في عيده الستين الذي صادف منتصف العام الماضي كتب الشاعر محمود درويش مهنئا صديقه الشاعر سميح القاسم قائلا:
لقد "بقيت أكثرنا فتوة، فتى في الستين، أو طفلا في الستين، ولكن قل لي: متى غافلت نفسك وغافلتنا، وبلغت الستين، وهل يكبر الشعراء الذين لا مهنة لهم الا تجديد شباب اللغة وفتوة الامل، وصيانة الروح من الصدأ والملل؟)".
وأضاف درويش بأننا "نجد في ديوان سميح صورة الشعر العربي وخصوبة أسئلته عن تطوره الدائم" فهو "لم يصغ الى اغواء حداثة تضع الشاعر نقيضا لخارجه. لم يقبل بوضع الذات نقيضا للعالم" واعترف: "وكم كنا نتنافس. كم كان كل واحد منا يتعلم من تجربة الآخر، ومن موقع صوته المختلف لتطوير قصيدته التي كان يصعب عليها عدم الاصغاء الى أختها" وتساءل درويش: "على ماذا نتنافس الآن، وأنت تناديني الى الستين كما قليل؟ وماذا تصنع الديكة في مثل هذا العمر، غير ان تتذكر ريشها المنتوف"؟
واعتبر القاسم، فيما يشبه الرد على صاحب "سرير الغريبة" أن ثمة "ثنائية في القضاء والقدر والليل والنهار والحياة والموت ومحمود وسميح" موضحا: "اذا كان محمود قضاء فلا فكاك لسميح من أن يكون قدرا.. وهكذا سميح الليل ومحمود النهار.. ومحمود الحياة وسميح الموت".
واعترافا بدور القاسم الريادي في اثراء الشعر العربي، منحته فلسطين جائزتها أواخر العام الماضي، في خطوة عنت لصاحب "خذلتني الصحاري" بأن "فلسطين أصبحت حقيقة سياسية على خارطة الكرة الأرضية، لا مجرد ثورة أو قضية أو حلم".
سمير القاسم اختار الاقامة – على الدوام – بجوار "دخان البراكين" فكار عرضة للسهام ومثارا للاسئلة والاتهامات التي واجهته "نزوى" ببعضها في الحوار التالى:
* منحت جائزة فلسطين مؤخرا بوصفك أحد الذين أثروا القصيدة العربية الحديثة. ماذا يعني لك هذا التكريم، وهل جاء متأخرا؟
– الأهم من الجائزة نفسها هو أنه أصبر في مقدور فلسطين أن تقدم الجوائز.
فلسطين أصبحت حقيقة سياسية على خارطة الكرة الأرضية، لا مجرد ثورة أو قضية أو حلم، والمغزى الآخر لهذه الجائزة هو الاصرار على دحض القرية عن استحالة الصداقة بين شاعرين عربيين، هذه القرية التي تسلى بها ويتسلى كثيرون من أشقائنا القاعدين على رصيف اللغو، فرئيس لجنة التحكيم هو محمود درويش، ومن الطبيعي أن أعتبر الجائزة مناصفة معه وبمشاركة جميع الإخوة الشعراء العرب الذين تألق حبرهم بدم فلسطين.
ثم إن التكريم لم يأت متأخرا فلم تبق حارة من الديار الفلسطينية لم تغدق علي الحب والتكريم، كما أن الاخ الرئيس ياسر عرفات كرمني مرتين بوسام القدس للثقافة، مرة في المنفى ومرة على أرض الوطن. ولعل التكريم الأكبر الذي أعتز به أيما اعتزار هو حالة الحب الدائمة بين قصيدتي وبين جماهير شعبي ووطني من المحيط إلى الخليج، فما أنا بالشاعر الاقليمي، كما تعلمون، وفي قلبي المرهق الصغير تحتشد ملايين الأمة والوطن، وتشرفني الإشارة الى أنني كرمت بجائزة الأخ عبدالعزيز سعود البابطين للابداع الشعري، وبجوائز أخرى ودروع وشهادات تقدير من اسبانيا وفرنسا وايطاليا، أما جائزة الجوائز، الجائزة الكبرى التي حصلت عليها فقد قدمها لي ذلك المواطن العربي السوري من (بلودان) الذي قدم لي فنجان القهوة السادة ثم حطمه أمام نخبة من علية القوم ولسان حالة يقول: لا يحق لأحد أن يشرب من هذا الفنجان بعدك !
وفى حينه صرحت لوسائل الاعلام بأنني أخذت جائزتي الكبرى وما عادت تعنيني حتى جائزة نوبل التي اقترع الكاتب العربي الجزائري الكبير أخي الطاهر وطار ترشيحي لها مع نخبة من زملائي الشعراء والكتاب العرب.
* ما تزال مع محمود درويش في طليعة الشعراء الفلسطينيين الذين رفضوا الاقامة في الماضي. وظلوا يحدبون على رؤاهم، ويسوغون جمالياتهم الشعرية المتقدمة، فكيف تمكنتما من الاصغاء لمتطلبات (الحداثة) فيما انزوى كثيرون من الشعراء: عرب وفلسطينيين الى الظل؟
– حين تكون "الحداثة" مجرد نظرية مكتسبة من بطون الكتب والأكاديميات فإنها ستظل عاجزة عن انتاج الشعر الحديث بكامل معنى الكلمة، أما حين تكون "الحداثة" وعيا ذاتيا ونسق حياة فلا بد لها من إعطاء معادلها الإبداعي، واسمحوا لي بالإدعاء بأننا – محمود وأنا – مارسنا الحداثة فكرا وحياة ولم ننشغل بالتنظير لما هو خارجنا، لذلك كان طبيعيا أن نقول همومنا وهواجسنا بأدوات زمن نشارك في صياغته ولا نكتفي بالتفرج عليه ومراقبته من مواقع معتمة في زمن غابر.
– ومرة أخرى: الحداثة سلوك وممارسة ووعي، وليست مجرد نظرية أكاديمية.
* ساد في النقد العربي في العقدين الأخيرين، مصطلح قصيدة الهامش والتفاصيل التي تنأى عن الاحتفال بما هو كلي وجوهري في الحياة والوجود، هل خفت الصوت الضميري العام لصالح الهامش والظل، أم ماذا؟
– كما تعلم، فقد شهدت العقود العربية الثلاثة الأخيرة تراجعا فاجعا في الوعي والوجدان القوميين والإنسانيين، وبموازاة تفكك المقولات الكبرى في حياتنا الوطنية الشاملة: الحرية – الوحدة – العدالة الاجتماعية، فقد حصل تفكك جواي في الذات العربية، وطغى الخاص على العام واعتلت حالة التواصل والتداخل بين الشخصي والقومي والإنساني، وسادت حالة من الاقتراب بين الانسان الفرد من جهة ووطنه وشعبه من الجهة الأخرى، وتسلل الى هموم الناس ذلك الهاجس الاستهلاكي الشرير الذي جعل السيارة والثلاجة وجهاز الفيديو أكثر حضورا في القلق الخاص، من قضايا الشعب والوطن والكون، وفي هذا المناخ تتهيأ الأرض الصالحة لاستنبات الطموحات الصغيرة والهامشية على حساب الإيمان بوحدة العالم وتداخل عناصر الحياة والوجود، وعلى أية حال فان قصيدة الوردة الحية مازالت أقوى حضورا وعبقا واشعاعا من قصيدة الوردة البلاستيكية.
* يتهمك البعض بأنك حذفت من طبعات أعمالك الشعرية الجديدة قصائد تدين اسرائيل والسلام وتدعو إلى الثورة، هل هذا صحيح، وهل من حق الشاعر أن يحرر في قصائده؟
– أبدأ من شطر السؤال الأخير، قائلا انه من حق الشاعر أن يفعل بقصائده ما يشاء، لكنني أستطع، على الفور الى أنني قد أكون أقل شعراء العالم تصرفا بالقصيدة وتحريرا لها، وهذه سمة لي يعتبرها بعض النقاد فضيلة ويردها بعضهم نقيصة.
– أما أكذوبة الحذف هذه فلقد ثبت بطلانها، واعتذر الصحفيون والكتاب الشرفاء عن السقوط فيها، أما عديمو الشرف والمشبوهون ومطايا المؤسسة الإسرائيلية فلا يعنيني نقيقهم، فمن الطبيعي أن يواصلوا الهجوم على كل ما يعني الأصالة العربية والعنفوان العربي والإبداع العربي (غير المترجم عن الانجليزية والفرنسية وسواهما).
– وبمراجعة سريعة لأعمالي الناجزة (طبعة القدس وطبعة بيروت وطبعة القاهرة) فسيتضح لذوى الألباب ولمن ليسوا من ذوي الألباب أيضا أية كذبة ساقطة هي كذبة حذف ما يدين اسرائيل والاستسلام وما يدعو إلى الثورة، وسيتضح أن ديواني هو "ديوان العرب والثورة"، ماضيا وحاضرا وإلى يومي الأخير بإذن الله.
* وثمة من يزعم بأنك تتلقى دعما من وزارة الثقافة الاسرائيلية، فما ردك على هذه الفرية؟
– أكرر، هنا أيضا، ردي على هذه الفرية السافلة، بما يلي: يدفع المليون عربي في "إسرائيل" ضرائب تعادل ميزانية دولة صغيرة من العالم الثالث، ومن حقهم، أسوة بكل أهل الأرض، أن يستردوا جزءا من ضرائبهم على شكل ميزانيات للسلطات المحلية العربية وللمؤسسات البلدية والثقافية والرياضية والاجتماعية، إذن، فهذه بضاعتنا ردت الينا، ورغم ذلك، ومنعا لسوء الفهم أو سوء النوايا فقد امتنعت شخصيا عن قبول أية جائزة إسرائيلية وامتنعت عن المطالبة بحقي من ميزانية وزارة الثقافة الإسرائيلية لدعم مجلة "إضاءات" الثقافية الفصلية التي أتشرف برئاسة تحريرها وإصدارها، بكلمات أخرى، فقد تنازلت عن حقي الخاص منعا لأي التباس وتجنبا لعواء الذئاب التي لو لم أكن ذئبا لأكلتني.
– ورغم استنكافي عن حقي في دعم مجلتي فإنني أرفض الإساءة لسائر زملائي الشعراء والكتاب العرب في البلاد الذين يمارسون حقهم في استعادة جزء من مدفوعاتهم الضرائبية، على شكل جوائز تفرغ غير مشروطة أو أي شكل من أشكال الدعم غير المشروط سياسيا أو ثقافيا.
* أثار هجومك – في ندوة قاهرية – على المثقفين العرب استياء كثيرين، ما مبرر تلك الهجمة، وما هي حيثياتها؟
– لم أهاجم المثقفين العرب الأحرار والشجعان والمبدعين بل هاجمت المنافقين والمهرجين والأدعياء والكذابين، وأنا أدعوك وأدعو القراء للانضمام الي في مواجهة الانتهازية والرياء والاقليمية والطائفية والعشائرية والجبن والخداع والغباء والبلادة.
– ما أنا بشيطان أخرس لأسكت عن كلمة أراها حقا ضد كل هذا القدر من الانهيارات في حياتنا أمة ووطنا، وكل هذا العذاب غيرا لمبرر، والمتواتر علينا من آفاق مفاجئة لم نكن نأخذها بالحسبان ونحن نحصى ويلاتنا وكوارثنا، نحن الذين أصبحنا هزأة العالم ولن تجدينا مكابرتنا نفقان نحن الممزقين المشتتين المهانين المهيئين لان يتمادى علينا ويهين روحنا ولغتنا أي عابر سبيل من أبناء الشعوب الأخرى، نحن المتآمرين على شرفنا، نحن المتواطئين على ذاتنا وحلمنا ومصير أبنائنا.
– ما أنا بشيطان أخرس، وليرض من يشاء وليغضب من يشاء، أنا من أنا وليست قناعاتي قميصا استبدله مع تقلبات الطقس.
* اعتبرت تصريحاي في القاهرة، وتحديدا قولك "لن نسمح لأي (ابن كلب) بأن يراود علينا، وليس هناك معنى للتهرب من الحوار مع الاسرائيليين" دعوة صريحة، للتطبيع، فهل تعتبر الحوار مع الاسرائيليين استحقاقا لا مفر منه؟
– دعنا نتفق قبل كل شيء على مفهوم "التطبيع" قبل إلصاق هذه التهمة بالناس، وتحويلها إلى نوع من الارهاب الفكري.
قلت في القاهرة ما قلته في عمان وفي دمشق وما أقوله في تل أبيب والناصرة: نحن العرب، أبناء الحضارة العربية الإسلامية لسنا عنصريين ولن نسمح لأحد بأن يحولنا إلى عنصريين، ويدل تاريخنا الطويل العريض العميق على قدرتنا العبقرية في التداخل مع الشعوب الأخرى والتجانس مع الحضارات والتعاون على البر والتقوى وما ينفع الناس فيمكث في الأرض، ونحن العرب لم نكن السبب في غياب "العلاقات الطبيعية" مع اليهود، لسنا نحن السبب في القطيعة، السبب هو احتلال وطن عربي وتشريد شعب عربي واحتلال مناطق شاسعة من أوطان عربية أخرى، وشن الغارات الدموية على العرب من المحيط الى الخليج، من تونس الى بغداد الى لبنان الى أية بقعة يطيب للاسرائيليين الاعتداء عليها، وما لم يتوقف هذا العدوان، وما لم يسترد أصحاب الحق حقهم فلن يكون هناك أي تطبيع في العلاقات.
لكنني أرى فرقا جوهريا بين "التطبيع" و "الحوار"، فاذا كان التطبيع غير وارد بالحسبان فإن الحوار ضرورة سياسية – حضارية، فحين كان المندوبون العرب يغادرون قاعة الجمعية العمومية في الأمم المتحدة عندا إلقاء الإسرائيلي ابا ابيان كلمته، كانوا في الحقيقة وموضوعيا، يقدمون خدمة تطوعية لاسرائيل، لأنهم كانوا يقدمون الرأي العام العالمي لإسرائيل على طبق من الفضة والغباء.
قبل حين هوجم بضعة شعراء مصريين لمشار كتهم في مؤتمر دولي للشعر حضره وفد اسرائيلي. ولو غادر الشعراء المصريون بسبب حضور الوفد الاسرائيلي لكانوا أشبه بالجندي الذي يتخلى عن موقعه، وتركوا للقصيدة الاسرائيلية أن تتوغل في الجمهور دون نقيض ودون مواجهة، لا، لا يجوز اخلاء الساحة الفكرية والثقافية والسياسية العالمية للمؤسسة الاسرائيلية تصول فيها وتجول دون رقيب أو حسيب، قبل شهور دعيت الى مهرجان الشعر العالمي في ايطاليا وسعدت جدا بالاستقبال المتميز الذي حظيت به لدى الجمهور الايطالي. وكان على قائمة المدعوين شاعر اسرائيلي لم يحضر، وعقب شاعر بريطاني ضاحكا: "يبدو أن زميلنا الإسرائيلي لا يقبل المشاركة مع شاعر ارهابي!".. وردت عليه شاعرة واستاذة جامعية من البرتغال: "اذا كان هذا هو الإرهاب فمرحبا به دائما".. وقلت لزملائي بهدوء: "أنتم مدعوون لزيارة ارهابية في مهرجان شعري ارهابي في القدس العربية بعد تحريرها من الإرهاب قريبا إن شاء الله".
وفي ختام المهرجان وعبر أكثر من لقاء مع الجمهور الايطالي ومع الشعراء المشاركين من جميع انحاء العالم، تأكدت لي مرة أخرى سلامة قناعتي بضرورة المشاركة في الفعاليات الدولية بغض النظر عن المدعوين الآخرين ولا أستطيع أن أرى في مقاطعة المنابر الدولية شيئا سوى الغباء السياسي والثقافي أو السذاجة في أفضل حال، وأنت تعلم مقدار ما نزل على رؤوسنا من مصائب جراء الغباء أو السذاجة.
* سبق وأن منعت من زيارة بيروت انسياقا وراء الذريعة نفسها "التطبيع" ومع ذلك كتبت القصيدة اللبنانية، ما سر هذا الوفاء لبيروت؟
– علمت في حينه من مؤسسة جائزة البابطين أن المسؤولين اللبنانيين من وزير الثقافة الى رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة رحبوا بزيارتي الى لبنان لتلقي جائزة الإبداع الشعري التي منحتني اياها المؤسسة، في مهرجان احتفالي في بيروت، وبدا لي كل شيء طبيعيا فلبنان جزء من وطني واللبنانيون بضعة من شعبي وبيروت إحدى مدني، كما أن للبنان حضورا شعريا في تجربتي يؤهلني للنطق باسم لبنان أكثر مما يحق لكثيرين من مواطنيه، لا سيما أولئك الذين تكالبوا عليه من الد أعدائه، وعلمت لاحقا أن معارضة زيارتي لبيروت لم تصدر عن أية جهة وطنية أصيلة بل كانت نتيجة لحسابات داخلية ولاعتبارات لا تمت بصلة لا للبنان ولا لفلسطين !!
أما بالنسبة للوفاء، فهذه مسألة محسومة عندي منذ الطفولة.. إن وفائي لوطني (من محيطي الى خليجي) ووفائي لأمتي (في ربوع هذا الوطن وفي المنافي)، هذا الوفاء ليس محكوما بشيء خارج قناعاتي ومشيئة الله، ما من نظام أو سلطة أو حزب أو مؤسسة أو شخص أو قبيلة.. ما من أحد من بني البشر يستطيع قطع شراييني السرية الممتدة من جسدي المتوحد على سفوح الجليل الى كل حبة رمل وذرة تراب وإلى كل نطفة حياة في بلادي كلها، بلادي القومية والتاريخية، بلادي التي هبل بلادي بمشاة الله وبمشيئتي، نقطة Full stop.
* اعتبر أدونيس في حوار معه نشر أخيرا بأن "الشاعر الوطني شاعر رديء" وان جميع الشعراء الكبار كانوا خونة لأوطانهم" ما تعليقك على ذلك سيما وأن انطلاقتك الشعرية تفجرت في إطار شعراء المقاومة؟
– ربما يكون الشاعر الوطني رديئا، فالوطنية الشعورية والفكرية وحدها لا تصنع الشعر الجيد بالضرورة، لكن الحكم المطلق بأن الشاعر الوطني هو شاعر رديء، ليس سوى حكم رديء قد يصدر عن شاعر رديه، وأخي أدونيس ليس شاعرا رديئا، اذن يجوز القول ان شاعرا غير رديء قد يطلق حكما رديئا، أما القول المنسوب الى أخي أدونيس بأن "جميع الشعراء الكبار كانوا خونة لأوطانهم" فأميل إلى التعامل معه على غرار التعامل مع القول العربي المأثور "أعذب الشعر أكذبه" فليس "الكذب" المقصود هنا هو الكذب بالمعنى الأخلاقي الاجتماعي، بل بالموازي الإبداعي، فالشاعر الذي يعد حبيبته بأن "يقطف لها النجوم" ليس كاذبا في مشاعره بالضرورة، قد يكون صادقا جدا، لكن قدرته الموضوعية على "قطف النجوم" تظل أمرا مشكوكا فيه الا اذا كانت النجوم المقصودة هي نجوم مرسومة على الورق أو نجوم الخزف والبلاستيك المعلقة على شجرة الميلاد.
– ولماذا ننشغل بالمقولات النظرية؟ لنلق نظرة استعراضية سريعة على أسماء نيرودا وماياكوفسكي وحكمت واراجون وايللواروريتسوس ولوركا والبرتي وزملائهم العرب الكبار، وسنكتشف على الفور أن "جميع الشعراء الكبار كانوا أوفياء لأوطانهم"..
– وحتى أساعد أخي أدونيس في الخروج من مأزق الكلام المنسوب إليه هنا، فإنني أميل الى الاعتقاد بأنه خلط بين "الأوطان" وبين "الأنظمة"!
ومن خلال المشهد الشعري العالمي في القرن العشرين على الأقل، نستطيع القول انه ما من شعر عظيم بلا قضية عظيمة، واستباقا لأية مماحكة أريد الاشارة الى أن القضايا العظيمة قد تكون وطنية وقد تكون شخصية محدودة في هموم الحب والحزن والقلق والخوف، وقد تتحول علاقة شاعر بشجرة الى قضية عظيمة، أما اخراج الوطن من دائرة الشعر العظيم فهو أشبه بإخراج الكرة الأرضية من المجموعة الشمسية وهي مسألة لا يقوى عليها حتى شاعر فير رديء مثل أخي وصديقي أدونيس.
* أثير لغط حول موقفك من قصيدة النثر- رغم انك كتبت فيها- ما الذي تغير؟
– تدل تجربتي الشعرية المتجلية أمامكم بكل خصائصها أنني شاعر يدرك قيمة الاجتهاد الفني والتجريب والمغامرة بلا حدود ولا قيود، وليس صدفة أن تعتبري الشاعرة والباحثة المعروفة سلمى الخضراء الجيوسي الشاعر العربي الأول الذي تظهر في أعماله بعض مقومات ما بعد الحداثة. اذن فلا يعقل أن أرفض بأية مغامرة شعرية، لكنني لا أطيق الحمق المغرور والجهل النرجسي الذي يفرزه بعض شعراء ما يسمى بقصيدة النثر (ليبحثوا عن تعريف آخر)، حين يدعون أن محاولتهم فرضت نفسها وأنها في سبيل احتلال مواقع القصيدة العروضية، وهو ادعاء طائش وغبي وكاذب في آن، وأكرر هنا ما قلته سابقا من أن ما يسمى بقصيدة النثر هو كائن مازال يناضل من.جل الشرعية الشعرية وقد يكتب لهذه التجربة النجاح بمثل ما قد يكتب لها الفشل، أما القول ان مؤلف مسرحية "الصعايدة وصلوا" (ولا أعلم من هو!) قد احتل مواقع وليم شكسبير ففيه ما يجوز اعتباره حكما غير منطقي في أرق تعبير.. أليس كذلك؟!
حاوره: موسى برهومة (كاتب من الأردن)