رينوسوكيه أكتاكاوا
ترجمة: كاظم الحلاق-ناقد ومترجم عراقي
رينوسوكيه أكتاكاوا Ryunosuke Akutagawa
ولد بطوكيو في الأول من آذار عام 1892، كاتب غزير الإنتاج. كتب خلال عمره القصير أكثر من 150 قصة قصيرة، منها على سبيل المثال: ” الأنف” The nose، “خيط العنكبوت”، The spider’s Thread، “شاشة الجحيم” Hell Screen ، يعتبر الأب المؤسس للقصة القصيرة اليابانية. منذ نعومة أظفاره كان قارئًا انتقائيًا نهمًا للأدب الغربي والياباني والصيني. عام 1913 درس الأدب الإنكليزي في جامعة طوكيو، ثم أصبح مدرّسًا فيه قبل أن يقرر تكريس حياته بإخلاص للأدب. كانت أمه مصابة بانفصام الشخصية فانعكست آثار مرضها على حياته، إضافة إلى مسؤوليات أخرى عديدة أنيطت به، كتحمل تبعات احتراق منزل أخته، والرحلة التي كلفته بها صحيفة Osaka Mainichi Shimbun إلى شنغهاي مدة أربعة أشهر، ليعمل مراقبًا صحفيًا في الخارج أو فيما وراء البحار خلال التغيرات الثورية التي شهدتها الجمهورية الصينية في عقدها الأول. جميع هذه الأحداث والتنقلات هدّت قواه وأضعفت طاقاته، فأمسىى يحيا بين براثن المرض، خائفًا من أن ينتهي إلى المصير ذاته الذي ألم بوالدته ويصبح مجنونًا هو نفسه. عاني رينوسوكيه من الأرق والهلاوس، حاله ازدادت سوءًا عبر المهمة غير السعيدة التي خاض غمارها في الصين. أنهى أكتاكاوا حياته بالانتحار في الرابع والعشرين من تموز عام 1927 وهو بعمر الخامسة والثلاثين، بتناوله جرعة مميتة من عقار Veronal المنوِّم الذي حاولت الكاتبة فرجينيا وولف الانتحار به لكنها أخفقت. بجانب وسادته ترك قصاصة وضح فيها أنه انتحر بسبب: “اضطراب غامض بشأن مستقبلي”. عام 1935، أسس صديق أكتاكاوا؛ الكاتب كيكوجي خان Kikuchi Kan جائزة أكتاكاوا التي ما زالت تعتبر الأكثر هيبة واعتبارًا في الأدب الياباني.
شهادة حطّاب استُجوِب من
قبل مفوض الشرطة السامي
نعم، سيدي، إنّه أنا من وجد الجسد هذا الصباح، كالمعتاد مضيت لأقطع حصتي من أشجار الأرز حين رأيت الجسد في الغيضة الغائرة في جوف الجبال. نعم تمامًا عند البقعة المحددة، على مبعدة 150 مترًا عن محطة طريق “يامشينا”. في غابة أشجار الخيزران والأرز المنعزلة. كان جسد الرجل يستلقي ممدّدًا على ظهره مرتديًا كيمونو حرير ضارب للزرقة وغطاء رأس متجعّد من طراز كيوتو. طعنة سيف واحدة اخترقت الصدر، وأوراق الخيزران المتساقطة حوله كانت ملطّخة بالأزهار الدامية. الجرح قد جف على ما اعتقد. بينما سحابة ذباب انتشرت بسرعة في المكان. بالكاد كنت أتبيّن خطواتي. إنك تسألني فيما إذا رأيتُ سيفًا أو أي شيء آخر؟ كلّا، سيدي، لا شيء، وجدتُ حبلًا عند جذع أرزة على مقربة. و…. حسنًا، علاوة على الحبل، وجدت مشطًا. هذا كل شيء. على ما يبدو أنه قد خاض معركة قبل أن يقتل، لأن العشب وأنصال الخيزران كانت مسحوقة حول المكان.
– هل كان ثمة حصان بالجوار؟
– كلا، سيدي، يصعب على إنسان أن يدخل، ناهيك عن حصان.
شهادة كاهن بوذي مسافر
استُجوِب من قبل مفوض الشرطة السامي
الوقت؟ بالتأكيد منتصف نهار أمس، الرجل منكود الحظ كان على الطريق بين سكياما وياماشينا. كان يسير باتجاه سكياما ترافقه على ظهر فرسه امرأة عرفتُ لاحقًا أنها زوجته. انسدل وشاح من رأسها حاجبًا وجهها عن الأنظار. كل ما رأيته كان لون ملابسها؛ بذلة ليلكية اللون. كان فرسهما أسمرَ محمرًا بُعرف بديع. طول قامة المرأة؟ أوه، تقريبًا أربعة أقدام وخمس بوصات. وبما إنني كاهن بوذي لم أولها انتباهًا مستفيضًا. كان الرجل مسلّحًا بسيف فضلًا عن قوس وسهام. وأذكر أنه كان يحمل أكثر من عشرين سهمًا في جعبته. لم أتوقع أنه سيلاقي هذا المصير. حقًّا إن الحياة البشرية سريعة الزوال مثل ندى الصباح، أو ضوء البرق. لا أستطيع التعبير عن مدى تعاطفي معه.
شهادة شرطي استُجوِب
من قبل مفوض الشرطة السامي
الرجل الذي اعتقلته كان قاطع طرق سيئ السمعة يدعى تاجومورو. حين اعتقلته كان قد وقع من على ظهر حصانه، وهو يئن على جسر أواتاكوشي. الوقت؟ كان في الساعات الباكرة من الليلة الماضية. للتاريخ، ربما أقول بأنني منذ أيام حاولت اعتقاله لكن لسوء الحظ تمكن من الفرار. كان يرتدي كيمونو من الحرير الأزرق الغامق ويحمل سيفًا عظيمًا. وكما ترى لديه قوس وسهام في مكان ما. أنت تقول بأن القوس والسهام تشبه تلك التي مع الرجل الميّت، عندئذ لا بدَّ أن يكون تاجومورو هو القاتل. قوس الصيد الجلدي والجعبة السوداء المطلية باللك، بشرائط السهام السبعة عشر التي ألصق عليها ريش الصقر، جميع هذه كانت بحوزته، كما اعتقد. أجل، سيدي، الحصان كما تقول إنه أسمر محمرّ. بعُرف جميل. عثرت عليه فيما وراء الجسر بقليل بلجامه المتدّلي يرعى بجانب الطريق. من الأكيد أن العناية الإلهية هي التي جعلت الحصان يلقي به. جميع اللصوص يطوفون حول كيوتو متحيّنين الفرص. وقد سبّب تاجومورو أفدح الأسى لنساء المدينة. الخريف الماضي عادت زوجته من رحلة إلى معبد “توربي”، يفترض أن تُزار للتبرك إلّا أنها قتلت، جنبًا إلى جنب مع فتاة. تم الاشتباه في أن ما حدث كان من صنعه. إذا ما قتل المجرم ذلك الرجل، فهلا يمكنك معرفة احتمالات ماذا فعل بزوجته؟ ربما يرضي ضميرك أن تنظر في هذه المسألة أيضًا.
شهادة امرأة عجوز اُستجوِبت من قبل مفوض الشرطة السامي
بلى، سيدي، تلك جثة الرجل الذي تزوج ابنتي. إنه لا ينحدر من كيوتو، بل إنه ساموراي في مدينة كوكوفو في مقاطعة واكسا. اسمه كانازوا وليس تاكاهيكو، وكان في السادسة والعشرين من العمر. وهو رقيق الطبع، لهذا أنا متأكدة من أنه لم يستفز غضب الآخرين. ابنتي اسمها مساكو، تبلغ التاسعة عشرة من العمر. إنها شجاعة، فتاة تحب المرح، لكنني متأكدة من أنها لم تعرف أي رجل عدا زوجها تاكاهيكو. لها وجه صغير بيضاوي ذو بشرة سمراء بشامة في زاوية عينها اليسرى. يوم أمس غادر تاكاهيكو إلى “واكاسا” مع ابنتي، أي طالع سيئ جعل الأمور تنتهي إلى هذا المآل الحزين. ما الذي حدث لابنتي؟ إنني أتقبل فقدان صهري. لكن مصير ابنتي يقلقني حدّ المرض. بحق السماء افعل كل ما في وسعك للعثور عليها. إنني أكره اللص تاجومورا، أو أيًّا ما كان اسمه. ليس صهري فحسب، لكن ابنتي أيضا…! (كلماتها الأخيرة كانت مصحوبة بالعبرات).
اعتراف تاجومورا
لقد قتلت زوجها لكنني لم اقتلها، أين ذهبت؟ لا أدري. انتظرْ دقيقة، لن يرغمني التعذيب على الاعتراف بما أجهله. وبما أن الأمور تقدمت إلى هذا الحد، لن أخفي عنك شيئًا. يوم أمس بعد منتصف النهار بقليل، إذاك هبة هواء عصفت وأطارت وشاحها المنسدل. فاصطدت نظرة خاطفة من وجهها قبل أن يحتجب مجددًا، ربما هذا أحد الأسباب التي جعلتها تبدو مثل بوذيساتفا(1)، في تلك اللحظة قررت أسرها حتى لو قُتلت من قبل زوجها.
لعلك تظن أن القتل ليس ذا عاقبة وخيمة بالنسبة لي؟ حين تأسر امرأة فينبغي في هذه الحال أن يُقتل زوجها، في القتل غالبًا ما أستخدم سيفي الذي أغمده بجانبي. هل أنا الوحيد الذي يقتل الناس؟ أنت لا تستخدم سيفك لكنك تقتل الناس بنفوذك، أحيانًا تقتلهم تحت ذريعة عمل الخير لهم، صحيح أنهم لا ينزفون، ويتمتعون بأفضل صحة، لكن الكل سواسية، فقد قتلتهم. لكن من الصعب القول أيّنا أعظم ذنبًا أنت أم أنا؟ (ابتسامة ساخرة).
لكن من الأفضل لي إن أأسر زوجة دونما قتل زوجها، لهذا قررت أن أقبض عليها وبذل ما بوسعي لأجل تجنب قتل زوجها، إنما من المستحيل فعل ذلك في محطة طريق ياماشينا، وهذا ما دعاني لاستدراج الزوجين إلى الجبال.
كان الأمر سهلًا للغاية. أصبحت رفيق سفرهما، وأوهمتهما بقصة تنقيبي في رابية الجبل وعثوري على المزيد من السيوف والمرايا التي أعدت دفنها في الغيضة وكنت أفكر في استعادتها وبيعها بسعر مناسب، لأي شخص يرغب في امتلاكها. عندئذ… كما ترى، أليس الطمع فظيعًا؟ جذبهما حديثي في الحال. وبأقل من نصف ساعة كانا يتبعاني ممتطين صهوة فرسهما باتّجاه الجبل معي.
حين قدما أمام الغيضة أخبرتهما أن الكنز مدفون فيها، وسألتهما أن يأتيا وينظرا، لم يكن لدى الرجل اعتراض، فقد أعماه الطمع، أما المرأة فقالت أنها ستنتظر على ظهر الحصان، من الطبيعي بالنسبة لها أن تقول ذلك عند رؤية الغيضة الكثيفة، أقول لك الحقيقة فإن خطتي نجحت كما رغبت. لذا مضينا أنا وهو إلى داخل الغيضة، تاركين زوجته خلفنا وحيدة.
كان الخيزران وحده يتطاول لبعض المسافة، ثم على مبعدة خمسين مترًا ارتمت أمامنا أجمة مفتوحة من أشجار الأرز. كانت بقعة ملائمة لتحقيق غايتي، أخبرته كذبة قابلة للتصديق بأن الكنز مدفون تحت أشجار الأرز، عندئذ شقّ طريقه المرهق باتجاه أرزة نحيلة تبرز من خلال الغيضة. بعد حين أخذت كثافة الخيزران تخف وأتينا حيث نمت الأشجار على شكل صف، وما إن وصلنا هناك قبضت عليه من الخلف، لأنه مقاتل مدرّب ويحمل سيفًا. كان قويًا إلى حد بعيد، لكنه أخذ بغتةً، فلم يستطع تخليص نفسه من قبضتيّ، قيّدته إلى جذع الأرزة. من أين جئت بالحبل؟ شكرًا للسماء، لكوني قاطع طريق كان معي حبل على الدوام، فمن المحتمل أن أتسلق حائطًا في أي لحظة. بالطبع كان سهلًا إيقافه عن الصياح بملء فمه بأوراق الخيزران المتساقطة.
حين حسمت أمره، ذهبت إلى امرأته وسألتها أن تأتي لرؤيته، ادعيت أنه أصيب بالمرض فجأة، لا حاجة للقول بأن هذه الخطة نجحت أيضًا بشكل مثالي. كانت قد نزعت قبعتها المخروطية الشكل حين قدمت إلى أعماق الغيضة، حيث قدتها من يدها. ما إن رأت زوجها، سحبت سيفاً صغيرًا، لم أرَ امرأة بمثل مزاجها العنيف. لو لم أكن حذرًا لتلقيت طعنة في جنبي، راوغت لكنها بقيت تهاجمني، كان من الممكن أن تجرحني جرحًا عميقًا أو تقتلني، لكن أنا تاجومورا، نجحت في إسقاط سيفها من غير أن أسحب سيفي، المرأة الشجاعة دونما سلاح مغلوبة على أمرها. أقلّه بوسعي أن أشبع رغبتي منها دون أن أضطر للقضاء على حياة زوجها.
أجل… دون أن أقتل الرجل. لم تكن لدي رغبة في أن أقضي عليه. كنت على وشك الهروب من الغيضة، تاركًا المرأة تبكي ورائي، حينها تشبثت بذراعي غاضبة، بكلمات مرتعشة طلبت مني: إما زوجي أو أنت من سيموت. قالت: “إن الموت أفضل من الشعور بالعار بعد أن وطأني رجلان”. تلفظت لاهثة بأنها تريد أن تكون زوجة لمن سيبقى منا على قيد الحياة. عندئذ رغبة مهتاجة تملكتني لقتله.
أن أخبرك بهذا الشكل، لا شك أنني أبدو أشد قسوة منك، لكنك لن تدرك ما حصل لي فأنت لم تر عينيها، عينيها المتوهجتين في تلك اللحظة. ما إن رأيتها وجها لوجه أردتها أن تكون زوجتي حتى لو صعقت، أردتها أن تكون زوجتي، هذه الرغبة الوحيدة التي ملأت جوانحي. ربما يتبادر إلى ذهنك أن ذلك لم يكن سوى اشتهاء، لو الأمر على هذه الشاكلة ما ترددت عن تحقيق مشتهاي وتواريت. لكن في اللحظة التي حدقت في وجهها وسط الغيضة المعتمة، صممت على ألا أغادر من هناك دون أن أقضي عليه.
لكنني لم أحبذ اللجوء إلى طريقة غير عادلة في قتله، لذا حللت رباطه ودعوته للمنازلة (الحبل الذي وجد أسفل الأرزة هو الحبل الذي أسقطته في ذلك الوقت). مهتاجًا بالغضب سحب سيفه الغليظ، وبسرعة كما فكرتُ وثب نحوي بضراوة دون أن ينطق كلمة واحدة. لا حاجة لإبلاغك كيف انتهى قتالنا. الثلاث والعشرون ضربة، أرجو أن تتذكر هذا، إنني ما أزال أُوكد على هذه الحقيقة، لم يسبق لأحد تحت الشمس أن تقارع معي عشرين ضربة. (ابتسامة بهيجة).
عندما سقط، التفت باتّجاهها، خافضًا سيفي الملطخ بالدم، لكن لدهشتي العظيمة كانت قد مضت، تساءلت إلى أين هربت؟ بحثت عنها في أجمة أشجار الأرز، أصخت لكنني لم أسمع شيئاً سوى صوت الأنين المنبعث من حنجرة الرجل المحتضر.
ربما تسللت هاربة لتطلب المساعدة ما إن تقارع سيفانا. حين فكرت في ذلك، قرّرت أنها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليّ. فأسرعت لسلبه سيفه وقوسه وسهامه. ركضت إلى طريق الجبال. هناك وجدت فرسهما ما زال يرعى باطمئنان، إن من العبث إخبارك بالتفاصيل اللاحقة، لكن قبل أن أدخل المدينة كنتُ قد فارقتُ سيفي. هذا هو اعترافي إجمالًا. أعرف بأن رأسي سيشنق بالسلاسل على أية حال، بإمكانك أن تنزل بي أشد عقاب.(موقف متحدٍ).
توبة امرأة قدمت إلى معبد كيوميزو
بعد أن أجبرني على الاستسلام ذلك الرجل الذي يرتدي الكيمونو الحرير الأزرق، ضحك باستهزاء وهو ينظر إلى زوجي المقيد، كم كان زوجي مذعورًا في ذلك الحين لعجزه عن فعل أي شيء! لكن بغض النظر عن حجم عذابه وهو يحاول التخلص من وثاقه، فإن الحبل كان يكتّفه ويشدّ عليه بإحكام. ركضت متعثرة إلى جانبه، أو بالأحرى حاولت أن أركض نحوه، لكن الرجل أسقطني في الحال. فقط في تلك اللحظة رأيت بريقًا يفوق الوصف في عيني زوجي.. شيء يكمن فيما وراء التعبير.. عيناه تجعلاني أرتعد حتى الآن. تلك النظرة الفورية لزوجي، الذي ليس بوسعه نطق كلمة واحدة أخبرتني كل ما في قلبه. الوميض في عينيه لم يكن غضبًا أو حزنًا. مجرد ضوء بارد. نظرة كراهية. أمضّت بي نظرة عينيه أكثر من ضربة اللص. صرختُ رغمًا عني وسقطت فاقدة الوعي.
حين استعدت وعيي وجدت أن الرجل الذي يرتدي الكيمونو الأزرق قد مضى، وأن زوجي مازال مقيدًا إلى جذع الأرزة. رفعت نفسي من أوراق الخيزران بصعوبة، ونظرت في وجهه، لكن التعبير في عينيه ظل كما كان من قبل.
هذا كل ما في مقدوري قوله، ومع ذلك بقي يتطلع إليّ بكراهية واحتقار. بقلب محطم بحثت عن سيفه. لكن يبدو أن اللص استولى عليه، لا سيفه ولا سهامه ولا قوسه يمكن رؤيتها في الغيضة. لكن لحسن الحظ كان سيفي الصغير يرتمي عند قدمي. رفعته فوق رأسه، ومرة أخرى قلت، “اعطني حياتك، وسألحق بك في الحال”.
وراء الازدراء البارد المرتسم في ناظريه، كان ثمة كراهية، خزيٌ، أسى، غضب…، يصعب الإعراب عما اختلج في قلبي حينئذ. زاحفة على قدمي، ذهبت إلى زوجي.
تاكجيرو، قلت له، بما أن الأمور وصلت إلى هذا الحد، قررت أن أموت، لكن عليك أن تموت أيضًا. لقد رأيتَ عاري، لا يسعني تركك حيًّا كما أنت.
حين سمع هذه الكلمات، حرك شفتيه بمشقة. بما أن فمه كان محشوًّا بالأوراق، طبعًا لا يمكن سماع صوته، لكن في لمحة فهمت معنى كلماته. محتقرًا إياي، كانت نظرته تقول “اقتليني”، بوعي أو بلا وعي أقحمت السيف الصغير خلال الكيمونو الليلكي اللون إلى صدره.
مرّة ثانية، في تلك اللحظة أظن أنه أغمي عليّ. وفي الوقت الذي استطعت أن أنظر للأعلى كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة وهو مازال في القيود. مسحة من أشعة الشمس الغاربة فاضت عبر أجمة أشجار الأرز والخيزران وتألقت على وجهه الشاحب.
مختنقة بنشيجي فككت الرباط عن جسده الميّت. ما الذي بقي مني؟ ذلك فحسب، بما أنه ليس لدي المزيد من القوّة لكي أخبرك، على أية حال، ليس لدي القدرة لأموت. طعنت نفسي بالسيف الصغير، رميت نفسي في بركة بأسفل الجبل، وحاولت قتل نفسي بطرق عديدة، غير قادرة على إنهاء حياتي.
ما زلت أعيش في العار(ابتسامة موحشة). عديمة الجدوى كما أنا، ينبغي أن أهجر حتى من قبل “الكوانن”(2) الأكثر رحمة، اغتصبني اللص، قتلت زوجي، ماذا بوسعي أن أفعل؟ أي شيء بوسعي… أنا… (تدريجيًا نحيب عنيف).
قصة الرجل القتيل
كما أُخبرت عبر الوسيط الروحاني
بعد أن انتهك حرمة زوجتي جلس المغتصب هناك. شرع يحدثها بكلمات مطمئِنة. طبعًا لم يكن بمقدوري الكلام. كان جسدي بأسره مربوطًا بإحكام إلى جذع الأرزة. لكن في غضون ذلك غمزت لها مرات عديدة، بقدر ما يسعني الإعراب عن أفكاري: “لا تصدقي المغتصب!”. أردت أن أنقل هذا التحذير لها. لكن زوجتي الجالسة على أوراق الخيزران قبالتي كانت تنظر ببرود إلى حضنها، على ما يبدو أنها كانت تصغي إليه. تآكلتني الغيرة. في هذه الأثناء استمر المغتصب في كلامه الذكي، متنقّلا من موضوع إلى آخر، وفي النهاية قدم عرضه الجريء الوقح: بما أن شرفك قد لطخ، لن تكون علاقتك جيدة بزوجك بعد اليوم، فهل تكوني زوجة لي بدلًا منه؟ إن حبي لك هو ما جعلني أتصرف بعنف معك. وبينما المجرم يتكلم رفعت زوجتي وجهها كما لو أنها تفوق من حلم. لم تبدُ جميلة للغاية أبدًا كما في تلك اللحظة. ماذا قالت زوجتي الجميلة لتجيبه فيما أنا جالس مقيدًا، مذهولًا؟ لكنني لم أفكر مطلقًا في جوابها من غير أن أتميز غيظًا وغيرة. بصدق قالت…”إذن خذني معك بعيدًا أينما تذهب”. لو كان هذا ذنبها فحسب لما تعذّبت في الظلام. عندها خرجت من الغيضة، كما لو أنني في حلم؛ يدها في يد المغتصب، فجأة شحب لونها وأومأت نحوي أنا المربوط أسفل الأرزة، وقالت: “اقتله! لا أستطيع الزواج منك طالما أنه حي”. اقتله، صاحت مرات عديدة كما لو أنها مُسّت. ما زالت أصداء كلماتها تتوعدني لتلقي بي بلا تردد دفعة واحدة في ظلمة الهاوية التي لا يسبر لها غور. هل صدر هذا الشيء الكريه من فم إنسان من قبل أبدًا؟ هل صدمت مثل هذه الكلمات اللعينة أذن إنسان ولو مرة واحدة؟ حتى مرّة واحدة مثل…(صرخة ازدراء مفاجئة). المغتصب نفسه شحب لونه عندما طرقت كلماتها مسامعه، (اقتله!)، صرخت متشبّثة بذراعه. ناظرًا إليها بقسوة، لم يجب بنعم أو لا. لكن بالكاد كنت أفكّر بجوابه حتى باغتها وطرحها أرضًا على أوراق الخيزران. (مرة أخرى صرخة ازدراء).
عاقدًا ذراعيه على صدره، نظر إليَّ بهدوء وقال، ” ماذا ستفعل بها؟ أتقتلها أم تنقذها؟ عليك أن تومئ فقط. اقتلها؟ لهذه الكلمات وحدها وددت أن أغفر له جريمته. وبينما أنا متردّد صرخت هي وركضت في عمق الغيضة، اندفع المغتصب وراءها محاولًا الإمساك بها، لكنه فشل حتى في أن يقبض على ردنها. بعد أن هربتْ استولى على سيفي وقوسي وسهامي. وبضربة واحدة قطع أحد قيودي. أتذكر غمغمته: “نهايتي هي القادمة”. ثم اختفى من الغيضة. بعد ذلك لا شيء غير الصمت. كلا، تناهى إليّ بعض البكاء، تخلصت من بقية قيودي، وأصغيت بانتباه. لاحظت أن ذلك كان بكائي، (صمت طويل).
رفعت جسدي المرهق من أسفل الأرزة. كان أمامي السيف الصغير اللمّاع الذي أسقطته زوجتي. أخذته وغرزته في صدري. كتلة دامية صعدت إلى فمي، لكنني لم أشعر بأي ألم. حين أمسى صدري باردًا، بدا كل شيء صامتًا كصمت الموتى في قبورهم. يا له من صمت عميق! حتى ولا صوت طائر واحد يسمع في السماء فوق هذا القبر، في تجويف الجبال. شعاع وحيد من الضوء فحسب تلبث على أشجار الأرز والجبال، ورويدًا رويدًا أخذ يبهت، إلى أن تلاشت أشجار الأرز والخيزران عن الرؤية. كنت ممدًدًا هناك، مغلفًا بصمت عميق. عندئذ شخص ما زحف نحوي لم يكن بوسعي أن أتبيّن من هو، إذ خيمت العتمة على المكان، إنه شخص ما… ذلك الشخص سحب السيف الصغير برفق من صدري بيده غير المرئيّة، وفي الوقت نفسه تدفق مرّة أخرى الدم وملأ فمي، ومرّة وإلى الأبد غرقت في ظلام المكان.
الهوامش
(1) البوذيساتفا، Bodhisattva ـ مفهوم مبني من جذر الكلمة السنسكريتية بوذي Bodhi التي تعني الاستنارة أو اليقظة، Sattva تعني الكائن، فيكون جوهر المعنى الكائن السائر على طريق الاستنارة. في البوذية المهايانية يقصد به الشخص القادر على نيل الاستنارة، لكنه أجل ذلك بدافع التعاطف مع الآخرين ورفع المعاناة عنهم، ومساعدتهم لكي يحصلوا بدورهم على الاستنارة أيضًا، المترجم.
(2) الكانن، Kannon تصوّر أو تمثّل في الميثولوجيا اليابانية الشفقة والرحمة والمحبة، إنها نسخة من الإلهة Kaun Yin الصينية، المترجم.