يشكل الحوار عنصرا مهما من عناصر الكتابة القصصية لذا ينبغي أن يتسم الحديث فيه بالموضوعية والإيجاز والإفصاح كما يقول روجر م. بسفيلد إنّ أهم غرض يؤديه الحوار في القصة القصيرة ، هو تطوير موضوعها للوصول بها إلى النهاية المنشودة فالحوار يخفّف من رتابة السرد ، ويريح القارئ ، ويبعد عنه الشعور بالملل ، ويساعد على رسم شخصيات القصة ، وتصوير موقف معيّن أو صراع عاطفي ، أو حالة نفسية ، كالخوف أو الكبت أو الغيرة.
ومن هنا فقد امتد الحوار في قصص العريمي ليشمل مساحة واسعة ليكون –الحوار – مفسرا تارة ومعلقا مدركا جيدا ان وظيفة الحوار كما يرى روجر م. بسفيلد:
السير بالعقدة، أي تقدمها أو تدرُّجها أو تسلسلها.
والكشف عن الشخصيات.
وينبغي أن تتوافق أجزاء الحوار المشهد التمثيلي أو السياق القصصي أو الروائي أو المسرحي الذي تُقَدَّم فيه «فمواقف المجد والعظمة تتطلّب جملاً قوية قصيرة، ومواقف الغرام تقتضي جملاً غنائيّة متدفّقة سلسة، فيها الفيض العاطفي والإحساس بالحب والجمال. والمواقف الفلسفية تستلزم جملاً رزينة متزنة، ذات صبغة منطقية … بحيث يتعدّى مضمون الجمل إلى مضمون الكلمات والمقاطع أيضا».
ويبدو ان ممارسة العريمي للكتابة المسرحية التي تمخضت عن العديد من النصوص المسرحية التي كان عرض(زهراء سقطرى) التي أخرجها الدكتور عبدالكريم جواد جعلت لغة الحوار تطفو على أرضية نصوصه القصصية
بل انه يصبح أحيانا عمودها الفقري كما في قصة(صباح وجه ذاك البحر ) او(سفر هو حتى مطلع الشمس ) و(رحمة ) و(السرداب) و(والان ها انت تغادر الشاطئ وكورنيش وقم واهبش وكوثر ايقونة ظما وصبيحة وماذنة الجامع الكبير يقول في قصته(ثمة طائر على) ستموت هنا.. وحيدا.. شريدا.. ولن تعرف الحرية إليك سبيلا.
قال سجّانه في صلف وهو يغلق عليه بوابة الأمل.. الآن وفي هذه الزنزانة الرطبة الباردة كقبر.. أنت أشبه بي في قمقمي يوم كنت..لا فرق فالحرية بعيدة عن كلينا بعد المشرقين.
* بل تحلق فوق رؤوسنا.. انظر.. إذ ثمة طائر على…
ما أقسى أن يغيّبك وراء الشمس زوار الفجر.. ثم لا تعرف اتجاه المشرق من المغرب.
اقتادوني معصوب الرأس مقيدا بالأغلال.. الأوغاد أهانوا زوجتي.. أفزعوا طفلي.. دفعوني إلى عربتهم المكدّسة.. وانطلقوا.. قال لي طفلي عشيّتها وهو يريني كراسة رسومه المليئة بالخربشات:
* بابا.. رسمت نهرا.. رسمت نخلة.. وطيرا يرفرف في السماء.. شوف.. بابا.. حلو رسمي؟
تضاحكه فيشع الدر بين شفتيه الطريتين.. يحمر خده حياء..تربت على رأسه وتقبله..فينتشي سعادة وزهوا.
* مستقبله سيكون أسعد من ماضينا.. لن يعاني كما كتب أن نعاني.. لن يعيش منفيا في وطنه.. يغفو على طلقة بندقية.. وصرخة مظلوم يجلد.. ويصحو على كابوس.. يتدلى من مشنقة !! أليس كذلك يا نضال ؟
سألتني زهراء الحالمة بجنة سعادة ونهير حب..لم أجبها..فضّلت الصمت..اكتفيت بابتسامة غامضة..ورحت أحركه على السطور لأكتب..وكتبت « كم أنت واهمة يا حبيبتي»
وكما نلاحظ فان الأداء السردي يتراجع لصالح اللغة الحوارية حتى انها تغدو كأنها مونولوج داخلي
ويرد الحوار بشكل اقل في نصوص اخرى ك(نم عبود قرير العين )وريكشا وقنديل البحر وثمة طائر على
ويختفي تماما في نصوص مثل(بدران يعود متوكئا على اخته) والصخرة واف
ويستخدم في بعض النصوص اللغة العربية الفصحى كما في(سفر هو…)ورحمة والسرداب والان هاانت…وقم واهبش
والعامية كما في كورنيش
ولكن هل استطاع العريمي ان يوظف الحوار لصالح النص القصصي؟هذا ما سنحاول الاجابة عنه وقبل الدخول في هذا لابد من الاشارة ان من سمات الحوار الجيد:
1-الاختصار، والإفصاح، والإبانة.
2-انتقاء خير الأساليب والجمل والألفاظ المعبرة عن الشعور والعاطفة، وترك العبارات التي لا قيمة لها.
3-الإشارة إلى الواقع، لا نقله.
4-مراعاة طبيعة القارئ أو المستمع للحوار، فإذا كان الحوار بين طرفين أو ثلاثة ظاهريا، فإنه يوجد طرف آخر هو القارئ أو المستمع.
ومما يعيب الحوار: الإطناب، وهو ترك شخصيات العمل الأدبي تتحدّث كثيراً حديثاً لا طائل من ورائه، أي لا يُثري العمل الأدبي، أو يُعرِّفنا على الشخصيات التي تتحدّث أمامنا «ولذا يجب على المؤلف أن يكون متيقِّظاً، ولا يسمح بأية كلمة لا يكون لها دورها في عرض الأحداث، أو تصوير الشخصيّات، مدركاً أنَّ الإيجاز في استعمال الكلمات هو أساس القوة في الحوار»
و رغم سلاسة الحوار وواقعيته في نصوص العريمي, إلا أننا نجد القاص يغرق في بناء جمل شعرية لاضفاء جو جمالي على النص ناسيا ان وظيفة الحوار هي توصيلية وتاخذه لغة الشعر بعيدا حتى انه يدخل نصا شعريا داخل جسد النص القصصي كما في(ثمة طائر على )
«وأن نغدو كورس ببغاوات تردد العهر الذي يغنون.. هذا لن يكون..لن يكون.. لن يكون:
نخيل ونهر ووجه حسن/ وقصر به من بقايا العصور غبار
ورائحة لا تزال/ تصول تعربد كالغانيات / وتبصق في وجه هذا الزمن/ فلا شيء يبقى/ إذا ما تلاشى حنين الروافد للماء/ ينحت في قلب نهر عجوز/ لتلعنه قاسيات المزن
ولا شيء يحيا/ إذا مات ظل النخيل/ عشيق الفن/وساحت على الترب آثار نكبتها/ بحزن ثقيل/ وأضحى النهار ظلاما طويلا طويلا/ طويل/وفي سجن ليل غدا يرتهن/ وتنمو المحن/ على تلكمو الأرض كالعشب/ وتغدو الجباه التي كانت
واللافت في بعض حوارات العريمي انها كتبت باللهجة العامية من أجل نقل الجو العام للنص محافظا على روح الواقع وهذا ليس بالجديد فحتى نجيب محفوظ كتب حواراته بالعامية
وهذا مايسمى بـ(ازدواجية اللغة) أي استخدامنا للعامية في الحديث اليومي والفصحى في الكتابة ، هذه القضايا شكلت محور كتاب(مشكلة الحوار في الرواية العربية) للناقد الدكتور نجم عبد الله كاظم حيث أكد ا ن الحوار قد لا يتوقف نجاحه وتحقيقه للإقناع على استخدام الكاتب في كتابته له العامية تحديداً أو الفصحى تحديداً فقط ، بل أن مرجع ذلك هو أبعد من حدود العامية بذاتها أو الفصحى بذاتها ، هو بشكل أساس ، وبحدود تعلق الأمر باللغة يعود إلى انتقاء اللغة(المناسبة) له ، وضمن ذلك المناسبة للشخصيات الناطقة به ، وبمعزل عن عامية هذه اللغة او فصحاها وعليه وفي المقابل فان الاخفاق الذي نراه كثيرا في الاعمال الروائية واكثر من ذلك في المسرح والدراما التلفزيونية وربما القصة القصيرة لايكون الا بشكل جزئي بسبب ازدواجية اللغة عندنا نحن العرب.
ويرى الناقد الأهم من ذلك انه يتأسس هنا احتمال أنْ يتعدى النجاح أو الإخفاق في الحوار هويةَ أداته اللغوية أو نوعها إلى الحوار ذاته أو بكُليته بمفرداته وطوله وأسلوبه ومستواه ، ونوعه عاميّا أو فصيحاً ، ومناسبته للمتكلم ، ووظيفته فكرياً ورمزياً وتقنياً وسردياً ووصفياً ، ودوره في رسم الشخصيات.
ان الاداة اللغوية في الحوار بمفرداته ومستواه ووظيفته رمزيا وتقنيا كلها قضايا شغلت الباحثين بسبب عدم امتلاك العرب لتجربة التعامل فنيا مع الحوار بسبب جدة التجربة الروائية العربية – كما يرى الباحث – والفجوة الناشئة بين لغة الكتابة الفصحى ولغة الكلام اليومي المحلية لذا نصبح امام طريقتين في استخدام اللغة وهذا يسميه الباحث انفصاما حقيقيا بين اللغة الفصحى واللغة اليومية، واللغة الوسطى، حيث سعى البعض لتقديم حلول وسطى للخروج من هذه الاشكالية باستخدام لغة وسطى تاخذ بشكل او باخر من العامية والفصحى وهي محاولات تعود الى بدايات القرن العشرين ومن اوائل من حاولها عيسى عبيد –كما يقر الباحث – ووضح هذا الاتجاه لدى ابراهيم عبدالقادر المازني وهناك من لجا الى كتابة حوارات فصيحة واخرى عاميةفجعلوا الشخصيات الشعبية تتكلم بالعامية والمثقفة تتكلم بالفصحى كشاكر جابر في روايته(الايام المضيئة) وميسلون هادي.
وهذا ما اشتغل عليه العريمي في بعض نصوصه(صباح وجه ذاك البحر) او(سفر هو حتى مطلع الشمس) و(رحمة) و(السرداب) و(والان ها انت تغادر الشاطئ وكورنيش وقم واهبش وكوثر ايقونة ظما وصبيحة ومأذنة الجامع الكبير
وقد آثر بعض كتّاب القصة والرواية ـ بدعوى الواقعية ـ أن يكتبوا الحوار بالعامية، ومنهم يوسف إدريس الذي نهج في معظم كتاباته هذا النهج، كما يؤكد د.حسين علي محمد وقد عاب عليه الدكتور طه حسين ذلك في مقدمة كتبها لأحد كتبه،-جمهورية فرحات الصادر عام 1954 حيث أشاد فيها بمقدرة يوسف إدريس وبراعته، ولكنه طلب إليه «… أن يرفق باللغة العربية الفصحى ويبسط سلطانها شيئاً ما على أشخاصه حين يقص كما يبسط سلطانها على نفسه، فهو مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية كما يتحدّث بعضهم إلى بعض في واقع الأمر حين يلتقون، ويُديرون بينهم ألوان الحوار».
«وما أكثر ما يُخطئ الشباب من أدبائنا حين يظنون أن تصوير الواقع من الحياة يفرض عليهم أن يُنطقوا الناس في الكتب بما تجري به ألسنتهم في أحاديث الشوارع والأندية، فأخص ما يمتاز به الفن الرفيع هو أنه يرقى بالواقع عن الحياة درجات، دون أن يُقصِّر في أدائه وتصويره».
«والأديب الحق ليس مسجلاً لكلام الناس على علاته كما يسجله «الفونوغراف» …».
ويبدو ان العريمي قد تأثر بهذه النصوص التي كتبت باللهجة المصرية ففي نصه مايكروباص يستخدم اللهجة المحكية حيث تدور احداثها في بيئة مصرية لتنسجم لغة الحوار مع المكان فهو يقول «.. انطلق السائق بسرعة قاذفا سيجارته فور أن لمح دورية مرور راجلة على الناصية فشهقت المرأة وولولت: – يا لهوي..سبت البت يا أسطى يخرب بيتك.
:- معلش يا حاجة أصل اللجنة..
:- لجنة ايه وهباب ايه.. وقّف الأول.. خلي البنت تلحقنا.. آه ياااني.
……. وشرعت تواسيها.. وتمسح دموعها بكم الفستان المزركش العريض.
:- معلش يا وزة..امسحي دمعتك بأ.. حصل خير يابتي..ما تخافيش.
وبعض الحوارات التي استخدمها العريمي في نصوصه مغرقة بالمحلية العمانية
ففي نصه(نم عبود قرير العين ) يقول «تسربت إلى أنفك روائح الهيل والزعفران وماء الورد المعطر من القهوة التي تصبها ويرشفانها مع الضحكات…
_ باشتقالش عزة/ _ مسكد تنسّي الحبايب/ _ إلا أنت يا لغالية.
………..
صحا فجرا فاغتسل ثم خرج تبعه عبّود مرتعشا دون أن يفرك عينيه… انضم إلى رفاقه الراكعين في الصف الثاني فهدون ومنقيرع وشيخان ولد الداب بينما الزرقة تغزو الأفق.
***
_ با.. أبا أسير وراك.. أبا أرابعك
_ يوم تكبر
فلاظن ان مفردة(أبا ارابعك) مفهومة بالنسبة للقاريء العربي!!(اضطر القاص الى وضع جدول في الهامش يوضح بعض المفردات التي وردت في النص
النفاف: قطرات المطر الصغيرة الليوان: مساحة تشبه الصالة المسقوفة أمام غرف البيت العربي
القبقوب: سرطان البحر. العومة: سمك السردين المشبة: المروحة اليدوية الدريشة: النافذة الخشبية درس الهوش: حظيرة الأغنام البدي: البئر المنجور: آلة لاستخراج الماء من الآبار بقوة الثور المعوشري: المحاسب الذي يفرض الجمارك أو العشور على البضائع
ان بعض الحوارات تعتمد على أمثال شعبية فيها خصوصية محلية ففي قصة(ابو غنيم وبنت البيدار التي اجدها اجمل قصص المجموعة يقول يتذكر حديث الشيّاب في السبلة:(شي حرمة وشي حرمرم.. وشي كبيش يترمرم) و(عدوم عيب..الرجال باللحى.. والحريم بالسحاء) و(سالم..لا..لا..اعقل.. بو يتشوف العسل.. ما كما بو يلحسه)
واذا كان منطلق العريمي في هذا ان الحوار هو كلام الشخصيات اكثر منه كلام المؤلف حيث يجب ان تكون لغة الحوار مناسبة للشخصيات التي يرسمها الكاتب فاللغة جزء لايتجزأ من الشخصية القصصية كما يرى الدكتور عبدالاله احمد, الا ان الراوي يجب ان يرتقي بهذه الشخصيات بدلا من ان يهبط الى مستوى هو الى مستواها البسيط فالمتلقي يفترض ان يكون واعيا للعبة الفنية
ان أبرز سمات الحوار في نصوص العريمي يمكن اجمالها في:
– مراعاته الجانب الصوتي في الحوار لياتي متطابقا مع اللفظ نطقا وكأن الراوي يلقي النص على مسامع الأخرين ذلك لان العريمي يحتفي بالحكي ومن هنا فانه يهدي مجموعته الى أمه بوصفها هي من علمه حب الحكايات ومن هنا فحكايات العريمي مؤطرة باجواء تعيدنا الى الحكاية الشفاهية المليئة بقصص السحر والجن والعفاريت وقد انعكست هذه الشفاهية على بناء الجملة الحوارية وكأن الشخوص على خشبة مسرح وهذا يعود الى تأثيرات الكتابة المسرحية للعريمي.
– بعض الحوارات كتبت باللغة العامة وبعضها اختلط العامي بالفصيح سعيا لكتابة حوار بلغة وسطى.
– حوارات نصوص العريمي في الغالب مختزلة ومكثفة وتعتمد على لغة اللمح والاشارة والشعر وقد يدخل الحوار ضمن السياق السردي كما في نص(زبد احمر) ادخل قالت لي وهي تنادي بغواية هامسة من تحت الغطاء.. ادخل.. لن يراك هذه المرة ثق بي.. لن يراك صدقني.. صدقتها.. دخلت.. فأصدر الباب صريرا مزعجا.. وعندما التقى الظلفان عوى الكلب.. هاج.. أين أنت؟ سألتها.. وطفقت أدير رأسي في أرجاء المكان علّي ألمحها عن قرب.
– ليس للحوارات وظيفة توصيلية ومن هنا يمكن حذف بعض الحوارات دون ان يختل البناء العام للنص ذلك لان وظيفة الحوار جمالية وتاتي لكسر السرد والرتابة في الجمل
ختاما هذه ليست سوى قراءة في عنصر واحد من عناصر القص عند العريمي في مجموعته التي منحته بطاقة تعريف لدخوله في عالم القصة الواسع
عبدالرزاق الربيعي
شاعر وكاتب عراقي يقيم في عُمان