يسطر جبل ضخم وواد جاف المقبرة عن القرية الصغيرة.. عندما يحل الظلام ينتشر عواء الذئاب فى المكان، يبدو العواء وهو قادم من أعالي الجبال الجاثمة منذ أمد بعيد مخيفا، عندما تكون القرية قد أغلقت الأبواب على نفسها تستفرد الذئاب والجمال والحمير السائبة المكان… تبدو القرية أشبه ببيت صغير يرقد في جزيرة مهجورة إلا من وحوش الغاب.
زفرات مبارك المتتابعة التي كتمها منذ خمسة أعوام، تهز شبحه الواقف على حافة الوادي حيث أعطى ظهره لأبواب القرية المغلقة، التي بالكاد يمكن تمييزها بفعل ضوء القناديل الخافت المرتسم على بعض الأبواب، يحمل الآن إصرار خمس سنوات، أي منذ أن عرف ذات مرة وهو ابن خمس سنين أن أمه ميتة وان التي يعيش معها هي جدته، وهي معلومة تلقفها صدفة من الأولاد في إحدى الحواري وقد عاد يومها الى البيت ودموعه تتكسر على في اليوم التالي حين ذهب الى المدرسة، وقف الأستاذ في طابور الصباح، وأعلن أن اليوم مخصص للاحتفال بعيد الأم، كانت كلماته تمزق جسد مبارك، كسكين مسنونة تسكن قاع اللحم، وعندما نادى عليه الأستاذ مع آخرين ليسألهم عن الهدية التي سيأخذونها لأمهاتهم أدمعت عينا مبارك خلسة، وانسحب الى الفصل.
غدا أيضا سوف تحتفل المدرسة بعيد الأم، هذه المرة لن يحزن كما كل مرة.. هو الآن يحمل علبة حلويات الى أمه هناك في مرقدها، يدرك جيدا انه سوف يراها للمرة الأولى، وأنها سوف تفتح له الحلاوة بيديها، وأنهما سيأكلان بشراهة ثم قد يسألها الرجوع معه الى البيت، واذا ما رفضت فسوف يطلب النوم معها ليؤكد للأستاذ غدا أنه قدم هدية لأمه لكي يبدو رجلا لا يبكي، تماما كما طلب منه الأستاذ.
سوف تسأله هي عن حاله، وسوف يخبرها عن عمته، وعن غنمها التي يجلبها من المرعى كل مساء، ثم يعلفها، وقبل أن ينام عليه أن يتأكد من أن الدجاج قد نام جميعه مطمئنا بعد أن يلجم عليه الباب، سوف يحدثها طويلا عن قصة الشاة التي أطلق عليه اسم: "عائشة" والتيس ذي القرون الطويلة والعرف الأبيض الذي سماه: "عبدالغفار"، وكيف كان يهجم عليها بخيلاء، وهي تحاول التمنع حتى تسقط تحت جسده بعد جري طويل.. خيل اليه في المرة الأولى أن "عبدالغفار" قرر افتراسها عندما أخذ يعدو خلفها قاسما القطيع – الذي باغتته الحركة الفجائية فوقف يتأمل المشهد – الى شطرين، فوثب بعصاه خلفه، أخذا يعدوان حتى أنهكت قواهما، لم تسعفه يده يومها على ضربه، تذكر فجأة – وهو يهز العصا عاليا – عصا عمته عائشة، وأستاذه عبدالغفار لحظة سقوطها على قفاه، في المرات التالية ترك لهما حرية التصرف، لاحظ بدهشة "عبدالغفار" وهو ينتصب واقفا يشتم مؤخرة عائشة، ثم يرفع فمه للسماء متثائبا، يكون فمه لحظتها مزبدا، تصور مبارك أنه عطشان فجرى الى البئر وملأ الدلو وقربها منه، فوجيء بهما يبتعدان عنها وأنفاسهما تخرج متقطعة، انتابه خوف شديد من أن يكون قد أصابهما مكروه ما، عاد يومها بالغنم الى الدار قبل الموعد المعتاد، أخبر عمته وهو يرتعش بالقصة، وبخته بشدة قبل أن تبلغ أباه متهكمة بقصته، أطلق مبارك ضحكة مجلجلة، سمع صداها يصطدم بالجبال عاد الى نفسه تذكر دشداشته المهترئة وردنها المنزوع من ناحية الابط، برقت في رأسه حيرة الجواب فيما لو سألته عنها. هل يصدقها الحديث ؟ هل يقول لها أن عمته تخبيء عنه ملابس العيد التي يحضرها له والده، وأنها خصصت له واحدة للمدرسة وأخرى للقرية فقط، هي هذه التي يلبسها اليوم ؟ نعم سأخبرها، سوف تشتري لي ملابس كثيرة، سوف تعوضني ملابس عن كل الأعياد السابقة.. (هكذا صرخ فجأة كأنما يتشفى من صمت طويل أطبق عليه) لكن ماذا لو سألتني عمتي عنها ! أخ.. سوف تضربني حتى أقول لها إن أمي هي التي أعطتني إياها.. لن تصدقني.. أعرف أنها لن تصدقني، هي تقول لي دائما أمك ميتة، لكنها كذلك تقول لي حين تضربني: اذهب الى أمك، دعها تعطك الملابس.. هذه الملابس ليست لك.. هذه المرة سوف أقول لها إن هذه الملابس من عند أمي.. نعم سأقول لها الحقيقة.. سأخبرها أنني كنت أدخر كل يوم خمسين بيسة لهديتها، وأنها أعطتني الملابس التي كانت تشتريها وتجمعها لي في الأعياد السابقة.. لكنها سوف تضربني لأني لم أشتر لها هدية: تصاعدت زفراته.. كانت الجبال تطلق زفرات مرعبة: آه.. آه..
حين وصل مبارك الى المقبرة لم يعرف مكان أمه، القبور متساوية، كلها تطوها تلة من التراب، معلق عليها حجر كعرف الديك.. تقدم من أحدها وخلعه بعد جهد، قربه من عينيه، رفعه على ضوء القمر، لم يلحظ عليه اسما.. تقدم من القبر الآخر خلع الحجر، قربه من ضوء القمر، لم يلحظ عليه اسما كذلك.. عاد ووقف في أول المقبرة، أخذ ينادي بأعلى صوته: ماه.. ماه.. ماه.. كانت الجبال تجيبه بعنف: ماه.. ماه.. ماه.. الوادي ينتفض، بدت القرية كلها ترتعش، أخذ يعد القبور التي أمامه واحد، اثنين… ثلاثة… أربعة… خمسة، جلس على حافة الخامس، انتابته نوبة بكاء حارة، دموعه تغسل الطين الذي تكوم بجانبه، انفتح القبر.. تصاعدت رائحة الموت.. أخذت تتشكل في الفضاء دوائر.. حاول مبارك إمساكها وهو يصرخ: ماه.. ماه.. يلوح بعلبة الشكولاتة للسماء.. فتحها بدموعه الحارة.. أخذ يرمي حباتها في السماء فتهوي الى القبر، امتلأ القبر بالشكولاتة.. حاول تذكر الحديث الطويل الذي حضره لها.. عصر رأسه بين يديه.. راها تفتح يديها.. اقترب ليحضنها.. اقترب أكثر.. صرخ بصوت عال: ماه.. ماه.. وانزلق في القبر الذي ابتلعه بخفة متناهية.
خالد العزري (قاص من سلطنة عمان)