محمد الشارخ *
لا يوجد على الإطلاق ما يدعو لتذكره… منذ أكثر من عشرين عاماً رأيته صدفة ونسيته. لم أكوّن صداقة معه رغم أننا سافرنا معاً نهاراً طويلاً. أكلنا وضحكنا وتجولنا وتحدثنا بأمور كثيرة ومع ذلك نسيته تماماً. فيما عدا رسالة بالفيسبوك وصلتني منه منذ سبع أو ثماني سنين من أستراليا. وها هو فجأة يقفز إلى ذاكرتي من جديد. لعله أكبر كذّاب عرفته في حياتي، بل ربما أكبر كذّاب في الدنيا. هل هو فعلاً أكبر كذّاب في الدنيا!! ربما يوجد من عنده كذب أكبر. يقول الكذب نوعان. كذب لإسعاد الناس. وكذب بلا معنى أي ليس له داعٍ أو أثر على السامع. كذبه من النوع الأول. هل هناك أنواع كذب أخرى؟ نعم بلا شك. الكذب السياسي مثلاً. هناك كذب لئيم لكسب أو مصلحة مثل كذب التجار وخاصة سماسرة العقارات. هو لا يسمي هذا كذباً يعتبره تكتيك مصالح. هل أساء لي كذبه؟ لا على الإطلاق. هل أسعدني؟ ليس تماماً. لقد أضحكني. والآن جعلني أفكر من جديد في جدوى الكذب ومزاياه وعيوبه وأنواعه. فعلاً ليس كل الكذب شراً.
كنت أسأل موظف الاستقبال في فندق التيوليب في مدخل مدينة نزوى التي أحببتها من زمان، وهي مدينة راسخة تعود لآلاف السنين تحيط بها جبال شديدة السمرة صلدة مقفرة متوحشه لو نظرت إليها ليلاً لتملكك الرعب، رعب السحرة والجن والشياطين. وجوه أهلها مليئة بالبِشر والسكينة والتقوى والرغبة في مساعدة الغريب، بها مسجد كبير مزدحم بالمصلين، وقلعة من القرن السابع عشر واسعة ذات دهاليز وسراديب وممرات مموهة متشعبة تتراءى لك فيها الأوهام والحكمة وعتمة التاريخ.
كنت أسأله عن الطريق إلى صلالة التي ما التقيت امرؤا في عُمان إلا وسألني هل رأيت صلالة. وجدتها فرصة في عطلة نهاية الأسبوع أن أركب السيارة وأذهب لصلالة التي يتحدثون عنها كما تتحدث الجدات عن الجنة. ولم يكن بيدنا آنذاك جوجل وخرائطه ولا ويكيبيديا ومعلوماتها. سألته فأخبرني أن الطريق صحراوي طويل حوالي ثمانمائة كيلومتر وهو الطريق المعبد الوحيد في صحراء ممتدة، وبه علامات طرق واضحة لكن لا توجد به محطات كثيرة للتزود بالبنزين ولا بقالات لذا يجب أن أخذ احتياطات كافية للضرورة. كما أخبرني أن هذا الوقت ليس وقت السفر لصلالة فموسم زيارتها الخريف، خريف صلالة مشهور، ونحن في أكثر أشهر الصيف حرارة… في يوليو… الحرارة شديدة. ونصحني أن يكون معي مرافق احتياطاً لتعطل السيارة أو لرفقة الطريق.
سحبت شنطة ملابسي وخرجت من الفندق وفتحت باب السيارة فإذا بشخص يساعدني في وضع شنطة الملابس بالسيارة لعله سمع موظف الاستقبال وهو يتحدث إلي. ظننته لأول وهلة من بوابي الفندق، قال لي… أنا أيضاً ذاهب لصلالة ويمكنني أن أرافقك. متوسط القامة يميل إلى السمرة، على محياه ابتسامة وملابسه نظيفة. يوحي مظهره بالتهذيب والدماثة. قلت “أهلا وسهلا”. ركبنا معاً ولاحظت أنه لا يحمل شنطة ملابس فسألته قال أن لديه أقارب في صلالة يود زيارتهم ولا يحتاج ملابس. انطلقنا وبدأ يشير لي بأسماء الأماكن، المدارس، المستشفى، الجامعة، قلت له أنا أستطيع أن أقرأ فلا داعي لقراءة أسماء الأماكن… قال “الكلام مفيد” وأضاف ” أصعب شيء على السائق في هذا الطريق الطويل أن ينسى نفسه ويسرح في التقكير؛ ولذا فأنا أنوي مساعدتك في الكلام حتى لا تسهو أو تنام فيحدث لنا حادث -لا سمح الله-، ثم أنا الذي أتكلم… وهو لساني أنا فما الضرر في ذلك”.
قلت: لكني أعرف القراءة…أستطيع أن أعرف أسماء الأماكن بنفسي.
قال: وما يضيرك أن أقرأ لك الأسماء أيضاً. أم أنك من الناس الذين لا يحبون الكلام؟
قلت: بصراحة الكلام الكثير لا أحبه.
ضحك وهو يمرر يده نحو أزرار الراديو وقال “أنا بعكسك تماماً…أنا أحب الكلام. ومع كل الناس خاصة المتعلمين مثلك.
قلت: وكيف عرفت أنني متعلم؟
قال: من طريقتك في الكلام. ومن هذه الجرائد الكثيرة في المقعد الخلفي. -وأخذ يضحك- تقول لا تحب الكلام وهذه الجرائد أليس كلها كلام. كلام في كلام في كلام؟ اعتبرني جريدة ناطقة.
قلت حانقاً: اسمع…أنا أحب الهدوء. وأعرف أن الطريق طويل وخالٍ من السيارات ويروقني أن أمتع نظري بالصحراء دون ضجيج فهل تسمح بأن توقف الكلام؟
قال ضاحكاً: أنت تتكلم كالملوك، تبدأ الكلام وتنهيه كما تحب عندما تشاء. هل أنت ابن ملك!! وضحك وهو ينظر إلي مخاتلاً…أم أنت رئيس عصابة إجرامية يأمر وينهي بكلام قاطع أو إشارة كما في الأفلام.
قلت: دعك من هذه القصة…لست ابن ملوك ولا رئيس مافيا. قل لي ما اسمك على كل حال.
قال: أحمد بن سعيد بن غانق الغمراني من قبيلة العطوفة أصحاب المعارك والمكارم وكثرة الإبل أرضهم تمتد من نزوى حتى البريمي. وأنت ما اسم قبيلتك؟
قلت: أخ أحمد نحن لسنا أهل قبائل.
نظر لي ضاحكاً وقال : ها أنت تكذب.
استفزني بهذه الكلمة فالتفت نحوه وقلت “أنا لا أكذب نحن لا نستعمل أسماء القبائل…ثم كيف تتهمني بالكذب هذه إساءة.
ضحك وهو ينظر إلي: هل لا تحب الكذب أيضاً؟
قلت: طبعا.
قال وهو يهز رأسه ضاحكاً: إذن حياتك مملة…
قلت: كيف مملة؟!
قال: الكلام الخالي من الكذب لا طعم له. السلام عليكم وعليكم السلام، كيف الأهل…ما أخبار الجو اليوم؟ كم ارتفع سعر اللحم؟ أيوجد طماطم بالسوق…؟ أليس هذا كلام ممل؟! إنه خالٍ من الكذب… لو قلت بعد السلام هل شاهدتم الطير الأزرق الذي وصل من صنعاء يحمل فيلاً؟ لانتبه الناس لك، وأنصتوا لك، وتبادلوا الأحاديث والأخبار، وستسمع بعد حين من يشهد بأنه رآه… ولو قلت أن الطماطم نفذت من السوق بسبب حرب العراق لاستغرب الناس، وجاءوا يسألونك هل ستتوفر الطماطم لو توقفت هذه الحرب. إنهم لا يعرفون عن أي حرب أنت تكلمهم. لكنه الخيال، وحب الكلام، والبحث عن موضوع. وعن الدهشة. السلام عليكم وعليكم السلام خالية من الدهشة…مملة…الحياة دون كذب حياة خالية من الدهشة… جداً مملة.
قلت: يا سلام على فلسفتك!
قال: لست فيلسوفا لكني أكذب لأسلي نفسي وأفرح الناس. وأنت تقول تكره الكذب وهذا مناقض لأفعالك.
قلت: وكيف وجدت تناقض أقوالي وأفعالي؟
قال وهو يستدير للمقعد الخلفي: انظر إلى هذه الجرائد…
قلت: إنها جرائد.. جرائد أمس وأول أمس واليوم.. لم أنظف السيارة بعد.
قال: أليست كلها أكاذيب؟
قلت: الجرائد؟
قال: طبعاً.
قلت: وكيف تعرف أنت أنها تكذب…هل تقرأ الجرائد أنت؟
ضحك: أنا… أنا طبعاً لا أقرأ الجرائد. أنا أستطيع أن أكتب جريدة كاملة وبالوفيات أيضاً وبإعلانات السينما والكوكاكولا، أنا لوحدي…الجرائد مهنة للكسب، يشحتون ضمن القانون، وبفخفخة. والناس يتلهفون على الجرائد لا لمعرفة ما يجري في الدنيا…نحن نرى فقط ما يريدوننا أن نراه من الدنيا…الذي يجري في الدنيا نحن لا نراه.
قلت : من يراه إذن.
قال : الحاكم.
قلت : أي حاكم.
قال: ألا تعرف من هو الحاكم…سأقول لك…إنه الذي لا تستطيع أن تشتمه…الملوك ورؤساء الجمهوريات ويهود أمريكا…الحاكم مقدس لا يُمَسّ مثل الرب. أنتم لا ترون إلا ما يريدونكم أن تروه.
قلت: من تقصد بأنتم.
قال: أقصد أنت وأمثالك. أبناء الملوك. المتعلمون. يتحدثون عن أخلاق لا يملكونها. ينصحوننا بطرق عمل الثروة وهم يلهثون وراءها. يتشممون رائحة المال في الأعراس والوفيات الكبيرة ويتابعون أصحابها ويكتبون أكاذيب قيلت لهم أو ألفوها أو قرأوها عن هذه الأمور وغيرها.
قلت: لكن توجد أيضاً معلومات وحقائق.
ضحك ساخراً: الحقيقة…ما هي الحقيقة؟
قلت: ما هي الحقيقة؟
قال: كله أكاذيب. هناك حقيقة واحدة فقط…أنا موجود. غير ذلك أكاذيب، في كل بلد لها لون وطعم…لكنها جملة وتفصيلاً أكاذيب.
قلت: يا أحمد…أنت تتهم كل البشر بالكذب…ألا يوجد رجال صادقون في الدنيا؟
قال: اسمع… بعد النبي محمد لا يوجد عظيم… ربما واحد أو اثنان.
قلت: وكيف توصلت لهذه النتيجة؟
قال: ببساطة محمد قال: الدنيا جسر، وحذرنا من الوقوع في الهاوية، وقال تحمَّلوا واصبروا على هذه الدنيا؛ وانتظروا الجنة. كلام بسيط واضح وهو الحقيقة.
قلت: تبدو شديد الإيمان…
قال: لقد تركت الصلاة والصوم منذ الرابعة عشرة. تركتها لأمي. فهمت كلام النبي وتركت الباقي لأمي.
قلت: أحمد… يكفي نقاش…أنت تأخذنا من موضوع لموضوع آخر… يكفي… دعني أقود السيارة بهدوء…لقد مللت كثرة الكلام.
نظر لي حانقاً وفتح زجاج نافذة السيارة ومدّ رأسه للخارج، مدّ رجليه طويلاً أسفل مقعد السيارة متململاً. ثم أخذ التلفون: هالو يامّه…أنا في مسقط… لن آتي الليلة.. عندي تسجيل بالتلفزيون… سوف تشاهديني الساعة الثامنة والنصف هذا المساء…أمثل مسرحية بالتلفزيون …احرصي على المشاهدة. قلت لك ابنك ممثل كبير” .
نظرت له مستغرباً. أوقفت السيارة ورحت أحدق به وهو خافض رأسه يهز قدميه أسفل المقعد ثم رفع رأسه نحوي: هل تريدني أن أتركك لتسير لوحدك؟
تمالكت لساني. كان ذلك تهديداً فالطريق ما زال طويلاً. صحراوي موحش. لا سيارات ولا بشر ولا شجر. لا شيء على الإطلاق، وكنا قد قطعنا حوالي ثلاثمائة كيلو متر، والباقي أكثر من الكثير. والحرارة شديدة، والشمس ملتهبة، وحين أفتح زجاج النافذة يندفع هواء كاللهيب.
قلت: لماذا كذبت عليها؟
قال: لأسليها…
قلت: وهي ألا تعرف أنك تكذب؟
قال: ابنها يكذب!! مستحيل… ماذا تعرف هي؟ كل ما أقوله لها حقائق. الأمهات…الأمهات دائماً يصدِّقن أبناءهن. لو لم يصدقوهم لأصيبن بالجنون… بالخيبة…بغضب الله…
قلت: أين تسكنون؟
قال: في البادية.
قلت: هل لديكم تلفزيون؟
ضحك مجلجلاً: تلفزيون؟ أنتم المتعلمون تظنون أنكم تعرفون كل شيء وأنتم لا تعرفون شيئاً عن هذه الدنيا…لا يوجد عندنا كهرباء…كيف يكون عندنا تلفزيون؟
قلت: إذن كيف تشاهدك؟
قال: ليس مهماً.
قلت: كيف ليس مهماً وأنت تؤكد عليها أن تشاهدك هذا المساء؟
قال: ليس مهماً ما قلت. المهم أنها ستروي الخبر للأهل وسينقلونه للجيران وسيفرحون وقد تجد بعد أسبوع من يبلغهم أنه شاهدني فعلاً على التلفزيون…
قلت: ما عندكم كهرباء…وعندكم تلفون يا أحمد!!
قال: ها أنت تتسقط الأكاذيب، ما فائدتك من ذلك؟…أمي لا تعرف الأرقام أصلاً. كيف لها أن تستعمل التلفون؟…دعنا نتسلى بما نتحدث به بلا سؤال وجواب.
سألته: ما عمرك؟!
قال: سبعة وعشرون…أصغر منك قليلاً. خمس أو ست سنوات أليس كذلك؟. أنت أكبر مني المفروض أن تعرف أكثر مني. أليس كذلك؟!.
قلت: وماذا تعمل؟
اعتدل في جلسته ونظر لي متفاخراً: مخرج تلفزيوني.
قلت: ماذا تخرج للتلفزيون؟
قال: تمثيليات…
قلت: مثل ماذا؟ ما اسم التمثيليات التي أخرجتها؟
ضحك وقال: كثيرة، كيف تعرفها… هل تشاهد أنت التلفزيون المحلّي؟ حسناً…تمثيلية رياح الصحراء ثماني حلقات هل شاهدتها…؟
قلت: لم أسمع بها.
ضحك: إذاً ما الفائدة من أسئلتك هذه، وأنت لا تشاهد التلفزيون المحلّي؟
سألته: وهل درست الإخراج التلفزيوني؟
قال: لا … أبداً … بالمشاهدة … والممارسة.
لم أكن أعرف شيئاً عن الإخراج التلفزيوني؛ لأسأله وأتأكد من صحة ما يقوله ولكن هاجساً بكذبه جعلني أسأله:
“هل هذا الكلام كذب أيضاً؟ ”
قال بمنتهى الجدية: نعم…ألم يسليك هذا الكلام؟.. ألم يشغل تفكيرك ووقتك؟ ألم يسمح لنا بالحديث معاً والمسخرة…ومع ذلك تقول أنك ضد الكذب .
قلت: خلاص يا أحمد، لا أريد أن أسمع قصصاً أخرى.
قال: إذن افتح الراديو، واسمع الأخبار…كلام الراديو وكذبه أحسن، والتلفزيون كذب أكبر وبالصور. هناك أيضاً أنت لا تعرف الخبر الصحيح… فقط أنا الذي يكذب. أما الراديو فأنت لا تخاطبه… تظن أن أخباره صحيحة… أنا أستغرب منكم… متعلمون وتجهلون أبسط الأمور..
قلت: خلاص أرجوك… لا أريد النقاش ثانيةً.
قال وهو يضع رجلاً فوق أخرى: حاضر يا ابن الملوك… ونظر لي ساخراً.
ومن بعيد شاهدنا محطة بنزين فالتفت نحوي قائلاً: أعطني خمسين ريالاً للبنزين…أنا سوف أحاسب.
قلت: لماذا؟ أنا أدفع الحساب.
قال: هل تخشى أن أهرب بالفلوس؟ عيب عليك…هل تراني حرامي؟
قلت: لا… لكن ما الداعي؟
قال: أحسن…أبناء الملوك لا يحاسبون…نحن نحاسب عنكم…هذا أفضل…اسمع مني.. فخفخة… لم لا…؟
أعطيته النقود وحين أوقفت السيارة فتح باب السيارة مسرعاً واتجه نحوي وفتح لي باب السيارة وانتظر حتى أنزل وهو ينادي عامل المحطة ثم قال له: هل يوجد حمام هنا…ابن الأمير (وهو يشير إليّ) يريد أن يغتسل…وحين عدت من الحمام وجدته في حديث طويل مع العامل وبيده زجاجة ماء قدمها لي بكل احترام قائلاً: تفضل سموك…
ركبنا السيارة وسألته لماذا أطلقت عليَّ هذا اللقب. قال: ماذا يضيرك في هذا الأمر…لقد أخبرته أننا تعارفنا بالحج في العام الماضي، وأنا معك دليل في الأراضي العُمانية، وقد دعانا للغداء عندهم فأخبرته أن سموكم لديكم ارتباطات… لقد كان مسروراً بلقائنا… وجد من يتحدث معه حديثاً مختلفاً عن روتين الكلام اليومي مع العمال الآخرين…دعه يكون مسروراً، سيروي كيف تعرف على أمير. بصراحة ملابسك نظيفة كأنك ابن ملوك… حتى رائحتك عطرة…
قلت له: أنت هائل… خيالك عظيم…ألا تفكر في استعماله بطريقة أخرى؟
نظر إلي بتلك العينين الشهباوتين الماكرتين قائلاً: تريدني أن أكون ماكراً…أن أسعى للنجاح.. أن أبحث عن المال…أن أبني قصراً … لا لا يا صديقي، أنا رجل بسيط وليس لي طموح بأي شيء. ماذا يجلب الطموح سوى الهموم؟
قلت: أبداً… ولا شيء…
قال مستدركاً: بلى امرأة …أرملة ثرية تغنيني عن كل شيء وأعطيها كل شيء.
قلت: وأين ستجدها؟
قال: ربما في صلالة…ربما في مسقط…ربما في أستراليا…
قلت: ذهبت بعيداً…
قال: من يدري… من يعرف المقادير… هناك فتيات صغيرات جميلات يتزوجن أصحاب الملايين يموتون معهن بعد سنة أو سنتين، ويظللن يبحثن عن زوج زينة لأن عندهن فلوسا… أريد أن أكون زينة عند أرملة ومطيعا…أرتاح ولا أنتظر الجنة.
وصلنا الفندق أول الليل. وتقدم أحمد كعادته وطلب غرفتين. حين سألته فيما بعد لماذا لم يذهب عند أقاربه أجابني على الفور أنه اتصل بهم بالهاتف وأخبروه أنهم سافروا صباح اليوم إلى مسقط. وحين قدم جواز سفره لموظفي الاستقبال كتب اسمه منتصر الشيمي. نظرت له ضاحكاً… هل غيرت اسمك هذا المساء؟
أجابني بابتسامة ماكرة: ما فيه مجال…هنا يريدون جواز السفر .
اغتسلت ونزلت أبحث عنه لنذهب للعشاء خارج الفندق فرأيته جالساً مع شلة يتحدث بإسهاب. ألقيت السلام عليهم وقالوا تفضَّل. فجلست أنتظره ينهي حديثه. وعرَّفهم بي. أطلق علي اسماً جديدا، شهاب الدين بن أحمد الفضلي. قال إننا تعارفنا في موسم الحج العام الماضي، وقد دعاني لصلالة لأنني أحب تسلق الجبال، وإذا أعجبتني الأحوال فسأبني منتجعاً للتسلق. وبدأت الأعين تنظر لي بإعجاب، وسألني أحدهم عن هذا المشروع فأيقنت أنني سأتورط في حديث لا أعرف منتهاه. قمت مسرعاً من الجلسة معتذراً بأن عندي صداعا. وعدت لغرفتي وكان قد أصابني صداع فعلاً. أخذت من الاستقبال جرائد اليوم. تمددت على السرير وفتحت التلفزيون كي أبتعد عن الأكاذيب.
في الغد إذ خرجت من الفندق بعد الفطور رأيته جالساً على الأرض بجانب سيدة تبيع اللبان والبخور، وبجانبها فتاة صغيرة، ورجل عجوز ذو لحية بيضاء كثيفة طرفها أحمر من الحناء وهو يحدثهم بإسهاب وحميمية. لم ينظر لي، ولم يطلب أن يرافقني. ولم أره بعد ذلك. لكنه ترك رسالة بالفيسبوك من سنوات يذكر لي فيها أن أستراليا جيدة للاستثمار بمنتجع للتسلق.
واليوم ما الذي جعلني أتذكر أحمد بن سعيد أو منتصر الشيمي أو كيفما يكون اسمه الحقيقي… ما الذي جعلني أتذكره بعد أكثر من عشرين عاماً؟! ربما ترامب…