في ديوان إبراهيم نصر الله الأخير (الحب الشرير طوق الذئبة في الألفة والاستذئاب،) 1 لا يطالعنا الحب بأي من دلالاته الثقافية السابقة، إنما يأخذ دلالاته الجديدة من رؤية شعرية مكتنزة بدلالات جديدة تعيد الكلمة إلى منبعها الأول قبل أن يضفي عليها الإنسان معنى من عنده، شعرية قائمة على تعالقات نصية جديدة كل الجدة، تصنع من الحب معنى جديدا خارج دائرة المعتاد أو المتداول، أو تعيد له دلالته الأولى، ويتجاوز نصر الله المتكرر إلى منطقة أكثر صفاء ونقاء ترتبط بالإنسان الأول في طبيعته المتوحشة أو الغزيزية، دون الإشارة إلى ذلك مباشرة، هو حب لا يعتمد على المغازلة أواللهاث وراء المتع البسيطة؛ لذلك اتخذ نصر الله من الذئب والذئبة مرتكزا لبناء تجربته عن الحب، الحب الجديد، الذي ربما يقف على الطرف المضاد للحب بدلالته المتداولة في تجارب الحب العربي خاصة الحب العذري منه، وما يتضمنه من وله واستكانة، وانكسار وذوبان في استرضاء المحبوب، ومما يلفت انتباهنا أن تناصه مع طوق الحمامة في عتبة العنوان، لا يعد إلا مدخلا مراوغا لإيهام القارئ وكسر توقعه في آن واحد، وعبر قصائد الديوان الرئيسية يتصاعد الحب في رحلته وصولا إلى ذروته في الحب الإلهي.
هذا الانزياح الدلالي المؤسس لشعرية مبتكرة يجن في إهابه نوع من المقاومة لسلطة اللغة «الوسيط الأولى للسيطرة الاجتماعية والسلطة»2، فسيادة دلالات معينة لمدلول ما في شعرية ما يشبه سيادة اللغة المعيارية، وتقنينها يضارع تقنين اللغة المعيارية واعتبار أشكالها أنها الأشكال الوحيدة الصحيحة، ومن هنا تظهر أهمية ضخ دلالات جديدة لمدلولات استهلكت بفعل الاعتياد والتقنين، أو بعث دلالات قديمة تم تغييبها في ركام من المدولات الجديدة في إطار صراع الخطابات.
لم يأت اختيار الذئب بوصفه دالا مركزيا في النص عفو الخاطر، وإنما جاء بناء على وعي بطبيعة الحيوات الغريزية للذئاب، التي تقوم على روابط تدوم طوال العمر، من الثقة والحب اللامحدود، إذ يظل الرفيقان من الذئاب متلازمين طوال العمر، حتى وإن تعاركا أو نشب ما يعكر صفو علاقتهما، فالحبل السري بينهما غير قابل للقطع، وكنت العودة للذئاب بمثابة العودة للطبيعة الغريزية الأولى بصفائها، وبما لديها من قدرة معجزة على العطاء المستمر والتعايش في مختلف الأجواء، ليخرج مفهوم الحب من دلالاته المعتادة إلى أفق أكثر رحابة، من إطار المغازلة أو التغني بجمال المحبوب إلى رباط ممتد قوامه العطاء والجلد والقسوة في رحلة البحث عن الحب الدائم، ومن خلال دال الذئب والذئبة تأخذ تجربة الحب شكلا جديدا مغايرا ملحمي الطابع يتشابك فيه الحب بالعنف والدم بالنار وتتفاعل فيها مختلف عناصر الطبيعة الأولى في شكلها العذري، حيث العواطف فطرية كالطبيعة، وحيث الوصل هو سؤال الكينونة والوجود، ثم تأتي التجربة البشرية بوصفها ظلا أو امتدادا لتلك التجربة مضمخمة ببذور التجربة الأولى تتآزر فيها الصورة والعبارة والموسيقى في بناء مفهوم جديد للحب قوامه الحركة المستمرة والبحث الدءوب عن وصل لايبلى يضم الأنا والآخر في ذات واحدة .
في حياة الذئاب أو البشرية الأولى لا تُعد الملمات والنوائب أمورا مروعة أو سلبية، لأنها تمتلك القدرة على التعايش مع كل العواقب والمعوقات في سبيل خلق الحب الدائم، ولا فاصل بين القول والفعل، والحياة والموت في حبها:
لتقل ولو بعض المخالب أيها الذئب
استبح عنقي
وصدري مثلما عض الهواء شتاءنا ص18
ويتخذ الشاعر من الأضداد تكأة لإبراز طبيعة العلاقة التي تجمع بين الحب والدم والحياة والموت والحضور والغياب، فنلحظ مثلا تكرار لمفردة ذات طبيعة ضدية وهي (الحميم) بجمعها بين البارد والحار وبين المحبة والجحيم:
قلت لنفسي:حيث تكون الحميمة هذا مداي ص24
ويبحث الذئب عن كينونته ووجوده في المحبوبة الحميمة التي يبحث عنها، لا يتغزل في حسنها إلا وفق ما تمليه الطبيعة الوحشية لذلك الحب المعتق بالدماء والطراد المستمر والقنص والرغبة في الفناء في المحبوب، فيأخذ التغزل شعريته البكر على مستوى الخطاب الشعر بكل مكوناته المجازية والدلالية:
ذئبتي كحنيني وحشية.. كاندفاع السيول
ولكنني خفت إن سرت نحوك
أن بعد هذا الرحيل بلغتك، يا وجهتي، أن أضيع
أن نكون الذي قد تركت ورائي.. نكون القطيع
وأن لا أكون أناك
وأن لا تكوني أناي ص26
وفي تجربة الشعر مع الاستذآب لا ينغمس الشاعر في دائرة ضيقة قوامها الحياة في الغابات أو الطراد المستمر، إنما تنفتح النصوص المضمخة بمفردات الطبيعة نحو عالم الإنسان لا تفارقه البتة، حيث يتنقل الشاعر من طبيعة حيوانية إلى بشرية بيسر وسلاسة، حيث يتحول حب الذئاب هجاء للإنسان في زيف تحضره وهجاء لك ما هو قابل للتدجين والاستئناس، ذلك أن عملية الترميز المستمرة لا تنفك ترنو إلى الإنسان في قوته وضعفه، في همجيته وتمدنه، في محوه لكل ما هو فطري وتلويثه بيده الفظة التي تقلب حقائق الأشياء، منذ أن أمسك بزمام اللغة أضفى معانيه الخاصة على كل ما حوله وأعطاه معنى من عنده، وفقا لأهوائه ورغباته، يقول نصر الله في إطار المفاضلة بين الذئب والكلب:
والكلب ليس الذئب
ليس عواؤنا شبح النباح
ولا التذلل تحث أقدام الغزاة
وهم هنا، تحت السماء، سمائنا
الكلب ظل فنائنا
وخواء قاتلنا، وخوف كماله من عتمة الغابات..منا
الكلب كل خيانة حطت على ماء الوفاء
الكلب..لازمن إلى الأجداد يفضي
الكلب.. لا شبق العواء
لوليفة ملء البراري، من هنا حتى السماء
لا ليس منا من يروض كي على الذؤبان ينبح خلف أسلاك
الحظائر، أو يجرجر تحت أقدام الغزاة
جبينه قبل الذبول ص36
ولا يتعلق الأمر بمجرد التمرد والهجاء لكل ما هو مستأنس أو مجن، إنما يتجاوز المعنى إلى هجاء كل أشكال الخضوع والاستكانة، بكل معانيها وصورها، وصورتها هنا الكلب الذي فقد تاريخه، منذ تعلم النباح من خلف الحظائر، ومنذ هز ذيله للغزاة.
عبر أربع قصائد (الحب الشرير، أوبرا الذئاب، ظلال الذئبة، اشتعالات) يؤسس نصر الله لقصيدة شعرية طازجة مستحدثة تبعث النار في الكلمات، تحرق دلالتها القديمة لتبعثها في ثياب جديدة لم تبلها القوافي ولم تنل من براءته عصور متخمة بالشعر حول الحب والمحبوب، قصائد تمتح قاموسها العذري من الطبيعة قبل أن يشوهها الإنسان ويفرض عليها اشتراطاته، قصائد دامية يكون فيها الافتراس هو المبتغي والاتحاد الدموي هدفا دائما. ففي قصيدته المفتاحية (الحب الشرير) مهاد لكل التجربة، يقدم في عبارة شعرية مركزة طبيعة الحب الذي يتحدث عنها وتفرده بقاموس خاص، أما قصيدته الثانية فلجأ إلى تعدد الأصوات ما بين الذئبة والذئب في طوق جديد من العلاقات بين الإنسان في طبيعته الوحشية الأولى لما قبل طوق الحمامة والألفة والآلاف، حيث الحب لا يتأسس على عاطفة تذهب وتجيء، إنما على عاطفة تتوالد وتنتشر، بل تتفجر حيث المصير المشترك الذي يخلف مع كل زيادة ونقص وكل بدء ونهاية حبا لا يضاهيه حب في الوفاء، وحيث الموت واضحا في ذات اللحظة التي نشعر فيها أننا ظفرنا بالحبيب، وهذا ما يقدمه في قصيدته الحب الشرير:
خذنا إليك وضمنا واطعن هنا في القلب
طعنتك/ الحريق القاتلة
واخرج أمام الناس مسنونا
فلا خوف عليك ولا
وقل للسابلة
ها قد قتلت فتى القصيدة في القصيدة
وابتهج
إن الجريمة كاملة ص13
ويقول في موضع آخر:
إن لم تكن ميتا
ستظل ميتا للأبد
لو لم تأكلك ذئبة ص 47
يناظر الشاعر بين حياة الذاب وحياة البشر، ففي مجتمع الذئاب تواجه دوائر الحياة/ الموت/ الحياة الطبيعة والقدر بالقبول والتعقل والتجلد، ويظلون متلاحمين، كل إلى رفيقه، لكي يعيشوا حياة أرحب وأفضل قدر الإمكان، ولكي يتسنى للبشر أن يعيشوا هكذا ويبلوا الوفاء على هذا النهج شديد التوافق…يتعين عليهم أن يواجهوا أكثر شيء يخافون منه»3
ويقول أيضا:
يا ليتني ذئبا لأنهش عنقها
لتكونني وأكونها ص53
إذا كانت ذروة الحب بين متحابين فناءهما في روح وجسد واحد؛ فإن الحب وفقا لما يقدمه يتجاوز ذلك إلى امتزاج الدماء والعظم بالعظم بالمعنى الحقيقي أو الأولى للامتزاج، في تجربة قوامها الحب والموت وكأننا أمام معنى بكر للحب يربطه بالفناء الكامل لا كفناء المتصوفة، وإنما فناء الإنسان البدائي في الطبيعة، أو فناء الإنسان في مرحلة الاستذئاب في غيره، لتتوحد الأنا بالآخر في وحدة واحدة، ومن ثم جاء الرجوع إلى تلك المرحلة بحثا عن عواطف الإنسان البدائي الذي عاش محتفظا ببكارته التي هي جزء من بكارة العالم، حيث لم تلوثه الكلمات بدلالته الجديدة، ولا الحضارة بمستحدثاتها ومراوغاتها:
يسقط الذئب في الحب مثل سقوط الفريسة في لحمه
ويذوب
ويختلط الكون في عظمه ص40
وفي قصيدتيه الأخيرتين ينتقل نصر الله إلى التجربة البشرية في الحب باعتبارها ظلا أو تحولا مرحليا لحب الذئاب بما فيه من عنفوان وفاعلية وبكارة ومحاولة دائما للاكتمال والفناء، وبناءعليه جاء النص الأخير عمودي النسق متماهيا ومتناصا مع رائعة الحلاج، (أحبك البعض مني فقد ذهبت بكلي) ليتحول الحب إلى تجربة عرفانية في اتساعها، منفلتة من حيز محدود إلى لانهائية الوجود، في رحلة الإنسان من الحب العزيزي الوحشي إلى الحب الإلهي، دون وجود فواصل جوهرية بين التجربتين إلا ما أضفاه الإنسان على الوجود من معنى، فلا تنفصل قصائد الديوان عن بعضها بعضا، إنما هي درجات سلم على القارئ أن يصعده وئيدا متمهلا ليمسك بجوهر الشعرية الكامنة، والقائمة على التدرج المستمر للوصول إلى ذروة تشبه الذروة الدرامية، وهو ما عودنا عليه نصر الله في تجارب شعرية سابقة: بسم الأم والابن، أحوال الجنرال، مرايا الملائكة…إلخ، حيث يشكل الديوان وحدة واحدة على مستوى التجربة في كليتها، دون أن يطغى ذلك على بنية كلة نص في أحاديته الفذة المتفردة.
ويطول بنا الأمر لو أفضنا في الحديث عن التشكيل الفني لقصائد الديوان، لكن أبرز ما يميزها هو تعدد الضمائر وتتعدد الرؤى والأصوات وصور الفعل والحركة، وهو ما يعطي الديوان طبيعة ملحمية، ويعضد من ذلك على مستوى البنية الإيقاعية أن الشاعر نوَّع في موسيقى قصائده بين العمودي والتفعيلي والنثري، وليس الأمر خاصا بكسر رتابة نسق وحيد، بقدر ما هو مسايرة لتجربة أراد لها الشاعر أن تكون حرة محلقة، ذا طابع ملحمي يضمها خيط واحد على مستوى الفكرة الأساسية، لكن تتسم بالتنوع شكلا ومضمونا، بصورة تجعلها مليئة بالمفاجأت والقفزات من نص قصير إلى نص طويل، ومن قصائد إيقاعية إلى أخرى نثرية تعتمد على موسيقاها الداخلية، ومن الشذرة الشعرية المركزة إلى القصيدة الطويلة الممتدة، ومن صوت مفرد إلى أصوات متعددة، وهو ما كفل للتجربة حرارتها وحيوتها، بعيدا عن رتابة التكرار، مع احتفاء خاص بالطبيعة وعناصرها، وهو ما أكسب القصائد بعدا إنسانيا، إلى جوار ملحميته فكانت التجربة ذات امتداد في التاريخ البشري وامتداد في جغرافية الإنسان على الأرض، بدءا من الحب الغريزي إلى ذروة الحب الإلهي دون أن يكون لأحدهما فضلا أو ميزة على الآخر في مدارج الوجود.
هوامش
1 – إبراهيم نصر الله، الحب الشرير طوق الذئبة في الألفة والاستذآب، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2017م
2 – نورمان فيركلف، اللغة والسلطة، ت محمد عناني، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2016، ص17
3 – كلاريسا بنكولا، نساء يركضن مع الذئاب، الاتصال بقوى المرأة الوحشية، ت مصطفى محمود محمد، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 2005، ص162
محمود فرغلي*