فيما مضى من سنين، قرأ بعضنا للشاعرة العُمانية فاطمة الشيدية ثلاثة دواوين شعرية نشرتها بين عامي 1997- 2004 (1). وعندما تشرع بقراءة قصائد تلك الدواوين، تنساب روحك بعذوبة مع اللغة الشعرية الرائقة، والصور الشعرية ثرية العطاء، والمضامين الخلاقة التي تسم أغلب قصائد الشاعرة بدفق جميل.
وفي الوقت الذي توقعنا فيه، كقّراء، أن تفاجئنا الشاعرة بديوان شعري رابع، أصدرت الشيدية رواية لها بعنوان «حفلة الموت»(2).
منذ الصفحات الأولى في هذه الرواية، تجذبك شعرية السرد الطافحة بعذوبة حتى تشعر أنك بإزاء قصيدة شعرية ولستَ بصدد نص سردي، لكنك، وكلما مضيت في قراءة النَّص، يأخذك السرد شطر عوالم المتخيَّل الروائي فيأسرك القص كما تأسرك لغته المتدفِّقة شعراً، ناهيك عن دسامة الثيمة Theme التي تتصدى لها الروائية في عملها السردي هذا.
على رغم أن غلاف الكتاب يحسم «جنس» هذا العمل الإبداعي من خلال مفردة «رواية»، إلا أن الشيدية لا تني تؤكِّد ذلك من خلال إحدى عتبات النَّص عندما تقول عن هذا الكتاب إنه: «رواية متخيَّلة نُسجت أحداثها من ميثولوجيات المكان العُماني» (ص5) ما يعني أنها بصدد عمل روائي متخيَّل، لكنه، وفي الوقت نفسه، عمل يوظف المخيال الميثولوجي العُماني في الخطاب الروائي.
تقنياً، تعمد الروائية إلى توظيف «ضمير المتكلِّم»؛ ذلك أن بطلة الرواية «أمل»، تستحوذ على تشخيص ولفظ جُل عمليات البرنامج السردي في الرواية، وهي لذلك بمثابة الراوي كليِّ الحضور Omnipresent Narrator أو الراوي العليم Omniscient Narrator. وتدفع بهذا البرنامج نحو استنفار طاقة الوعي في الوصف العلاماتي والحواري، والتذكُّر والمناورة، والدخول إلى مطاوي التاريخ، واللاشعور الذاتي وغير الذاتي عبر استنطاق ما يجول في ذاتها وذوات الآخرين المشاركين في برنامج الرواية السردي.
يمكن لنا استجلاء صورة المرأة بحسب تمثيلات Representations فاطمة الشيدية في «حفلة الموت» من خلال مستويات عدة أفرزها خطاب الرواية كالمستوى الذاتي، والمستوى الأسري، والمستوى المجتمعي.
المستوى الذاتي
تهيمن بطلة الرواية «أمل» على برنامج الرواية السردي بكل مبادراته وفصوله وتحولاته؛ فهي صانعة للحدث ومولِّدة له، ومشاركة في كل لفظ أحداثه، فضلاً عن رويه على نحو كامل، ناهيك عن أن طبيعة السرد تنتمي إلى السرد الذاتي Outodiegetic Narrative، أي أن الراوي في هذا السرد هو بمثابة الشخصية الحاضرة في كل أحداث السرد (3) المتاحة في الرواية.
أمل فتاة عُمانية من مدينة «نزوى»، فتاة رشيقة القوام جميلة الملامح، وهي فنانة تعشق الرسم. كانت والدتها قد جاءت من زنجبار كـ «عبدة» للعمل في قصور أحد الأثرياء العُمانيين الذي اغتصبها «الأم» وهي بنت الثلاثة عشر ربيعاً في ساعة خلوة، فضمَّها، ليتجنب الفضيحة، إليه كزوجة إلى جانب زوجاته الأخريات غير العبدات، فحبلت تلك الزنجبارية، وولدت له ابنة وتلك هي «أمل». نقرأ في الرواية:
«أم اغتصب الأب منها شرفها، وأهداها اسمه زوجاً تعويضاً غير عادل فقط لينقذ اسمه يوم حملت بي» (ص 79).
وفي رثاء «أمل» لوالدتها يوم وفاتها نقرأ: «طفولتك السمراء التي اغتصبها شيخ القبيلة الهرم، ممن هي دونه عمراً ونسباً وشرفاً، ممن تزوّج عبدته الحزينة الفاتنة، لأنه سطا عليها في لحظة شبق ملعون لتلد له نبتة ملعونة تسمى أنا» (ص 83).
وفي سياق رثائية «أمل» لوالدتها نقرأ أيضاً: «غادرتِِ الانقسام والخزي في حياتي وحياتك، غادرتِ فضيحة رسمت في دفتر مذكَّراتك بأنك لست سوى عبدة وهبتْ فرجها لسيّدها، وولدت بنتاً لقيطة» (ص 83).
ثم تقول «أمل»: «ما أبشع أن تكون حياتك كلها ثمرة خطأ فادح، وشهادة ميلادكَ تصحيحاً لذلك الخطأ، وعمركَ دعاء أن يصحِّح القدر أخطاءهم بغيابك» (ص 79).
تكشف لنا هذه المقاطع النَّصية عن ثلاثة مؤشرات تؤسس لـ «أمل» كينونتها الذاتية، فهذه البنت هي: «ثمرة الخطأ الفادح»، وهي «اللقيطة»، و«النبتة الملعونة». لقد ظلت هذه المؤشرات تحفر وجودها في ذات «أمل»، وصارت ترافقها كلّما تكبر وتنخرط في مختلف أوجه الحياة، بل وأصبحت هماً وجودياً لها ولا فكاك منه حتى دخلت أروقة وعيها وعلاقتها بالوجود من حولها، وهو ما راح يتكشَّف تباعاً، وعلى لسان «أمل» نفسها كونها الملفوظ البشري الذي قذفته ليلة الخطأ الفادح إلى العالم المرئي والمعاش؛ فقد بقيت تمارس لعبة الحياة/ الموت وهي «رهينة وجع مطبق منذ الأزل» (ص 28). وصارت اللعنة تماهي كينونتها الذاتية «تلك اللعنة هي أنا» (ص 32). وبدا الخوف بمثابة الهواء الذي تتنفسه «أنا بنت شرعية للخوف» (ص 38)، و«الخوف يتلبسني» (ص 45). وأمست ذاتها مدماة بالموت أو «مخضَّبة بالموت» (ص 45). وما ماضيها سوى «ماض ملوَّث بالموت والعار» (ص 74).
المستوى الأُسري
في ضوء هذه الحمولة النفسية، أفرزت الوضعية الذاتية التي تتميز بها شخصية أمل مجموعة من المعطيات؛ فلأنها ابنة عبدة تزوَّجها سيدها مجبراً لحفظ عاره، فإنها ما كانت متساوية وأمها مع زوجات وبنات الثري العُماني صاحبات الحسب والنسبي(4).
لقد كان التمييز الطبقي والعنصري عبئاً تعانيه أمل ووالدتها: «كنتُ أخاف هذه النظرة الحقيرة التي تختصر الإنسانية في معنى، والكائن في عضو» (ص 96). وكانت البطلة تتساءل على الدوام: «كم على المرء أنْ يدفع من أثمان في هذه الحياة القاسية؛ ثمن حريته، وثمن لونه، وثمن فكره المغاير.. وستبقى ألوان جلود البشر معيار حكم أخلاقي عليهم، في حين يصير الظلم شرفاً في كثير من الأحيان» (ص 84).
بدت أمل كراوية المصدر الوحيد في سردية الرواية التي تكشف عن صور من التمييز العرقي والطبقي التي تعرَّضت لها هي ووالدتها؛ فعندما عادت أمل من البحرين، وبعد استكمال دراستها، انخرطت بالعمل الوظيفي، وفي محاولة منها للتعويض على أمها التي عاشت سنوات الحرمان والتهميش وعدت والدتها قائلة مع نفسها: «كل أولئك الشامتين سيكونون أقل شأناً منك، سأهبك كل ما تتمنين من ذهب ومال وملابس لتكوني السيدة التي تستحقين، ولتكوني الأعلى من سيدات الأرداف الثقيلة والعائلات العريقة زوجات أبي الملعونات مثله اللواتي جعلنكِ دونهنَّ قدراً، وملأنَ عمركِ بالكيد والبغضاء والفتن، وأنتِ سيِّدة الصمت البليغ» (ص 81).
ليست زوجات الأب فقط كنَّ يمارس التمييز العنصري على أمل ووالدتها، سيِّدة الصمت البليغ، بل أبناء العمومة أيضاً، فهذا «خالد» الذي أحبته أمل يوماً لكنه يُضمر رؤية عنصرية لأمل كونها ابنة عبدة: «كنتُ أكره الأشباح التي تسكن رأسه، والطحالب التي تعشعش في مخيلته، كنتُ أكره ضعفه، ونظرته العنصرية لي» (ص 89).
أما الأب، فتكنُّ أمل له بغضاً منقطع النظير كونه العنصر المولِّد لمأساتها وأمها، فهو الذي دفعه شبقه الشيطاني إلى ارتكاب تلك الخطيئة التي أتت بالوبال عليهما. ولذلك لا تني فاطمة الشيدية إلا وتدفع ببطلة روايتها لفضح هذا الأب العُماني «أنموذج الذكورة المتجبِّرة» الذي أوقعه ظلمه في فخ الخطيئة. لنقرأ ما قالته أمل عن والدها في النُّصوص/ المقاطع الآتية:
«الرجل الذي يسمى أبي، ذلك الذي قذفَ بي إلى هنا، لعنه الله» (ص 59).
«أيها السافل! تهبني طعاماً لأصدقائكَ السَّحَرة، عليكِ اللعنة أيها الملعون وعليهم» (ص 59).
«لا.. لستَ إنساناً، أنتَ شيطان.. شيطان.. شيطان..» (ص 59).
«سأرمم الخيبات الموغلة عميقاً في جدر روحك، وأسعف الهزائم المباركة في عمرك لتكوني سعيدة؛ فجلادكِ رحل..» (ص 80).
«قررت أن أتفل في وجه أبي، وفي وجه السَّحَرة، والشياطين، والجلاميد والأحجار وأشباههما» (ص 134).
المستوى المجتمعي
يتضح مما سبق أن التجربة الذاتية والأسرية لأمل كانت قد كوَّنت عندها صورة سلبية للأب ولبقية أبناء الأسرة التي عاشت بين كنفها، وهي الصورة التي امتدت لتشمل المجتمع الذكوري بكل كينونته، بل والمجتمع العام برمته. وهذا ما نجده واضحاً في خلال سردية الرواية.
لقد عمَّمت أمل في النَّص/ المقطع الأخير فعل «التفل» = «البصق» ليطال البشر والشياطين والأحجار. وفي نصوص أخرى كشفت عن قمع المجتمع الذكوري للمرأة عندما قالت: «نحن نساء السواد المتدثرات بعباءات للأجساد لتكتمل حلقة الصهر لذلك الجسد الملعون؛ الأب والأخ والزوج والجغرافيا كلها تحاصره وتلفُّه بحرقة لتخفي لعنة مفاتنه وعبثية خلقه» (ص11). ونبقى عند تمثيل حال المرأة الخليجية أو العُمانية في أقل تقدير: «حيوانات كأبي وعمومتي وجميع أبناء البلدة، وهن راضيات بتلك الأدوار، مستمتعات بلذَّة الخضوع والخنوع» (ص13). بل تذهب أمل إلى الكشف عن حال جسديَّة المرأة المقهورة: «أنا التي شاهدتُ سياط الظلم تتلى على جسد أمي وكل نساء القرية..، الأزواج الذين جعلوا عقد الزواج عقد عبودية وامتهان.. يهرعون إليهنَّ ليلاً كالوحوش ليطفئوا رغباتهم القذرة في أجسادهن الهشة بلا كلمة حب أو لمسة حنان كي لا يتطاولن عليهم، كهذا تقول تقاليد القبيلة الغبية»(ص14).
إن نظرة أمل السلبية تجاه المجتمع الذكوري عامة، والرجل سواء كان أباً أم قريباً أم زوجاً على نحو خاص، قادتها إلى تنضيد مواقف معلنة تارة ومضمرة تارة أخرى من الارتكان إلى الرجل كزوج، فعندما كانت والدة أمل تلح عليها بالزواج كان الرفض حاضرا: «لن أتزوج أي حمار ورث النهيق كما ورث الرجولة المزعومة» (ص 90). و»لن أتزوَّج ممن هم كالبهائم أو أقل سبيلا» (ص 87)؛ فالذكور «ثيران لا يفهمون الحياة سوى من قرونهم أو من أعضائهم» (ص 120). ولذلك أصرَّت أمل على أن تكون «الفنانة التي لا تقوى إلا على نسج اختلافاتها ألواناً لتقاوم السقوط كي لا يذوب حلمها الذي غذَّته من فتنة المجهول في بوتقة رجل ساذج، رجل يقامر روحي بلحظة شبق ملعون، وبترك بصماته على جسدي المفتون بحمى الاختلاف وجريرة العشق»(ص14).
بإزاء كل هذه القناعات والمواقف التي ميزت شخصية أمل، ما كانت فاطمة الشيدية لتقف عندها دون تسريد Narrativivsation جملة من الحكايات في الرواية لكي تمنح خطابها مناورات عدة في تجسيد صورة المرأة المعذَّبة بين ناري وسلطتي ذكوريَّة الإنس وذكوريَّة الجان على أن تعدُّد الحكايات في النَّص الواحد يمنح هذا الأخير تنوّعه وثرائه وهو ما ينعكس على ثراء خطاب الرواية الخاص بها، وقبل ذلك يثري البرنامج السردي للرواية ويمنح الروائي قدرات على التحرُّك الحر في بناء ذلك البرنامج.
لقد بدت علاقة أمل مع والدها ووالدتها بكل ما فيها من مفاصل حكاية أولى في الرواية، إلا أن هناك حكايتين أيضاً؛ حكاية تعرُّض أمل إلى السِّحر، وحكاية عشق أمل لشاب من البحرين اسمه «أحمد الريّان».
كل هذه الحكايات الثلاث تمثل عصب البرنامج السردي في خطاب «حفلة الموت» التي عمدت فاطمة الشيدية إلى خلق بيئة من التلازم والتداخل فيما بين مفاصله حتى بدا البناء السردي فيه متراصاً من حيث وحدته الحدثية والخطابية.
منذ الصفحة 17 في نص الرواية، بدأت أمل، وهي الراوية، بتسريب بعض الإحالات صوب حكاية ما، حكايتها الخاصة بها. فهي تتحدَّث عن «كائناتي الكثيرة التي تسكنني» (ص 17). وهذا مؤشر على إشكالية ما تعيشها هذه الأمل. وبعد صفحات أخرى تقول: «أنا آخر المغيَّبين والغرباء» (ص 33). ومن ثم تقول متسائلة في معرض حديثها عن حبيبها أحمد: «هل سيحبني لو عرف حكايتي؟» (ص 53).
إن أمل المسكونة بالكائنات الكثيرة، أمل المغيَّبة، وصاحبة حكاية، تشي ذاتها الحبلى بالوجع الوجودي القاهر بما لا يُحمد عقباه. وبالفعل تمضي بطلة الرواية على نحو متداع في فعل حكي تواصلي يهدف إلى البوح بانطولوجيا حكايتها: «حكايتي التي بدأت بيوم غفوت فيه لأجدني كائناً مندمجاً بكائنات أخرى؛ كائنات شبحية لا أجساد لها، كائنات تأكل من رأسي، كائنات من الجن تقتنص حدائقي السرية، وتستلف صوتي وجسدي وحزني» (ص 54).
يتضح من هذا النَّص الحكائي أن أمل تعرَّضت إلى غيبوبة بفعل السِّحر، واستحالت، بعد تلك الواقعة، إلى إنسانة «مغيَّبة» (ص63)، ومسحورة، يصاحبها قط أسود «القط الأسود الذي يتبعني كظلي في كل مكان، والذي لا يراه أحد سواي» (ص72). وصارت هذه الخاصة لها مشهورة في فضائها الأسري والمجتمعي الذي تتحرَّك فيه، ومصدراً لقلقها وإزعاجها المستمر، بل مصدر اللعنة والخزي والعار والألم. حتى إن هذا «القط الأسود» صار ملازماً لها في علاقة تماهي، فقد قال لها القط مرَّة: «أنا عبد من عباد الله، وأنا وأنت متلازمان منذ قرَّر رجل من الإنس أن أكون ظلِّك، إلا تذكرين؟ ولن أسمح لكِ بالزواج من كائن آخر، وحين تقررين ذلك فستكون نهايتك على يدي!» (ص 73).
في عالمي الإنس والجان، ثمة محاصرة وقمع وطغيان وإحساس بالعار تتعرَّض له أمل؛ فالقط ذكر، والأب ذكر، والألم ذكر، والطغيان ذكر، والعار ذكر. وهكذا يبرم المجتمع الذكوري سطوته على ذاتها، ويلتف على كينونتها حدَّ الحق. ولنلاحظ أن القط الأسود أخبر أمل بأن رجلاً من الإنس طلب منه أن يكون ظلاً لها. وهو ما سعت فاطمة الشيدية إلى تشفيره بداية Encoding، لكن سرعان ما فكَّت أمل مسطرته Decoding؛ فرجلُ الإنس هذا هو والد أمل، لنقرأ: «الرجل الذي يسمى أبي، ذلك الذي قذفَ بي إلى هنا، لعنه الله.. أيها السافل! تهبني طعاماً لأصدقائك السَّحَرة، عليك اللعنة أيها الملعون وعليهم.. ألم ترقَّ لأعوامي النيئة وطفولتي الخبيئة؟ لا.. لستَ إنساناً، أنتَ شيطان.. شيطان..» (ص 59).
هذه هي جناية السطوة الذكوريَّة على أمل ابنة اثني عشر ربيعاً التي ساقها والدها إلى عالم السِّحر، وأدخلها في أتون مقاصده الدنيئة. وظلَّ هذا السِّحر يلازمها في رحلة العمر؛ في الدراسة بعُمان وفي البحرين، وفي بريطانيا أيضاً، وكلَّما سعت أمل للتخلُّص من سطوته، كان يداهمها فتنهار مراراً، وكلما أرادت أن تجري تحولاً في حياتها، كالزواج مثلاً، كان القط الأسود لها بالمرصاد حتى إنها، وعندما جاءها أحمد إلى لندن لكي يعقد قرانه عليها، أشهرَ القط الأسود الذي يسكنها سيفه بوجه وجودها حتى أحالها إلى جسم ميت لتودع في سرير التحضير على الدفن، وبينما غادرها أحمد يائساً منها راجعاً إلى البحرين، أفاقت من هيمنة هذا القط اللعين، ولكن بعد أن أفسد عليها زواجها من حبيبها الغالي.
على رغم سطوة جنايات الهيمنة الذكوريَّة على وجود أمل، ثمة أمل يدسُّه الوجود لهذه الفتاة المغلوبة على أمرها والمقهورة بسياط الإنس والجان من الرجال. وهذا ما سعت فاطمة الشيدية إلى تكريسه في الحكاية الثالثة من حكايات البرنامج السردي الخاص بـ«حفلة الموت».
وإذا كان القط الأسود ظل يرافق أمل في حياتها مذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، فإن أحمد، الأستاذ الجامعي، والفنان التشكيلي البحريني التي كانت والدته عراقية ووالده من البحرين، ظل يرافق أمل منذ بداية الرواية حتى لحظة انقضاض القط الأسود على أمل في لندن، ومن ثم انسحابه من عالمها.
إنَّ ما تريد فاطمة الشيدية قوله من خلال شخصية أحمد الريّان هو أن العالم الذكوري ليس كله شر؛ فثمة إضاءة يدلقها الوجود الذكوري على عالم المرأة وإن كان، هذا الوجود، مظلماً جرّاء قمع أبوية الرجل المقيتة.
ظلَّت أمل كـ«راوية كلية الحضور» هي المصدر الإخباري والوصفي والسيميائي لكينونة أحمد في كل سردية الرواية، فقد كانت العين الواصفة لجل ما تفكِّر فيه شخصية هذا الحبيب العاشق من أفعال داخلية Internal Action ولبعض ما تقوله وتفعله كأفعال خارجية External Action.
في بداية تعارفهما، فتحت أمل مساحة في ذاتها وقلبها لهذا الأستاذ الفنان، لكنها كانت تتقبله على مضض عبر أسئلة حائرة تتأرجح بين رفضه والقبول به، بين انتمائه إلى العالم الذكوري والحاجة إلى رجولته. لذلك، نجد جملة من الصفات السلبية الحذرة تكيلها أمل لهذا الفنان بداية مثل: «أيها المجنون لا تلاحقني» (ص 10). و«ماذا يمكن لهذا المتغطرس أن يحب فيَّ» (ص 35). و«هذا المجنون الأكبر» (ص 37). و»طير خرافي يتهادى ببطء» (ص 38). و»هذا الطاووس» (ص 39).
بالتوازي مع كل ذلك، كان أحمد الريّان أملاً لأمل المسحورة التي تساءلت مع نفسها مرة قائلة: «هل سيترك كل ذلك الظهور اللوني الصاخب والأنوثة الطاغية، ويأتي لي أنا؛ القروية الملوَّثة الذاكرة؟» (ص 35). وفي الوقت ذاته، كانت أمل تعتقد أنها «ومنذ توج الزمن عمرها بفتنة الخدر اللذيذ، وهي عاشقة بامتياز؛ عاشقة كنخلة يبدأ العشق لديها من الجذور ويتمدَّد حتى الطلع» (ص 12).
ووسط تساؤل من قبيل: «هل سيقدر على سحق كائناتي الكثيرة التي تسكنني؟» (ص 17)، قالت أمل: «آمنتُ بحبِّ أحمد، وبدأتُ أعيشه» (ص 16). وأصبحت «لا تستطيع قذفه خارج نوافذها المشرعة على انتظاراته، ولا خارج اللوحة التي تغذي جنونها به، وتتخذه ملهماً» (ص 36). وفي النهاية «لم تعُد قادرة على أن تسرج هواجسها المتوالدة بجنون إلا نحوه» (ص 37). وكانت تناديه بصوت مخبوء: «تعال لأعريِّ حقولي من الوهم وأغسلها بأمطارك» (ص 20).
لقد مضت أمل بحبها لأحمد الريّان إلى نهاية المطاف، كان يريد الزواج منها ويلحُّ على ذلك، بينما هي كانت متردِّدة خوفاً من اكتشاف أصلها كلقيطة، وإن أخفت فاطمة الشيدية ذلك، واكتشاف وضعيتها كفتاة مسحورة نخر القط الأسود أحلامها. ومع ذلك، ما كان الريّان ليقف عند كل ذلك حائراً، بل راح يخفف من وطأة أوجاع حبيبته، لكن القط الأسود انتصر عليه في نهاية الأمر بلندن عندما غيَّب أمل صوب أسوار كينونة الموت، وأحياها بُعيد رحيل الريّان عن لندن يائساً من أمل التي لم يستطع «سحق كائناتها الكثيرة التي تسكنها» (ص 17ت). وهي نهاية متوقَّعة، خصوصاً وأن أمل هي التي قالت يوما: «أنا أعرف جيداً أنني ولدتُ صارية للفقد» (ص 11).
لقد انتصرت ذكوريَّة الشر على ذكوريَّة الخير، ذكوريَّة الحقد على ذكوريَّة الحب. وبرغم شراسة ما تعرّضت له أمل من مكائد الإنس والجن أو الجان، كان الأمل يحدوها لتنفلت من كل ذلك، فالدخول إلى العالم الذكوري بمفتاح الحب والعشق بدا لها الخيار الأخير الذي عزمت على خوض غماره، وهو مؤشر على صلابة أنموذج المرأة الذي قدَّمته فاطمة الشيدية عبر تمثيلها المتخيَّل لشخصية أمل في «حفلة الموت»، وفي الوقت نفسه أنموذج المرأة المقهورة، المرأة حفيدة العابرين من ضفة زنجبار شطر عُمان، وابنة تلك «العبدة الزنجبارية» التي غار عليها سيِّدها العُماني يوماً، وفي طقس آثم، ليخلق السبي الوجودي لواحدة من تلك النسوة الفارات من الجوع والحرمان والألم شطر جوع وألم وحرمان وبكاء مضاعف فاجأها في الضفة الخليجية الجديدة.
هوامش
(1) الدواوين الشعرية هي: «هذا الموت أكثر اخضراراً»، دار الرؤيا، مسقط، 1997. «خلاخيل الزرقة»، دار المدى، دمشق، 2004. «مراود الحلكة»، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2008.
(2) فاطمة الشيدية: حفلة الموت، دار الآداب، بيروت، 2009.
(3) أنظر: جيرالد برنسك قاموس السرديات، ص 24، ترجمة السيد إمام، ميريت، القاهرة، 2003.
(4) كانت أمل ووالدتها تعيشان في بيت طرفي، بينما كان والدها يعيش مع نسائه الأخريات العُمانيات، نسائه غير العبدات، في منزل آخر هو «المنزل الكبير» (ص 50).
(5) تحدَّثت أمل عن نساء عدة يعانينَ من القهر الذكوري؛ فعن صديقتها بدرية قالت: «بدرية الحسناء التي غدت مجنونة من زوجها الذي كان يضاجع خليلاته في غرفة نومها» (ص 114). وعن أم شيخة قالت أمل: «أم شيخة التي تشتهي رائحة زوجها لعدة شهور، وهو يستبيح جسد الغلمان لطمر شهوته في مؤخراتهم الطرية» (ص 114). وبالتالي تلك «التي قذفت ينفسها في الفلج ليقال إنها مسحورة؛ لأنها شاهدت زوجها يمتطي خادمتها الأسيوية» (ص 114)..
رسول محمد رسول
باحث وأكاديمي من العراق