لا يختلف اثنان سواء كان أحدهما مغرما والآخر ناقما على برشت، في مقدار تأثيره على مسرح القرن العشرين. ولد برتولد برشت في 10 شباط /فبراير 1898 في مدينة أوغسبورغ. وتأثر في بداية حياته الأدبية بالتعبيرية، فألف مسرحية "بعل" الشعرية، ومسرحية "طبول في الليل" قبل أن يطور مذهبا فنيا جديدا على عصره. وعقب النجاح الهائل لمسرحيته المقتبسة عن جون غاي "أوبرا القروش الثلاثة"، بدأت علاقته واهية مع السينما، إذ سمح بتصوير تلك المسرحية، ثم اعترض قضائيا على عرضها على الشاشة. أما في عام 1931 فصور له أول سيناريو تحت عنوان «كوله فامبه – من يملك العالم»، وهو فيلم بروليتاري يعالج مشاكل العمال من بطالة وقوانين جائرة.. الخ. يعتبر برشت رائدا للمسرح السياسي تارة، والملحمي تارة أخرى، لكنه – في حقيقة الأمر – تأثر بتجارب رائدة لكل من المخرجين الكبيرين أروين بسكاتور وماكس راينهاردت، مما جعل الآراء تختلف كثيرا وتتناقض حول برشت وأعماله. أسهم في هذا هجرته من ألمانيا بسبب مناوأته لهتلر والنازية، وأقام لفترات قصيرة في عدد من البلدان الأوروبية، كسويسرا والسويد والدانمارك وفنلندة، ولكن المقام استقر به عدة سنوات في الولايات المتحدة منذ عام 1941 حتى اضطرته الحملة المكارثية ومثوله أمام لجنة النشاطات المعادية لأمريكا الى العودة الى بلاده والأستقرار في برلين (الشرقية) مديرا لمسرح قديم يدعى "البرلينر أنسامبل. ظلت أعمال برشت مثار جدل كبير، وثم تعرض في ألمانيا الغربية والنمسا وسويسرا لمدة طويلة بعد وفاته. وتجربة برشت الأمريكية – بالرغم من احباطاتها – أحد مواضع الجدل الرئيسية، إذ لماذا اختار برشت أن يهاجر الى لوس انجلوس، ثم الى نيويورك، ولم يختر أن يهاجر – وهو الشيوعي الملتزم. الى الاتحاد السوفييتي؟ ثم لماذا حاول أن يعمل في هوليوود وفي طموحه كسب المال، بينما كان ينتظر منه التضحية والتقشف من أجل الدفاع عن تجريبه المسرحي؟ وكثيرا ما حفلت آراء برشت بالغرابة، وامتزجت بسخرية جارحة من المسرح في الأزمان الماضية والحاضرة في أيامه. كما كثيرا ما أشيع عن برشت أنه لم يكتب مسرحياته الكبرى بنفسه، بل اعتمد تارة على اقتباسات من شكسبير ومارلو وجون غاي. وتارة أخرى على عشيقات يجدن مهنة "الدراماتورجي" كن يكتبنها له. واذا كان هذا الرأي يتضمن إجحافا بشأن موهبة برشت، فإنه لا يفيد الانكار أنه كاتب يصدق عليه قول ت.س اليوت. "الكتاب متوسطو الموهبة يستعيرون. أما الكتاب العظماء فيسرقون".
من جهة أخرى لا شك أن حياة برتولد برشت السرية. وعلاقاته الجنسية المتعددة. تضمنت نساء متمرسات في الأدب منهن روث بيرلا ومارغريت ستيفن واليزابيث هاوبتمان، يعتقد أنهن أسهمن بقسط وافر في اقتباس "أوبرا القروش الثلاثة" وبعض مسرحياته البارزة في حقبة اقامته بأمريكا. وصدرت كتب في هذا الاتجاه، منها كتاب جديد لجون فوجي، وآخر قديم لرونالد غراي، وكذلك مسرحية للبريطانى كريستوفر هامبتون عنوانها "برشت في هوليوود" سبق أن قدمتها "الفرقة القومية الملكية البريطانية على مسرح "أوليفييه" عام 1983.
كانت بداية تعرفي كمؤلف وناقد مسرحي شاب على مسرح برشت منذ منتصف الستينات، حين كنت ما أزال طالبا يدرس في "جامعة دمشق" الأدب الانجليزي ويهتم بأحدث صرعات المسرح خصوصا تلك السياسية الملتزمة ذات البريق الآسر لأمثالنا من الشباب. إذن. بدأ اهتمامي ومتابعتي لبرشت بشكل نظري بحت، من خلال الترجمات والكتب. المقالات، وذلك ضمن شغف أوسع بالمسرح عامة، من كلاسيكياته الى واقعياته، حتى لا معقوله وملحميته المعاصرة. لم يكن متوفرا بين أيدينا آنذاك سوى مسرحيتين لبرشت بالعربية ترجمها عبدالرحمن بدوري هما "الانسان الطيب من سشوان" و"الأم كوراج". (وقد تناهى إلى بعدئذ كثير من النقد حول سوء الترجمة). ولكن مجلة "المسرح" التي كان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور رشاد رشدي، نشرت عديدا من المقالات عن مسرح برشت. ولكن، للأسف الشديد، عاش معظم المؤلفين العرب بسبب تأثرهم النظري عن بعد عبر ناقلي ومترجمي برشت نوعا من الضياع، إذ فهموه بشكل محدود كداعية سياسي ملتزم ومباشر، ولم يتفهموا رؤيته المسرحية المجددة والممتعة، وهي رؤية فنان وشاعر منشق على التقاليد الغربية الراسخة، يهدم من أجل إعادة البناء. باختصار، لم يكن متاحا لنا كمسرحيين من الوطن العربي سبل التعرف الحقيقي اللصيق على فن برشت، سوى عبر المرجعيات الأكاديمية التي كثيرا ما أساءت تأويل آرائه. وبرتولد برشت نفسه – مثل كثير من المبدعين – اكتشف عبر تجربة الخطأ والصواب أن النظرية أحيانا شيء، وتطبيقها شيء آخر. وأسهم في ذلك الضياع الذي تعرضنا له كمسرحيين من العالم الثالث تلك المراجع الأجنبية باللغة الانجليزية، خاصة وبعضها كان مشيدا ببرشت فيما كان الآخر مفندا له. وغدت صورة الرجل وأعماله مضطربة ومهزوزة: أتراه داعية للشيوعية بجفاف وصرامة، أم تراه فنانا مسرحيا لم يخل من تجريب وفوضوية ؟ وبدأت اكتشف منذ تلك الأيام أن إعجاب الأوروبيين ببرشت خاصة لم يكن بسبب "واقعيته الاشتراكية" بل بسبب تحطيمه للسائد في الأعراف الأوروبية للفن شكلا وموضوعا. اختار برشت أن ينزل الى قاع المجتمع، وأن يناصر العدالة الاجتماعية وأن يسخر من الأغنياء. كان بعض خير من كتب عنه بالانجليزية آنذاك كل من البريطاني مارتن ايسلن، والأمريكيين اريك بنتلي وجون ويليت. وذات مرة، شاهدت عبر التليفزيون البريطاني مقابلة أجراها الناقد الشهير كينيث تينان مع النجم العالمي ريتشارد بيرتون – وكلاهما رحل عن عالمنا – فانتقد بيرتون فظاظة برشت وأعرب عن نفوره منه، بينما أشاد تينان به وبفنه في معارضة مريحة للنجم الكبير.
وأخذت عروض مسرحيات بوتولد برشت تتوالى على المسارح العربية، وبعضها كان عبارة عن اقتباسات وليس تعريبا أمينا تماما للأصل، مما جعلها أفضل نجاحا في التواصل مع الجمهور، خاصة في سوريا والعراق ومصر ولبنان. قدم "المسرح القومي" في اعقاب حرب 1967 من اخراج د. رفيق الصبان مسرحية "بنادق الأم أمينة" كاقتباس عن "بنادق الأم كاوار"، وكان اختيارا موفقا وذكيا لمسرحية قد لا تمثل نظريات برشت حول التغريب بقدر ما تلبي حاجة وطنية عاطفية وتحريضية حارة وواهنة. كذلك أعد وأخرج الفنان اللبناني المغرم ببرشت جلال خوري "شفايك في الحرب العالمية الثانية" فجعلها "جحا في الخطوط الأمامية" محرزا بها نجاحا مشهودا ناجما عن كونه واكب الشكل مع المضمون، واستخدم أقنعة عملاقة ذات أثر مشهدي مبهر، ربما لأول مرة على الصعيد العربي. أما في مصر، القطر العربي العريق في مواكبته لأحدث تطورات المسرح العالمي، فقدمت "دائرة الطباشير القوقازية" من إخراج المخضرم سعد أردش مع خبير ألماني ضيف، وذلك في محاولة لمحاكاة أمينة لنمط برشت المسرحي كما يقدم في ألمانيا. ولعب بطولة العرض فنانون متميزون، مثل سميحة أيوب وشفيق نور الدين وصلاح قابيل وغيرهم. أما في العراق فظهر اقتباس بارع لمسرحية برشت "السيد بونتيلا وتابعه ماتي" تحت عنوان "البيك والسائق" أخرجه الفنان القدير الراحل ابراهيم جلال، وتقاسم بطولته فنانان كبيران هما يوسف العاني وقاسم محمد في مواجهة رائعة بين أسلوبين من الأداء. وفي سوريا أيضا، قدم المخرج يوسف حرب "الكوراسديون والهوراسيون"، ولكن العرض لم يكلل بالنجاح.
والواقع يقول: تزايد تأثير برشت بحيث انتقل من مجرد انتاج مسرحياته باقتباسات معربة بيئيا الى تأتي عدد من الكتاب العرب البارزين به، ومحاولة مجاراته أو تقليده على نحو أو آخر، خاصة في الفترة ما بين حربي 1967و 1976. ويبدو أن برشت بدا بأسلوبه المسرحي وكأنه "الخلاص" من أزمة المسرح الكلاسيكي المخيبة للآمال مثلما كانت محبطة الوقائع التي بددت وعود الساسة وخطبهم الهادرة. واتخذ شعارات "المباشرة"، و"التعليمية" و"التسييس" بريقا خاصة في أعين شبان المسرح آنذاك، وأخذوا يتبنونها ويدافعون عنها. ولا أكاد استثني مؤلفا مسرحيا عربيا في أواخر الستينات ومطلع السبعينات لم يقع تحت تأثيير برشت بصورة من الصور. أذكر منهم في مصر، على سبيل المثال وليس الحصر الفريد فرج، محمود دياب، صلاح عبدالصبور، ميخائيئل رومان، نجيب سرور، سعد الدين وهبة، وحتى رشاد رشدي المشهور بعدائه للماركسية. أما في سوريا، فتأثر ببرشت كل من: سعدالله ونوس، ممدوح عدوان، فرحان بلبل، وكاتب هذه السطور. ولكن الزمن وحده كان كفيلا بغربلة ذلك التأثر، بحيث فرزت الجواهر من الشوائب، واتخذ التأليف على النسق البرشتي طابعا أكثر صحة أصيلة في بعض المسرحيات وفضح بعض الأدران الهجينة التي علقت بأخرى.
لم يتح لي، شخصيا أن أصحح كثيرا من مفاهيمي المشوشة حول برشت ومسرحه إلا عندما بدأت جولاتي المتعددة في الألمانيتين بزيارة لبرلين الشرقية دامت شهرا كاملا، تعرفت خلالها عن كثب ولأول مرة ليس على عروض "البرلينر أنسامبل" فحسب، على امتداد التأثير البرشتي الى بقية المسارح الألمانية، وحتى الى العروض العالمية التي شاركت عام 1974 في "مهرجان برلين الدولي للمسرح". ولا شك أن مشاهداتي لعديد من العروض آنذاك، وحواراتي مع عديد من المسرحيين الألمان والأوربيين منذ ذلك الوقت، صححت كثيرا من وجهات نظري كمؤلف وناقد عربي ما لبث أن أصبح مخرجا أيضا. وكانت انطباعاتي عن أثر برشت متباينة حسب "متحفية" أو "تحرر" المقاربة، بعضها سلبي والآخر إيجابي.
كان يخيل الي، آنذاك، أن كل المسرح الألماني الحديث "برشتي" وأن "البرشتية" عبارة عن قانون صارم من سماته المباشرة التعليمية. والتسييس الجاف، والخطابية الفجة. لكن تعرفي العملي على برشت عن كثب بدد كثيرا من أوهامي. رأيت في المسرح الألماني غنى وتنوعا، يتراوح بين متحمسين لبرشت مثل البروفيسور ارنست شوماخر، أو متحفظين تجاهه مثل راينر كيرندل. وشاهدت بأم عيني في "البرلينر أنسامبل" عددا من أشهر مسرحيات برشت بإخراجات بعضها يعود الى أيامه، وبعضها الآخر على سبيل الاحياء من قبل مخرجين يحاولون عصرنته، أذكر منها "أوبرا القروش الثلاثة" لانجل، و"الأم" في احياء لروث بركهاوز وهي زوجة أحد الموسيقيين الذي عملوا معه عن كثب، وخلفت في إدارة مسرحه زوجته الممثلة ذائعة الصيت هيلينا فايغل، ثم لاحظت تأتير برشت حتى على إخراج مسرحية لشكسبير مثل "ريتشارد الثالث" التي شاهدت إخراجا فذا لها على يد مانفريد فيكفورث، وأداء بارعا للممثل فلمر تاته، كما لاحظت تأتير برشت حتى على الأوبرا من خلال إخراج بركهاوز نفسها لأوبرا "حلاق اشبيليا"، ثم تأثيره أيضا حتى على المسرح التجريبي في "الفولكس بونه" الذي كان يديره بنه بسون مقدما عديدا من الأعمال القصيرة التجريبية للغاية مع تلامذته ومريديه الشباب. وكما شاهدت في مسرح "البرلينر انسامبل" مسرحية لمؤلف تأثر ببرشت هو مثل هاينر مولر في "الأسمنت"، وشاهدت مسرحية "يقظة الربيع" لمؤلف تأثر برشت به هو التعبيري الألماني الرائد فرانك فيديكند، شاهدت عروضا مسرحية جعلت "البرشتية" تسري في حركة المسرح الحديث برمتها، مثل إخراج أستاذ التمثيل الراحل رودولف بنكا لنص بابلو نيرودا "جواكان مورييتا" مع طلبة معهد برلين المسرحي قبل أن ألتقي به مدرسا زائرا في معهد دمشق المسرحي بعدها بنحو عشر سنوات.
بعدها بسنوات أتيحت لي فرصة زيارة الألمانيتين عدة مرات، كنت أتأكد في كل منها من استمرارية جوهر ما سعي اليه برشت، وانحسار قشوره الآنية، في الغرب كما الشرق على حد سواء. ولم أجد الاختلاف السياسي عائقا أمام الاحتفاء ببرشت حتى في الغرب. ففي هامبورج بألمانيا (الغربية) شاهدت عرضا ممتازا لمسرحية "السيد بونتيلا وتابعه ماتي" على مسرح كبير، لم يشوه فكر برشت، بل كثف عمله بصورة جعلته أقل مللا، وأشد امتاعا. وفي لندن لا أنسى ذلك العرض المدهش من قبل "الفرقة القومية" لمسرحية "غاليليو" من اخراج المخرج الكبير جون ديكستر، الذي حافظ على الرؤية الشكسبيرية شكلا ومضمونا، وقاد النجم المسرحي مايكل غامبون لأداء رائع للدور الرئيسي. وبالمناسبة، هناك عديد من المخرجين البريطانيين الذين تأثروا بنظريات برشت، فانعكست عبر أعمالهم، ومنهم: وليام (بيل) غاسكيل، يبتر جيل، وهوارد ديفيز. ولا ننسى أن برشت أحد أشد من أسيء اليهم بأدلجتهم أكثر من اللزوم، حتى أن الاهتمام ببرشت نقديا وتاريخيا في بريطانيا والولايات المتحدة من قبل نقاد ومسرحيين متحمسين له قوبل بحملة تشكيكية من الكتلة الشيوعية حول كون هؤلاء يحرفون برشت ويفصلون الشكل عنده عن المضمون بقصد التخريب والتشويه المتعمد، وهو أمر غير صحيح طبعا. كان برشت شاعرا فوضويا، ومحبا لمتع الحياة الدنيا. نظريات برشت لم تصمد بالتأكيد في عاصمة المسرح المغرمة بستانسلافسكي الى درجة الهوس، ومنها آراء برشت حول "تغريب الممثل"، وحول مخاطبة العقل لا استثارة العاطفة، وعندما قامت هيلينا فايغل بأداء شخصية الأم "كوراج" في مسرحية برشت الشهيرة. فوجيء برشت بأن الجمهور يتعاطف معها، رغم أنه قصد أن يدينها، فحاول إضافة لمسات أدائية واخراجية كجعلها تحمي النقود في لحظة يفترض فيها أن تكون حزينة لمصرع أحد أولادها في الحرب، لكن ذلك كان من قبيل التحايل على التأثير الحقيقي للعمل، وهو تأثير تباين بين الابداع والتنظير.
برشت بالنسبة لي مثله مثل شكسبير وستانسلافسكي، رجل أبدع ما هو مغاير وطليعي في عصره، وعلينا هضم روحه وليس تفاصيل شغله، بمعنى تفكيك إبداعه لاعادة بنائه ضمن معطيات وظروف وبيئات وازمان متباينة، بل إنني أشبه برشت كثيرا ببرنارد شو، الذي كانت مقدماته النظرية تحمل ما لا تتضمنه مسرحياته، والعكس صحيح، ولا شك أنه – رغم ذلك – بقي من شو كما من برشت جانب خالد. ولكن الأخير بلا شك، عانى من تبدل جوهري في الموضوعات والأفكار بعد انحسار الشيوعية جعلت عددا لا يستهان به من نصوصه غير مناسب اليوم.
وحدها مسرحياته الخالدة هي التي صمدت، مثل "غاليليو"، "السيد بونتيلا وتابعه ماتي"، "الانسان الطيب من ستشران"، "رؤى سيمون ماشار"، "الأم شجاعة"، و"أيام الكومونة". أما "دائرة الطباشير القوقازية" التي تشكل عند بعضهم ذروة فنية لبرشت، فرغم جودتها الفنية، اختلف معها فكريا، إذ أنها تعرض بصورة متحيزة موضوعها عن النزاع بين الأم والمربية على الطفل، طارحة التساؤل حول لمن تعود الأحقية في الأرض، لمن يملكها أم لمن يستصلحها، فتبرر بإسقاط (سمعته يردد في لندن ذات مرة إقامة دولة عنصرية معتدية كاسرائيل).
بحثت في العام الفائت كثيرا عن مسرحية أخرجها لبرشت بمناسبة مئويته، وفوجئت لدى إعادة قراءته أن عديدا من نصوصه لم يعد مناسبا. بينما وجدت بعضها القليل رائعا. ومن هذا القليل، اخترت "رؤى سيمون ماشار" التي سأعمل على اعدادها لغويا فقط الى لهجة محكية قابلة للتمثيل الواقعي، دون المساس بزمانها ومكانها، لهذا، ففي رأيي، ليس صحيحا على الاطلاق وجوب الأخذ بالشكل والمضمون عند برشت كوحدة لا تتجزأ، أو التعامل معه بصورة متحفية. اليوم، قد نجد المضمون أضحى بائدا في بعض أعماله التعليمية، وقد نجد حداثة المسرح الطقسية والجسدية تجاوزت بعض وجهات نظره الشكلية. ولكن المهم والباقي من برشت هو أثره العميق على المسرح العالمي، الذي قد نلمحه في إخراج "ميوزيكل" أمريكي أو بريطاني بعيد عن مضامينه، أو في مسرحية تجريبية هدفها تقديم أمثولة أو معالجة تسجيلية لقضية ساخنة. تنحدر أهمية برشت وعظمته من كونه فنان مسرح متكاملا، أي مؤلفا وناقدا ومخرجا، بحيث شق سبلا رائدة للاخراج، وفتح دروبا جديدة تماما في التأليف الموسيقي (عند هانز آيسلر وكورت فيل وبول ديساو) وألهم مصممي الديكور والأزياء، وغير جذريا من إيهام الاضاءة في المسارح الكلاسيكية. في اعتقادي إنه دون رائد كبرشت لم يكن ممكنا ظهور مخرجين مثل بروك أو شتاين أو منوشكين، أو منتج ميوزيكل مثل هارولد برينس أو عديد من المؤلفين البريطانيين المعاصرين مثل جون آردن وادوارد بونا، أو الألمان كهاينر مولر.
برشت، بلا شك أثر كثيرا ؤ المسرح العربي، أحيانا بصورة إيجابية، وأخرى بصورة سلبية أولئك الذين هضموا نظرياته وتشلوها محليا بإبداع وأصالة وانتقائية أفلحوا في إحياء برشت من خلال أعمالهم تأليفا أو اخراجا أما أولئك الذين حاولوا نقله حرفيا بشكل مدرسي فأساؤوا اليه من حيث لا يدرون، إذ أن برشت نضج مع التجربة وبعودته للاستقرار في برلين الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية طور مسرحه ليتفاعل مع بقية الاتجاهات العالمية، وليبلغ به مستوى عالميا راقيا ورفيعا، ترك أبلغ التأثير في تفاعله مع بقية النظريات السائدة في عصره. إن من يسيء الى برشت من غير قصد هم أولئك الذين يتعاملون معه بصورة متحفية، ويعتبرونه ألمانيا. أما من يمجدون برشت حقا فهم أولئك الذين يتخذون من مقاربته لفن المسرح إلهاما ويعتبرونه ملكا للانسانية جمعاء، في عام 1955، استقبلت فرقته "البرلينر أنسامبل" بحماس فائق في باريس. وفي عام 1960 توفي برتولد برشت بينما فرقته تستعد لزيارة لندن. وتمت الزيارة بدوي هائل رغم هذا، لتتكرر ثانية في عام 1965. ومنذ ذلك الحين. بدأ تأثير برشت يتخذ بعدا عالميا، هو ما جعله يحظر بمكانة هامة رغم أن أفول الأفكار السياسية التي كان يعتنقها.
رياض عصمت (كاتب من سوريا)