدد من الأصوات التي تنشيء التراكيب. لهذا كانت البلاغة العربية قديما تساوي الإيجاز. ومن هذا المنطلق جاء النص الذي بين أيدينا ليحقق بعضا من مظاهر الحذف الذي يجعل التركيب يرتقي إلى درجة الكثافة، من ذلك قوله: (يا أيها الملك الذي أمست له بصرى وغزة سهلها والأجرع)، ومعناه أن مدينة بصرى وغزة وقعتا تحت حكم عمر- رضي الله عنه- بفعل الفتوحات، فدانتا له. والأمر هنا فيه كناية عن عظمة الفتح وشساعته. فاختزل التركيب كله في كلمة (أمست). وتجنبا للإطالة أيضا، يوظف في البيت الثالث لفظة(فأشكني) وهي مشكلة من فعل وفاعل ومفعول به. والمقصود بها (أعني على شكواي). وكذلك الأمر في البيت الرابع، في قوله: ( ولا الصغير المُرضَعُ) وتقدير الكلام: ولا الصغير المرضع أيضا يموت.
وتتبدى درجة الكثافة، من جهة أخرى، عن طريق لعبة المجاز الشعري الذي يرتفع بالمعاني والدلالات إلى مستوى فني رفيع. من ذلك قوله: (فبعثتَ للشعراء مبعث داحس أو كالبسوس عقالها تتكوَّعُ)، فقد شبه ما فعله عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- بالشعراء بحرب داحس والغبراء، أو بحرب البسوس، اللتين جرَّتا القبائل العربية إلى حروب طاحنة أتت على الأخضر واليابس. ويزيد هذا التشبيه من تعميق الدلالة. فالشاعر الحطيئة يريد من خلال هذه الصورة أن يرسم معالم الأثر النفسي الذي تركه سلوك عمر. ولقد جعل الحطيئة من لسانه أداة كسب القوت. وعلى هذا الأمر كان الناس يتحاشونه، بل ويغدقون عليه. ويحدث التكثيف أيضا في قوله ( وأخذتَ أطرار الكلام فلم تدع شتما يضر ولا مديحا ينفع)، والأطرار هي النواحي. فقد ارتفع التعبير الشعري من المعنوي إلى الحسي. وهي صفة في التعبير الشعري العربي القديم. فجسد الكلام في صورة مادية على سبيل الاستعارة المكنية. وكأن الكلام عبارة عن ثوب له نواحيه وحواشيه، فأمسك بها عمر ثم طواها. ويمكن أن يتضمن الشطر الثاني كناية عن سوء الحال المعيشية. فالشاعر، كما قلنا، إما مادح وإما ذام. وفي الوضعين يأخذ مالا. ويقول في موضع آخر: (والعيلة الضعفي ومن لا خيره ومثلهم غثاء أجمع)، إذ يشبه سوء حال الفقراء في الحياء بحال غثاء السيل وهو عبارة عن الزبد وما خالطه من ورق الشجر البالي.
ب- الانسجام:
إن «النص الأدبي هو توليد – تحويل لقالب لغوي في زمان وفضاء مهما كان مستواهما بكيفيتين أساسيتين هما جوهر أي نص وسر حياته وتعيينه، سواء أكان ذلك التوليد والتحويل لقوالب خارجية أم داخلية»(16). لقد طرح محمد مفتاح جملة من المعطيات الخاصة بالنص، والتي من خلالها يحقق النص انسجامه «فإذا كان الزمان والفضاء من بين ثوابت النص فإنهما بالضرورة- ضامنان لانسجامه المعنوي على الخصوص إذ ليس هناك نص بدون رسالة موجهة إلى متلق حقيقي أو مفترض، تحتوي على معلومات متراكمة تيسر فهمها وتأويلها»(17). وكانت اللسانيات الحديثة صاحبة الفضل في التحدث عن انسجام النص، وقد اقترحت بعض الآليات التي تساعد على فهم الخطابات المختلفة، منها:
– التساؤل عمن فعل؟ وماذا فعل؟ وأين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟
– الارتباط المعجمي.
– الارتباط التركيبي الحاصل بالضمائر وأداة التعريف واسم العلم وأسماء الإشارة وأدوات العطف(18).
وقد تعرض اللسانيون بالدرس إلى قضية الانسجام داخل النص، وارتبط هذا الأمر بما يعرف الآن (تحليل الخطاب). فقد اعتبر إيزنبرغ Isenberg الانسجام قيدا من قيود حد النص؛ إذ هو متتالية منسجمة من الجمل… وأشار ليونس إلى نفس الظاهرة ولكن بأقل صرامة مرجعا الانسجام إلى ما في النص من الصنعة باعتبار أن النصوص في الغالب نصوص أدبية(19).
وإذا كان النص ينبني على جملة من العلاقات المتشابكة فيما بينها وفق نظام سياقي معين؛ فإن انسجام النص مرهون بالأطر المعرفية التي تَشكَّل ضمنها. فما يبدو منسجما للبعض، قد يبدو غير منسجم للبعض الآخر. فالانســجام رهين جملة المعارف الحاصلة في ذهن منشئه ومتلقيه خاصة في النصوص الإبداعية. وإن الصعوبات التي حصلت في البحث عن إقامة انسجام بين مكونات النص، أفرزت جملة من الأمور منها:
– اقتراح اعتبار القارئ بمثابة المعيد لإنتاج النص.
– القول بموت الكاتب منشيء النص كما ذهب إلى ذلك بارث Barthes في كلام لا يخلو من المجاز والتصوير. ومثل هذا الطرح للمسألة يجعل الانسجام أمرا قائما بين القارئ والنص أكثر من قيامه بين الأجزاء المكونة للنص(20).
وسعيا نحو تتبع معالم الانسجام في النص الشعري لدى الحطيئة، نحاول الاعتماد على بعض المقاطع الشعرية التي وجدنا فيها تحقيقا لظاهرة الانسجام، من خلال امتلاكنا لخلفية التجربة الشعرية لديه، والتي ساهمت كما في إنجاز التركيب الشعري الذي يحمل داخله الصورة المتناغمة مع واقعها، والمستمدة لأجزائها ومكوناتها من صميم الحياة الاجتماعية العربية القديمة. يقول:
لنعم الحيُّ حيُّ بني كُلـيبٍ
إذا ما أوقــــدوا فوق اليفاعِ
ونعم الحيُّ حيُّ بني كُليـبٍ
إذا اختــلط الدواعي بالدواعي
ألمْ ترَ أنَّ جـار بني زُهيرٍ
قصير الباع ليس بذي امــتناع
وليس الجار جارُ بني كليبٍ
بمُقْصىً في المَحلِّ ولا مُــضاعِ
همُ صنعوا لجارهمُ وليستْ
يدُ الخــرقاء مثل يد الصَّـنَاع
ويحرُمُ سرُّ جارتهم عليهمْ
ويأكل جارهمْ أُنُفَ القِـــصاعِ
وجارهُمُ إذا ما حلَّ فيـهم
على أكناف رابـــــيةٍ يفاعٍ
لعمرُك ما قُرادُ بني رياحٍ
إذا نُزع القُــــرادُ بمستطاع(21)
إن القدرة اللغوية تعد أساسا لقوة الإبداع. والحطئية صاحب تفوق لغوي معترف به من قبل النقاد القدامى والمحدثين. وذلك بحكم انتمائه لمدرسة عبيد الشعر، وملازمته الشديدة لشعر زهير. لذلك كان شديد الثقة بنفسه، معتدا بها، لا ينازعه كثير من الشعراء قول الشعر. والنص الذي أمامنا يحتكم إلى لغة شعرية محكمة، ومتماسكة. ويبدو انسجام الجمل واضح المعالم. حيث بني المعنى العام للنص على القسم الذي أُلف في كلام العرب قديما، وسياق توظيفه هو تأكيد المعنى، وجعله غير قابل للنقاش. فكلمة(نِعْمَ) تأتي في سياق التعبير عن مكانة الممدوح الذي يتربع على مجد الكرم. ثم يسير النص الشعري متلمسا انسجامه معتمدا الجملة الشرطية بـ(إذا) التي تؤسس شرط الكرم الذي هو شرط الرقي والتفوق الأخلاقي عند الإنسان العربي قديما. ولعل معنى الكرم، جاء منسجما مع إيقاد النار فوق اليفاع، واليفاع هو المكان العالي. ثم يسير النص نحو انسجام آخر، يحصل في سياق المفاضلة التي تتم بين (يد الخرقاء) و(يد الصَّناع). والمفاضلة عادة عربية، كانت تستعمل لإبراز شيء على حساب شيء آخر. فكان إبراز الكرم هنا قائما على مثل هذه المفاضلة التي تمت بين اليد الخرقاء، وهي المرأة التي لا تحسن العمل. ويد الصَّناع وهي المرأة الحاذقة والماهرة في العمل. ويقابلها في ذلك الرجل الكريم الذي يقدر معنى الكرم، فيحسن تمثيله، والرجل البخيل الذي لا يقدّر هذا الصنيع، وبالتالي فلا خير يُرجى منه. ويعتبر البيت الذي استوعب هذه الصورة نواة النص ككل. فقد تشكلت الصورة الشعرية المبنية على التشبيه الضمني. وهو الذي انتشرت دلالته في معاني الأبيات الأخرى. لأن الأمر كله سار على مدار إبراز الممدوح، ورفعه إلى المكانة العليا اللائقة به. ومن ثم كانت المفاضلة هي الوعاء الذي استوعب هذه الفكرة.
ومن هنا يمكن القول: إن النص الشعري انبنى على جزئيات شعرية مستوحاة من الواقع الحياتي لدى الشاعر، وقد استطاع توظيفها بالمقدار الذي يحقق للنص الشعري شاعريته، وإيحاءه. فالشاعر منسجم مع هذا الواقع، وانسجامه هذا شكَّل للنص انسجاما جمليا، سار باتجاه بناء الصورة الفنية التي حملت معنى الكرم.
وتأكيدا لانسجام الجمل، يمكن توضيح الأمر أكثر. فاستعمال القسم، جر التركيب إلى الاستعانة بالنفي الذي يكون مضادا للتأكيد وقد تم بـ(ليس). وقد جاءت في معرض حديثه عن عدم إقصاء الجار الذي يلازم هذا الممدوح وهم(بنو كليب). كما أن الاعتماد على ضمير الجمع (هم) ساهم في تعميم صفة الكرم على الحي كله. فالشيمة جماعية، وهذا يحمل دلالة نقاء الأصل والنسب. وهي صفة كان يحبها العربي. فلا وجود له خارج وجود الحي والقبيلة.
لقد تشكلت الصورة الكلية للنص من خلال سرد هذه التفاصيل والجزئيات. فكانت تلك الصورة مستوحاة من أشياء الواقع. استطاعت الرؤية الشعرية أن تقيم بينها جملة من العلاقات من مثل اليفاع والكريم، والكرم والصَّناع، والبخل والخرقاء…
ج- التضاد:
لقد طرحت الدراسات اللسانية الحديثة فكرة الثنائيات، انطلاقا من البحوث اللسانية التي جاء بها دو سوسير من مثل: اللغة/الكلام، الدال/المدلول،… وبناء على ذلك، يمكن طرح بعض الأسئلة منها: «متى يصح أن يقال: إن بين اللفظتين تقابلا؟ والجواب: يكون بينهما تقابل حينما يرجعان إلى نفس الطبقة فيشتركان في بعض المقومات ويختلفان في بعضها[، مثل حار/بارد. وصاعد/نازل»(22). ومعروف أن غريماس (Greimas ) طور نظرية التقابلات الثنائية وجعلها في مربعه السيميائي المعروف. وهذه التقابلات هي:
– تقابلات محورية لا تقبل وسطا: زوج/زوجة.
– تقابلات مراتبية: كبير/وسط/صغير.
– تقابلات متناقضة: متزوج/أعزب.
– تقابلات متضادة: صعد/نزل.
– تقابلات تبادلية: اشترى/باع(23).
إن التقابلات الثنائية التي جاء بها الطرح اللساني، تنتمي علائقيا إلى بنية ما، تتشكل من مجموعة من المستويات؛ المستوى النحوي والصرفي والتركيبي والإيقاعي والدلالي وغيره… ومصطلح بنية(Structure) يتباين مفهومه وفقا لتباين الطروحات النقدية المختلفة من مدرسة إلى أخرى. فقد حدد جون بياجي(Jean Piajet) المكونات الثلاثة التي تتأسس عليها البنية؛ باعتبارها نظاما من التحولات، يحوي قوانين خاصة، تحفظ له شخصيته، وتتخصب عن طريق التحولات، من دون أي تدخل لعناصر خارجية عنه. والبنية تتحكم فيها مميزات ثلاثة هي: الشمولية (Totalité)، والتحولات (Transformations)، والتحكم الذاتي (L’autoréglage)(24).
فالشمولية تفيد أن البنية نظام من العناصر تحكمها قوانين معقدة، ينجر عنها الكل الذي يتميز بتلك العناصر(25). والتحولات تُفهمُ من خلال معرفة العناصر المكونة للبنية التي بدورها تكون خاضعة إلى مثل هذه التحولات والقوانين التي تنظمها(26).. أما التحكّم الذاتي، فمعناه أن التحولات الملازمة للبنية، لا تتحرّك خارج حدودها، وأن عناصرها تنتسب دائما إلى هذه البنية المحافظة على قوانينها(27). . وهذا التحكم الذاتي يتشكل من الأنساق والسياقات المختلفة، مما يدخل في الاعتبار نظاما معقّدا ومتناميا.(28)
وباعتبار النص مجموعة من البنيات النسقية، يمكن تتبع مسار بنى التضاد داخل النص الشعري لدى الحطيئة، اعتمادا على التعامل النصي الذي يستنطق البنى الشعرية، من أجل الوصول إلى غاياته العلمية. خاصة وأن النصوص الخصبة هي النصوص التي تستوعب بنية التضاد، لأنها تجعل النص متحركا بعيدا عن السكونية. يقول الحطيئة:
والله ما معشر لاموا امرأ جُنُـًبا
في آل لأي بن شَمَّاس بأكــياس
علام كلفتني مجدَ ابن عمكــم
والعيس تخرج من أعلام أوطاس
ما كان ذنب بغيض لا أبا لكـم
في بائس جاء يحدو آخر النـاس
لقد مريتكم لو أن درتكـــم
يوما يجيئ بها مسحي وإبساسـي
وقد مدحتكم عمدا لأرشــدكم
كيما يكون لكم متحي وإمراســي
وقد نظرتكم إعشاء صــادرة
للخمس طال بها حبسي وتنساسي
فما ملكت بأن كانت نفوسـكم
كفارك كرهت ثوبي وإلباســـي
لما بدا لي منكم غيب أنفسكـم
ولم يكن لجراحي منكم آســـي
أزمعتُ يأسا مبينا من نـوالكم
ولن ترى طاردا للحر كاليـــاس
أنا ابن بجدتها علما وتجـربة
فسلْ بسعد تجدني أعلم النــاس
ما كان ذنب بغيض أن رأي رجلا
ذا فاقة عاش في مستوعر شـاس
جار لقوم أطالوا هون منــزله
وغادروه مقيما بين أرمــــاس
دع المكارم لا ترحل لبــغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكــاسي
وابعث يسارا إلى وُفْر مذمـمة
واحدج غليها بذي عَركـين قنعاس
سيري أُمامَ فإن الأكثرين حصى
والأكرمين أبا من آل شـــماس
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والـناس
ما كان ذنبي أن فلّت مـعاولكم
من آل لأي صفاة أصلــها راس
قد ناضلوك فسلوا من كنـانتهم
مجدا تليدا ونبلا غير أنكــاس(29)
إن البلاغة العربية نظّرت قديما لأنماط تعبيرية كانت تستهوي الشعراء وأصحاب الإبداع. من مثل الطباق والمقابلة. وقد أسهبوا في الإشادة بهذين المحسنين البديعيين. ولعلنا لا نجانب الصواب بالقول: إن التقارب كبير جدا. ولكن الضرورة المنهجية والتعبير بالمصطلح النقدي المعاصر يحتم اعتماد التسمية والالتفاف حولها تحريا للدقة، وتحقيقا للموضوعية العلمية. والنص الذي أمامنا، يشتغل في هذا المنحى؛ إذ تتشكل حركيته الدلالية وفق بنى التضاد التي تنشر ظلالها على مختلف تراكيب النص. والقصيدة هذه، وفق ما يشير الديوان، كتبت في سياق المدح والذم؛ فهي مدح لبغيض وذم للزبرقان الذي اشتكاه لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- ولقد عايشت حـــياة الحطيئة كثيرا من قسوة الحياة وغلظتها، فكان يتنقل باحثا عن مسببات العيش؛ فأنّى وجدها أخذ بها. وقد وجد ضالته مع بغيض. ففرح بالمقام، واستهواه العيش الرغيد. بينما لم يجد ذلك مع الزبرقان وأهله المعروف بالكرم والسخاء والجود. فتحركت مشاعر الشاعر في منحيين: منحى الإشادة ببغيض، ومنحى التعريض بالزبرقان. وجاء النص حافلا ببنى التضاد. وينطلق من بنية القسم(والله)، التي تستشعر عظمة المقام في ديار (ابن شمَّاس). وبنية التحقيق (لقد) المعتمدة على اللام الموطئة للقسم، وحرف التحقيق قد، والمعبر عنها في سياق التعريض بالزبرقان. وبين سياق المدح والذم. تتحرك دلالات النص. ففي معرض حديثه عن المذموم، تتشكل مجموعة من الجزئيات التي تؤسس للنص بنية اليأس، وهي: (لقد مريتكم لو أن درتكم يوما يجئ بها مسحي وإبساسي). وقد اعتمد التعبير الشعري تأسيس الصورة الفنية التي تشخص فكرة اليأس؛ فقد تمثل الشاعر نفسه يمسّح ضرع الناقة، ويصدر صوتا تستعذبه النوق أثناء الحلب وهو(بس بس). ومع ذلك لا تدر الناقة الحليب. وكذلك الأمر بالنسبة للزبرقان وأهله. ويستمد صورة فنية أخرى للتعبير عن ذلك اليأس باعتماده أشياء مستوحاة من البيئة التي يسكنها، وذلك في قوله(وقد مدحتكم عمدا لأرشدكم كيما يكون لكم متحي وإمراسي) ويقصد به، أنه مدحهم مدحا خالصا دون غيرهم ولكنهم أفسدوه، فجعل الإمراس أساسا في ذلك، وهو أن يقع الحبل بين البكرة وبين القعو فتخلصه وترده للبكرة، وبالتالي يصبح قادرا على أداء وظيفته. ويؤسس بنية أخرى تستمد دلالتها من فكرة الصدور، وهي التجاء العرب قديما إلى إيصال النوق إلى مرحلة كبيرة من العطش ثم يصدرون، فترتوي(وقد نظرتكم إعشاء صادرة للخمس طال بها حبسي وتَنساسي) وكذلك الشاعر ظمئ، وانتظر طويلا حتى يُلتفت إليه. ولكن شيئا لم يحصل. وتصل حدة الذم عندما يشبههم بالمرأة المبغضة لزوجها(الفارك). ويتحول اليأس إلى نواة تفرز إيحاءها تراكيب الذم (أزمعتُ يأسا مبينا من نوالكم ولن ترى طاردا للحر كالياس).
أما في منحى الإشادة والمدح، فإن، التركيب الشعري يجنح نحو إعطاء بنية مضادة من الصور، والتراكيب تستشعر عظمة الممدوح، وترتقي به إلى مصاف الرفعة والعلو. ويتحرك النص الشعري من اليأس، والجمود، والضياع، والإقامة بين الأرماس(مقيما بين أرماس). إلى السير الحثيث وقطع الفيافي والصحاري، وتكبد المشقة من أجل الوصول إلى الممدوح صاحب الفضل والكرم (سيري أُمامَ فإن الأكثرين حصى والأكرمين أبا من آل شماس). وتتجلى قوة هذا الممدوح وعدم قدرة الآخرين على مجاراته، في قول الشاعر(من آل لأي صفاة أصلها راس). والصفاة هي الصخرة الملساء التي تهزم المعاول والفؤوس. والأمر كناية عن قوة الأصل. ويستمر التأسيس على ذلك المنوال، ويؤثث صورة الأصل والنسب بقوله:(قد ناضلوك فسلوا من كنانتهم مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس). والمناضلة هي المفاخرة؛ وكأن الأمر يتحول إلى الرماة الذين يسلون النبال من كنانتهم ثم يرمون.
ولكن هناك النبل القوي الذي يتحمل التسديد وهناك النبل الضعيف أو(المنكوس). وفي الأخير تتشكل، داخل النص الشعري، التعارضات التي تصنع بنى متضادة من مثل:
الشح الكرم
اليأس الأمل
الفقر الغنى
الهوان العزة
الكره الحب
استمرار النسب زوال النسب
ويمكن التعليق بشيء من الإيجاز حول هذه الثنائيات؛ كرم آل بغيض يقابله شح الزبرقان. ويأس الشاعر من الحياة في حي الزبرقان يقابله الأمل الكبير والتطلع إلى عيش رغيد في كنف بغيض. والفقر المدقع الذي نال من الشاعر يقابله الفرح بالغنى والجود من لدن بغيض. والهوان الذي لاقاه في ساحة الزبرقان تقابله العزةوالكرامة عند بغيض. والكره الذي أصبح يُكنّه لآل الزبرقان، يقابله الحب الكبير الذي أصبح يكنه لآل بغيض. وزوال نسب آل الزبرقان واندثاره (وقد أشار إليه بالأرماس) يقابله امتداد النسب وقوة عراقته وصلابته لدى آل بغيض(وقد أشار إليه بـ:أصلها راس).
د- التشاكل:
يعتبر التشاكل (Isotopie) من المصطلحات التي أصبحت تغري كثيرا من الدارسين، فراحوا ينظّرون له ويسعون إلى الاشتغال التطبيقي عليه. وقد اكتنف المصطلح بعض الغموض. كونه قد وفد من الغرب، ولم يكن استعماله الأول استعمالا أدبيا؛ وإنما كان الفضل في نقله من حقل الفيزياء والكيمياء إلى حقل الأدب، يعود إلى غريماس (Greimas) «وكأي مفهوم جديد فإن المهتمين تلقوه بالمناقشة والتمحيص، ولكنه لم يرفض مع ذلك وإنما سلموا بوجاهته كمفهوم إجرائي لتحليل الخطاب على ضوئه»(30).
وقد تضاربت الآراء حول الجانب التطبيقي للمصطلح، فنجد غريماس قد قصره على المضمون، بينما عممه راستي Rastier فشمل التعبير والمضمون معا، فهناك التشاكل الصوتي، والتشاكل النبري، والمعنوي…(31).
ويورد محمد مفتاح تعريف راستي الذي مفاده أن التشاكل هو تكرار لوحدة لغوية مهما كانت(32). وظاهرة التكرار تعد خاصية شعرية منذ ظهر الشعر. وهذا الأمر سارت على منواله مجموعة(M) في (كتاب بلاغة الشعر)؛ إذ اعتبرت التشاكل تكرارا مقننا لوحدات الدال نفسها ظاهرة أو غير ظاهرة، صوتية أو كتابية، أو تكرار لنفس الوحدات التركيبية(33).
وتعدد التسميات في النظرية النقدية الحديثة أصبح ظاهرة مألوفة، انطلاقا من تعدد الثقافات، وخصوصية التكوين لدى كل ناقد. وفي خضم الاختلاف والاتفاق، يجمع الدارسون على أن النص عبارة عن بنية من العناصر الداخلية تحكمها العلاقات والسياقات. وهذه العناصر الداخلية «ليست جامدة أو قارة بل هي تتحرك وتتغير في إطار النص كهيكل وهي تتوزع ضمن أقطاب دلالية(Isotopies) متداخلة ومتقابلة»(34). فهناك اختلافات في الأمر. على أن البحوث والدراسات تكاد تجمع على أن المصطلح ينحدر من كلمتين يونانيتين هما: (Iso) التي تعني التساوي، و(Topos) التي تعني المكان، فيصبح المصطلح دالا على تساوي المكان أو المكان المتساوي(35).
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم التشاكل ارتبط بمفهوم التباين الذي يخالفه. وقد تناول محمد مفتاح بشيء من التفصيل دراسة ظاهرة التشاكل والتباين في كتابه: تحليل الخطاب. وسنحاول الاستفادة من المنحى التطبيقي الذي جسده في بحثه مع توخّي استنباط النصوص التي تلبي الظاهرة المراد درسها والتطبيق عليها. علما أن هذا الباحث قد اعتمد في دراسته للتشاكل والتباين على الجانب الصوتي، والجانب المعنوي، والجانب المعجمي، والجانب التركيبي. وعلى اعتبار الصورة الفنية تتحرك معالمها داخل تفاصيل الجملة الشعرية المشكّلة أساسا من المفردة اللغوية. فإن البحث يركز على التشاكل الزمني والتشاكل المكاني، على اعتبار أن الصورة الفنية تتحرك بين هاتين الثنائيتين. وقد اختيرت مقاطع شعرية تخدم هذا التوجه التطبيقي.
1 – التشاكل الزمني:
تتجسد معالم هذه الظاهرة الفنية، التي تشكل مستوى من مستويات الصورة الفنية، في قول الحطئية:
عرفتُ منازلا من آل هـند
عفتْ بين المؤبَّل والشّويّ
تقادم عهدها وجرى عليها
سفيٌّ للرياح على سـفيّ(36)
إن التعبير هنا تم بالزمن، ولذلك استوجب استحضار العناصر المكونة له. فقد ذكرت منازل آل هند. وهذه المنازل قد تلاشت عبر الزمن، وسفت عليها الريح التراب، فغدت أطلالا تقادم عهدها. والرؤية الشعرية هنا انبنت بشكل كلي على البنية الزمنية التي كان لها دورها الكبير في إزالة هذه الديار. وتلمسا لمعالم التركيب الشعري الذي ساهم في تأسيس صورة شعرية تعبر عن التلاشي، يحدث التشاكل الزمني بين لفظة (عفت) و(تقادم)، فكلتا اللفظين عبّرت عن زوال عهد. يقول الشاعر في مقطع آخر:
قد يملأ الجفنة الشيزى فيترعـها
من ذات خيفين معشاء إلى السحر
من كل شهباء قد شابت مشافرها
تنحاز من حسها الأفعى إلى الوزر(37)
قيل البيتان في مدح طريف بن دفاع الحنفي. ويحدث التشاكل الزمني في البيت الأول بين (معشاء) و(السحر)، فكلاهما يعبر عن معنى زمن: معشاء مأخوذة من العشاء، ومعناه أن الناقة تتعشى إلى وقت السحر. والسَحَــر هو قرب نهاية الليل. فيحدث التكرار بين اللفظتين الزمنيتين. ويساهم هذا المستوى التعبيري في إنجاز صورة مشهدية، ترسم لنا معنى الكرم والجود؛ فالممدوح يملأُ الشيزى (وهي الجفنة) بلحم ناقة ذات خيفين. وهي ناقة تدر الحليب بغزارة. ويحقق التشاكل هنا معنى الانسيابية. فالليل ينساب، والسَّحَر كذلك. ويسـير هذا الأمر حتى يتحقق في انسياب الحليب من الضرع.
ويقول أيضا:
ومناخ العافين في زمن المحْ
ـل إذا أجحرت حنين الشمال(38).
هذا البيت من قصيدة مدح بها الحارث بن عبد يغوث. وبعد الإشادة بالممدوح يصل إلى وصف الحالة الاجتماعية السيئة التي مر بها الشاعر. ويصبح مناخ العافين الذين يطلبون المعونة في زمن القحط، وانقطاع المطر وتيبس الأرض، هو عنوان البؤس الشديد الذي تتكشّف أبعاده من خلال التشاكل بين (زمن المحْل)، وهو زمن القحط. و(أجْحرت). وهي بمعنى القحط.
ويقول في موضع آخر:
وقعتَ بعبس ثم أنعمتَ فيــــهم
ومن آل بدر قد أصبت الأكـابرا
فإن يشكروا فالشكر أدنى إلى التُّقى
وإن يكفروا لا أُلْفَ يا زيدُ كافرا
تركت المياه من تمــــيم بلاقعا
بما قد ترى منهم حلولا كراكرا
وحيّ سُليم قد أبـــرت شريدهم
ومن قبل ما قتّلتَ بالأمس عامرا(39).
يأتي هذا المقطع في مدح (زيد الخيل)، وكان قد أسره في غارة أغارها على بني عبس موطن الشاعر، فأنعم عليه. وينبني النص ككل على إبراز معاني السماحة والمروءة والندى. ويتأسس التشاكل في البيت الأخير بين (من قبل) و(بالأمس). والمعنى زمني، يحيل إلى الماضي، فحدث التكرار في المعنى.
وسيأتي استكناه التشاكل المكاني الذي يعد، هنا، عنصرا مكمّلا في بناء الصورة الكلية للنص الشعري.
2- التشاكل المكاني:
إن الزمن يحتاج دوما إلى المكان لاستيعاب ما يحدث من حركة وسكون الأشياء والموجودات. وإن النص الشعري لدى الحطيئة حافل بعنصر المكان؛ لأن الشاعر ملتصق به، وملازم له. فأين ما تحرك نقلت الذاكرة مختلف الموجودات والأشياء المحيطة به. ومنه كانت الصورة نتاجا لمجموعة من العلاقات التي صنعتها مخيلة الشاعر، لتربط بينها وفق رؤية شعرية. يقول الحطيئة في الإشادة بنسبه الذي يريده أن يضرب إلى بكر بن وائل؛ خاصة وأن الحطيئة أشتدت به أزمة النسب في مجتمع يتباهي كثيرا بالانتماء إلى الأصل الشريف، والنسب الرفيع:
إن اليمامة خير ساكنها
أهل القُريَّة من بني ذهل(40).
واليمامة هنا اسم مكان يعج بالخصوبة والنماء، فكان الناس يلجأون إلى هذه المراعي، فيأخذون رزقهم حتى تعاود أرضهم القاحلة إخراج نبتها. والمتمعن في البيت، يجد أن التشاكل حصل بين (اليمامة) و(أهل القريّة). فهو تكرار للمكان؛ لأن القرية يقصد بها اليمامة.
ويقول في موضع آخر في سياق مدح بني ذهل:
لعمـرك ما ذمّتْ لبوني ولا قلّتْ
مساكنَها من نهشل إذ تــولّت
لها ما استحلت من مساكن نهشل
وتسرح في حافاتهم حيث حلّت(41).
يحدث تكرار المكان بلفظ مغاير بين (مساكن) و(حافاتهم). ويساعد التعبير بالأشياء على إبراز صورة الكرم. والصورة تأسيس لحالة الاطمئنان التي يستشعرها الشاعر في ذاته من جراء الإقامة في مرابع هؤلاء القوم. فالنوق تسرح في تلك المراعي وتتحرك كيفما تشاء، وهي كناية عن الاطمئنان والسكينة التي يلاقيها من يحلُّ في ذلك المكان. وفي سياق ذكر المحبوبة، وبُعْد الوصل وعذاباته، واشتداد اللوعة من جراء تباعد الأمكنة، يقول:
وكم دون ليلى من عـدوّ وبلدة
بها للعتاق الناجيات بــريد
وخرْق يجر القوم أن ينطقوا به
وتمشي به الوجناء وهي لهيد(42)
ويحدث التشاكل بين(بلدة) و(خرْق). والخرق هي الأرض البعيدة. فأشار الشاعر باللفظة الأولى بلدة للتدليل على بعد المسافة. وكرر الأمر نفسه بلفظة مغايرة وهي خرق للتدليل أيضا على طول المسافة. ومن خلال هذا التكرار، تغدو صورة المعاناة هي الغالبة على المقطع الشعري.
هوامش وإحالات:
(1) بول ريكور: نظرية التأويل. الخطاب وفائض المعنى. ترجمة: سعيد الغانمي. المركز الثقافي العربي. المغرب. ط1. 2003. ص32.
(2) المرجع نفسه. ص 35.
(3) محمد بنيس:ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب. دار العودة. بيروت. ط1. 1979. ص 20
(4) المرجع نفسه. ص 21.
(5) جوليا كريستيفا: علم النص. ترجمة: فريد الزاهي. دار توبقال للنشر. المغرب. ط2. 1997. ص9.
(6) المرجع نفسه. ص 13.
(7)عبد الله إبراهيم: معرفة الآخر. المركز الثقافي العربي. المغرب. ط1. 1990. ص 26.
(8) فاضل ثامر: اللغة الثانية. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 1994. ص 75.
(9) عبد الله محمد الغذامي: الخطيئة والتكفير. دار سعاد الصباح. الكويت. ط3. 1993. ص8.
(10) المرجع نفسه. ص 9.
([) على الرغم من أن كلام صلاح فضل هنا موجها إلى النص الشعري المعاصر إلا أن الأمر يصلح على النص الشعري القديم لأنه يتبنى الحذف والمجاز. بل إن المجاز من أهم خصائصه. وعلى هذا الأساس وجد في البلاغة العربية ما يعرف بالإيجاز والإطناب والمساواة.
(11) صلاح فضل: أساليب الشعرية المعاصرة. دار الآداب. بيروت. ط1. 1995. ص24.
(12) المرجع نفسه. ص25
(13) مصطفي البشير قط: قراءات في النقد والأدب. مكتبة الآداب. ط1. القاهرة 2007. ص11.
(14) كمال أبو ديب: جدلية الخفاء والتجلي. دراسات بنيوية في الشعر. دار العلم للملايين. بيروت. ط3. ص45.
(15) الحطيئة: الديوان، رواية: ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، شرح: أبي سعيد السّكري، دار صادر. بيروت. 1981م. ص232 وما بعدها.
([) الأجرع: ما استوى وارتفع من الرمل. تتكوّع:تطأ على كوعها. عفوتها: أحسن ما فيها. أوكع: ركوب الإبهام على السبابة في الرجل.
(16) محمد مفتاح: دينامية النص (تنظير وإنجاز)، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. ط2. 1990. ص52.
(17) المرجع نفسه. الصفحة نفسها.
(18) للاطلاع أكثر يرجى العودة إلى محمد مفتاح: دينامية النص. ص52 وما بعدها
(19) محمد الشاوش: أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية. كلية الآداب منوبة. ط1 تونس2001، 1/111.
(20) للاطلاع أكثر ينظر كتاب محمد شاوش السابق. ص112 وما بعدها.
(21) الديوان. ص201/202.
([) يوجد في البلاغة العربية القديمة ما يشبه هذا الطرح ويتمثل في الطباق.
(22) محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء 1992، ص160.
(23) المرجع نفسه. الصفحة نفسها.
Jean Piaget : Le Structuralisme. Presse Universitaire de France. Paris 1970. p6/7 (24)
(25) Ibid. P8.
(26) Ibid. P11.
(27) Ibid P13/14
(28) Ibid. P14
([) التنساس: العطش. شاس: وعر. قنعاس: الشديد. أنكاس: النكس من السهام، المنكوس الذي جعل أعلاه أسفله، فهو ضعيف أبدا.
(29) الديوان، ص105 وما بعدها.
(30) محمد مفتاح: تحليل الخطاب، ص19.
(31) المرجع نفسه، ص19/20.
(32) المرجع نفسه، ص21.
(33) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(34) سمير المرزوق. جميل شاكر: مدخل إلى نظرية القصة، الدار التونسية للنشر، ديوان المطبوعات الجزائرية،دت، ص118.
(35) مولاي علي بوخاتم: مصطلحات النقد العربي السيمياءوي. الإشكالية والأصول والامتداد. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق2005، ص180.
(36) الديوان، ص137
(37) المصدر نفسه، ص148/149
([) الخيفان: هما الضرعان. شهباء: النفيسة من الإبل.
([) العافين: الذين يطلبون المعونة. حنين الشمال: صوت الريح الباردة.
(38) الديوان، ص157.
(39) المصدر نفسه، ص185.
(40) الديوان، ص192.
(41) المصدر نفسه، ص197.
(42) المصدر نفسه، ص222.
سميـــة الهــــادي
أكاديمية من الجزائر