كان صباح اليوم الاول من يناير عام 1953 يوما غير عادي بالنسبة للسيدة البحرينية عائشة يتيم أحدى اوائل المثقفات في البحرين آنذاك.
ففي ذلك الصباح تسلمت السيدة يتيم رسالة صغيرة تتضمن دعوة لحضور اجتماع نسائي في مدرسة "الزهراء" للبنات في العاصمة المنامة يهدف الى تأسيس "نادي البحرين للسيدات"
ورغم ان الرسالة نفسها كانت مفاجأة كبيرة، الا أن السيدة يتيم قررت بعد تفكير لم يستغرق طويلا قبول الدعوة وحضور الاجتماع بدون معرفة اية معلومات حول هذا النادي واهدافه واعضائه.
وفي عصر يوم 5 يناير 1953 تشهد قاعة مدرسة "الزهراء" للبنات بالمنامة وقائع ذلك الاجتماع التاريخي الغريب من نوعه ومن شكله وهو تأسيس أول ناد نسائي في البحرين ومنطقة الخليج كلها باسم "نادي البحرين للسيدات".
وفي ذلك الاجتماع تعرفت السيدة عائشة يتيم على ملامح النادي، فكان الحضور 15 سيدة فقط ووجدن أن "الليدي بلجريف" زوجة مستشار حكومة البحرين آنذاك هي صاحبة فكرة النادى، إلا انها بمساعدة "مسز ناير" مفتشة تعليم البنات قامتا بتوجيه الدعوات لهن والتي اقتصرت على سيدات بعض رجال الأعمال البحرينيين وبعض نساء الأسرة الحاكمة.
وتم في ذلك الاجتماع التأسيسي انتخاب "الليدي بلجريف" رئيسة للنادي باعتبار أنها صاحبة الفكرة والداعية اليها. واختيار «عائشة يتيم» كسكرتيرة، وانتخاب «مسز ناير» و"سلوى العمران" وغيرهما كعضوات إداريات.
وبعد انتخابات إدارة النادي جرى نقاش قصير تم فيه بحث أهداف النادي وإمكانية وضع دستور أو قانون خاص ينظم عمله ويسير نشاطه. وفي دقائق قليلة انتهى النقاش والاجتماع باتفاق العضوات القليلات على أن يكون أهداف النادي القيام بالأعمال الخيرية ومساعدة الفقراء وتعليم النساء الخياطة والطهي. وجرى الاتفاق أيضا على أن يكون رسم الدخول في النادي "10 روبيات" والاشتراك الشهري "3 روبيات".
وبانتهاء الاجتماع الصغير والتاريخي بدأت الأحلام والطموحات تدور في أذهان السيدات لكنهن لم ينسين الصعوبات الكثيرة والعقبات التي تنتظرهن في مجتمع صغير بدأ لتوه أولى خطواته في التقدم الحضاري.
وفي الأيام الأولى حمل البريد المؤقت لنادي البحرين لسيدات تأييدا غير متوقع وتشجيعا كبيرا لم ينتظره أحد. ففي 30 يناير من نفس العام تنشر جريدة "القافلة" البحرينية خبرا تحت عنوان "نادي السيدات يشكر" يقول: "جاءنا من نادي السيدات ما يأتي: أن نادي السيدات يشكر كل من آزره وشجعه ويخص بالذكر الحاج خليل المؤيد على رسالته الرقيقة ومن المؤسسات الوطنية نادي العروبة ونادي البحرين، فقد كان لتحضيرهم وتشجيعهم أثر عميق في نفوسنا، ويسر النادي أنه قد رضع نصب عينه المشاريع التالية 1- بحث مشاكل الأمومة والعناية بالطفل. 2 – تدريب أعضائه على مباديء الاسعاف الأولي. 3- العناية بالمطبخ البحريني من حيث الصحة والذوق. 4 – إعداد برنامج كامل للخدمات الخيرية الاجتماعية لرفع محتوى البيت البحريني".
وفي نفس العدد تنشر القافلة أيضا في باب "صندوق البريد" سؤالا من إحدى القارئات يقول: "قرأنا في عدد القافلة الأخير عن نادي السيدات، وأنا وبعض صديقاتي نرى أن هذا الفكرة سابقة لأوانها لأننا لم نسمع عن مثل هذه المؤسسة في البلاد العربية الأخرى بالرغم من وجوه بعض السفور فيها.. فهل فتح مثل هذه النادي سيفيد الناشئات ؟ ما قولكم ؟".
وترد "القافلة" بحماس قائلة: "أخطأت يا سيدتي إذ قلت بأنه لا توجد أندية للسيدات في البلاد العربية. فالواقع ان مثل هذا الأندية موجودة في مصر وشبيهة بها موجودة على صورة جمعيات في العراق وسوريا.. الخ. أما عن إمكانية الاستفادة من مثل هذا النادي للناشئات فيعتمد على ما سيحدده القانون الأساسي للنادي من أهدافه فلننتظر حتى يصدر هذا القانون".
وبالطبع لم يستطع المعارضون لتأسيس النادي الانتظار حتى صدور القانون. فقد وجدوا أن التأييد الكبير والدعم غير العادي الذي حصل عليه النادي كفيل بإضعاف المعارضة الضخمة التى يودون القيام بها.
وبالفعل تسارع "جماعة الدعوة الى الاسلام" بإصدار بيان في وسط هذا الفرح العارم في البحرين بتأسيس نادي السيدات. وبسبب «الانتظار الطويل» للمعارضين يصدر البيان وهو مليء بالشتائم والألفاظ البذيئة ! ويختتم بنداء يقول: «قاطعوا هذا المنكر وحاربوه وأعلنوا المنكر والنكير على القائمين والقائمات بأمره.. أقتلوه في مهده قبل أن يرى النور والا فالويل منه ثم الويل لنا جميعا"!
وبصدور بيان «جماعة الدعوة الى الاسلام» تشتعل معركة اجتماعية طاحنة متوقعة على أكثر من طرف وعلى عدة جبهات.
فبعد أيام قليلة يصدر بيان موقع باسم "المدرسات المسلمات المحافظات الوطنيات" يهاجم بشدة "جماعة الدعوة" ويستنكر بيانهم ويؤيد بقوة "نادي السيدات".
وأكثر من ذلك ينشط مؤيدو النادي ويكتبون للصحف التي تسجل موقفا اجتماعيا تقدميا ومتميزا بوقوفها مع النادي وأهدافه الاجتماعية والخيرية. ففي 13 فبراير من نفس العام تنشر "القافلة" رسالة ترد على "جماعة الدعوة الى الاسلام" تقول: "إننا نعتز بأن نكون مدرسات محافظات مسلمات ولكن الأولى لهذه الجمعية المزعومة أن تبدي رأيها حول تأسيس ناد للسيدات في أسلوب نزيه ونقد بريء لو كانت النية حسنة والقصد جميلا. نعم فما كان من اللائق ولا من الواجب أن تصف رئيساتنا الفاضلات بمثل ذلك القول البذيء الذي تتقزز منه النفس ويندي له الجبين. إنه لكثير وغير محتمل. ومن ثم وزيادة على ذك تريدون منا أن نكافح أعمالهن الجليلة التي يجب أن تجد منكم الاستحسان والامتنان لا الجحود والنكران بتلك الأعمال التي سترتفع بنا لنسترد بعض حقوقنا المهضومة فنكون، عضوا عاملا في مجتمعنا الذي نرجو له الخير والرقي والنجاح".
وتكمل: "قد كان الأولى بكم أن تكافحوا فساد الأخلاق المنتشر بينكم فتكافحوا القمار وشرب الخمور والبغاء وقول الزور الى غير ذلك من ضروب الانحطاط الخلقي والاجتماعي أنانية رجل القرون المظلمة فتعلنوا الحرب على ناد السيدات يضم خيرة نساء وبنات وطننا المتعلمات المثقفات ذوات الأخلاق العالية".
وبجانب "معركة البيانات" الساخنة التي تدور رحاها بين مؤيدي ومعارضي نادي السيدات تتدخل في القضية أطراف أخرى في صراع وجود النادي نفسه. فبصورة غير متوقعة على الاطلاق يعارض الشخصية الرهنية المعروفة آنذاك في البحرين عبدالرحمن الباكر النادي ووجوده ولكن بشكل مختلف عن المعارضين طبعا. ويقول في جريدة "القافلة" أيضا: "لقد زاد ألمي عندما قرأت منشور (المدرسات المعلمات المحاظات الوطنيات) إذ تأكدت أن الفتنة قد بدات وان الحرب أولها الكلام. وانني اذ استنكر منشور المجموعة الاولى فاني لا أقر المدرسات مطلقا على ذلك المنشور، إذ لم يسبق أن قام النسوة بمثل هذه المظاهر التي لا تدل على اعتدال أو ترو. والتي لا نقبلها لفتياتنا ولا لمعلمات بناتنا. إننا نعلم أنها ثورة ولكنها جامحة طائشة. فنرجو الا يعدن لمثلها. إن المحافطات يجب أن يحافظن عن تقاليدهن. وان نطقن ففي اعتدال ورزانة".
ويضيف "ثم اود ان اوجه الكلام الى اللائي شرعن في تأسيس ناد لسيدات في بلد لم تؤد أندية الرجال بعد رسالتها وقد مضى عليها ما يدنو من ربع القرن اقول لهؤلاء ان النادي سابق لاوانه، وكان الاجدي ان يؤسس جمعية لرعاية الطفل أو غيرها من الجمعيات التي تزاول الاعمال الخيرية. إن النفر الذي طبل وزمر لهذا النادي ليكسبوا شهرة على حسابكن أو نيل الحظوة والرضا (السامي) ذوو تفكير سطحي. إن ادعاءهم بوجود أندية محترمة للرجال والسيدات في البلاد العربية يدل على بعدهم عن الواقع إذ ليس للمرأة الا جمعياتها الخيرية والدينية والسياسية،
وهي هنا لم تبلغ في ثقافتها ذلك المقام. فعساي أن أسمع بعد هذا أنكن أبدلتن هذا النادي الى "جمعية خيرية" رائدها النشاط الخيري والاجتماعي مؤملا أن يكون رائدها الخير وصيغتها الودية الحقة والاسلام الصحيح".
وعلاوة على معارضة "عبدالرحمن الباكر" غير المتوقعة يشترك صحفي ليبرالي معروف هو رئيس تحرير جريدة "الخميلة" البحرينية وهو العراقي "جورج كارنيك ميناسيان" في معارضة النادي أيضا ويكتب في جريدته قائلا إنه يجب على القائمين بأمر النادي والمناصوين له أخذ
دعوة الجماعات المعارضة للنادي بعين الاعتبار، كما وجد ان الوقت الحاضر وقيم المجتمع البحريني غير مؤهلة لاستيعاب ناد للسيدات !
وعلى الطرف الآخر تشارك بعض اندية البحرين في "معركة نادي السيدات" بموقف التأييد، فيكتب سكرتير "نادي البحرين" رسالة مؤيدة الى رئيسة النادي تقول: "لقينا بمزيد من السررور والابتهاج نبأ تأسيس ناد للسيدات في بلادنا العزيزة ولا شك ان هذه ثمرة جهود جبارة ونقدم لك ولزميلاتك الكريمات تهانينا القلبية وتمنياتنا الخالصة لهذا المشروع الذي سيكون له -ولا ريب – أطيب الاثر في سمعة البلاد ودليل قاطع على تقدمها وازدهارها كما سيكون له من فوائد وخدمات اجتماعية. وسنعمل ما في وسعنا لالتحاق السيدات والآنسات بعضويته كما اننا على اتم الاستعداد لبذل اية معونة ادبية كانت أو غيرها".
وبرغم وضوح طرفي المعركة وهم المعارضون والمؤيدون غير متكافئين حيث يبدو من الواضح ان المعارضين يملكون قوة واصواتا أكثر في الجتمع على عكس المؤيدين، الا ان العضوات القليلات يستغللن فترة هدوء البيانات ووقف اطلاق نار المعركة المؤقت ويمضين في نشاطهن بهدوء. فتنظم اجتماعات النادي كل اسبوعين في مدرسة الزهراء، كما تقول السيدة عائشة يتيم. ويبدأ النادي في تعليم بعض عضواته أصول الخياطة والتطريز، وتتطور الاجتماعات مع زيادة عضوات النادي الى أكثر من 30 عضوة وأكثر من ذلك. ثم يشرع النادي في إعطاء دروس خاصة لعضواته في الطهي وأنواع الوجبات وطريقة تعليم ورعاية الطفل وتحضير طعامه ووسائل تنظيفه وغيرها.
وعلاوة على الاجتماعات ينشط النادي في القيام ببعض الأعمال الخيرية، ففي فبراير 1953 يقوم النادي بحملة تبرعات كبيرة للمتضررين من حريق كبير حدث في مدينة المنامة. وينجح النادي في تقديم تبرع سخي ومهم وهو 105 قطع ملابس وطاقتا صوف.
وبعد "هدنة قصيرة" مع معارضي النادي تبدأ «جماعة الدعوة الى الاسلام» في حملة جديدة هدفها هذه المرة إغلاق النادي نهائيا أو انسحاب العضوات البحرينيات منه على الأقل!
وتصل حملة "الجماعة" الى الصحافة حيث يكتب أحدهم مقالا يرد فيه على أحدى المؤيدات قائلا: "ونظنك تجهلين أو تتجاهلين إن ما قمنا به في منشورنا إنما هو من ضمن برامجنا التي نظمناها ورسمناها من أجل مكافحة فساد الأخلاق، وهل تشكين ايتها الآنسة في أن هذا النادي سيصير حتما بؤرة لفساد الأخلاق وموطئا للتحلل والضياع ؟!".
وبسبب دخول عناصر معارضة جديدة للنادي واشتداد هجوم المحافظين تنجح الحملة الجديدة بعض الشيء وتضطر بعض العضوات للانسحاب من النادي بسبب ضغط عوائلهن!
وعلى عكس المتوقع يصمد النادي أمام تزايد المعارضة وهجوم المحافظين عليه، بل وينشط أكثر من السابق.
ففي مايو من نفس العام تكتب جريدة "القافلة" خبرا صغيرا يقول: "علمنا أن نادي السيدات سيقوم بسوق خيري يوم الخميس القادم وسيرصد ريعه لمشروع العناية بالطفل".
وبالفعل يقوم النادي بإقامة هذا السوق الخيري الكبير في ساحة مدرسة الزهراء بالمنامة وتكتظ الساحة بمجموع النساء والأطفال الذين أقبلوا على شراء الأطعمة التي صنعتها العضوات والملابس التي قمن بخياطتها.
وتكتب «القافلة» عن السوق قائلة: «لقد كان نجاح السوق الخيري الذي أعده نادى السيدات عظيما فقد امتلأت مدرسة الزهراء وضاق رحابها من تحمل العدد الهائل من السيدات وقد بلغ مجموع المبيعات أربعة آلاف روبية سيخصص ريعها لحماية الطفولة".
وبسبب النجاح الكبير وغير المتوقع للسوق الخيري كتبت "القافلة" خبرا يقول: "يتقدم نادي السيدات بخالص الشكر والثناء لكل من آزره وساعده ماديا ومعنويا في انجاح يوم السوق الخيري، ويود أن يعرب عن رجائه في أن يقبل كل فرد ساهم وساعد هذه الكلمة كشكر خاص له أو لها».
وبرغم النجاح الكبير لسوق الخيري توقع المعارضون والمؤيدون معا أن يستمر نشاط نادي السيدات بشكل أكبر من السابق وأن تزداد عضويته الا أن توقعات الجميع بما فيها عضوات النادي أنفسهن لم تكن موفقة !
فبعد انتهاء السوق الخيري تجمد نشاط النادي لفترة عدة أشهر، وبسبب ذلك كتبت قارئة الى جريدة "القافلة" تتساءل: "أين اختفى نادي السيدات وهل سيعود الى الظهور؟" وترد "القافلة" لم يختف النادي، ولكنه لم يبدأ نشاطه بعد"!
وبعكس أمنيات "القافلة" يختفي أول ناد للسيدات في البحرين ومنطقة الخليج في نفس العام الذي تأسس فيه بعد عدة أشهر كتبت فيه نساء رائدات أسطرا متواضعة في أرشيف التاريخ.