هنا مطبخ صغير للحزن. الحزن الذي يُعدُّ على مهل كفنجان قهوة سوداء. تفاصيل صغيرة وجارحة. كلما قرأتَ فصلا أغلقت الكتاب، خشية أن يلتهمك الحزن. فالحزنُ يأخذ البطولة الكاملة، بل يتحول لكائن حي، يمشي، يركض، يلهث ويُدحرج الكلمات. ينبشُ الوجع بمعاوله، ليعري الموت من لبوسه وغموضه الجامح.
تجد في هذا الكتاب والمعنون بعنوان: “سعاد- رسائل لم تصل”، للكاتبة العمانية شريفة التوبي والصادر عن دار سؤال، تجدُ جرعة من المشاعر المُوجعة التي تُحاصر قارئها من كل الجهات.
تدور الرسائل حول قصة السرطان الذي كان ينهش كل يوم جزءا من “سعاد”، الصديقة التي ذهبت باكرا جدا، وتركت أسئلتها المجروحة ومخاوفها وعائلتها الصغيرة.
ولأن الحزن كان فوق الاحتمال، كانت الكتابة هي الحيلة الأخيرة والآمنة لتوزيع الحزن، لتفتيته ولإلقائه في أرواح كل من سيقرأ هذا الكتاب. كان ذلك عقب وفاة الصديقة الأقرب لروح التوبية. الصداقة التي تبدأ من الطفولة ثم تنمو كما ينمو العمر. لم تكن لتظن أنّ الموت بهذا القرب، لكن كلما أغلقتْ سعادُ بابا في وجهه كلما فتح بابا جديدا في الجسد المُنهك.
الحكي هو محاولة جادة لإعادة «سعاد» إلى الحياة، ورفضٌ لإيقاع الخطف الذي يُمارسه الموت عنوة. إذ ترفض شريفة التوبي –رغم الضياع الذي تعيشه- ترفض النسيان وتريد أن تُكابد مشقة التذكر. والعزاء الذي تقدمه لنفسها ينهضُ على هذه الجملة: “من يموتون باكرا هم الأكثر حظا من أولئك الباقون في الدنيا بكل ما تدفعهم إليه من ذنب وخطيئة وإثم”. والرهان أيضا على الحلم الذي يُبقينا على قيد الحياة. فالحياة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنّها مرعبة.
تخبرُ شريفة “سعاد” عن الايام التي تركض بسرعة دون توقف، تمر الأعوام، ولكن الموت كأنه حصل البارحة. ربما لأنّه يفوتنا أن نقول أشياء كثيرة لمن نحبهم. وربما لأنّ جديلتي الشعر عوض الجديلة الواحدة لم يُقدما الحماية الكافية لسعاد من الموت كما تقول القصص الشفهية.
«أغلقتُ الستائر، بسطتُ الأوراق، مقعدان لكلانا، وطاولة صغيرة وفنجان قهوة لكل واحدة منّا، وأحاديث أود الحديث بها أمامك»، هكذا تستمر شريفة في استحضار سعاد طوال صفحات الكتاب.
رغبتُ حقا لو أنّها استمرت في قص الحكايات والتفاصيل الصغيرة، أكثر من الدوران حول مفردة الموت، لأن الموت يبقى كلمة غامضة وبدلالات مُبهمة، أما التفاصيل فهي التي تيقظ الحكايات النائمة من مرقدها، كقصة قص الشعر ومُعلمة الجغرافيا التي كشفت عبر خرائطها الصدمة الكبرى حول أنّ العالم ليس بحرا واحدا، السباحة في “اللجل»، طبخ «الصالونة» لإثبات أنها كبرت وغادرت مرحلة الطفولة، والكُتب التي ينبغي تترك لأنها خادشة للحياء، وبيع “البناجري» لشراء الكتب، وقصة انتشال القط الذي سقط في البئر بالقفير، وقصة محبة جيفارا. فكل تلك القصص هي التي تُشرع التماس الصاخب والحيوي، وتُعيد تكسير المفاهيم الجاهزة عن ثيمة الحزن والموت والحياة، أكثر من مجرد سرد الخواطر والجمل العابرة في فضاء فضفاض ومُتكرر.
وإلى جوار سعاد تحضر “الأم” الحاضن الأول للهم الإنساني، منذ رعاية النطفة الأولى. تلك الأمّ التي لا يخفى عليها حزن أولادها وبناتها. الأمُّ التي لم تحذر ابنتها من الذئب الذي يترصدها، ولذا وقفت وسط الغابة لتتأمل الأشجار غير آبهة بشيء سوى منظر الغابة.
تستعيرُ شريفة التوبي حزن جلال الدين الرومي على رفيقه التبريزي، ذاك الذي كتب شعرا يفيض بالرقة والعذوبة، «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك”، “هكذا أود أن أموت في العشق الذي أكنه لك، كقطع سحب تذوب في ضوء الشمس”.
لقد حاولت التوبية إعادة الحياة في جسد “سعاد” عبر الكتابة إليها. ومن المؤكد أنّها لا تستهدفُ قارئا بعينه، قدر أنّها تبحثُ عن الخلاص. قبل أن تتحول الذاكرة لمخزن عفن.
المفاجأة في هذا الكتاب، أن تطلب سُعاد من شريفة في زمن ما، أن تكتب عنها، وترد عليها شريفة ساخرة: “انّ ذلك لن يحدث”، ولكنه حدث وها نحن نقرأكِ يا سعاد.
تسربُ إليك التوبية عدوى الحب وعدوى الحزن والفقد من أبواب لا تراها، ويبقى رهان هذا الكتاب قائم على فكرة متوهجة: “الحب لا يخسر أبدا”.
هدى حمد