ترجمة: سعيد الريامي*
** نقدم لكم ترجمة لنصين من مذكرات عالم النفس السويسري كارل يونج «ذكريات، أحلام، تأملات»، الذي حررته وأشرفت على إخراجه مساعدة يونج الشخصية آنييلا جافيه. الكتاب صدر باللغة الألمانية عام 1962، ثم تُرجم إلى لغات عدة منها الإنجليزية، حيث صدرت أول ترجمة في 1963، وأعيدت طباعته أكثر من مرة كان آخرها عام 1989 من قبل دار راندوم هاوس الأمريكية التي لا تزال تحتفظ بحقوق الطباعة والنشر والترجمة. للأسف لم تصدر للكتاب ترجمة عربية سوى واحدة منذ أكثر من عقدين لمترجمة عراقية، لكن يبدو أن الترجمة لم تكن مرخصة من قبل دار النشر الإنجليزية وقد نفذت تماما من الأسواق.
النصان اللذان ترجمتهما هما أولاً «تقديم»، وهو نص قصير كتبه يونج شخصيا وجاء بعد المقدمة التي وضعتها المحررة آنييلا جافيه. أما النص الثاني – الذي كتبه يونج أيضأ وجاء في نهاية الكتاب – فهو «خاتمة»، وهو أطول قليلاً من النص الأول. الكتاب صدر في 430 صفحة واحتوى في نهايته على مراسلات بين يونج وسيجموند فرويد.
«تقـديــــم»
حياتي هي حكاية العقل الباطن في رحلته نحو إدراك ذاته.
يسعى مكنون العقل الباطن دائمًا إلى التجلي والظهور، كما تتوق شخصية الفرد هي الأخرى باستمرار إلى الانعتاق من شروط عقلها الباطن بُغية تحقيق تجربة ذاتية متكاملة. عند تتبعي لعملية تطوري الذاتي لا يمكنني – بأي حال من الأحوال – توظيف لغة العلم، ذلك أنني لا أتعامل مع نفسي بصفتي معضلة علمية. إلى ذلك، لا يمكن التعبير عن ذواتنا ومكنوناتها الرمزية، ولا عن الإنسان في سياق سرمدية الوجود، إلا من خلال الأسطورة، التي عادة ما تتسم بطابعها الشخصي وبقدرتها على التعبير عن مناحي الحياة المختلفة بطريقة أدقّ من العلم؛ فالتعاطي العلمي يستوجب الاعتماد على المتوسطات الحسابية، وفي ذلك من التعميم ما يجانب الإنصاف عند دراسة حياة الفرد بتنوعها غير الموضوعي.
هذا تمامًا ما أخذته على عاتقي – وأنا الآن في الثالثة والثمانين من عمري، أن أحكي أسطورتي الشخصية. لا يمكنني هنا سوى ترديد جُمَلٍ تقريرية مباشرة، أن “أحكي قصصًا”. لا مشكلة البتة في كون هذه القصص حقيقية أم لا. السؤال الأهم هو: هل ما أحكيه هو فعلًا حكايتي أنا؟ حقيقتي أنا؟
إن كتابة سيرة ذاتية أمر في غاية الصعوبة بسبب غياب المعايير الموضوعية التي يمكن أن نستند إليها في الحكم على أنفسنا. لا وجود البتّة لأسس حقيقية للمقارنة. فأنا أعلم مثلًا أنني أختلف عن الآخرين في أمور كثيرة، لكنني أجهل ذاتي الحقيقية. وفي المقابل، ليس في وُسع الإنسان مقارنة نفسه بمخلوق آخر؛ فهو ليس قردًا، ولا بقرة، ولا شجرة. أنا إنسان. لكن ماذا يعني أن تكون كذلك؟ أنا – كغيري من المخلوقات – شظية تطايرت من وجود أبدي أعظم، لكنني مع ذلك مختلف عن باقي المخلوقات من نبات أو حيوان أو حجر. إن الحيّز الوجودي للإنسان من الاتساع بحيث لا يضاهيه إلا الحيز الذي تصنعه الأساطير لكائن خرافي. كيف للإنسان إذًا – والحال كذلك – أن يكوّن رأيًا محددًا عن نفسه؟
إننا عمليةٌ روحانيةٌ تقع خارج نطاق سيطرتنا، ولا نشارك إلا في توجيه دفة جزء بسيط منها. لأجل ذلك نحن عاجزون عن إصدار أحكام قطعية عن حياتنا، ولو فعلنا فلن يكون ذلك سوى ادعاء أخرق. فحقيقة الأمر هي أننا نجهل تمامًا كيف حدث كل هذا! تبدأ الحياة من نقطة – عادة ما نتذكرها – وتكون، حتى في نقطة بدايتها تلك، بالغة التعقيد. لكننا لا نعلم إلام ستؤول حياتنا. هي إذًا حكاية لا بداية محددة لها، ولا إشارة واضحة على نهايتها سوى تلميح مبهم من بعيد.
حياة الإنسان تجربة مشكوك في حقيقتها، وهي ظاهرة جبارة فقط في سياقها العددي الإحصائي الذي يشمل جميع البشر. أما على صعيد الفرد فهي لحظة عابرة، تجربة عاجزة وقاصرة، حتى لكأنه مما يقارب الإعجاز أن يتحقق أيّ شيء خلالها على الإطلاق. لقد أثارت هذه الحقيقة دهشتي منذ زمن بعيد؛ مذ كنت طالبًا أدرس الطب. ولا أزال -حتى اليوم – مندهشًا من بقائي على قيد الحياة، وكيف لم أفنَ منذ زمن!
تبدو لي الحياة وكأنها نبات يعتمد في بقائه على جذموره، حيث الجزء الظاهر على سطح الأرض يعيش لمدة صيف واحد، ثم يذبل ويموت، فهو شبح عابر. هكذا هي الحياة؛ عندما نتأمل دورتها اللامتناهية بين الولادة والنمو، ثم الوهن فالموت لا يمكننا تجاهل الشعور بالتفاهة واللاجدوى. لكنني شخصيّا لم أفقد أبدًا شعورًا لازمني طويلًا بوجود شيء ما تحت هذا التدفق الأبدي. ما نراه على السطح هو الزهر، وهو ما يذبل، أما الجذمور فباق ومستمر.
إن ما يستحق أن يُذكر من أحداث حياتي هي تلك اللحظات التي طفا خلالها جزء من ذلك العالم الأبدي إلى السطح، حيث العالم الزائل. وهذا ما يجعلني لا أذكر هنا إلا تجاربي الداخلية، وعلى رأسها أحلامي وخيالاتي، التي تشكل المادة الأولية لأبحاثي العلمية؛ فهي الصّهارة التي تبلور منها الحجر الذي نحتّهُ طوال حياتي، والتي تَبْهُتُ أمامها جميع تجاربي الأخرى وذكرياتي – مع الأسفار والبشر وما يدور في الجوار. كثيرون غيري كان لهم دورٌ فاعل فيما دار من أحداث زماني، وقد سجلوا ذلك وكتبوا عنه. وإني هنا أحيل القراء إلى هؤلاء ليقرأوا ما كتبوه أو ليخبروهم بذلك مباشرة – إن هم رغبوا في معرفة تفاصيل تلك الأحداث. أما أنا فما عدت أذكر تفاصيل الأحداث الخارجية العابرة في حياتي. لقد تلاشت وانمحت تمامًا من ذاكرتي. أما لقاءاتي المتكررة بالواقع الآخر، صراعاتي مع العقل الباطن، فمحفورةٌ على نحو ثابت في ذاكرتي. لقد كان ذلك العالم على الدوام من الغنى والحضور بحيث فقد ما سواه أهميتَه. وبالمثل، فإن الأشخاص الذين حُفرت أسماؤهم في ذاكرتي هم أولئك الذين كانت أسماؤهم قد أدرجت من قبلُ في صحيفة أيامي، بحيث غدت لقاءاتي بهم لاحقًا على أرض الواقع نوعًا من التذكّر.
ألقت تجاربي الداخلية بظلالها كذلك على معظم الحوادث ذات الأهمية في حياتي؛ سواء تلك التي حدثت خلال فترة الشباب أو ما بعدها. لقد تيقنتُ منذ فترة مبكرة في حياتي بأن معضلات الحياة ومشكلاتها إن لم تستجب لها دواخلي لتوجد لها تفسيرات وحلولًا، فذلك يعني أن تلك المعضلات ليست ذات أهمية أصلًا. إن الحوادث الخارجية ليست أبدًا بديلًا عن اعتمالات الداخل، ولذا فإن حياتي فقيرة في حوادثها الخارجية إلى درجة كبيرة، ولا أستطيع التحدث كثيرًا عنها ذلك لأني أجدها فارغة ولا قيمة لها. إنني أفهم ذاتي فقط في ضوء تجاربي الداخلية؛ التي هي وحدها تعكس خصوصية حياتي وتفردها، وهي وحدها التي تحويها هذه السيرة الذاتية.
«خاتمة»
لا أقبل أن ينعتني الناس بالحكمة. ماذا يعني أن يغترف شخص ما ملء قبعته من ماء الجدول؟ أنا لست الجدول. أنا فقط أقف على ضفته، ولا أفعل شيئًا. كثيرون غيري يقفون على نفس الضفة، لكنهم يُلزمون أنفسهم بفعل شيءٍ ما. أما أنا فلا أفعل شيئًا البتة. لم أجد يومًا في نفسي الجرأة لأعتقد أن من واجبي رعاية شجرة الكرز حتى تنمو سيقانها. أنا فقط أقف وأشاهد ما تفعله الطبيعة.
يُروى أن تلميذًا سأل الحاخام يومًا:
“يقال إن بعض من عاشوا في غابر الأزمان تمكنوا من رؤية وجه الرب! لماذا لا يستطيع أحد فعل ذلك هذه الأيام؟
فردّ عليه الحاخام: “لأن لا أحد يستطيع الانحناء هذه الأيام.”
لتغترف من الجدول، لابد أن تنحني – ولو قليلًا.
ما يميزني عن غيري من الناس هو أن “الجدران الفاصلة” بالنسبة لي شفافة. وهي بالنسبة للآخرين غير ذلك. وهم – لذلك – لا يرون ما وراءها، فيعتقدون – بالتالي – أن لا شيء خلف الجدران. أنا – في المقابل – أستطيعُ – إلى حدٍّ ما – إدراك ما يجري في خلفية المشهد، ما يمنحني بعض اليقين. إنّ من لا يرى ما خلف الجدران يفتقد – حتمًا – إلى اليقين، ولا يقدر بالتالي على إصدار الأحكام، وإن فَعَل فهو لا يثق في أحكامه. لا أعرف ما الذي حفزني بدايةً لإدراك جدول الحياة هذا. ربما كان عقلي الباطن، أو أن أحلامي المبكرة هي التي وجهت مساري منذ البداية.
لقد حدّدَتْ معرفتي المبكرةُ بمجريات الأمور في خلفية المشهد علاقتي بالعالم من حولي؛ ولا تزال تلك العلاقة على حالها منذ نشأتها الأولى في طفولتي وحتى هذه الأيام. شعرت دومًا – مذ كنت طفلًا – بأنني وحيد، ذلك لأنني أعلم أشياء، وأضطر أحيانًا لذكر أشياء، يبدو أن الآخرين يجهلونها أو أنهم يفضلون تجاهلها. لا يأتي الشعور بالوحدة من غياب الآخرين من حولك، ولكن من عجزك عن الجهر بما ترى أنه مهم بالنسبة إليك، واضطرارك إخفاء آراءٍ لا يتقبلها الآخرون. تزامنت بدايةُ وحدتي مع تجربتي المبكرة مع الأحلام، وبلغت ذروتها خلال الفترة التي كنت فيها منشغلًا بدراسة العقل الباطن. متى ما اختلفت معرفة الإنسان عن الآخرين من حوله، كان عرضة للوحدة. لكن الوحدة ليست بالضرورة منافيةً للصحبة. فلا أحد يستشعر أهمية الصحبة أكثر من الشخص الوحيد. بل إن الصحبة لا تنتعش إلا عندما تكون فردانية كل صاحب حاضرة في ذهنه بحيث لا ينتمي كليّا إلى الجماعة.
من المهم أن تحتفظ بسر غامض لك وحدك، أن يتملكك شعور بوجود عالم آخر خفي لا يعرفه سواك. هكذا تتسامى حياتك عن الشخصي والعام والمعتاد، وتمتلئ بالمجهول والغيبي. لا شك أن الشخص الذي لم يختبر هذا الشعور فاته شيء مهم للغاية. من المؤكد أن تكون قد شعرت بأنك تعيش في عالم يشوبه بعض الغموض. بأن هناك من الأحداث ومن التجارب ما لا يمكن تفسيره. وبأن أمورًا خارج إطار التوقع والحسبان تحدث دائمًا. وبأن الغامض وغير المتوقع هما جزء أصيل وحقيقي من هذا العالم. عندها فقط تصبح الحياة مكتملة الجوانب. لقد كان عالمي منذ البداية عالمًا لا متناهٍ وعصيّا على الفهم.
كنت عادة ما أجد صعوبة في التعامل مع أفكاري. لقد كانت تسكنني روح شغوفة، أثبتت الأيام لاحقًا أن وجودها في داخلي كان حاسمًا وذا تأثير مفصلي. لقد أحكمت سيطرتها عليّ تماماً، فكنت أحيانًا – وأنا تحت تأثير تلك الروح – أبدو قاسيًا وشرسًا. لم أكن أتوقف عند تحقيق هدفي، بل كنت أواصل – على عجل – ملاحقةَ خيالاتي وأحلامي، التي من البديهي ألا يفهمها من كانوا حولي، فيعتقدون أنهم أمام مخبول يهرول بدون وعي.
لقد أسأت إلى كثيرين، فقد كنت أنهي علاقتي بالآخرين عندما أوقن أنهم ما عادوا يفهمونني. كان لابد أن أواصل مسيري. لم أكن أطيق صبرًا على أحد سوى مرضاي. كنت أطيع قانونًا داخليّا مفروضًا عليّ، لم يترك لي حرية الخيار. بالطبع كنت أتمرد عليه أحيانًا. كيف لأحد أن يعيش بدون تقلبات؟
بالنسبة لبعض الأشخاص، كنت قريبًا وحاضرًا ما دامت العلاقة التي تربطني بهم تتعلق بعالمي الداخلي، ثم سرعان ما كنت أنفصل عنهم في اللحظة التي أكتشف أنه لم يعد هناك ما يربطني بهم. لكنني تعلمت لاحقًا – بطريقة مؤلمة – أن الناس لازالوا موجودين حتى وإن لم يعد لديهم ما يقولونه لي. لقد أثار كثير منهم في داخلي شعورًا بالإنسانية المتوقدة. لكن ذلك كان يحدث فقط عندما كانوا يتواجدون في دائرة علم النفس السحرية التي كنت أتواجد أنا فيها. ثم سرعان ما يختفون في اللحظة التي يتجه بريقهم إلى خارج تلك الدائرة. لقد شُغفت بكثير من الناس، لكنني كنت أفقد ذلك الشغف بعدما تنكشف لي دواخلهم. وقد أورثني ذلك الكثير من الأعداء. إن سيطرة المبدع على مجريات حياته محدودة. فهو ليس حرًّا. إنه أسير شغفه الذي يسيّره.
يقول هولدرلين:
بلا حياء
تقتلع قوةٌ ما القلبَ منا
فساكنو السماء (الآلهة) يطلبُ
كل واحد منهم قربانًا
وإن حدث وحُجب ذلك عنهم
فلا خير مرجوٌ بعد ذلك
كان غياب الحرية مصدر حزن عظيم لي. كنت أشعر على الدوام بأنني في ساحة معركة، وكثيرًا ما كنت أجدني مضطرًّا لأقول: “لقد سقطتَ يا رفيقي الطيّب. أما أنا فعليّ أن أتابع المسير، ذلك لأن “قوةً ما تقتلع منا القلب بلا حياء”. أنا معجب بك، بل إني أحبك حقًا، لكنني لا أستطيع البقاء. إن ذلك لمما ينفطر له القلب، وأنا – لا غيري – الضحية هنا. لا أستطيع البقاء.”
ثم سرعان ما تباشر تلك الروح التي تسكنني تضميد الجراح فيتحقق الشفاء، وبعدها تتكفل تناقضات مباركة1 – بالرغم من الغياب الفاضح لولائي لها – بمساندتي فأواصل مسيرتي بقدر من الإيمان والثقة يفوقان توقعي.
لربما أمكنني القول بأنني أحتاج إلى الناس أكثر من غيري، وفي ذات الوقت أحتاجهم أقل كثيرًا من غيري. فعندما تنشط تلك الروح الشغوفة التي تسكن الداخل، يصبح الإنسان قريبًا وبعيدًا في آنٍ معًا. ولا يتحقق له الاعتدال إلا عندما تسكن تلك الروح وتهدأ.
لقد تملكتني روح الإبداع تمامًا، وكان أكثر ما أفسدته عليّ هو التزاماتي وخططي البسيطة والعادية؛ لكن ليس جميعها وليس دائمًا. ولعله نوع من التعويض أن أصبح شخصًا مُحافظًا وتقليديًا حتى العظم. فأنا لا أعبّئ غليوني إلا من جرّة التبغ التي تركها جدّي، كما أني لا أزال أحتفظ بعصا التنزّه الخاصة به، ذات المقبض المصنوع من قرن الماعز، والتي جلبها معه من بلدة بونتريسينا، حيث كان من أوائل نزلاء المنتجع الصحي الجديد هناك.
إنني راض عن مسار حياتي. لقد كانت رحلة حافلةً أفادتني كثيرًا. لم أكن أبدًا أتوقع هذا الكم الهائل والمتنوع من التجارب. لم يكن يحدث في حياتي سوى غير المتوقع. لربما كانت أحداث حياتي مختلفة لو أنني كنت مختلفًا عما كنت عليه. لكن الأحداث كانت مناسبة تمامًا؛ فكل حدث منها انبثق من كوني “أنا من أنا”. صحيح أن كثيرًا من أحداث حياتي كانت نتيجة تخطيطي المسبق، لكن الأيام أثبتت أن تلك النتائج لم تكن دائمًا في صالحي. عدا ذلك، فكل شيء حدث بشكل مقدّر وتلقائي. إنني نادم على حماقاتي التي سبّبها عنادي ومكابرتي، لكنني لم أكن لأحقق أهدافي لولا ذلك العناد وتلك المكابرة. ولذا فشعوري بخيبة الأمل يقابله شعور بالامتنان. كثيرًا ما أشعر بخيبة أمل تجاه نفسي وتجاه كثير من الناس. لكنني في المقابل تعلمت الكثير من الناس، وحققت أكثر مما كنت أتوقعه من نفسي. أجدني اليوم عاجزًا عن إصدار حكم نهائي، ذلك لأن ظاهرة الحياة وظاهرة الإنسان أكبر وأوسع من أن أصدر عليهما حكمًا قاطعًا، فأنا كلما تقدمت في العمر ازداد جهلي بنفسي وقلّ وعيي بها.
شعوري بنفسي يختلط فيه الإعجاب والدهشة والشعور بخيبة الأمل، إلى جانب الحزن والكآبة، والانتشاء أحيانًا. أنا كل هذه المشاعر مجتمعة. لكني أعجز عن الجمع بينها وإصدار حكم بالأهمية أو عدمها على نفسي وحياتي. ليس عندي يقين كامل بشيء معين. ولا إيمان خالص بشيء معين. أعلم فقط أنني ولدت يومًا ما وأنني موجود. ويبدو لي أن وجودي كان مُوجّهًا. وأنه مبنيّ على أساس أجهله. لكن، بالرغم من كل هذه الشكوك، أشعر بصلابة تسري في الوجود كله وبديمومة للنسق الوجودي الذي أنا عليه.
إن العالم الذي نولد فيه عالم موحش وقاس، وهو في الوقت ذاته عالم بالغ الجمال. أما ترجيح كفّة هذا على ذاك – أي ترجيح كون عالمنا ذا معنى أو فاقدًا للمعنى – فمردّهُ طبيعة كل شخص. فلو أن الغالب في حياتنا مثلًا هو الشعور باللامعنى، لوجدنا تلقائيًا أن المعنى منعدم في كل ما نفعله في حياتنا. إنني أميل إلى الاعتقاد بأن كلا الرأيين صحيح – وهذه رؤية تنطبق على معظم القضايا الميتافيزيقية. فالحياة فعلًا ذاتُ معنى – أو قد تبدو كذلك – وهي في ذات الوقت خالية من أي معنى. وأنا شخصيًّا أتشبث بالأمل الذي يرجح غلبة المعنى على اللا معنى.
عندما يقول لاوتسه: “الوضوح يسكن الأشياء، أنا وحدي المُشوّش.” فإنه يعبر تمامًا عمّا أشعر به أنا في سنوات عمري المتأخرة هذه. إن لاوتسه خير مثال على أصحاب البصيرة المتفوقة. فهو رجل رأى وخبر المعنى واللامعنى، ثم قرر في أواخر أيام حياته العودة إلى ذاته، إلى ذلك الوجود الخالد العصي على الإدراك. إن فكرة العجوز الذي خبر كل شيء وشاهد ما يكفي، فكرةٌ حقيقية وخالدة، نراها تتكرر بذات السمات في مختلف مستويات البشر الفكرية، سواء الفلاحين البسطاء أو الفلاسفة العظماء من أمثال لاوتسه. نعم، إنه خريف العمر بمحاذيره وقيوده، لكن روحي ممتلئةٌ بالكثير مما هو حولي: بالنبات والحيوان والغيوم، بالنهار والليل، وبالأزلي مما في الإنسان. وكلما ازدادت حيرتي تجاه نفسي، توهجت أكثر دهشتي تجاه الأشياء من حولي وتوطدت أكثر علاقتي بها. أما غربتي التي لطالما فصلتني عن العالم من حولي، فيبدو لي أنها انتقلت إلى عوالمي الداخلية لتظهر لي جهلًا بذاتي فاق توقعاتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تلميح إلى الإيمان العقدي – المسيحي بالتحديد. (المترجم)