جيل آرشَمبو (1)
ترجمة: زينة حموي *
الأدب الكندي، ولا سيما أدب مقاطعة كيبيك الفرنسية في كندا، يكاد يكون مجهولاً تماماً بالنسبة للقارئ العربي.
هذه ترجمة لقصة «بحيرتان صغيرتان» من أدب كيبيك المكتوب بالفرنسية.
تلقي القصة ضوءاً على جانب من التقنيات الفنية في أدب كيبيك اليوم، وعلى عيّنة من الهموم والمشكلات الفردية/الاجتماعية التي تهم الأدب في هذه المنطقة من العالم.
* * *
بصعوبة كبيرة، أنجحُ في تحرير سيارتي من كومة الثلج التي تجمّعت أمام منزلي. لا أجرؤ على الإلحاح أو الضغط كثيراً على الدواسات لتحريرها. اشتريتها مستعملة منذ ما يزيد على عشر سنوات. ليس هذا فقط، بل إنني أهملتها كما أُهمِل كل شيء تقريباً. لا أطلب منها إلا القليل من القوة. وها هي هذا الصباح تعمل أخيراً. الطريق زلقة. والفرامل لم تعد تعمل بشكل جيد منذ عدة شهور. أقود بحذر شديد. طبعاً، يرمقني الناس بنظراتٍ كارهة ويطلقون أبواق سياراتهم. وأنا أتصرف كما لو أنني وحيد في الشارع. كيف لي أن أعير انتباهاً لنافدي الصبر هؤلاء وأنا منذ أسبوع منشغل تماماً بـ ڤانيسا؟
إذا حدثتكم عن تلك المرأة التي لم أتوقف عن اعتبارها امرأة حياتي، ستنصحونني بمهاتفتها، بإرسال رسالة الكترونية لها أو بنصب خيمة أمام منزلها، لكن الأشياء ليست بهذه البساطة. أولاً، سيكون من المستحيل عليّ أن أستوطن أرضها. تعيش في قصر محصَّن في منطقة ويست ماونت(2). وسيلزمني للوصول إليها جسر متحرك. علاوة على ذلك، فأنا لا أملك من الجرأة ما يدفعني إلى القول لها بأنها تمثل كل شيء بالنسبة لي. هل تمثل ڤانيسا كل شيء بالنسبة لي حقاً؟ في هذا الصباح الغائم من فبراير، بالتأكيد نعم. فهل سيكون الأمر كذلك في المساء؟ لا أستطيع الجزم. مضت ثلاثة أشهر تقريباً على قطعي العلاقةَ بيننا. لماذا غادرتُ؟ لا أعرف. بحسب إيمانويل، ابنتِها، فقد استغرق الأمر من ڤانيسا عدة شهور لكي تتعافى. كيف آمل من امرأة جميلة جداً، حياتها المهنية ناجحة تماماً، أن تقبل بإعادة وصل العلاقة مع كائن مثلي كسولٍ ومتبطِّل وملتبس الفكر؟ لا شك في أني إذ تركتها كنت أنصاع لتلك الإرادة في التدمير الذاتي التي تراودني، منذ مراهقتي، بين فترة وأخرى على نحو يزداد تقارباً. عندما توشك الحياة أن تكفَّ عن تهديدي أخترع لنفسي عقبات ومشاكل. حتى المناسبات السعيدة الموجودة أكاد لا أراها أبداً. على العكس، يحدث لي أحياناً أن أجد مخرجاً لأشياء عبثية قليلة الأهمية. على سبيل المثال، في الصيف الماضي، دنت مني امرأة عجوز. انتظرتُ أن تطلب مني نقوداً. لكنها سألتني على الفور إن كنت أعرف ج. ب. پونتالي(3). وقبل أن يتسنى لي الوقت للرد عليها ناولتني كتاب: «حب البدايات»(4). بعد ذلك بخمس عشرة دقيقة، في حديقة لافونتين، وقعتُ على جملة لم تتوقف عن مطاردتي منذ ذلك الحين. سأوردها لكم، وإن كنت لست متأكداً من أنها ستلقى لديكم الأثر نفسه: «بين خصلات شعرها البنية الطويلة، سألمح البحيرتين الصغيرتين في عينيها الصافيتين». منذ ذلك اليوم التموزي، وبسبب تلك الكلمات الثلاث، أفكر بـ ڤانيسا دون توقف. لماذا إذن اعتقدتُ لعدة أشهر أنني أستطيع المضيَّ من دون تلك البحيرتين الصغيرتين اللتين تمنحني إياهما نظرتها؟
لحسن الحظ، أجد مكاناً لركن سيارتي على بعد أمتار قليلة من عيادة طبيب الأسنان حيث أخذتُ موعداً. هل سيتذكرني الطبيب؟ فقد مضى حوالي سبع سنوات من دون أن تطأ قدماي عيادته. لعلّه اعتقد أنني أعيش في الخارج أو أنني متّ، فلنذهبْ ونرى. لا أهرول في طلب خدماته إلا عندما يكون الألم حادّاً كسكّين. هل سيقترح عليّ مرة أخرى أن أزرع أسناناً؟ كيف سأستطيع تسديد ثمنها؟ مداخيلي المالية ذابتْ، ومضى الزمن الذي كنت أستطيع فيه أن أبيع المقالات. السوق صارت متذبذبة، وأنا لم أعد مهتماً بالكتابة عمّا يثير أبناء عصري. أنا كسول، على العكس تماماً من ڤانيسا المجدّة التي تعيش وحيدة، بحسب إيمانويل. لابد أنني نفّرتها من الحياة المشتركة.
لا أتعرّف على الدرج المؤدي إلى طابق العيادة. لقد تم تجديده بالكامل. هذا الجهد المبذول لجعله عصرياً ومتماشياً مع الذوق السائد، بالجص والألواح الخشبية المضغوطة، يثير استيائي. ولولا أن ألم أسناني شديد لعدتُ أدراجي. هناك عشرات المرضى في صالة الانتظار. من الجيد أنني جلبت كتاباً. وإن كنت لست متأكداً من رغبتي اليوم في قراءة هويزمانز(5). كنت قد اشتريت كتاب «إلى الوراء»(6) قبل حوالي ثلاثين سنة. وها هو، كتابُ جيبٍ بأوراق مصفرّة وغلاف مفكك. هذا الكتاب يشبهني قليلاً، فأنا أبدو أكبر من عمري. لطالما قالت لي ڤانيسا إنه ينبغي علَيَّ مراقبة مشيتي، تسريع خطواتي، تجنب إحناء ظهري، وبذل جهد أكبر في اختيار ملبسي. إنني أزداد تصعلكاً بشكل واضح.
أجلس إلى جوار فتاة شابة، شاغلاً الكرسي الفارغ الوحيد. ألاحظ أنها ليست غريبة عليّ تماماً، وإن كنت غير متأكد من ذلك. ولكي لا تصمني بالسخرية، لا أجرؤ على البدء بمحادثتها. أنا مقتنع إلى حدّ ما بأنها إحدى صديقات إيمانويل. ما اسمها؟ ساندرين؟ سيغولين؟ أنغريد؟ لم أعد أعرف. كانت قد جاءت إلى البيت لأجل مسائل رياضية، لا أشك في هذا، إنها تميل نحوي.
– هل عرفتَني؟ أنا ماري، صديقة إيمانويل. هل تعجبك هذه الرواية؟ يندر أن ألتقي بشخص لديه هذا النوع من القراءات. أنا لا أحبه على الإطلاق: فقد درستُ هويزمانز في الجامعة. أسلوبه ثقيل بعض الشيء، أليس كذلك؟
ليس عندي أية رغبة في مناقشتها. قلّتْ قراءاتي منذ عدة سنوات. هناك طبعاً پونتالي وبحيرتاه الصغيرتان ولا شيء يذكر سواه. قد أقرأ رواية بوليسية، كتاباً في التاريخ لكنني في معظم الأوقات لا أكمل أغلبها.
– إيمانويل، لم أرَها منذ ثلاث سنوات، ربما أربع. في المرة الأخيرة كانت تتحدث عن انخراطها في النزعة الإنسانية. كيف حالها؟
أجبتها أننا انفصلنا، أمّها وأنا، وأن إيمانويل لم تعد تريد رؤيتي منذ ستة أشهر. في تلك الأوقات الأخيرة، أصبحت ثرثاراً، لا أبحث عن إخفاء نفسي.
– كنا نتفاهم جيداً نحن الاثنتين. كانت أكثر تميّزاً مني في المعهد. كنت أحسدها، وكنت أجدها أجمل مني أيضاً. سحرتْها أفريقيا، خاصة مالي. أما أنا فقد سحرتْني أمريكا الجنوبية، هل مازلتَ صحفياً؟
تلفظ فتاة شقراء قصيرة، لابد أنها المتخصصة بالصحة، اسماً لا أسمعه. تنهض محدثتي وتبتسم لي. أفتح كتابي، وأقتنع أكثر فأكثر بأنني لن أقرأه. أفكر في إيمانويل، في ڤانيسا. أيَّ مجنون كنت لأغادر نحو إقامة طويلة في بريتاني(7)؟ مُرتجِلاً الأمر فجأة، من دون إعطاء أي تفسير. لم تحاول ڤانيسا التمسك بي. أفهمها. محامية جنائية معروفة، لا تقبل سوى القضايا التي تناسبها. لم يفقدها النجاح تواضعها. في المرات القليلة التي التقينا فيها بعد انفصالنا لأسباب تخص العمل، كانت ڤانيسا رائعة، عاملتني كما لو أنني شقيقها الأصغر. لم تقل لي كلمة واحدة. في بعض الأيام، اعتقدتُ أنها كانت تحسدني على ما كانت تسميه روحي البوهيمية، على لامبالاتي.
يبدو أنني لم أعد أشعر بأي ألم في اللثة. يخطر لي أن أغادر العيادة. ولن يكون ذلك سوى ارتجال آخر. لقد جمعت تلك الارتجالات على امتداد حياتي. على سبيل المثال، قرار الهرب إلى رين(8). اعتقدتُ أن ڤانيسا كانت تستطيع بسهولة أن تمضي بدوني. كنت على حق. ولكن هل كان الأمر مماثلاً بالنسبة لي؟ بعد شهرين علمتُ أنْ لا. في ما يخص غرف الانتظار، لن تكون المرة الأولى التي أغادر فيها من دون أن أخضع للفحص أو المعاينة. سأجد طبعاً سبباً أقدمه لموظفة الاستقبال، موعدٌ منسي، حالةٌ طارئة، أي شيء ولكن المهم أن أمضي.
الهوامش
1 جيل آرشَمبو Gilles Archambault : كاتب كندي من مقاطعة كيبيك. ولد في مونتريال عام 1933. له مؤلفات عديدة في الرواية والقصة والشعر والمسرح. عمل في راديو كندا بين عامي 1963 و1992 حيث أعدّ وقدّم برنامجاً عن موسيقى الجاز والأدب. ويعتبر أرشيف برنامجه اليوم مرجعاً في مجاله.
فاز عام 1981 عن مجمل أعماله بجائزة Athanase-David وهي أرفع جائزة أدبية في كيبيك.
كما فاز عام 1986 بجائزة الحاكم العام لكندا
Le prix du Gouverneur Général du Canada.
2 – ويست ماونت: منطقة سكنية في مدينة مونتريال غالبية سكانها من الأغنياء وتتميز منازلها بالهيبة والفخامة. ـ م
3 – Jean Bertrand Pontalis جان بيرتران پونتالي:
كاتب وباحث وأستاذ فلسفة ومحلل نفسي فرنسي. من تلاميذ سارتر. ولد في باريس عام 1924 ومات فيها عام 2013. حاز عام 2011 على جائزة الأكاديمية الفرنسية عن مجمل أعماله. ـ م
4 – في الأصل: L’amour des commencements من أشهر كتب پونتالي، يعتبر تحفة فنية في مجال السيرة الذاتية. ـ م.
5 – Huysmans روائي وناقد فني فرنسي. ولد في باريس عام 1848 ومات فيها عام 1907. عرف بأسلوبه الخاص في الكتابة من حيث المعجم اللغوي الكبير، العناية بالتفاصيل، الوصف الحسي، السخرية والطرافة. ـ م
6 – في الأصل: À rebours ترجمت إلى الإنجليزية تحت عنوان Against Nature : من أشهر روايات هويزمانز، نشرت عام 1884. تتناول بالنقد والتحليل أعمال كبار الكتاب والرسامين في الفن الفرنسي واللاتيني من خلال قصة رجل ينحدر من عائلة نبيلة يعيش حياة فاسدة في باريس ثم يقرر العودة إلى الريف ليعيش بقية عمره منعزلاً، مكرساً نفسه للتفكير الجمالي والنقدي والفني. ـ م
7 – بريتاني: منطقة في شمال غرب فرنسا. ـ م
8 – Rennes : مدينة تقع في منطقة بريتاني. ـ م