حنان الحربش
«هنا في المنزل مصائر متباينة تظهر وتنجلي كأنه مهد المستقبل»
– جون أودونوهوي –
«كائن بني غريب لا مبالٍ»
ستونر ابن الأرض .. ابن الطبيعة الصامتة..
ولد لأبوين «كان يراهما -حتى وهو طفل صغير- عجوزين» يعملان بكدح طيلة ساعات النهار. وفي بقايا اليوم تتحلق الأسرة حول طاولة الطعام لتناول وجبة بسيطة على ضوء مصباح الكيروسين..
لم تكن ظروف تلك الأسرة الكادحة تسمح بأي نوع من التواصل ، كانت أسرة على حدّ قول الراوي « تبقيها مترابطة ضرورة الكدح».
هكذا نشأ ستونر الذي كان مكبًا على العمل الزراعي.. حلب الأبقار، تنظيف الحظائر، و جمع البيض، والدراسة وحل الواجبات المدرسية بذات روح الانضباط الآلية .. حتى قرر والداه أن يلتحق بالجامعة لدراسة الهندسة الزراعية!!
«لا معنى للحياة ..لكن الشعر يعطي معنى لحياتنا»
– موران –
في مادة الأدب الإنجليزي، أعادت سونيتة شكسبير تشكيل العلاقة بين ستونر والعالم الذي يحيط به، يقول هايدغر: «إن الإنسان يصغي إلى نداء اللغة» وهو فعل تأثير متبادل يبلغ أشد توهجه بين الفرد ولغته.. إصغاء ستونر لقصيدة شكسبير، وتأثره بمادة الأدب جعله يترك دراسة الهندسة الزراعية لينصرف لدراسة الأدب واللغات فتعلم في عام واحد اليونانية واللاتينية بما يكفي ليقرأ نصوصًا بسيطة.. تلك اللحظة الشعرية المفارقة أضاءت عالم ستونر وأكسبته عينًا جديدة ينظر بها إلى العالم،
فكأنه بالشعر يستعيد طفولته وينغمس بالذهول البدئي لهذا الكون.. ليكتشف كم كان غريبًا في طفولته وكم يبدو والداه غريبين أيضًا.
«إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية التي تذروها الرياح على هواها»
– غوستاف لوبون –
لم يشارك ستونر في الحرب العالمية الأولى، رغم اندفاع الشباب لآداء الخدمة العسكرية المرتبطة بالشرف، باءت محاولات أصدقائه لإقناعه، هذا على الرغم من عدم تبينه الأسباب والدوافع الحقيقية إزاء هذا الرفض إلا أنه كان مدركًا في قرارة نفسه رفضه خوض غمار هذه الحرب التي بدت له بلا أي هدف أو معنى..
«الطفل هو والد الرجل»
– ويليام ووردوورث –
رغم جفاف البيئة والظروف التي ساهمت في تكوين شخصية ستونر ، ورغم العلاقة الباردة التي ربطت والديه.. خرج ستونر من طبيعته الصامتة متقداً بوهج الحب والانجذاب نحو «إيديث» وعلى الرغم من ارتباطه بهذه الزوجة التي تمثل النموذج العصابي للمرأة الأمريكية، والتي تعاني من اعتلالات نفسية -واضطرابات سلوكية تُعرف بها الشخصيات النرجسية- إلا أنه قام بواجباته الزوجية على أكمل وجه.. مساندًا زوجته في أحلك الظروف ..
«البحث عن الحب»
لم يستسلم ستونر في سبيل الإبقاء على علاقته الزوجية الفاشلة، و لم يترك لظلال الفشل فرصة التخييم على ما تبقى من نواحي حياته
البسيطة، بل عمل بجد وإخلاص وتفانٍ في سبيل تدريس المادة التي يحب.. وترك باب قلبه مواربًا للحب.. عبر علاقة جمعت بينه وبين إحدى طالباته..
«التنمّر الوظيفي»
عُرف ستونر بطبيعته المخلصة والمحبة للتدريس، وبالأخص تدريس مادة الأدب في القرون الوسطى، ولكنه نتيجة لخلاف بسيط حصل بينه وبين أحد زملائه أثناء مناقشة أكاديمية، كسب عدواة استمرت لعشرين عامًا.. رغم أن الخلاف لا يعدو كونه اختلافًا في وجهات النظر، إلا أن عداوة المتنفّذ والغيور عداوة لا تحمد عقباها.. لقد صبّ هذا العدو الغيور جام غضبه على ستونر المسالم الذي حاول أن يرأب الصدع و لكن «لوماكس» الذي أصبح مديرًا متسلطًا فيما بعد، أخذ يحاربه حربًا معنوية، ألقت بظلالها على دائرة علاقاته مع الطلبة والمدرسين، بالاضافة إلى أنه منعه من تدريس المنهج الذي يحب، واقتصر تدريسه على الصفوف الأولية، وباعد بين ساعات محاضراته ، مما جعل سستونر يسقط في قاع الكآبة.. لم تنتشله الكتب من تلك الحالة الرمادية، بل انتشل ستونر نفسه بنفسه، مدرسًا المواد التي يحب ضاربًا بكلمة مديره المتغطرس عرض الحائط!!
«الإحالة إلى التقاعد»
كثيرون لا يطيقون العيش في سلام، ينجرفون مع تيار الظلام و يحولون حياة الآخرين إلى كوابيس مخيفة.. هكذا يمضي «لوماكس» في عدائه المحموم لستونر مجبرًا إياه على التقاعد.. ولكن ستونر ليس خانعًا ليخضع مستجيبًا لرغبات مدير قسمه الذي يتمتع بالحضور المميز والابتسامة الجميلة و نبرة الصوت الواثقة.. وبالطبع النوايا الخبيثة المستنكرة من أشخاص بهذه الهيئة والمحيا الجميل.. بل واجه تلك الرغبة بالرفض المطلق والقاطع ليستمر بمزاولة ما نذر حياته في فعله.. مُعلمًا قديرًا ومخلصًا!!
يقول الكاتب صباح الدين علي على لسان الراوي حمدي
في روايته الجميلة مادونا صاحبة معطف الفرو:
«حتى أكثر الناس بساطة وبؤسًا، بل وحمقًا، لهم أرواح غريبة ومعقدة توقع الإنسان من الدهشة.. لماذا نهرب ونظن أن فهم الإنسان والحكم عليه من أسهل الأشياء؟»