تشكل رواية "جنوب الروح" فضاء خصبا لتمفصل موضوعات تحلينفسية وأخرى اثنولوجية بكيفية تتيح القول مع فرانسوا لابلانتين: "إن ما يقوم به الكاتب (الروائي فعلا) هو تحليل ظواهر بهدف ان يستخلص منها قوانين عامة مفسرة للسلوكيات البشرية" والتأكيد دون مجازفة بأننا أمام تحليل نفسي واثنولوجيا عفويين. ذلك ان ما يعسر معاينته في الواقع وما لا يتوصل اليه الا بمجهود فكري شاق تمنحه الحكاية بمنتهى التلقائية.
1- في البدء كانت الكلمة:
يحتل الموت في "جنوب الروح" مكانة مركزية بحيث لا يطال عددا من الشخوص فحسب، بل ويمتد ايضا الى المكان نفسه، ولهذا الموت علاقة سلبية بالرغبة،ذك ان رغبة الفرسيوي الأكبر في عودة السلالة الى دوار "بوضيرب" ورغبة بعض شخصيات الرواية مثل محمد الفرسيوي وسلام في العودة الى المكان نفسه، كلتاهما لم تتحقق، اي خلل كان يتضمنه «نسق بومندرة» بحيث الى الى الانقراض ؟ لماذا لم تتحقق تلك الرغبة ؟ ايكون مصير «بومندرة» متضمنا في "الأمر" الذي تلقاه الفرسيوي من أخي الأكبر. بحيث لم تكن الوقائع اللاحقة سوى اخراج (mise en scéne) لهذا القانون ام ان كلمة الأخ الاكبر نفسها تتضمن خللا بحيث تعذر كل ايصال ؟ ما دلالة الموت المعمم في الرواية ؟
للوهلة الاولى، يبدو هذا التلاشي انعكاسا لمشكلة الخصوبة، يحفز على هذا التفسير هيمنة تيمة الجنس بحيث يمكن اعتبارها أحد الخيوط الرفيعة الفاظمة للحكي، الجنس باعتباره سلوكا متعيا، لكن ايضا- بل وربما اساسا- سلوكا بيولوجيا يؤدي وظيفة استمرار النوع من خلال التكاثر والتوالد، لكن فيما وراء هذا التأويل، يمكن افتراض أن "مشكلة" بومندرة هي مسالة ايصال ثقافي بالاساس، إننا نصوغ هذه الفرضية انطلاقا من تأكيد نيكول لورو تقول فيه «استنساخ المثيل يمنع كل ولوج للآخر»(1)، ونرمي من ورائها الى اختبار نموذجي الايصال كما صاغهما فرويد.
2- الموت والخصوبة:
يمكن القول ان نسق بومندرة اوشك على التوقف عن الاشتغال بسبب افتقاده لعنصر الخصوبة، صارت الأمور تسير على نحو إما يكون هناك افراط جنسي او قحط جنسي (2):
1- الانقراض باعتباره مشكلة خصوبة: ويأخذ شكله الأسمى في ربط الجنس في مستل الرواية، بفصل الربيع الذي بات معروفا ان العديد من الشعوب القديمة كانت تقيم فيه طقوسا جنسية متهتكة لاثارة خصوبة الطبيعة (3). فالفصل الأول يورد وصفا لأشغال زراعية تهيمن عليها النكهة الجنسية بما يوحي أننا عن أبواب ولادة أو ولادات كبرى:
"(…) وقال (الفرسيوي) في نفسه: هذا هو عبير الربيع، فصل اللقاح والاضطراب والشهوة، وابتسم وهو يفكر في الشبان الذين ستلقحهم الشمس بعد قليل وهم ينقلون احزمة العشب الفواحة أو ينكفئون على الأرض الرهبة (…) كأنهم يقومون بكشف نعومة جسدها (…) ولن يستطيع الشبان ان يستسلموا لالتذاذاتهم الدفينة وهم يحزون العشب فتنبعث فى حركة المنجل رائحة فرجية لاسعة…" (ص 8).
غير أن الفرسيوي يموت في هذا الفصل بالضبط. اكثر من ذلك، عندما تتلمس هموشة أسفل سرته تجده أنزل اثناء احتضاره (ص11) وهموشة نفسها التي يمكن اعتبارها تجسيدا لاستيهام المرأة فائقة القوة الجنسية، لكونها "كانت لا تشبه من النكاح" (ص 76) هذا الاستيهام الذي مضى البعض، في دراسته لسياقات ثقافية مماثلة، الى حد التعبير عنه بـ "استيهام المرأة أدت الفرج المسنن [الذي له أسنان]" (4). هموشة هي الاخرى تموت في الفصل نفسه، في شهر ابريل (ص 143، 149) وحادة تشتعل رغبة بالجنس، لكن هذا الاشتعال يتم زمن احتضارها:
"… ثم لأمر ما صارت تتذكر كل حركات جسدها القديم بما في ذلك تلك الحركات العنيفة التي كانت تزلزل حوضها عندما يدخل علال بين فخذيها، فتندفع نحوه بهز متوتر تتألم له حتى نخاع اللذة، فكان هذا الاستذكار اللطيف يبعث نسمة ساخنة على اسفلها فتمد يدها هناك وتضغط ضغطا خفيفا مترددا…" (ص 136- 137).
للاشارة، فاننا نقف في هذا المقطع على أحد أمثلة ما صدرنا به هذه الدراسة،ونعني به عفوية تقديم الحكاية لما يتوصل اليه في حقول معرفية أخري، فقد اثبت بعض المحللين النفسانيين ان المرأة تظهر، لحظة احتضارها، اهتمامات كبيرة بالجنس:
"سبق لماك كليلاند ان درس هذا الاستشباحات الايروتيكية التي تنتاب بعض النساء لحظات الاحتضار واطلق عليه اسم "عقدة أرلوكان" فبين انهن كن، وهن على وشك مفارقة الحياة، مع علمهن التام بانهن سيمتن، يبدين انشغالات جنسية اكثر من جماعة أخرى من النساء يتلقين العلاج بالمستشفى كن بسبب مرض غر قات" (5).
– فرط الخصوبة: تصيب الخصوبة خللا ببومندرة عندما تتوافر لكنها تصاب بشلل اما لكون احد الزوجين يكون عاقرا، أو لكونه لا يضاهي الطرف الآخر في القوة الجنسية، وهكذا، فهموشة "لا تشبه من النكاح" وبإمكانها أن تلد "من شدة نكاحها مدينة كاملة" و«لكنها لا تلد» (ص 66)، وسلام ابن عم محمد الفرسيوي لم ينل السن من فحولته شيئا لكن زوجته لم تعد تشبعه لأن قوتها ربما خمدت:
"… أسر إليه سلام قبل خمس سنوات برغبة العودة للريف والتزوج هناك بامرأة صغيرة تقدر على المباشرة، لأن عمتك كنزة أوليدي لم يعد هناك أي فرق بينها وبين البقراج، لا لحم ولا حس كأنك تضربه في الرماد، ها هي هاي أعمى سلام، ومازال. فيك القابلية؟! فيجيب سلام ضاحكا: القابلية ؟ في القابلية والجاهلية والله أوليدي لا أضع رأسي على الوسادة حتى يصبح معي شيء كأنه محمي" (ص 35-36).
– فاقة الخصوبة: وتأخذ عدة اشكال: اما يكون الاشخاص مصابون بالعقم (زوجة الفقيه السي محند أو بناصر، وهموشة) او بالعجز الجنسي أو خمود الطاقة الجنسية (الفرسيوي قبل تجربته الربانية والعكيوي الذي "ينعظ في كل وقت إلا عندما يكون بين ساقي امرأة (ص 84) وزوجة سلام الفرسيوي)، أو العنوسة (يامنة، ونورية) او لكونهن يضعن رامزات بذلك الى الخصوبة، لكن ما ان يفعلن ذلك حتى يفارقن الحياة (فضيلة أم محمد الفرسيوي، نجمة أم نورية، والمجذوبة ام الفرسيوي الحفيد)، أو لكون هذا الشخصيات ترفض أن تخلف عقبا (الفتيه محمد أو بناصر (ص 130)، ومحمد الفرسيوي نفسه (ص 93).
3 – رمزية اختفاء الفرسيوي:
بالنظر الى هذا الوضع يكتسي اختفاء الفرسيوي الملغز بعدا رمزيا فقد اختفى خمسة أعوام ليس بوسع أي أحد معرفة أين قضاها لانه تكتم عليها تكتما تاما، ناقلا حقيقتها الى عالم الى الموت نفسه، تاركا الجماعة متخبطة في تفسيرها الى أن وجدنا أنفسنا أمام أربعة تأويلات:
أ- رواية الخرسيوي نفسه: ينفي فيها نفيا تاما أن يكون تغيب هذه المدة زاعما أنه لم يختف إلا نصف ساعة (ص 24)، ولما أرادت هموشة معرفة ما جرى خلال كل هذه الحقبة: "قطع دابر أسئلتها بتهديد صارم إن هي خاضت معه مرة أخرى في هذا الموضوع" (ص 50)، بمعنى أنه استغل سلطته الأبوية ووضعه الاعتباري المتفوق على المرأة في منع كل بحث من حقيقة ما جرى.
ب- رواية يامنة: وهي الرواية التي اتبعتها الجماعة. تفسر الاختفاء باعتباره "تجربة ربانية": "روت يامنة أنها تبعت الفرسيوي منادية عليه بأعلى صوتها،فإذا البغلة تطير فجأة مثل نسر هائل وتختفي بالفرسيوي في عنان السماء. فسرت يامنة بعد ذلك ما رأته بكون الفرسيوي قد وقع على جنية فأغوته، وتبها الناس في هذا التأويل.
ج – رواية العجوز حادة: نقلتها عن حدو، وتذهب الى أن الفرسيوي قد عاد الى المكان – الأم، بوضيرب، وتزوج فيه بامرأة أخرى: "متى اختفى الفرسيوي مع الجنية؟ الجنية؟ الجنية هي بني آدم، تزوج في الريف والسلام (…) كيف يلد الرجل من جنية واش حمقتي؟" (ص 138)، "الرواية الأولى عن اختفاء الفرسيوي التي تقول إنه كان مجرد اقامة في الريف مع امرأة أخرى خلف منها ثلاث بنات، حدو هو الذي أتى بالحكاية من الريف فتلقفتها أمه وصارت لا تفتر عن روايتها (ص 139).
د- رواية محمد الفرسيوي: هي تركيب عن روايتي يامنة وحادة. قصها الفرسيوي الابن في حلقة بمكناس بكيفية تشبه الى حد ما نوع القصص الذي يطلق عليه في التحليل النفسي اسم "الرواية العائلية"، بموجب رواية الابن هذه، قد يكون الفرسيوي طيلة اختفائه، مر من تجربة زواج بجنية لم تمنحه فحولة جنسية مضاعفة فحسب، بل منحته أيضا تارة مجامعة ما شاء من النساء عن طريق الاستحضار. كما نقلته الى بوضيرب، لكنها سرعان ما أعادته الى بومندرة، واحتجبت عنه نهائيا لكونه طلب منها أن يتحول الى امرأة ويضاجع نفسه:
"صار الفرسيوي منذ ظهور سوالف مرة أخري مثل حصان جامح لا يقدر عليه إنس ولا جان. وسارت الجنية تأخذ له المرأة التي يشتهيها فينام معها ليلة كاملة وهو يقلب عليها في أنواع النكاح حتى يأذن يأذن الله بالصبح. فلم يترك امرأة في الريف و لا بومندرة. لم يترك امرأة يعرفها، ولا امرأة في الطريق فاستهوته إلا احضرتها سوالف على صورتها وطبعها وكلامها وحركاتها وسكناتها.
ووسوس الشيطان للفرسيوي فصار يطلب من سوالف العجب العجاب، وهي تقول له أنا بالله والشرع معك، ستسقط ذات يوم في المحظور، ولكن الفرسيوي كان لا يقف عند حد، فاستحضر نساء عائلته، وأخوات هموشة ونساء معارفه ونساء أولاد أخيه،وخالة له مات في الريف قبل الهجرة، ثم صار يشتهي غلمانا في السوق فيستحضرهم بسوالف، ويفعل معهم العجب العجاب، حتى كان أدت يوم يا حضار يا كرام، فطلب من سوالف أن تأخذ هيأته هو نفسه ولكن بجسد أنثى…" (مر 77-78).
نميل الى قبول الروايتين الثانية والأخيرة لأن ما يعبر عنه بـ"التجربة الربانية" يغدو في الواقع بمثابة «رحلة مساوية» أو "طقس مساري" (Rite initiatique) شبيه بطقوس التحقيق التي يمر منها الملك أو الشامان المبتدئين في بعض المجتمعات، والتي بعد أن يجتاز فيها المتعلم امتحانات عديدة تتوج بحصول تغيير في نظامه الحواسي وولوجه لابعاد أخري من الواقع (6). وموضوع التحليق السماوي الذي قام به الفرسيوي هو البحث، في العالم اللامرئي، عالم الجن والالهة عن القوة الجنسية الخارقة التي صار غيابها يهدد بقاء الجماعة، هو بحث عن الخصوبة المفقودة الأمر الذي تأتى له بحيث لم يستعد فحولته السابقة فحسب ("ومررت (الجنية) يدها على ذكره فصار مثل ذراع" (ص 77)) بل ونقل أيضا بالعدوى، على غرار ما يتم في السحر المعدي، هذه الطاقة المتجددة الى كل مخلوقات دوار بومندرة من بني الانسان والحيوان على السواء:
"لم يبق في الدوار رجل لم يباشر زوجته في ذلك الفجر،بل لم يبق حمار ولا بغل لم يضرب خلقته في أحشاء أقرب حيوان اليه، حتى أن ثور ولد السي حمو ظل اليوم كله ينكح الاتان المربوطة حتى قلنا هذا يوم القيامة" (ص 25).
ومع ذلك الى مصير بومندرة والعديد من شخوصه الى الموت، الأمر الذي يضمر أن سبب هذا الـ "موت" ربما يقع فيما وراء مشكلة الخصوبة، في استحالة ايصال ثقافي ما، يقوم على التكرار، وبالنظر الى وجود استمرارية معينة عبر حضور السارد، حفيد سلالة الفرسيوي، يمكن اضافة فرضية أخرى مفادها أن التلاشي المعمم في الرواية لا يدل على الفناء بقدر ما يؤشر بانخراط ما في حياة جديدة.
4- جنوب الروح ونموذجا الايصال الثقافي:
لدى تناول مسألة الايصال الثقافي ضمن إطار مرجعي انثروبولوجي، يكتسي قانون منع غشيان المحارم أهمية قصوى، فهذا القانون بمحتواه المزدوج متمثلا في اختلاف الجنسين واختلاف الأجيال، هو الذي يمنح للفرد هويته من خلال التقييد المزدوج الذي يطاله: كونه محددا باختلاف الأجيال ومحددا باختلاف الجنسين وبالنظر الى كيفية تعامل الثقافات مع مسألة الايصال، والى آراء فرويد نفسه في الموضوع،يمكن التمييز بين نموذجين للايصال: سياقات تسهله، تشجع على التجديد والحياة فيجد فيها الأنثوي مكانته،والابن كلمته بالقياس الى الاب، وسياقات تعرقله فيسودها التحجر والتكرار، ويقصى منها الأنثوي، فيما لا يتجاوز الوضع الاعتباري للابن مجرد نسخة للاب أو عائد للجد.(7)
فسن هذا المنظور،يمكن اعتبار الخيط الناظم للحكي في جنوب الروح هو كلمة الأخ الأكبر للفرسيوي التالية:
«إذا وصلت فاس فاسأل عن الطريق الى زرهون، فإذا وصلت الزاوية فاسأل عن أهل الريف، ستجد هناك شتاتا من بني توزين وبني ورياغل وقلعية وغيرهم.وقال: إذا كبر الأولاد فارجعهم الى الريف، «أمراسن أبريذ نبابا تسن» (عرفهم طريق أبيهم حيا أو ميتا» (الرواية، ص 41).
فهي كلمة موجهة من أخ أكبر الى أخ أصغر، في سياق ثقافي تقليدي يمنح للكبار سلطة على الصغار، مما يتيح امكانية اعتبارها بمثابة قانون للأب. والقوم الذين يؤمر بالاتجاه نحوهم قوم من الريف، مما يضمر أمنية ببقاء السلالة داخل عالمها الرمزي الأصلي نفسه، فضلا عن أن الاقامة في مكان الوجهة مهما طالت، فالمآل يجد أن يكون الى الأصل،والعبارات المستعملة هنا شديدة الدلالة: (التعريف -الطريق -الأب -الحياة – الموت)، بمعنى أن «قانون الأب» يراد له أن يكون من القوة والالزامية بحيث يتعال عن الحياة والموت. غير ان تطور وقائع الرواية سارت وفق اتجاهين متعارضين: الأول الامتثال الحرفي لهذا القانون، والثاني انتهاكا للاندراج في قانون آخر. وللتدليل على هذه الفرضية سنكتفي بتتبع بعض السلوكات الجنسية لعينة من الشخصيات.
أ- الايصال على نموذج التكرار:
يتجسد في تصرف مجموعة من الشخصيات منها: محند العكيوي، والفرسيوي الأب، ثم ابنه محمد الفرسيوي فالأول خانته الفحولة ليلة الزفاف، بمعنى انه لم يظهر رجولة، فصار أضحوكة بين أنداده ("وماذا نقضي بالبارود، والرجلة وبالك حيد إذا كنا لا نستطيع أن نثـقب امرأة ؟!" (ص 86). غير أنه سرعان ما حصل في المقابل على تعويض رمزي يتمثل فيما صار يحظى به من احترام لدى الجماعة نفسها تقديرا لما أبداه من شجاعة في محاربة الاستعمار.
والفرسيوي امتثل لقانون الأب فنزل الى ضاحية زرهون وأسس قرية «بومندرة». لكن الوضع الاعتباري لهذا المكان هو وضع مستنسخ للمكان الأصل (بوضيرب)، بمعنى انه مجرد محاكاة مؤقتة ينبغي أن تنتهي بالرجوع الى الأصل، وهو ما تم في رحلته المسارية التي عاد فيها الى الريف. واذا اعتبرنا الجن تعييرا عن رغبات مكبوتة (8)، أمكن النظر الى حكاية زواج الفرسيوي بسوالف،وما ترتب عنها من مضاجعته لنساء اقارب ورغبة في التحول الى امرأة بوصفها تمثيلا رمزيا لرغبة انتهاك قاعدتي غشيان المحارم واختلاف الجنسين. وهو سلوك يندرج ضمن بعض آليات اشتغال النسق التقليدي الذي كان يمجد العلاقة بين الأبناء والأبوين من الجنس المخالف (علاقة الابن بالأم، وعلاقة الأب بالبنت). وبذلك تكون شخصية الفرسيوي الجد خير من يمثل النموذج الايصالي الحالي.
في حين تلعب شخصية محمد الفرسيوي دورا مؤشرا على التحول من خلال التعارض الوجداني الذي طبع بعض سلوكاته: فهو حاول التماهي مع الأب عبر ايصال حكايات لابنه، وترك مساحة بيضاء في أحدى متوالياتها، ونقل الأصل مرموزا اليه بالدفتر الصغير الذي اعطاه للسارد، والاختفاء الملغز في نهاية الرواية على غرار اقتفاء ابيه خمس سنوات. لكنه في المقابل، سهل عملية ارساء قانون غشيان المحارم من خلال تصرفه لما علم ان ابنه كان يضاجع نفس النساء اللواتي كان يجامعهن هو. يقول الابن (الفرسيوي الحفيد):
"وساعدني المناخ الليلي لوالدي على الدخول الى عالم المرأة بلا صخب. وبدون عواطف مربكة، يخرج والدي فجرا، فتندس إحدى مومساته جنبي، وتأخذني برفق، فأنقاد لها آمنا غير مستعجل، حتى نفيء معا الى سكينة حالمة، وكان اكتشاف والدي لهذا الفردوس السري هو ما جعله يعود الى بومندرة فعل ذلك بانفعال شديد.." (ص 123-124).
وهذا الموقف هو الذي يضيء مجموعة من السلوكيات التي كانت صدرت عن محمد الفرسيوي ضدا على ضابط جماعة انتمائه، كزواجه من امرأة من الأباعد (المجذوبة المكناسية)، ورفضه مهنة فتيه أو الالتحاق بالقرويين لنيل العالمية،وادخال ابنه الى مدار الدراسة العصرية، فضلا عن معاقرته الخمر وهذا الابن في مكان واحد: "يصلني صوت الفرسيوي في الكونتوار رافعا عقيرته بالانشاد يخلط البردة والعاصمية وابن عاشر ومجموع المتون التي حفظها (…) تتعالى قهقهات اصحابه قصاصين وشعراء يتلهون بفقيه يضرب الطاسة، ويحفظ المتون…" (ص122).
ب – الايصال على نموذج الانفراط في دورة الحياة والتجديد:
غير أن دور التحول هذا يتأصل في سلوك ثلاث شخصيات أساسية: هن هموشة ويامنة، وحادة ليتبلور اخيرا في شخصية السارد (الفرسيوي الحفيد). فقد كانت الأولى على علم تام بحقيقة الاقامة المزعومة لمحمد الفرسيوي في الريف، أي على علم بانه فيما كان يدعي انه يسكن في بوضيرب لم يكن في الواقع سوى حلايقي يزاول مهنا وضيعة في مدن مكناس والرباط والبيضاء. بل لقد تواطأت معا الى حد إمداده بكل المعلومات الضرورية لنجاحه في التمويه على الجماعة طيلة عشرين سنة «في ظل مؤامرة محكمة التدبير لا يعرفها سواهما، بدون ثرثرة زائدة ولا محاولة للفهم» (ص 149).
اما يامنة، فأشرت على التحول من خلال استغلال بعض آليات اشتغال النسق التقليدي نفسه للتصرف بطرق لا تنسجم وضابط الجماعة. ذلك أن سلوكها يندرج في نظامين: أحدهما متخيل، تشاطرها فيه الجماعة بمقتضاه قد يكون احد الفقهاء صنع لها ثقافة،الامر الذي اتاح لها البقاء في عنوسة مزمنة والتحول الى امرأة في خدمة الجماعة، والآخر واقعي يتيح فهم عنوستها باعتباره تمردا على الوضع الاعتباري للمرأة الذي يجعل منها مجرد أداة للنكاح والانجاب:
"قررت بينها وبين نفسها الا تتزوج أبدا الا اذا كان العويس شابا ناعما من فاس. وعبثا كانت النساء تلوحن لها بضعف رجال المدن كانت ترد غاضبة بانها لا تريد مثلهن حمارا يملأ احشاءها بشيئه الضخم" (ص 19) "تقصدها النساء للبوح باسرارهن الزوجية فكان ذلك يمكنها من إثارة الموضوع مع الرجال رأسا لرأس، فتطلب من احدهم مثلا أن يمارس الجنس مع زوجته في وضع معين تكون زوجته قد تمنه على يامنة، أوتطلب من أحدهم تطويل مدة المباشرة، (…) اكتسبت من كثرة الخوض في الموضوع خبرة كبيرة مكنتها من ابتكار سبل غريبة لتقوية الشهوة، وتصحيح الذكر، وتهييج فرج المرأة، وابطاء الانزال، وتسريع وصول المرأة (…) ولا شك أن عالم الحب في الدوار قد عرف على يدها، هي التي لم تذق له طعما أبدا، تقدم خارق جعل يامنة نفسها تقول ذات يوم لعروس جديدة بكت بين يديها كثيرا مشتكية من عنف عريسها وضخامة ذكره: سأجعله لك مثل حمامة بذكر حمار!" (ص 1711).
في حين يندرج سلوك حادة في النمط الايصالي الحالي من خلال ربطها لعلاقة جنسية مع الفرسيوي الجد خارج مؤسسة الزواج، والاشادة بسلوك جنسي غير مألوف من المرأة في المجتمع التقليدي فضلا عن صياغتها لخطاب "عقلاني حول شخصيتين تنتميان الى جيلين من سلالة الفرسيوي:
"العام الذي هجم فيه التيفوس الى الدوار تزوجت فيه فاطمة،ولم تكن بكرا ولكنها كانت مثل سبع، عندما رأت زوجها يهم بالقيام عنها فتحت سكينها "بونقشة" وأمسكت بذكره مهددة "ما جا تسخذ الدم أش أويخ الدم ! (اذا أردت الدم أجيئك به) هيء،هيء، هيء، هيء الله يعطيها الصحة، متى اختفى الفرسيوي مع الجنية ؟ الجنية الجنية هي بني آدم،تزوج في الريف والسلام. ومحمد الفرسيوي ألم يتزوج جنية هو الآخر؟ كيف يلد الرجل من جنية واش حمقتي؟ ومن خطف عقله إذا لم تكن الجنية، خطفة السحر والجري وراء الكنوز والنساء.." (ص 138).
ومع الفرسيوي الحفيد نقف على خطاب "عقلاني" ليس عن قصة أبيه فحسب، بل وكذلك عن حكاية النزوح بكاملها بخصوص الأولى يقول: "لم تكن المجذوبة" سوى بنت يتيمة خف عقلها في دار الباشا حمو، من كثرة ماعذبها الشغل ومكائد النساء،والشبق المؤذي لصبيان الباشا. فهامت على وجهها يسلمها بر الى بر،وبحر الى بحر. والرجل لم يكن سوى فقيه دوخته الأحاجي وهشاشة سلالة أضنتها الهجرات والأحلام الموؤودة. فهام على وجهه باحثا عن سكينة" (ص 116-117). وبخصوص الثانية يقول: "وفجأة بدا لي الأمر في غاية السخافة. فهذه القضية كلها بأحلامها، ورحلتها وتهاويمها لا تساوي بصلة فأحري أن تساوي جلسة في مقهى باليما، بجرائدها ومتسوليها ونجومها البالية" (ص 162). ومعنى ذلك أن الايصال على النمط التكراري صار مستحيل التحقق. وهنا تأخذ إحدى الجمل الواردة في مستهل الرواية معناها الممتليء: "لا يرجع شيء يذهب أبدا" (ص 25).
خلاصة:
بقدر ما تتيح رواية "جنوب الروح" الوقوف على نموذجي الايصال الثقافي: التكرار داخل الديمومة والتجديد داخل الحياة وفهم التلاشي المعمم الذي عرفه فضاء بومندرة باعتباره لوجا لدورة حياتية أخرى، تفتح الرواية نفسها امكانيات للتساول: اذا كان حظ النساء من التأشير على التحول والتغيير أكبر من حظ الرجال، في الرواية على الأقل فهل معنى ذلك أنهن محركات هذا التجديد ؟ واذا كان الأمر كذلك، فكيف ننظر الى وضعهن الاعتباري في المجتمع التقليدي كما ترسمه الأبيات الشائعة في هذا الباب؟
الهوامش:
* محمد الأشعري، جنوب الريح البيضاء منشورات الرابطة، 1996 (174 ص)
1- عن: Gilbert Grandguillaume, “ La raltion pére-fils dans L’Amour, La Fantasia d’Assia Djebbar et Bandarshah de Tayeb Saleh”, in Littératures Maghrébines, vol. 10. tome 1, pp 167-173, Paris, L’Harmatan, 1990.
2- التصنيفات التي نسوقها هنا تبقى مغرقة في الامبريقية، ذلك أن تعميق تحليل هذا الجانب، ضمن إطار مرجعي ملائم، يمكن أن يفضي الى خلاصات أعمق.
3- حول هذا الموضوع يمكن العودة على سبيل المثال، الى فراس سواح، "الايقاع الجنسي في أسطورة الشرق القديم"، ضمن مجلة المعرفة (السورية) العدد 188، تشرين الأول (اكتوبر)، 1077،ص 17-35.
4- N. Plantade, la guerre des femmes, magie et amour en Algérie, Paris, La Boite á Documents, 1988, p. 57.
5- R. Menahem, La mort appivolsée, Paris, Editions Universitaires, 1973, p. 89.
6- M. Eliade, Le chamanisme et les techniques archaiques de l’extasem paris, Payot, 1983, pp 160-165.
7- جلبير غرانغيوم، مرجع سابق.
8- Freud, Essats de psychanalyse appliquée, Paris, Gallimard, Coll. Idées, 1933, p. 212.
محمد أسليم (كاتب من المغرب)