فضاء الملحمة
يداه المُجرّحتان ، والخِرقة التي يلفُّ بها جسده الورديّ ، وشَعره المسبول المُجعّد قليلاً، وقامتُه الفارعةُ السُّنبليّة، وتواضع جلسته على حجارة المعصرة، والتلاميذ من حوله .. ولا شيء غير أنه نبيٌّ يعظ ويشرحُ ، ويكاد اليمامُ أن يفرد أجنحته ليقعَ الكلامُ الرسوليّ على الرّيش ، كما تقعُ حبّات الماء الصافية ، فيطير بها .. ليبشّرَ مَنْ لم يشهدوا حلقات النبيّ ، لعلّ الأرضَ تُصادف السلام والطمأنينة والمحبّة .
كان الحقل لجدّته أمّ مريم ، وثمّة ثماني زيتونات دهريّات، والحجارة ملساء تشرّبت الزيت المعصور، وبعض العشب الهائش القليل .. لقد كان المشهد طبيعياً رعويّاً لا يشي بما سيحدث من تحوّلات كونيّة ، ومن عِبَرٍ ستقشعرّ منها المعادن .
كان يعرف أن المائدة ستهبط من السماء ، وأن يهوذا سيخونه بثلاثين رنّانة نجسة ، وسيُنْكره تلميذه المُحبّ ، وسيكون عَرقُه دماً مخثّراً .. وسيصعدون به إلى الجُلجلة.
كان بُستان جدّته مهيأ ليكون غير كنيسة وقبر مُقدّس، ولم يكن في بال البنّائين أن كنيسة الجُثمانيّة «المِعصرة – الجتسمانية» هي وسادة الجموع الذين حلّوا على التلّة المُقابلة ، صعوداً إلى باب الأسباط الذي ينفتح ليستقبل الشمس كلّ شروق.
والصعودُ طريقٌ قد يتعدّى العشرين ذراعاً، على يمينه المقبرة اليوسفيّة ( نسبة إلى يوسف ، وهو اسم الناصر صلاح الدين الأيوبي ) وعلى يساره مقبرة باب الرّحمة ( نسبة إلى اسم باب الرحمة المُغلق الواقع شرق سور القدس بمحاذاة المقبرة ) ، التي يغفو فيهما الصحابةُ الأحياء، ويتزاحم في قلبيهما الشهداء الأبرار. ويبدو واضحاً أن هذا المكان قد كتب اللهُ تعالى بيده تاريخَه الجليل، إذ أَسْكَنَ فيه أولياءه وصحابةَ حبيبه والذين صدَقوا ما عاهدوه عليه.
يعدّ «باب الأسباط» من أهم أبواب المسجد الأقصى، وظل المدخل الرئيسي إلى المسجد على مدى العصور، وأصبح ساحة لاعتصام الفلسطينيين الرافضين لإغلاق المسجد من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي والبوابات الإلكترونية التي وضعتها في يوليو 2017 .
ويحمل اسم باب الأسباط في القدس بابان متجاوران؛ الأول يقع في سور البلدة القديمة، ويفضي إلى طريق طويل تسمى طريق المجاهدين أو درب الآلام، تصل في نهايتها إلى شارع الواد وسط البلدة القديمة ، أما الباب الثاني، الذي يحمل الاسم ذاته، فهو أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك العشرة، ويقع في الزاوية الشرقية الشمالية للمسجد الأقصى .
ومن مميزات هذين البابين أن الوصول إلى الأقصى من خلالهما لا يستلزم المرور عبر الحارات السكنية أو عبر أسواق البلدة القديمة؛ فالداخل من باب الأسباط الذي يقع في السور، ما عليه إلا الالتفات يساراً إلى ساحة صغيرة تعرف بساحة الإمام الغزالي، ومنها يصل مباشرة إلى باب الأسباط ، أحد أبواب الأقصى . وجعل ذلك بابي الأسباط طريقاً مفضلة للمتعجّلين، وموقعاً مفضّلا للمعتصمين في أقرب نقطة لمسجدهم.
ولباب الأسباط الواقع في سور البلدة القديمة أسماء أخرى كثيرة، منها «باب الأُسود» ، و«باب القديس اسطِفان» ، و«سِتّي مريم» ، و«باب أريحا» أو «الغور» ، بوصفه يفضي إلى الشرق باتجاه أريحا.
والأسباط من الأبواب الأصلية الأربعة التي بناها سليمان القانوني، وتؤدي إلى ساحة سُمّيت في الفترة المملوكية والعثمانية بساحة الغزاليّ ، نسبة للعالم أبي حامد الغزالي.
وعلى الواجهة الشرقية لباب الأسباط ، التي تقابل الداخل للبلدة القديمة، زخرفات معمارية مميزة وبارزة، ذات طابعٍ دفاعي . يذكر منها ما يشبه المحرابين، على طرفي الباب، يعلوهما قوسان. بالإضافة إلى طلّاقات الزيت الحار والرماح على جهتي الباب، والحجرة الدفاعية الموجودة في منتصف الباب فوق قوسه بالضبط.
والميزة المعمارية الأبرز لباب الأسباط ، الواقع في سور البلدة القديمة، هي وجود أربعة أسود، أو فهود، بحسب بعض الروايات، يزين كل اثنين منهما طرفي الباب ، عن يمينه ويساره.
وقد نسجت حول الأُسود الأربعة التي تزيّن باب الأسباط الكثير من الحكايات، منها ما ثبت في كتب التاريخ، ومنها ما يعدّ أساطير شعبية.
والقصة المتواترة والأكثر قبولاً لهذه الأسود، إنها أخذت من بقايا خان مهدوم مملوكيّ البناء على أطراف القدس. ويقال إنه عندما بدأت الدولة العثمانية حملتها الواسعة لإعمار سور البلدة القديمة، كانت لا تتوفر أي حجارة صالحة تجدها، لذلك كانت هناك إعادة استخدام متكررة للأحجار من كافة العصور في بناء القدس وسورها.
ويقال إن السلطان المملوكي الظاهر بيبرس اتخذ تلك الأسود رمزاً له، وكان يزيّن بها المباني المملوكية، وما زالت تلك الأسود موجودة على بعض آثار المماليك في بلاد الشام.
ويُذكّر محيط باب الأسباط بالتاريخ الذي مضى متعاقباً على الأمة العربية والإسلامية ؛ فعلى طرف الباب تحتضن مقبرة الرحمة رفات العديد من المجاهدين الذين شاركوا في الفتح العُمري والفتح الصلاحيّ للمدينة، ودفن فيها الصحابيان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهم جميعاً.
كما أن الداخل من باب الأسباط الرئيس يصل إلى ما يعرف بـ«طريق المجاهدين»، حيث تقع في أحد البيوت على طرفه قبور بعض المجاهدين ممن شاركوا في جيش صلاح الدين الأيوبي لتحرير المدينة من الصليبيين.
ومن التاريخ المعاصر المرتبط بباب الأسباط ، استشهاد عدد من الجنود الأردنيين جراء قصف مئذنة باب الأسباط ، إحدى مآذن الأقصى . وللمقدسيين ذكرى أليمة مرتبطة بهذا الباب ، فمن خلاله اقتحمت الدبابات الاحتلالية الصهيونية وقوات المظلّيين الغُزاة بلدةَ القدس القديمة، في العاشر من يونيو 1967، لتعلن سيطرتها وعربدتها على المدينة وامتداداتها !!
وفي 21 يوليو 2017 تحوّل باب الأسباط إلى ميدان رئيسي لاعتصام الفلسطينيين في القدس ، احتجاجاً على الإجراءات الإسرائيلية بحقّ المسجد الأقصى، خاصة إغلاقه ومنع الصلاة فيه، ووضع بوابات إلكترونية على أبوابه ، وهي الإجراءات التي اضطر الاحتلال لاحقا إلى إزالتها.
وخلال أيام الرباط لأهالي القدس على أبواب المسجد الأقصى المبارك رفضاً لدخولهم إليه عبر بوابات الاحتلال الإلكترونية، كان اسم باب الأسباط هو عنوان هذا الرفض ، حيث الصلاة الجماعية التي وصلت إلى قرابة سبعة آلاف على أبوابه، واستفزاز الاحتلال للمرابطين والمُصلّين عليه ، واندلاع المواجهات وإصابة العشرات منهم، والاعتقالات التي طالت عشرات الشبان وإبعادهم عن المكان.
ويعدّ باب الأسباط ، المدخل الشرقي الوحيد للبلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك، وللباب تاريخ طويل وهو من الأبواب التي حمل بين حجارته تاريخ المدينة ورفضها لكل الاعتداءات عليها، فهو أوسع الأبواب في المسجد الأقصى وهو ما جعله مكاناً مناسباً للمرابطة وتجميع أعداد كبيرة من المعتصمين للصلاة فيه.
وبُني باب الأسباط في العهد الكنعاني ، لكنه تعرّض إلى الخراب عدة مرات، حتى جاء القانونيّ وأعاد بناءه بطريقة فنية .. فهو أكبر الأبواب حجما يعلوه برج ثلاثي الاطراف وعلى جانبيه محرابان يعلوهما قوسان صغيران مدبّبان، أما الباب فتعلوه قوس كبيرة نقشت عليها الكتابة باللغتين العربية والتركية وتبيّن مُرَمِّم هذا الباب وهو السلطان سليمان القانوني والقائم على الترميم الحاج حسن آغا، بالإضافة الى وجود أسدين أعلى الباب.
وأكد الدارسون على ان باب الأسباط أكثر مكان يمثّل معالم القدس التاريخية ، فبعد الدخول من باب الأسباط للداخل للبلدة القديمة من القدس، وبالقرب من ساحة الغزالي ، كشفت الأثار وجود حفرية أثرية لسبع عشرة طبقة تاريخية واضحة المعالم لتاريخ القدس والعصور التي مرّت عليها.
وما يميز هذا الباب وقوعه بين ساحتين وفضاء خارجي رحب، فقبله ساحة كبيرة، وهي التي تجمّع المرابطون فيها ، ويفضي إلى ساحة كبيرة أيضا تصل إلى طريق الخان الأحمر وصولاً إلى طريق أريحا.
لا بأس ! فالأُسود ما زالت رابضة لا تحرّك ساكناً، وأراها تحرس البوابة، كما اعتقد الصينيون والفراعنة، وبالتأكيد فإنها لن تنهش بأنيابها مَن يمرّ من تحتها .. وإن رأته وحيداً .. ما دام مُسالِماً .
وتستقبل الغَرب، وتقصد المسجد الأقصى، فثمّة طريقان ، كما أشرنا ، الأول يُفضي إلى باب من أبواب المسجد ويحمل الاسم ذاته «باب الأسباط» ويَبْعُد عن باب الأسباط الأول ، الذي هو أحد أبواب المدينة ، خمسين متراً.. والباب الثاني تصله عبر طريق المجاهدين وهو باب حُطّة.
طريق باب حطّة هذا نموذج لكل شوارع القدس القديمة ، شكلاً وسعةً وأقواساً وحجارةً وروحاً وريحاً..
وأوّل ما تراه على يمينك درج صغير لباب مُشْرع يصعد إلى حَمّام سِتّنا مريم ، وهو حمّام قديم حجري، كانت النساء يغتسلن أسبوعياً فيه ، يحملن صُرر ملابسهن النظيفة، ويقصدنه مع بناتهنّ لجلْيهنّ وتنظيفهنّ وتطهيرهنّ، فيصير الحمّام خليّة مدويّة بالمتلفّعات بعد الاستحمام بالفوط الكبيرة، واللامعات اللواتي جلسن ليشربن اليانسون أو العصائر.. ويقفلن راجعات إلى البيوت.
هذا الحمّام المشهور، الذي يشبه الحمّام التركيّ ، هو مقصد العرائس والمنعّمات ونساء الحيّ اللواتي يلتقين فيه، ويتضاحكن على الأسرار المبذولة عن الشهوة والمفارقات اللطيفة.
وتواصل المسير، فيطالعك مبنى هائل حجريّ أبيض هو «الصلاحيّة» الذي بناه صلاح الدين الأيوبي ، عيادةً لعلاج المرضى، ويُقال؛ كانت تُجرى فيه العمليات الجراحية الدقيقة ، وكان مشفى كبيراً يفتح بواباته لكل الجهات. لكن هذا المبنى، ولا أدري كيف؟ قد أصبح اسمه «الفرنسيسكان» وأصبح مِلكاً للسفارة الفرنسية، تُقيم في باحاته وحدائقه حفلاتها واستقبالاتها الفارهة !! ولطالما قصدت الجموعُ مبنى الصلاحية ، في الخمسينيات والستينيات ، بعد النكبة مباشرة ، ليأخذوا من الموائد الممدودة غداءهم وحبّات الفاكهة ، التي وضعها الفرانسيسكان مساعدةً لأهل القدس المنكوبين !
وعلى يسارك ثمّة ساحة مستطيلة، كانت تُعرف بساحة الغزاليّ! ثم صارت فضاءً لمندوبي وكالة الغوث «الأونروا» لتوزيع المُؤن في هذه الساحة ، على اللاجئين الفلسطينيين ، من سُكّر وطحين وزيت وصابون ومعلّبات وبودرة حليب وملابس مستعملة .. الخ.
وتتحوّل هذه الساحة ، في الأعياد خاصة ، إلى ساحة للمراجيح، حيث يُقيمون أربع مراجيح في الأعياد الإسلامية والمسيحية، ويأتي الصغار ليشتروا اللهو والمرح فيها.
وتتحوّل يساراً إلى طريق فرعيّ، وما هي إلاّ خطوات حتى تصل باباً من أبواب الأقصى هو باب حُطّة، الذي أسماه الأجانب باب المغفرة، فتنفتح ساحات الحرم الشريف بساحاته وزيتونه ومصاطبه الطاهرة اللانهائية.
وباب حُطّة من أقدم وأوسع أبواب المسجد الأقصى العشرة ، يقع على سور المسجد الشمالي ، وهو باب بسيط البناء مُحْكَم الصنعة ، مدخله مستطيل ، وتعلوه مجموعة من العَلّاقات الحجرية ، كانت فيما مضى تستخدم لتعليق القناديل .
وينفتح الباب على حارتين عربيتين إسلاميتين هما «حارة السعديّة وحارة باب حُطّة ، اللتين تشكلان الركن الشرقي الشمالي للبلدة القديمة ، إضافة إلى «حارة باب الواد» الواقعة من باب حطّة إلى طريق الواد غرباً .
وخلال الأربعة عشر يوماً من المرابطة ، أغلق الاحتلال بوابات الحرَم الشريف ونصب البوابات الإلكترونية والكاميرات ، فتجمّع المرابطون على امتداد الطريق من الجثمانية شرقاً إلى باب الأسباط غرباً، بين المقبرتين، وكان ثمّة مرابطون في طريق المجاهدين وساحة الغزالي وصولاً إلى باب الواد .. اقتعدوا الطرقات المرصوفة بالحجارة الملساء .. إلى العتبات والأزقة المحيطة بكلّ مداخل الأقصى.
وكانوا هناك !
قبل أيام الرباط
تمرّ من تحت أقواس البيوت القديمة ، وتمشي على درب الآلام ، وتعرّج على فرن السمسم والجمر الناضج ، وتصلّي على مصاطب النّارنج ، وتسير حيث الأنبياء والأولياء ، وترفع عينيك لترى ورود الشرفات الذي يتدلّى مثل القناديل .. فترى غيلاناً صغيرة ، تقدح بعيونها الناريّة .. وتفجعك الأشياء .
***
وكان أنْ شربوا من ينابيع أخرى غير التي انفلقت من الحجارة ، فأصبحوا منكفئين ووثنيين وخارجين ومتعثّرين في الظلام . وظلّوا حفنةً منعوفةً في الأمصار ، لم يجدوا السعادة ولم ينصهروا في السوق الكبيرة ، ولم يتماهوا في أعراس الأمم المُبهجة ، بل ظلّوا في تيههم ، يعيدون إنتاج السواطير والقيود على غيرهم من الضحايا ، وما زالت عبوات الدم مرصوفة في مطابخهم ، يشربون منها صباح مساء ! من فيلون ، وصولاً إلى سرمد المدافع عن الشيطان ، وحتى آخر قاتلٍ مهووس .
ولعلي أستنيم لقول البسطاميّ فيهم : ما هؤلاء؟ هَبْهم لي ، أيُّ شئٍ هؤلاء حتى تعذّبهم ؟ إنهم واقفون في الماء عطاشى .
وإنهم لعنة التاريخ ،
ومصاصو دماء الأرض ،
والمرابون مثل نارٍ نهمة .
خلال تركيب البوابات
انفزع الغرباء ، وتراكضوا ، وأغلقوا بيوتهم بإحكام ، وشَخَص الجنود إلى السماء . لقد نزلت الأُسُود المحفورة من على جدران باب الأسباط ، وراحت تتبختر بحريّة في المدينة ..
j h j
قبائل قديمة أُبيدت وتحوّلت أراضيها إلى غبار ، لأنهم تمسّكوا برَقْصةِ الأشباح الأخيرة ، أي أنّهم كانوا يرقصون حتى يسقطون .
أما نحن فلدينا ما لا ينتهي من الرّقصات ، وقد عادت إلينا الأرواحُ الرّعديّة .
مانفيستو الاحتجاج
لقد شهدنا لعبةَ المجزرة، ولمسنا التعاقدَ المسعورَ بين ولاياتِ الموت وكيانِ المذابح، وكان الحقُّ مزحةً وحشيّة ، ولم نحظَ بعُزلةٍ مجيدةٍ تُضيءُ حقولنا الروحيّة ، لأنّ الهواءَ الملغومَ فخّخته قوىً دموية وفاحشة.
وحُرِمنا من الفرح الذي يرتفع مثل السهام، فكانت بهجتُنا تسقطُ في عقولِ الجثث .. لكنَّ قلوبَنا لم تشعر بالملل .. لأنها تغذّت على النار! فَقُمنا بتخصيبِ مشهدِنا بِجَمالٍ مُقاوِمٍ جديد ، ليبدأ عهدُ الضوءِ السماويّ ..
وهيّأنا لصغارِنا نومَهم النقيَّ ، وأحَطْناهم بالأغاني المُشرقةٍ ، وكان لا بدّ لهذه المظلمةَ إلا أن تنتهيَ مثلَ الدخان.
ومَن لا يريد أن يرتعش عليه أن يخطو.
كان المطرُ عرقَنا ، ودمُنا هو القوة ، وألقينا أيدينا من السماءِ إلى الجحيم ، وحاربنا سَحرةَ النومِ ، والفنَّ المُضادَ ، وقلوبَ الموتى، ووقفنا أمامَ الذين يُؤدّون الحِيَلَ ويستمرئون الشبهَة ، وأولئك الذين يتمتعون بجوّدةِ القسوة .
كانت أفكارُنا تهربُ من وراءِ القضبان ، وقلوبُنا ساخنةً مثل غيمةٍ ملتهبة ، وتجاوزنا مرايا الغموض ، التي لا يتألّق فيها أحد ، وتجاوزنا الهاويةَ الداكنة.
لم نكن نريدُ أن نسحبَ أحداً إلى نهرِنا، غير أنَّنا كنّا في حربٍ مع التاريخِ ، ومع جميع السلطاتِ التي تُقيمُ في أشكالٍ فاشيّةٍ ومخيفة، ومع ما يُقيّدُنا مع مخاوفِنا الخبيثة .. وأردنا لصورتِنا أن تكونَ ضدَ السماء الساكنة ، لأن هدفَنا الأغلى والأعلى ، كان وما زال هو قوّةُ الحقيقية ، مثلما أردنا أن ننامَ ، فقط ، لنُسَلِّمَ أنفسَنا للحالمين .. كما رغبنا أن نلتقي غزالةً نعصرُ خصرَها مثل الأكورديون .. تحت زيتونةٍ تتربّعُ على كرسيّ الأبد .
باختصار ؛ كانت لدينا قصتُنا القاسيةَ الرائعة ، ويكفي أننا انتصرنا على مَن كان ينظر إلينا كأنه ينظرُ إلى خطيئته.. ذاك أنّ عينيه مليئتان بالسُّمِ والهجران، واستطعنا أن نتخلّص من النهايةِ الخائبةِ بعسلِ التَجذُّرِ والرِباطِ الشريف ، وأن نُعلي صورتَنا النجميّةَ في كرنفالِ صلوات الأسباط الصوفيّة الفذّة ، التي استطاعت أن تجمع البدرَ ليكتمل ويصلحَ للطقوسِ الأخيرة ..
لم يأتِ أحدٌ ليجدَ القدسَ أرضنا صِفراً، بل لديها إرثٌ باذخٌ ، لم يتخثّر نُعمانُه ، كصحنِ الجمر وبراعمِ الدمِ وسخونةِ البرق .. لم نكن قطيعاً أو هائمين على السّراب ، بل كانت لدينا حضارة تتجلّى فيها النجوم ويتصادى فيها الإبداع الخلّاق الشامل ، فكان الساحل منارة للأُمم ، مثلما كانت جبالنا أعراساً للطيور .
وقصدتُ ، أن أُساهمَ في تأصيلِ الغضب ، ليصبحَ سبيكةً قادرةً على المواجهةِ ، وحفظِ الذاكرة في المدارِك ، وطردِ المجانية واللاشيء.
مشاهد من الرباط
شاب يصلي واقفاً يحمل صليبه بين جموع الساجدين . اعتقله الجنود، لاحقاً، وفي الزنازين رأوه على وقفته وهو يستقبل الأقصى.
j h j
كلّ هذه الآلام ستصبح حرية.
j h j
ظلّوا في باب الأسباط أربعة عشر يوماً، يدقّون بصلواتهم وصرخاتهم وغضبهم أستارَ العمى المعدنيّة، إلى أن زالت. وفتحو أبواب الأقصى، ودخلوا مكبّرين باكين مبتهجين، وقد تراءت لهم المصاطب والنارنج يُظلّلها، دون بوابات إلكترونية وكاميرات، وقد جاء الحقّ وزهق الباطل.. وما يُبدئ الباطلُ وما يُعيد.
وليعلموا؛ أننا لم نتحاسب مع جنوننا.. بعد !
j h j
السروة على حالها باسقة خضراء، تتمايل من نشوة الهبوب الرَّخيّ، والسروة تختزن الأعشاش ، وتحفظ أسرار الطيور.
والسروةُ قد أَلِفَتْ تصادي النائحات اللواتي يَبْغُمْن على أفنان الهزيع ، وتهيّىء لهنّ دموع الندى .
والسروة التي استشاطت الحرائق من حولها.. بقيت يانعة نابضة مُمرعة .. لكنّ الأعشاش التي تساقطت أو هجرت أغصانها قد جعلتها تتخشّب ، وتفقد نضارتها الفارعة ! لكنّ مؤمناً يتوضّأ تحتها لتعود طيورها المهاجرة ..
وثمّة نَسبٌ بين المُصلّين وبين الشجر .
j h j
كانت تخاف على وحيدها .. فصارت تبعثه ليرابط معهم.
j h j
ذهب ليزور قبر والده القريب من باب الأسباط ، وقبل أن ينهض، وقد مسح وجهه بالفاتحة، سمع والده يترضّى عليه.
j h j
يصرخ على الجنود بالإنجليزية .. هل هو تركي، هندي، كردي .. ليس مهماً، فقد كان يهتف مع المرابطين بالعربية.
j h j
طفلة في الثامنة من عمرها، تخاطب الجنود بإنجليزية مُتقنة ! لعلها تعيش في بريطانيا أو أمريكا، وجاءت مع والدها المقدسيّ لزيارة الأهل..
لكن جندياً، وما أن سمعها.. ألقى بسلاحه وهرب ! وعندما حقّقوا معه، قال: كنتُ أرى ابنتي تقرّعني وتلومني وتضرب بيدها على صدري..
لقد سرّحوا الجندي من وظيفته ..
j h j
الرجل المتزمّت الذي لا يسمح لامرأته أن تخرج دون إذْنه .. حتى أنها وضعت ولدها الأخير في البيت ولم تجرؤ على الذهاب إلى مستشفى الولادة .. صارت تخرج دون إذنه .. واعتبر ذلك جهاداً.
j h j
نقولا «أبو حنّا» لم يجد ما يقدّمه للمرابطين، فاشترى سجاجيد صلاة ووزعها على المرابطين.
j h j
عشرات الشباب يحملون أباريق الماء ويصبّونها ليتوضّأ المرابطون، فتبزغ أعشاب في الشارع، تتشابك وتمتد.. وتكاد تغطّي الأرصفة.
j h j
لقد صلّى الخوري، يوم الأحد، وأعطى موعظته للمسيحيين في باب الأسباط ، وعندما أقاموا صلاة الظُهر، توقّف عن موعظته ، وأمر المصلّين أن يبقوا في أماكنهم.
j h j
حملوه إلى العيادة النفسية، ذاك أن الجندي قد أقسم بأن الموتى نهضوا من المقبرة اليوسيفية وتصدُّوا للجنود، وحملوا قنابل الغاز وألقوها بين أقدامهم.. ثم عادوا إلى القبور..
j h j
ها هم يضرّجون الغيومَ بأقدامهم المُدمّاة وجماجمهم المحطمّة، ولم يسقط العَلَم !
j h j
أيها الجنود ! مهما كان البسطار سميكاً سيهترئ .. وسيبدأ أَلَمُ المسامير قريباً .
j h j
أرى عيوناً صغيرة ترى أحلاماً كبيرة ، تقول ؛ ستذهب الأيام الخشنة ، وليالي الدم المحروق ، وسيحلّ الحصاد الذهبيّ ، ويبتسمُ النورُ في الظلام .
j h j
اندفع المرابطون وأعادوا فتح الأقصى ، ولم يجعلوا الطرقات تنتظر أكثر من أربعه عشر يوماً !
كان الأمل يرعش ضوءاً في عيونهم ، والرياح تغنّي ألحانهم ، كأنَّ الحوريّات المُتيّمات على موعدٍ معهم في بستان الصلاة .. وخلاخيل البرق تُحيط بأقدامهنّ ..
***
كلما بكيت ، أصبحت أكثر شجاعة.
***
ربّما ، رُبّما يضيع اسم هذا المرابط أو ذاك ، في مكانٍ ما ، في صفحات التاريخ .. لكنّ الأقصى هو الناسُ والدفترُ السرمديُّ ، وهو الشجرةُ التي تُعطي الظلَّ والثمرَ والنارَ ، وهو تجربةُ الجَنَّة الأولى .. لنبلغَ الخلود .
***
المسجدُ الجريحُ يُؤلِمُ الوطنَ كاملاً ..
***
لقد لسَعَتْنا نارُ إغلاق البوابات لننقذَ المسجدَ من الحريق
***
العيون الملهوفة الجافّة تتفقّد السماءَ ، وتشخص إلى ربّ البيت ؛ أنتَ السَنَدُ الحارسُ أيّها العالي المُتعال ! ليس لدينا سواك ! أنوارك تملأ المكانَ والزمانَ .. إلهنا إلهنا ..مَن سواك ومَن سواك !
***
الطيور الغريبةُ في القدس .. لن تجيد الغِناء !
***
كلّما شقّوا فتحةً بين مداميك حجاره حائط البُراق لِيّدسّوا أمانيهم الخائبة وتعاويذهم الخرافية .. انطبقت الحجارةُ على بعضها ، وتساقط الوَهْمُ تحت الأقدام .. وتأكدوا أنّ خريفَ التزوير يُذَرّي أوراقَ الفجور.
***
بعد أيامٍ من الأحداث ، جلس الضباطُ الكبارُ لاستخلاص العِبَر ممّا جرى .. ومكثوا في مُداولات عميقه طويلة .. وأخيراً نظروا إلى بعضهم ، ورموا الأقلام .. وكأنّهم قالوا : لا فائدة .. لا فائدة ..
***
ثمة أشياء لهم ؛ اليأسُ و الهزيمة .. الخ الخ ..
***
قبل أن تقولوا : إنّ القدس عاصمتكم !! عليكم أن تفتحوا بالسواطير صدور الملايين لتخلعوا المدينةَ منها ، وأن تُغلقوا أرحامَ النساء ، وأن تهجّروا الطيورَ والفراشات ، وأن تذبحوا الأغاني ، وتطلقوا النارَ على النهار، وأن تطحنوا كلّ حجارة الطرقات والبيوت والمعابد وتنعفوها في المحيطات ، وأن تحرقوا كل الكتب ، وتخنقوا الحكايات ، وأن تُنزِلوا السيّدَ المسيح من السماء وتصلبوه ، وأن تصطادوا البُراق ، وتهضموا الجبالَ في بطونكم ، وتنفوا الزيتون من الأرض ، وأن تمنعوا الشمسَ من الشروق ،لأنّها لا تُشرق إلّا من أجل القدس ، التي هي لنا ، من قبل آدم وإلى ما بعد النشور..
***
شُرفة نافذة البيت القريب من باب الأسباط قد أمرعت ثانيةً، وتفتّحت الزهور في قوارير الورد الناشف.. دون أن تسقيها صاحبة البيت أو تشذّبها !
***
لن تكون حُرّاً إذا لم تركب الحصانَ الوحشيّ .. وتطير ..
***
الشاشة المقيتة ، المُترنّحة على وَقْع خطوات الحَرَس والحسناوات ، تحلم أن تصبح أكثر إبهاراً ، فوضعت المساحيق الجاهلة التي جمعتها من جثثٍ متغضّنة ، ومن أحمر شفاهٍ أخذته من إصبع طفل مقطوعة .. ومرّرته على فمها ، فصار يدعو ، أكثر ، للاشمئزاز .
ومؤخّراً ، أهداها أحدُهم منديلاً لتزيل راقات الوَهْم السائل عن وجهها ، لكّنها مزّقته ، وألقته بلا مبالاة تحت الأقدام .
لم يتفاجأ ، لكنّه كان يختبر العَدَم.
***
هل رأيتم السراج الذي هبط من السماء على القُبّة، ولفّ غير مرّة، ثم عاد مُسرعاً ؟ والأسوار ما فتئت تردّ السفائن الهجينة .. عندما أزالوا ألواح الصُبّار من غرب الحديقة ، واستباحت القوافل مساكب النعناع، ولم تخرج عليهم العرابيد .. بل الأُسود !
***
سقطوا عن المراجيح ، ولم يأبهوا بالعيد ، فالمعرفة الكثيرة الآتية من الموت عبء ثقيل يُهجِّر الطفولة . والرصاص الذي يمرّ من جانبهم اخترق حياتهم، وجعل أثوابهم مُنَخّلة.
***
ذَهَبُ نَعْليكَ من صراخ السجناء، أيها الكريه ! ووردة مبْذلك من رحم ورديٍّ لشهيدة آمنت بالقصيدة . وأناقتك وحش مدرّبٌ على التاكسيدو والحفلات التنكّرية للاغتيال .
***
إنهم يبدّلون الأسماء بأُخرى قديمة بائدة أو مُخْتَلَقة ..
ولم يمطروا الزيتون بالعصيّ، لقد أحرقوه !! فلم يتمكّن الأيتام مَن جَمْع الأوراق والكيش والحَبّ المضيء .. وها هو يورِق من دموعهم .. ويستعيد عَرْشَه التليد .
***
أفراحُ الغرباء مآتم ؛
ميلادهم خسوف ،
طهورهم كسوف ،
حصادهم حرائق ،
جهاتهم مشانق ،
زواجهم قنوط ،
أسفارهم سقوط ،
حجّهم مذابح ،
سلامهم نوائح ،
بناؤهم ركام ،
حياتهم زؤام ،
تيههم أبد ،
وحلّهم زبد ،
تاريخهم ندم ،
وذكرهم سَقَم ،
رحيلهم لن يرحلوا ، سيُدْفَنون في العَدَم ..
***
الغزالات يمشّطن الغروب على قمة الجبل، وكانت الزفّة رانخة بالشباب والشهوات ، لكن أصحاب السوالف أحرقوا الشجر واستباحوا المعبد وأشعلوا فيه الكفر .
أكثر من تسعمئة مطبّ عسكري، والأجنّةُ عُراة ..
ورائحة الظهيرة قاسية .
وما زلنا على فوّهة الكراهية العميقة البعيدة القديمة الجديدة .
***
كلّما مزّقوا الوردة وخلعوا أوراقها .. يجمح الطوفان ويثور البركان ويجفل المحيط . وعندما يُمْعِنون في تعريتها .. تزدهر السخونة في الأبدان ، وتلتفّ السنابل على هلال المنجل ، وتحمل الأرضُ بالجدائل الميّاسة . وحينما يصل النّصل إلى الرّحيق ، يكون الجَنين قد اكتمل ، وأضاء الكون من جديد .
***
منذ قرن وهم يقفون في بيت العزاء، والموتى لم يصلوا .
أين ذهبت كل تلك الدماء والأصوات وبيوت الحنّاء ؟
تزوَّجَتْ الأول فوقع شهيداً، فاقترن بها الثاني، فارتفع إلى الفردوس بدمه الغزير ، وما فتئت توزّع الحلوى .
***
ينادون العروس بالغناء، فتخرج النجوم.
***
ليست الكآبة إلاّ ما علِق على إظفر الضابط ، وعلى احتكاك الكفّين ساعة التصفيق ..
وكانت جائزتهم الهزيمة، فليهنأوا بالعار ..
إنهم يسجنون الجثث ! هل ثمة بشر كهؤلاء؟
***
يكرهون حروفنا ومياهنا وشعيرنا وغيومنا وأحلامنا وبيوتنا وشجرنا وغناءنا .. ونحن نكره ما يفعلون ..
***
بابُك الصغير مُضاء مثل مذبحة ! وأنا المجزرة المكرورة ، وأنا الذي ينتظر قناديله من شفة الزّهر الكاوية. ظمآن مثل فَرَس تَضْبَح ليلة العُرْس، والثلج تيبّس على سفح صبيّةٍ كلما اقتربت .. توالدت النارُ في النهر، وتدفّقت الفضة على قبعة البيت .
***
الشهداء ؛
سنرفع أسماءهم على المفارق والأزقة والمشاعل ..
وقد هتفوا فينا : اركضوا، لقد تعبنا من المشي .
وها هي المدن الساحلية تبكي على أيام مَنْ كانوا ..
وهاهي الصورة المهشّمة ذاتها بلونها الباهت المُعتاد ، ولم نعد نراها معلّقة على حائط الدار .. لأنهم هدموا الدار .. وقالوا ستبقى الصورة مطبوعة في صدورنا .. ومع هذا فقد انتصرنا .
***
دفعوه إلى الصحراء ، بدعوى زراعة المساكب ، وإطلاق البتلات ، فاجتمع النّحل على ذراعه ، وأثّث قفيره .. واستراح .
فأعادوه إلى الخلايا .. وعاد العسل يتدفّق ثانيةً ، من بين أصابعه ..
إنّها الزّهرة التي لا تموت ، وتلك يد القدس.
***
السرو يلد حبّات فضيّة مشعّة ، والغبار ينأى عن حبّات النجوم الصغيرة.
***
فَكِكّوا هذا الفخّ، إنه الحفرة التي جرفت القلوب والذكريات، وجعلتكم عُرضة للسؤال والخنوع .
ويقف المسْخُ بجانب التمثال ، فيختلط الظلاّن ، ويلتبس الأمر على الناس ، الذين يظنون أن الكبير هو ظلّه الطويل .
***
وبالرغم كل تلك الخيانات .. لا تيأسوا، واصلوا العزف ..
***
البعوض الذي كان يطنّ في الصيف .. اختفى تماماً ! يقول بائع الخضار، طيلة أيام الرباط !
***
خلال أيام إغلاق المسجد كانت الأشجارُ تتنادى وتصطفّ وراء الزيتونة ، وتُؤَمِّن خلفها .. فصلاة الجماعة في الأقصى لم تنقطع .. فالليمون والنّارنج والسّرو على وضوء دائم ، والزيتون يحفظ القرآن الكريم ، والقباب تُقيم الصلاة .
***
لقد عَبَّرَ مجلسُ الأمن عن قلقه ممّا يجري في القدس !
يعني ؛ أنه ساوى بين الضّحية والجلّاد .
يعني ؛ أنه مجلس لا يستحق حتى الشتيمة .
***
الرجل المُتقاعد، وَجَدَ شيئاً رائعاً يشغله ! ماذا سيفعل بعد انتهاء المرابطة ؟
***
كلّما التحم المرابطون وجمحوا، وردّوا الجنودَ على أعقابهم .. وحاول هؤلاء إطلاق رصاصهم العشوائي وقنابل الغاز المجنونة ، ليفرّقوا المرابطين ويدفعونهم بعيداً.. كانت أسرابُ طيورٍ لم تعرفها المدينة ، تدفُّ بأعدادٍ تكاد تُغلق سماءَ المكان ، وتدنو من الأرض ، ويقصد كلُّ طيرٍ وجهَ جنديٍ فينشبُ مخالبَه فيه ويضرب جناحيه بقوّة أمام عينيه .. فيتقهقر الجندي ، ويحاول أن ينجو .. وهو مضطربٌ يكاد أن يُبعد الطيرَ الناشبَ .. عنه ، أو يحاول أن يدفع المُعتصمين ، أو يسعى لكي لا يقع على ظهره ، فيبدو كمَن يترنّح ضعفاً وارتباكاً !! وكثيراً ما كانت البنادقُ تُطلق رصاصَها الخائف في كل الجهات ، فيزداد الرّعب في قلوب الجنود ، الذين لم يجدوا الوقت الكافي لإعادة ترتيب صفوفهم .. بعد .
***
الجارة المُمِضّة النمّامة .. كانت نساء الحارة يهربن من ثرثرتها ونمائمها .. لكنهنّ اليوم يستمعن لها .. إنها تُحدّث عن المرابطين، وكيف خاف الجنود .. وهربوا.
***
رذاذ خفيف نظيف يسّاقط على المرابطين ؟!
إنها دموع الأنبياء المعلّقين في الهواء !
***
هنا تجدُ الناسَ أحراراً ؛ في لغتهم الجسديّة ، سلوكهم ، كلامهم ، نظراتهم ، أغانيهم ، وفي الصُّور .. لهذا تركوا علامتهم الخاصة على صفحة التاريخ .
***
رنَّت زغاريدُ الولادة في باب الأسباط ! لقد جاء الفارسُ المُضيء
، الذي تبعثهُ السماءُ على رأس كلّ قرنٍ ، ليغسلَ طريق الآلام ويحرق إكليل الشوك .
***
كلُّ شيء يبدو عادياً وهادئاً، لولا الأشباح المُضمرة في العتمة.
***
أيها الجنديُّ ! كيف تُحارب مَن يعتقد أنّه على حقّ ، ولا تهمّه الخسارة ، لأنه لن يخسر غير قيوده !؟
***
الطالبُ الجامعي الذي التحقَ بالمُرابطين ، راح يُراجع دروسَه .. فَسَأله رجلٌ هرمٌ : ماذا تقرأ يا ولدي ؟
أقرأُ قصيدةً للاسبانيّ خورخيه مانريكا ، يقول فيها :
« المعركةُ الوحيدةُ التي قاتلتُ ضدّها هي انعدام الأهميّة « .
هزّ الرجلُ رأسه وقال : هذا شاعرٌ يصلُح لنا ..
***
من الصعب أن تكون شجاعاً .. إذا كنتَ وحدك !
فالجماعة هي الإشارة الخاصة التي يحتاجها الناس لكي يؤمنوا بقوّتهم الجسورة .
***
يتعرّفون على بعضهم دون سؤال ! فاللكنة من حيفا أو الناصرة أو النقب، واللهجة من القدس أو غزة أو نابلس، والكلمات من قلقيلية أو أريحا أو الخليل .. والعُرْس جماعي.
***
لقد حملت بعد سنوات !
قالت: كنت أسند ظَهري على جدار البوابة، فجاءت، ومسّدت بيدها الشريفة على بطني، ثم صعدت مع الغيوم، غير أن مريم البتول قد غمزتني بعينها وقالت: هذا سِرّنا !
***
الرجل الذي جاء يشتري عبوات الماء وصندوق التمر للمرابطين .. لم يكن يملك المال ! غير أن التاجر رأى ذلك بعينيه ، فبادره بأن حمّله المطلوب، وقال له: أرجو أن توصل هذا لإخوتك..
***
إنهى صلاة العصر واتكأ على الجدار ، وتاه في ذكرياته .. وثمّة بسمة مزهرة على شفتيه ! وها هو يعود إلى المدينة المتلألئة ، وإلى تلك الليالي الحافلة بالحكايات ، وللنسمة التي تركت ثُمالتها في صدره ، وكيف كانت الطرقات تمشي معه وهو يسير إلى الشُّبّاك الذي منحَهُ نفْحةً من الجَنّة . إنَّ صمْته وسط هذه الضوضاء يؤكد على أنّ غياب القدس مثل حضورها .. لأنها لا تغيب .. لا تغيب .
***
صاحب عربة البطيخ توقّف عن البيع، وكان يقول لمَن يسأله الشراء.. البضاعة مُباعة، وقد رأوه يهرول صوب باب الأسباط.
***
أفران «المُسرارة» والبلدة القديمة، التي تبيع الخبز والكعك بالسمسم والفلافل.. توقّفت عن بيع الجنود وأصحاب القبّعات الصغيرة، فقد كان الخبز يذهب للمرابطين ساخناً.. وكان الجنود يعترضون الحمولة فيبعثرونها .. وتدبّ الصدامات في الطرقات.
***
الانتصار على الناس العزّل بالقوّة الباطشة .. مثل الرّقص بلا موسيقى ! ارتباك وترنّح وتعثّر وطيش وجنون ولعثمة مخمور .
***
المرأة التي أعطت أساورها لصاحب المطعم ليوزّع بثمنها الطعام على المرابطين، أعاد الأساور لها، وطمأنها بأن بيوت القدس لم تترك له مجالاً لتقديم شيء، فأغلق مطعمه والتحق بالمرابطين.
***
العجوز التي كانت تحوّش الحرامات والبطانيات ومفارش الحرير والوسائد.. لعُرْس ابنها.. حملتها كلها وفرشتها تحت أقدام المرابطين.
***
القدسُ كنزٌ مفتوح ، قد يُغري السارقين ! لكنّهم سيرجعون دون أياديهم القذرة ، التي تسلّلت لتنهبَ القلائد المُرصّعة .
***
كبير رجال الشرطة الذي تقدم بحذر نحو الجموع ، محاطاً بالجنود يقول : القوانين تقضي بأن …
لكنهم منعوه من أن يكمل كلامه .. فأشار الشيخُ بيده ، فصمت الجميع ، فانبرى ووجَّه كلامَه للشرطي، بصوت جهوري : اسمع يا هذا! لا قوانين هنا إلا قوانيننا ، ولا قواعد إلّا التي نصنعها. ثم اتجهت العيون الى الخوري ، فوقف قائلاً للجنود : إجعل سيفك في الغمد ، لأنّ كل الذين يأخذون بالسيف .. بالسيف يهلكون . ولكن من الآن ، وأدار وجهه نحو الجموع :
لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً .. ومن ليس له فليبع ثوبَه ويشترِ سيفاً .. ونحن كما قال نبيُّ الإسلام ؛ أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير.. لكننا نصبح نسوراً تئزُّ بلا رحمة على مَن يأكلون قلوبنا ، لأنها تحبّ كلّ الناس ، ويمكنها أن تتغلّب على مَن لا يحبّون أحداً حتى أنفسهم .. الله أكبر … الله أكبر .
في اليوم التالي جاء في صحافتهم : الخوري يكبّر مثل المسلمين ، لقد فشلنا ، إلى الأبد ، في التفريق بينهما.
***
المُعلّمة التي استدعت طلبة مدرستها، أوقفتهم صفوفاً، كما علّمتهم .. وراحوا ينشدون معاً .. تحت عَلَمٍ واحد .
***
بدا الجنود كأنهم وسط حوّامة بحر هائلة ، تدور بهم ، وتحملهم بخفّة وعنف ، وتُلقي بهم كيفما اتفق ، وهم لا يجدون أرضا يقفون عليها ، كأنهم فقدوا الجاذبية ، فترنّحوا وتجمّعوا وتفرقوا دون أي قدرة منهم على التماسك أو الاصطفاف أمام المتظاهرين الذين هجموا واندفعوا وجمحوا..
فتطاير الجنودُ من أمامهم بعد أن زاغت أبصارهم وارتخت أيديهم ، وبالكاد بقيت البنادقُ على أكتافهم .. وها هم مذعورين يبحثون عن أيّ خلاص، فتراهم مثل جرذان التجارب المفزوعة التي تطارد بعضها في قفص يضيق علهيا ، فتهرب إلى اللامكان ..
***
الملايين التي خرجت في عواصم الدّنيا ، تهتف للقدس وتحمل صورة واحدة .. وتتنفّس في ظَهْر الأقصى .
***
الفلّاحاتُ اللواتي يحملْن سِلال الخضار والفاكهة الموسميّة ، ويعرضْنها للبيع .. في باب العامود على طول طريق باب الواد ، ذهبنَ جميعهنّ إلى باب الأسباط ، ورجعن سريعاً إلى بيوتهنّ في القُرى المجاورة . لقد نفدت بضاعتهنّ ، وقَبضْنَ أثمانها ابتسامات شُكرٍ ودعوات طيّبة ، من الذين قَبِلوا هداياهنّ الطازجة .
***
لنا أكثر من مئتي جامع وكنيسة ومسجد ودير ومقام ، منذ أكثر من ألف عام ! ولا يوجد كنيسٌ واحد في كل المدينة وأرجائها ، غير التي أقاموها قبل أسابيع فقط !
***
بَطنُها أمامها ! إنها حامل في شهرها الأخير ، وكان عليها أن تخترق حاجزَ الجنود ، لتصل إلى باب الأسباط . وربّما عَتب عليها المُرابطون وقالوا لا تثريب عليها إنْ بقيتْ في بيتها ! لكنهم كبّروا وقصدوا مكانها عندما مدّت يديها تحت عباءتها ، وراحت تلِدُ الرايات وتكوّمها .. بألوانها الواضحة أمامهم .. لتخفق عالياً ، وعلى مدّ البصر .
***
كانت البلدة القديمة تكتفي بالمسحّراتي «أبو الأمين» وهو يقرع طبْلتَه في هزيع ليالي رمضان المبارك . وقد فات شهران على الصيام .. إلّا أن أبا الأمين وتسعة آخرين عادوا يقرعون طبول الليل قبل صلاة الفجر ، فتدوّي الأزقّة والجدران ، وتستيقظ البيوت .. لتقصد باب الأسباط وتقيمَ صلاةَ الرباط ، قبل حلول الخيط الأَسْودِ على المكان .
***
لم يكن غير مصوِّرٍ صحفي أجنبي ، لكنَّ جندياً هجم عليه وحطّم الكاميرا وانهال عليه دون رحمه ! لقد رآه وهو يلتقط صورةً للحَمام الذي حطّ على أكتاف المرابطين عندما وقفوا للصلاة .
***
نعم ، إنها العروس بين جموع أهلها وأهل خطيبها ، بثوبها المُطرّز البديع ! وتقدّم الشيخ وعَقَدَ قرانهما وسط المرابطين المُهنّئين ، وتشجّع الشبان وراحوا يرقصون ، فَشَبَكَ الشيخُ يديه معهم وهو يقول ؛ إنها قوّة الحياة .. غَنّوا ليعلمَ يهود أنّ في ديننا فُسْحة .
***
مَن الذي نَصَبَ المراجيحَ في الساحة ، في اليوم الخامس عشر !!
ها هي الضفائر تُلوِّح في الهواء ، والفساتينُ الصغيرة تُطْلقُ بلالينَها الملوّنة في السماء ، والجموع تهنّئ بعضها وتتعانق ، والألعاب الناريّة تتفشّى ضياءً في سَقف المدينة ، والدّفلى يطرق الأبوابَ ويترك أغصانه فوقها ..
إنها قوّة الحياة في المدينة ! ومساؤها أساور وكعك وعطر وليمون وسُكَّر ..
إنه الَعِيد .
***
في حقيبة يده حصاة ! وجدها مفتّشُ الأمن في المطار .. قلّبَها وتفحّصها فوجدها حَجَراً صغيراً لا أكثر ولا أقلّ !
ما هذا الحجر ؟ تميمة ! أم ماذا ؟ أريد جواباً وإلّا ألقيت به في سلّة المهملات ..
لقد التقطتُهُ من تحت شجرة زيتون من ساحات الأقصى ، وأتفاءل به في حلّي وترحالي ..
ابتسم المفتّشُ ، ووضع الحَجرَ في جيبه ، وتمنّى لصاحبه السلامة ..
***
وقف الضابط الأحمق المُتفاخر، وعصا المارشال في يده يضربها برتابة على فخذه ، دليل ثقة وحسم، وكان يجول بعينيه في المُصلّين الذين لا نهاية لهم .. وكان يعتقد أن فكرة امتلاك القوة هي أن تمارسها بكل أشكالها ، فنظر الى الجنود ليحفّزهم ، ليكونوا أكثر شراسةً.. غير أن ضابطا آخر أشار إليه فتقدم منه ، وكان أعلى منه رتبة ، وهمس في أذنه ؛ أن ترى بوضوح هذا كل شيء !
فأجاب الضابط : لا أفهم قصدك سيدي !
فأوضح له : هؤلاء المُصلّون استبعدوا المستحيل ، وكلّ ما تبقّى لهم سيكون الحقيقة ، وهي أنّ هذه البقعة ليست كبيرة ، بما يكفي ، لكلينا ..
***
إذا أردت لقاء أحدهم، أو رؤية شخص .. لأي أمرٍ كان .. فاذهب إلى باب الأسباط .. ستجده هناك.
***
لقد أغلق الجنود مداخل المدينة.. لكن أهل القدس قد فتحوا بيوتهم لعشرات الآلاف من الذين حضروا من الشمال والجنوب، وتقاسموا معهم الرغيف والنزيف.. والأمل.
***
لم يكونوا يعرفون أسماء بعضهم البعض، لكنّ صداقات جديدة قد أينعت.. وتواصلت، وتمت مصاهرات بين الأهل في الشرق والغرب.. والزغاريد ما زالت في الأزقة وعلى الأدراج وتحت الأقواس تغمر المدينة، وما من جنود.
***
قد يمنعك بريقُ شمس قبّة الصخرة من رؤية النجوم، لكنها قد هبطت جميعها، في تلك الليالي، وانتظمت في أثواب المقدسيّات، اللواتي يبرقْن في العتمة، كلّما خَطَون نحو الحَرَم .. ليواصلن رباطهنّ الشريف في أنحائه.
***
عندما يخلق السّيئون شيطاناً فإنّ الأشرار يولدون، لكنهم يصلحون للفناء والتلاشي.
أما الأخيار أصحاب المحراب، فإنّهم لا يجترحون غير الصلاة، ولا يصاحبون غير الملائكة، ولا يخلّفون إلا التراتيل والدموع، ولا يبدأون النهار إلاّ بتشريع شبابيكهم للعصافير والياسمين، ولا يفتحون لياليهم إلاّ للأعراس والمناديل. وكلّ ما يريدونه الحياة، كما ينبغي لها أن تكون.
***
كان بعد الصلاة يركن إلى الجدار، والسّبحة تطقطق بين أصابعه .. ويسرح في خيال اليقظة ؛ لو أنّ لي طاقية إخفاء فأسحب تلك البندقية وأفرغ رصاصها في صدور الغرباء ..
لو لي قوة شمشون لسحبت بيدي تلك البوابات وألقيتها مثل رغيف في البعيد ..
لو تستطيل ذراعاي بمدفعين لأبيد كل السحنات المدجّجة ..
لو أن معي ألف خنجر أقذفها في رقاب الجنود..
لو ..
والخيال جيّدٌ فقط عندما تكون الفكرة جيدة.
والوقود هو خيالنا.
والخيال وحده يقدّم بعض الإيماءات .. لما قد يكون.
واللاوعي بئرٌ من الصور الرائعة ينظر إليها العقل.
***
إننا نحبُّ ما كُنّا تعلّمنا حُبّه. وزراعتنا الروحية مجيدة، وغريزة المقاومة مثل غريزة الفنّ.. بدائية دائماً، وصادقة أبداً.
***
إذا نظرت إلى شيءٍ يلمع لمدة طويلة، سيعمى بصرك بسببه ! إلاّ قبّة الصخرة، فكلّما نظرتَ إليها توالدت في وجهك العيون.
***
الأسود الأربعة المنحوتة على يمين ويسار باب الأسباط هبطت من نَوْمتها الحجريّة وأَقْعَت أمام الجنود، وراحت تنفضُ عنها سكون الأزمان، وها هي عيونها تقدح، ومخالبها تحتدّ، وزئيرها يتفشّى مثل هبوب البركان .. وراحت تتقدّم بِحَذَرٍ وثقة .. ولم يتمكّن الرصاص من خدش وَثَبَاتها وهي تنهش الجنود وتخمش وجوههم المرعوبة.
***
كان الصباح بانتظارنا ! نصفه لنا ونصفه لهم .. لولا أنهم آثروا العتمة وظلّوا غائصين في وحل الليل .
***
أَرجعَ مُطلّقته بعد أكثر من عام، يوم أن رأى الجنود وقد هجموا عليها وحطّموا هراواتهم على رأسها.. فانطلق لحمايتها، وراح يتلقّى الضربات عنها، واصطحبها إلى البيت.
***
لقد أقلع عن الشراب ! فهذا هو اليوم الثالث عشر من مرابطته، ولم يقصد الحانة.. وقد اكتشف أن الناس يحبّونَه !
***
لم يكن على وضوء، لكنه توهّج وهو يهتف ويكبّر..
وعندما أقاموا الصلاة، سأل أحدهم: كيف لي أن أتيمّم ؟
***
هجم الجنود على المراسل الصحفيّ الذي يقدّم تقريره مباشرة .. ودفعوه، وأغلق أحدهم بيده عين الكاميرا.. فهاج المرابطون، وتعالت تكبيراتهم، فتراجع الجنود، الذين تعثّروا بخوفهم وتكوّموا على أنفسهم وارتبكوا..
فَعَادَ المرابطون ضاحكين ! غير أن رجلاً بكى وهو يهمهم: كيف لهؤلاء أن يحتلّوا مسرى النبيّ ؟!
***
بحثتْ عنه .. وأخذتها الوساوس إلى الفَزَع ..أين ذهب ؟
أسرعتْ نحو باب الأسباط لعلّها تجد ابنها ذا الثمانية أعوام .. فوجدته قد تعربش على سور بيت قريب وحمل بيديه كرتونة .. ليظلل بها على المُصلّين.
ابتسمت، والماء يفيض على وجهها.
***
لم تعد نساء «أواريس» تحبل من هول ما شاهدت من فظائع مريرة في الحرب، لكن امرأة من القدس بَقَرَتْ بطن «أبوفيس» المحتلّ، وولدت «أتحمس» الذي انتصر وغَنم السفن والفؤوس النحاسية والكثير من الزيوت والعسل، وضربت بحذاء «خروتشوف» على المنصّة العالمية. وها هي بابل تعود إلى حدائقها المعلّقة وشمعتها البيضاء، مثل يركب الفندلاوي على حصانه ويرفع رايته في إيبلا الشام، وسيصل عمّا قريب إلى الكرنك، مروراً بأرض حرّة تتوسّطها القبّةُ الباذخة.
***
هذه الدموع البيضاء من الغيوم السوداء، ولا بأس في أن يبكي الرجال .. فرحاً ! فقد سطعت كل الحجارة فور أن قبّلتها الأقدام أو لامستها جباهُ الشاكرين الساجدين، والسماء صافية .. على غير عادتها.
***
الزوج الكئيب المنكفئ صار يعود من رباطه حيوياً منشرحاً، فيسأل ويحكي ويبكي.. ويغتسل !
وعند الفجر يحمل الفطور للمرابطين، وينادي على جيرانه للّحاق به.
الزوج الذي تقدّم الصفوف، وهزّ البوابات حتى انحطمت.. تلقّى أربع رصاصات معدنية، وكاد يموت اختناقاً من كثافة الغاز المسيل للعار.
الزوج الذي عاد من المشفى.. ضاق بيته من كثرة الزائرين، وصار أكثر حيوية وانشراحاً، وقد سأل وحكى وبكى .. واغتسل.
***
صاحب الدكان أبو ابراهيم يعطي كلّ مُشتَرٍ ما يطلبه، ولا يتقاضى ثمنه !
والجواب: سآخذ لاحقاً ..
وفي اليوم الخامس عشر، راح يتقاضى ثمن ما يبيع.
لماذا يا أبا إبراهيم ؟
والجواب : السؤال غلط .. لأنّ المهم هو إلى أين تأخذ ، وليس مِن أين ..
***
تخرج الصواني المستوفة بالأرز واللحم من أبواب كل البيوت ! إنها ولائم عُرْسٍ لا ينتهي .. فيما كانت الشمس تُذيب حفنةً من ضيائها في كل طبق .. فيصّاعد الشعاعُ الفضيّ أعمدةً إلى السماء .. كأنه شجر لا ينتهي ، في ساحةٍ لا تنتهي ، في قدسٍ لن تنتهي ..
***
أبو جورج يهتف : «جيش محمد سيعود « .
***
أنتِ حدودُ قلبي وأنا حدودكِ . أملي لا يُقهر، وغرستي الشاحبةُ ستكون شلالاً بين الغيوم، وستصبح كل المواسم ربيعاً، والسحاب على الجبال سيولاً من الضوء.
وأعرف أن ثمّة ساحراتٍ في الريح ، لكن خيولي أتعبت الرياح ! وهذا وَلدي الذي ثقب سهمهُ طيوراً مُحلّقة وقطع سيفُه الضوءَ، لأنه أدرك أن المَرَح لم يحن بعد، وهو الآن قاتل ! والشخص الجاهل غالباً ما يكون الأقوى، ولا يمكننا النجاة فقط لأننا جيّدون ! ويعلم أن كلّ شيء مترابط حوله مثل بيت العنكبوت، وقد تَدْهَمه الأشياء السيئة، وتأتي متكاتفةً يداً بيد.. لكنه تعلّم القراءة بتتبُّع حروف اسمكِ، وها هو ينادي عليكِ.. يا بلادي..!
***
ويبقى باب الأسباط ضحكةَ فاطمة وبُشرى مريم ، ووجوهَ الضوء التي أزالت الصدأ عن حجارة الخلود، وسيبقى تجربةَ العارفين الذين وصلوا إلى مجد النور، ليتمّموا الوَصْل كاملاً، ولو بعد حين ! فما زالوا في أرض السماء، وما فتئت تعازيمهم تُنبئ بالكَشْف ..
وطوبى لأسباط المدينة.
***
1
المتوكل طه *