بول شاوول
شاعر وناقد لبناني
رحل الكاتب والمخرج المسرحي الألماني هاينر مولر عام 1996، تاركًا وراءه إرثًا تجاوز فيه برشت ومجمل الظواهر المسرحيّة السائدة.
إنه البرشتي الذي تجاوز نظريات برشت إلى نقيضها. (1929 – 1996)
***
إذا كان المسرحيّون العرب -كتّابًا ومخرجين- اتّجهوا في مقابساتهم واقتباساتهم وترجماتهم (وانتِهاباتهم) إلى مجموعة من العلامات المسرحيّة الكلاسيكيّة وغير الكلاسيكيّة البارزة كسوفوكل وأوربيدس وشكسبير وتشيخوف وموليير وغولدوني وراسيت ومن ثمّ بيكيت ويونسكو وجورج شحادة وأداموف وبیراندللو وبنتر وخصوصًا الرفيق برشت (في المراحل الأيديولوجية ذات الإمتاع والمؤانسة والتعليم والإرشاد)، فإن الملاحظ أنهم لم يتلمّسوا درب الكاتب الألماني الكبير هاينر مولر، لا كمخرجين ولا ككتّاب.
لا نعرف السبب تدقيقا. ولكن يمكن القول، وعلى تقريبيّة، لأنه
أولًا: لم يكن أيديولوجيا ولا «حرکیًّا» تاريخيًّا، ولا صاحب «نظريات» وبيانات مقنّنة ومصنّفة ومبوّبة.
ثانيًا: لأنه جافى «نظریات» الإمتاع «البرشتية» التي تبدو أحيانًا -أو هكذا بدت أحيانًا- مقاربة متواطئة مع ذائقة سائدة، استدراجًا «لمواقع» سياسيّة أو فكريّة.
ثالثًا: لأنّه اختار اللغة الدراسيّة الصعبة، الشاقّة، الملتبسة، الصادمة، التي من الصعب أن تتحوّل إلى كومة أفكار جاهزة سهلة.
رابعًا: ربّما لأنه بقي داخل ألمانيا الشرقية (وإن كمنشقٍّ بطريقة ما).
خامسًا: لأنّه لم يكن محصورًا بلغة مسرحيّة أو بوشْم ثابت، والفنّانون العرب يحبّون «الموشومین».
سادسًا: -وهذا هو الأهم- أنه تجاوز، في عدد من أعماله الذائقة المسرحيّة العربيّة ذات المكوّنات الحداثيّة، إلى لغة «ما بعد الحداثة»… ومعظم المسرحيّين العرب ما زال متعلقًا بالأنماط الكتابيّة والإخراجيّة المرتبطة بمسارح العشرينيّات والخمسينيّات.
آليّته ..
إذا رافقنا هاینر مولر منذ بداياته «البرشتيّة» إلى أعماله الأخيرة، ورافقنا «أفكاره» من خلال مسرحيّاته وكتاباته النقديّة، نتلمّس «آليّة» (وهو يحب هذه الكلمة)، حركيّة مستمرة لا تستقر عند معطى، أو عند بنية، أو حتى عند مرجعيّة، فهو «محطّم» المرجعيّات بامتياز، ومتجاوزها بامتياز، بدأ متأثرًا ببرشت في ما سمّي «مسرح الإنتاج» ثمّ تجاوزه وتجاوز «ملحمیته»، و«تعليميّته»، و«تغريبيّته». دافع عن المثقف «الطليعي» ثمّ جعله جزءًا من الواقع، جزءًا من الخراب (هرقليس 5)، عايش الماركسيّة ثمّ جعلها مادة نقديّة إلى حدِّ السخرية منها، رأى أنّ التاريخ حركة، لكنه جعله طاحونة متكرّرة دائريّة، من دون الحتميّة الماركسيّة، ومن دون «النهاية» (نهاية التاريخ) كما يقال اليوم. آمن بالانتظار، لكن رأى فيه نذيرًا بالكارثيّة، أي نبوئيّة «سوداء» «حتميّة» في سوادها، بدون غودو ولا من يحزنون. دافع عن المظلومين والمسحوقين والبروليتاريا، لكنّه صوّرهم «ضحايا» يشاركون في صنع هزائمهم (أوفيليا رمز البروليتاريا الأوروبية المهزومة)، جاور النصّ المسرحي الطليعي من بيكيت إلى يونسكو، كما تآلف والمناخات الفكريّة الجديدة من فوكو إلى دولوز (وانسحابًا إلى كانْت وهولدرلن وبوخنر…)، ثمّ لم يتوقف عندها أو ينأسر بها. حركة مستمرة، مجنونة، تنطلق من كل شيء ولا تتوقف عند أي شيء، أو بالأحرى ضمير كاسر، حي، نافذ، ثاقب، مفتوح، لا يتقنّن بأخلاقيات جاهزة، ولا بظواهر ثابتة…
على هذا الأساس، من الصعب أن نتكلم على «مراحل» حاسمة عند هاینر مولر. ومن الصعب كذلك أن نتبيّن تصنيفات مقيّدة، كأن كل «محطة» مهما ترسّخت أو طالت تختزن ما قبلها، وتفضي إلى ما بعدها، امتصاصيّة عميقة، وشفّافة معًا. بل كأنه، في تجاوزاته المستمرة، يحمل كثافته كلّها، ومتاعه كلّه. يترك موضوعًا أو قضيّة أو صيغة ثم يعاودها بإرهافيّة متجددة، ولهذا وعلى الرغم من تمردّه على التصنيف، و»تفجير المراحل»، يشكّل في مختلف أعماله مناخًا رؤيويًا واحدًا، ولغة على تمايزاتها تنضح بنكهة دراميّة خاصة.
الفضاءات ..
على أنه يمكن، خارج أي تقنين، النظر إلى كلّية أعماله المسرحيّة ضمن ثلاثة فضاءات، تنفصل أحيانًا وتتداخل أحيانًا أخرى: -1 مسرح الإنتاج؛ -2 مسرح التشاؤميّة التاريخيّة عبر كلاسيكيات بارزة؛ -3 التاريخ الألماني:
1 – بعد تعرّفه إلى إنج ميار- التي صارت زوجته- كتب بمشاركتها مسرحيّاته الأولى، منها «محطم الأجور» (1956) و«التصحيح» (1957).
وفي هذه الفترة التي توفّي فيها ستالين (1953)، وحدثت انتفاضة برلين الشرقيّة (17 حزيران من العام ذاته)، راح مولر، الذي تقرّب من الأوساط البرشتيّة (برشت توفّي عام 1956) يمارس ما يسمّى «مسرح الإنتاج» أي كتابة مسرحيّات تدور حول مشكلات التطور الاجتماعي في ألمانيا وتهدف إلى نقد الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتتعرّض لبناء الاشتراكيّة.
وفي عام 1961، (بناء جدار برلين) مُنعت مسرحيّة المهاجرة، أو حياة الرّيف، بعد عرض واحد، وطُرد مولر من اتحاد الكتّاب، لكنّه يقدّم عام 1964 مسرحية «الفلاحون» وهي كتابة جديدة للمسرحية التي مُنعت في 1961، ثمّ يقدّم «الورشة» في 1964 مقتبسة من رواية ايريك نوتش «آثار الحجار».
في هذه الأعمال تأثّر واضح بالبرشتيّة وبالتعليميّة، وبالنقد وبأسلوب التحقيقات وباللغة الدراميّة المباشرة، أي اللغة التي تطلع من اليومي وتعود إليه على غير تعقيد أو التباس. كأنّها مسرحيّات المنطلق – مسرحيّات التهيّؤ التي تعدّ بالخروج.
2 – بعد انتحار زوجته انج في 1966، يترك مولر معالجة المواضيع الآنيّة (مسرح القضايا اليومية) متوجّهة إلى التراجيديّات الإغريقيّة، فيقتبس «أوديب طاغيًا، عن سوفوكل (ترجمة هولدرلن)، و«فيلوكتيت» سوفوكل، و«بروميثاوس» أشيل… وبالروح ذاتها وما بين 1960 و1970 وما بعدهما يترجم أو يعاود كتابة عدة مسرحيات لشكسبير: «كما يهواه» (1967)، (ترجمة)، مكبث (1971) إعادة كتابة، وقد اتّهم بسببها «بالتشاؤميّة التاريخية»، وهاملت (1976) و«تیتوس، سقوط روما (1984).
3 – في 1976 عندما جُرِّد المغنّي ولف بيرمان من جنسيّته الألمانية استنكر هذه الخطوة عدد كبير من المثقفين والمبدعين ومنهم مولر، وأعقبت ذلك هجرة جماعية إلى ألمانيا الفدرالية. مولر بقِيَ. وفي هذه المرحلة عانى المجتمع الألماني أزمات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة، فانطوى هذا المجتمع على ذاته. ابتعد مولر عن «النموذج» البرشتي وتطلّع إلى مرجعيّات أخرى منها بوخنر وفوكو ودولوز وبودريللار وفيرليو… وكلايس وهولدرلن… أي حاول الخروج من «القفص» البرشتي إلى فضاء أكثر التباسًا، وقلقًا وتفجّرًا، وربّما حداثةً وتجددًا. هنا يكتب «آلية هاملت» (1977).
تقدّم في بروكسل نهاية 1978 بإخراج مارك ليبنز، وفي باريس 1979 بإخراج جان جودهیل. و«آلية هاملت» تصوّر «تراجيديا الشيوعيّة في القرن العشرين». وهي مسرحية من سلسلة مسرحيّات تتناول -وإن بطريقة مجازية أو غير مباشرة- تاريخ ألمانيا وواقعها: مثل «المهمة» (1979)، تعالج «الثورة المستحيلة»، و«کارتت» (1988)، و«ساحل مهمل» (1982) و«حقل تحت المراقبة» (1984)، وفي هذه السلسلة خلاصة تجريبيّة مولر الحيّة في الخروج على الأنماط المسرحيّة السائدة البرشتيّة، أو حتى النماذج الطليعيّة ممثّلة ببيكيت أو يونسكو وجان جینه.
ضمن هذا المناخ يستمر في مقاربة التاريخ الألماني مع «طريق العربات» (1984)، وفي الوقت ذاته يشتغل على إخراج المهمة (1980) في برلين الشرقيّة وكذلك على «مكبث» (1982)، و«محطم الأجور» (1988).
التجريب الفاجع ..
إذا تجاوزنا ما يسمّى مرحلة مسرح الإنتاج الملتصق التصاقًا شديدًا بالقضايا الاجتماعية والمرتبط إلى حدٍّ ما بهمِّ الناس، يمكن اعتبار عدد من الأعمال المسرحيّة التي كتبها مولر كـ«المهمة»و«آلية هاملت» و«هرقليس5، و«بروميثاوس» و«كرتيت»… من ذرى الكتابة المسرحيّة التي فجّرت «اللغة والبنية الدراميّتين وحوّلت كثيرًا من مفاهيم السياق التقليديّة، وتكوين الملامح والشخصيات، والأداء»…
ويجب ألاّ ننسى في كلامنا هذا أن انفتاح مولر على الزيادات الكبيرة كبوخنر وهولدرلن وعلى الكتابات الجديدة (فوكو، دولوز)، وعلى المسرح الطليعي بيكيت، يونسكو…)، وعلى تلك التجارب المتفتحة ككانْت وجويس ورامبو ولوتریامون، يجب ألاّ ننسى أن هذا الانفتاح ساعده على كسر الأنماط التقليديّة -والبرشتيّة جزء منها- وكذلك الأنماط الطليعيّة التي كان عليه تجاوزها. وإذا كنا اعتبرنا أن مولر لا يهدأ، وكأنّما مسحور بآليّة حركيّة مجنونة حتى الهلوسة، فمن الطبيعي أن يجتاح بحسٍّ کاسر، وبمغامرة تجريبيّة جريئة، النماذج المستريحة، حتى «نماذجه» بالذات. فهو كيميائي رهيف يعرف كيف يستخدم اللغة باحتفالية درامية عالية، ويعرف كيف يخلط الأزمنة والشخصيات بعضها ببعض، كيف يكسر السياقات والأنساق الأفقيّة.
إذا أخذنا مسرحيّته «المهمة» (تُرجمت إلى الفرنسية عن دار مینوي) -وهي في نظري من أكثر أعماله تجريبيّة، وشغلًا على المشهد، وعلى البنية، على اللغة- نرى أنه وضع في صميم هذه المسرحية طرقًا عديدة مختلفة لرواية الأحداث التاريخيّة، وحشد في مساحة غير متّسعة (المسرحية ليست طويلة من حوالي 40 صفحة)، «لغات» واستخدامات متعددة: فهناك الحوار، ولكنه حوار في بعض الأحيان ينفي الحوار (كسياق تقليدي)، والمونولوغ، ولعلّ المونولوغ الذي يأتي على لسان ديبوسون (من صفحة 30 إلى صفحة 40) من أكثف وأغرب ما قرأت. هلوسة ذهنية ولغوية غير منقطعة (تذكّر ببعض نصوص غوغول من حيث تفاصيلها، وببعض نصوص بيكيت من حيث تداعياتها) من شخصية ديبوسون في الصعد الذي ننتظر أن يفضي إلى مكتب المدير إلا أنه يفضي إلى مكان آخر وإلی زمان آخر… وإلى المونولوغ هناك في «المهمة» المسرح داخل المسرح (دانتون، روبسبير…)، والأقنعة، وتداخل الأزمنة: البارحة هي اليوم. واليوم غدًا، وغدًا والبارحة مكان آخر وزمن آخر… في دائرة زمنيّة تتكرّر عبر «أموات الأمس» وهم «أحياء اليوم». وفي القسم الثاني من المسرحيّة نرى أن «الشخصيات المتخيّلة» تحكي لكن كلامها هو كلام اليوم «لا تتكلم على اليوم عبر حكاية من أمس كما هي العادة، إنّما أمس واليوم يتعايشان في العبارة ذاتها»، كما يقول ميشال ديزوتي.
«المهمة» كأنها نظرة ساحقة سوداء بلُغة داخلية متقشّفة هنا، «ملحميّة» هناك، عبثيّة في أمكنة أخرى، جادّة، قاسية كشفرة مصقولة… لكن كأنها، بقوة لغتها، تحاول «بالكتابة أن توصل ما يفصله التاريخ». لكنها لا تحل محل الشخصيات، وإنما تحفّر فيهم سحيقًا، تستنطقهم، تستبطنهم، تقنّعهم، تكشفهم… وهذا يستدعي «قوة لغوية غير عادية».
الاختمار الحي ..
هذه المواصفات نجدها ربّما أكثر في «آلية هاملت» وهي ذروة تطوّر مولر التقني والدرامي. المسرحيّة مؤلفة من خمسة مقاطع متوازية قصيرة ومكثّفة وفاجعة، نكتشف كم أن كتابة مولر-إلى نضجها- حيّة وموحية وفاجعة، وكم تصير من عنفوان ما فيها ومن عمق ما فيها لا خلفيّة الشخصية أو المكان، وإنما تصميمهما، كتابته هي سينوغرافية، هي مكانه، هي الفضاء، هي الألوان. هي الصوت. هي الأشياء. أي أكثر من تعبير. الجمل والمقاطع تهزّ هزًّا. تنفتح فجوات، تردم فجوات تنفتح على «عدميّة تاريخيّة» بلا حدود. «آلية هاملت» تنعى المثقف الذي يريد أن يصير العالم وتنعى البروليتاريا الأوروبية.
في المشهد الأول «ألبوم عائلي» ممثّل يروي عن تجربته مع شخصية هاملت الذي أعطى نفسه حرية الدخول إليها والخروج عليها، ولا يتقدّم هاملت هنا بصفته التاريخيّة المعروفة وإنّما كمواطن ألماني بل أوروبي. المثقف الذي يستحضر صور التاريخ فلا يرى فيها غير التكرار المؤدي إلى الخراب والدم.
في الثاني أوفيليا، رمز المرأة الأوروبية أي بروليتاريا أوروبا، تلعب دور الشعب الذي لا يمتلك خيارات أو تفكيرًا، وإنّما مجرّد «ردود فعل عاطفيّة».
في الثالث مزاح بين هاملت وأوفيليا يصل إلى حدود الغروتسك، أي غزل بين الماركسيّة والبروليتاريا. هاملت رمز المثقّف الماركسي العاجز عن أي فعل، وأوفيليا رمز البروليتاريا المفرغة من أيّ قوة أو من أيّ تفكير.
في الرابع يجد مولر كيف فقدت الكلمات محتواها: فتتقدم بديلًا من العجز، وتعبّر عن تمزّق عميق بين القول والفعل. شیزوفرينيا بين النظريّة والتطبيق. بين الفكر والشعار والواقع.
في الخامس يركّز مولر على الضحية (أوفيليا وكأنّها تتحوّل إلى إلكترا) التي تقف موقفًا عاطفيًا قد تتعدى أفعالها حدود الكلام والتهديد والوعيد:
«إلكترا، باسم الضحايا، أكلت كل النطف التي تلقّيتها. سأحوّل لبن صدري سمًّا قاتلًا. سأستعيد العالم الذي أنجبته من بين فخذي… فليسقط حظّ الاستسلام ولتحيا الكراهية، الاحتقار، التمرّد والموت…».
في «آلية هاملت» النهاية دائمًا في التاريخ مثل البداية.
التاريخ المتكرّر نجده كذلك في «هرقليس5» (1964)، وعلى لسان أوجياس «النهاية تسكن في البداية، الموتى في الميلاد». هذه المسرحية القصيرة التي تدور حول العمل الخامس لهرقليس (دورنمات عالج هذه الأسطورة في «البطل في الزريبة»). وعند مولر الفكر الماركسي التقليدي محورها: فأهل طيبة يعيشون من بقر أوجياس. لكن رائحة الروث تزعجهم وتجلب المرض، وعندهم رغبة في التحرر من هذه الرائحة. ويخفي مولر خلف الرغبة رغبته في عالم بلا مسحوقين وبلا ضحايا. البطل يتصرّف هنا كعامل بروليتاري، كلّف عملًا ثوريًّا. لكنه بدل أن ينهي الروث يتحوّل نفسه إلى روث: «المجتمع المريض يولّد المرض». بالطبع يريد مولر أن يقول إن الماركسية لا تحمل حلولًا جدّية لتغيير الواقع.. وها هو هرقليس يعلن فشله.
من يكون هرقليس، أنا جسد بلا اسم/ أنا كومة روث بلا وجه. أنا أكوام القمامة/ الصوت الذي يخرج من الروث هو صوتي/ تحت القناع وجه من الروث…/.
وفي «بروميثاوس» (عن آشیل) نجد هذه «الثورة المستحيلة» ضد الآلهة، وهذا «الانتظار» الكارثي، والعمق التراجيدي الحاد، والعبث الطالع من أيّ محاولة لتغيير نظام التاريخ والآلهة «زوش وحده حر»… كل هذا صُنِع بلغة متفجّرة ملحميّة، شعريّة إیحائيّة، تحمل دراميّتها بقوّة تعبيرها، واندفاعها، وعلوّها….
إن التشاؤمية التاريخيّة التي وصفت بها أعمال مولر تخفي وراءها عبثيّة فاجعة، لكنها عبثيّة تحمل مدلولات سياسيّة وفكريّة معيشة. وهنا يفترق مولر مثلًا عن بيكيت (العبثيّة اللاهوتيّة إذا صحّ التعبير)، طالعة من عمق تناقضات الواقع الألماني والأوروبي في مراحل دقيقة من تاريخها. على أن مولر إلى هذه الطوابع السياسيّة القوميّة والحادّة (حتى الكوميديّة)، يجافي (التعليميّة). وإذا كان ثمّة شيء من هذا القبيل فموجود داخل (لغته). وعندما نتكلم على قوّة اللغة عنده، فلا نعني الوسائل الاستعراضيّة الزخرفيّة، بقدر ما نكتشف «مواصفات اللغة الملحميّة» كطاقة تعبيريّة، جسديّة تخييليّة متفجّرة، تصل إلى حدود الكلام «العراف» المتنبئ الإيحائي، الذي ينفتح على عوالم جديدة وآنيّة. أي ينفتح على إصغاء داخلي يميّز علامات الانتظار الذي ربّما نحتاج إليه: لكن أي انتظار عند مولر غیر انتظار الملاك الذي يُعلن المستقبل المظلم، ملاك الكوارث، ملاك الخراب، الذي يتوجّه إلينا عبر اللغة.
يقول مولر «يساهم الأدب في التاريخ بقدر ما يساهم هذا الأخير في حركة اللغة»…
مراجع
– «المهمة»، و«بروميثاوس»، و«کارتیت»، و«حياة غاندلينغ»، و«آلية هاملت»، و«هرقليس»، مسرحيات مولر بالفرنسية عن دار مینوي باريس 1981، 1982.
– هاینر مولر، عدد خاص بمجلة تياتر بوبليك الفرنسية، أيار/ حزيران 1989.
– «كوكتيل مولر» مقال بالفرنسية لسيلفر لوترنجر، تیاتر بوبليك، العدد ذاته.
– «وصف مشهد» لجينيا شولتز، المرجع ذاته.
– «هاینر مولر»، لجياني سيلاتي، المرجع ذاته.