الدنيا ليل، والعيادة في دور ارضي من بيت دون باب في فضل الله عثمان.
صالة كبيرة عارية الجدران بها عدة مقاعد مختلفة الأحجام على ارضية من خشب لون التراب لكنه مكنوس. عبدالله يجلس على مقربة من المكتب الصغير والتومرجي العجوز عند الستارة المدلاة على مدخل حجرة الكشف البعيدة، وهسررة باهتة لامرأة
شابة ترضع طفلا من ثدي عريان. النور خفيف واللمبة السرحيدة مدلاة من سلك مجدول، والمكان هادىء، والجير واقع عن الجدران.
كان عبدالله في انتظار الطبيب. أثناء ذلك حاول مرة أخرى أن يستعيد شيئا مما بقي في الذاكرة، منذ ترددت به أمه صبيا على هذا المكان. يذكر وجها بشوشا ضاعت ملامحه، وشعرا منكوشا مائلا للحمرة. لابد وانه قد تغير الآن. كان يعرف أن لأمه ثقة كبيرة فيه، طبيب فضل الله عثمان وأقربهم الى البيت، ومع ان الأولاد وأولاد الأولاد يترددون الآن على الطبيب الشاب في العيادة المشتركة فوق الجامع، فان سيرة المرض لا ترد أبدا دون أن يذكر اسم الدكتور رفعت بشكل أو أخر.
"الدكتور رفعت عالجها وبقت زي الفل".
"الد كتور رفعت أول ما فتح كانت تذكرته بخمسة صاغ" .
«ماتبصش للعيادة المبهدلة اللي هو فيها. بيقولوا لك ان عنده عيادة تانية في عمارة كبيرة وكشفها غالي قوي».
«اسكت يا عبدالله يأبني، امبارح وأنا داخلة عند ستك هانم، شفت الدكتور رفعت وهو نازل من العربية ما عرفتوش. السكر هده يا عيني».
وارتجفت الستارة قليلا، وخرج الطبيب العجوز تتبعه امرأة شابة وهي تعدل من ثياب طفل تحمله.
جلس وراء المكتب الصغير وراح ينكش في الأوراق، بينما راح عبدالله يحدق في الوجه الغريب الباسم، وسمعه يقول:
«هو النهاوده ابه با حاج شوقي؟»
"النهارده الخميس".
هكذا قال التومرجي وهو يعد الحقيبة الصغيرة الداكنة.
«أشوفه يوم الاثنين »، ومد يده بالتذكرة: " معلقة دلوقت، لما تروحي، ومعلقة الصبح.يعني كل يوم معلقتين، ورضعي الولد" وعبث قليلا في كوب ممتلىء بالملاعق، وانتقى واحدة رفعها أمام المرأة: "زي دي بالضبط".
ولاحظ عبدالله انها وسط بين الكبيرة وملاعق الشاي الصغيرة.
" حاضر".
" مش حتلاقي واحدة قدها، أديله معلقة ونص من الصغيرة الي عندك، يالله مع السلامة " وبينما هي تخرج: "لازم ترجي القزازة قبل ما تديله الاول. ما تنسيش ".
والتفت الى عبدالله منه وقام واقفا.
خرجوا الى فضل عثمان، ومشوا في نور اللمبات القليلة على واجهات المحلات المقفولة. كان التومرجي يسبقهما والحقيبة مدلاة من يده. وعندما وصلوا مدخل البيت المفتوح سبقهما عبدالله الى الداخل.
أثناء، الكشف، مال على امه وهمس:
"الدكتور رفعت يا امه".
ولكنه لم يتلق جوابا. كانت نرجس في غيبوبة متقطعة منذ أيام وكان الطبيب قد أعاد مقياس الضغط الى التومرجي الذي راح يطويه ويعيده بعناية الى الحقيبة المفتوحة على ركبتيه، واتجه الى حافة الكنبة وجلس بين الأولاد والأحفاد الذين ازدحم بهم المكان، وسمعه يقول:
"بقى لها قد إيه وهي كده ؟"
قال صوت:
"النهاردة رابع يوم".
"ربنا يسهل وتتحسن شوية، لأننا محتاجين نعمل تحاليل في المستشفى" وقام واقفا: "وهي دلوقت مسكينة ما تستحملش " وتوقف أمام عبدالله بشعره القصير الأبيض إلا من بقع ما زالت مائلة إلى الحمرة، وخيل لعبدالله وهو يعاود التحديق ان شيئا من ملامح الطبيب البعيدة قد عبرت فجأة لتخلي مكانها فورا لذلك الوجه العجوز المتعب الباسم وخيل لعبدالله انه هو، وليس هو، وسمعه يقول مصافحا:
"إن شاء الله يومين كده وارجع لها تاني".
وانصرف.
ظل عبدالله صامتا، وبينما الأولاد يميلونها لكي يعدلوا ثيابها ويريحوا ظهرها الى المسند الذي تراكمت عليه علب الدواء، انتبهت نرجس من غيبوبتها وقد انحدر المنديل وتعرى رأسها الثقيل وبان شعرها الخليط من فحم وفضة:
"فيه حاجة باينه من جسمي يا أولاد؟"
"أبدا يا امه".
ومدت البنت الصغيرة يدها وجذبت الجلباب حتى قدمي جدتها.
ابراهيم اصلان ( قاص مصري)