رجل الثلج يقف تحت شجرة التفاح العارية، على رأسه كوفية حمراء، وحول عنقه شال أخضر، مكان أنفه جزرة ذابلة، وبدل العينين حصاتان تلمعان، ذراعاه غصنان يابسان يغطي نهايتهما قفازان من صوف، ولكن لم يكن له فم، فرسم له واحدا ثم قبَّله.
كانت تجلس قبالته على الطرف البعيد للطاولة، تمسك بين أصابعها قلم رصاص مخططاً بالأصفر والأسود لا تكفُّ عن اللعب به. بدت ضجرة من المحاضرة، منصرفة الانتباه عن المناقشات،غارقة تماما في حركة قلمها على الورق، وحتى عندما قربت الفتاة الجالسة إلى جانبها رأسها، وبدا أنها همست بشيء في أذنها، لكنها لم ترفع رأسها ولا نظرت في وجهها، بل كتبت شيئاً على الورقة ومررته لها دون أن ترفع رأسها، وعادت للعب بقلمها على الورق.
من مكانه لم يكن يستطيع أن يرى إلا سواد عباءتها اللامع، وخصلة شعر تعاندها وتطل من تحت الشيلة الرقيقة التي تجعلها تسقط أحيانا ثم تعود وتضعها على رأسها دون أن تكلف نفسها عناء لفها بإحكام، وهي تفعل كل ذلك دون أن ترفع رأسها المنكَّس على الورق، فقضى بقية الأمسية في متابعة الخصلة العنيدة وحركة يدها العابثة بالقلم، وفجأة ألفى نفسه يتخيل: كيف سترد عليه إذا ما اقترب منها وألقى عليها التحية؟ وكيف سيكون ملمس كفها في كفه؟ وكيف سيشعر إذا ما منحته موعدا سريًّا وقُبلة؟
من نافذة الأستوديو الذي يسكنه في الطابق العاشر من البناية التي لا تبعد كثيرا عن محطة المترو الرئيسية، والتي تطل مباشرة على ساحة المدينة الصغيرة التي اختارها منفى له، وقف يراقب نُدَفَ الثلج المتساقطة في ذلك الصباح التشريني الأبيض، في يديه كأس نبيذ مسقطي.
الثلج يتساقط وراي تشارلز يعزف على البيانو مغمض العينين وأصابعه تتحسَّس عرق الموسيقى السوداء، ويغني Dont set me free.
الساحة أمامه تزداد بياضا، والجو في الداخل يزداد دفئا، وهو يلصق وجهه بزجاج النافذة العريض، ويتخيل بيوت مسقط المتراصة، شرفات البيوت، نوافذها المظلمة، ورطوبة أغسطس التي لم تكن تضايقه وهو مستلق على الرمل في الليالي التي تبعت رحيلها، منتظرا أن يغمره المد ويأخذه بعيدا.
أقصى القاعة كانت تقف مسندة جسدها إلى عمود من المرمر تتأمل الليل من خلال الباب الزجاجي المفضي إلى الشرفة، أصابع يدها اليمنى تضم الكوب كله في كفها، وتقرِّبه من شفتيها وهي شاردة تماما، وترشف جرعات صغيرة من السائل الساخن، ثم تدير طعم السائل في فمها وعيناها شبه مغمضتين.
غطى الثلج الساحة الأمامية كلها، ومن البيوت والأزقة خرج الصغار في ملابسهم الشتوية التي تكسوهم قواماً دائرياً بعض الشيء. كان هذا المنظر يبهجه: الأطفال الذين يخرجون للعب بالثلج، الخطوات التي يخلفونها على الثلج، ضحكاتهم، وصراخهم وهم يتلقون كرات الثلج، ويتقاذفونها، وهو يراقبهم من شرفة استوديو الطابق العاشر متكئا على برواز النافذة، وبخار أنفاسه يكوِّن بقعةً رطبة على زجاجها.
اقترب منها وقال العبارة التي جرَّبها ألف مرة وهو يخطو نحوها: «لكفيك نعومة إبطي حمامة». جفلت قليلا، ثم ابتسمت، وقالت له:«على الشاعر أن يكون أكثر جرأة».
«كانت تعرفه إذا، ربما لاحظت الفتاة الجالسة إلى جانبها نظراته المستغرقة فيها فهمست لها بأنه شاعر،وهي خربشت على الورق. ترى بماذا ردت عليها؟ هل تعمدت وقفتها النائية قرب باب الشرفة؟هل تدربت مثله على هذه العبارة؟».
فتح الباب الزجاجي وتقدمها إلى الشرفة وهي تبعته ببطء، وأسندت جسدها إلى الروشن، أصابعها الخمس ما زالت معقودة حول فنجان القهوة الذي فاحت رائحته، واستطاع أنْ يرى أنَّ أصابعها العشر عارية إلا من خاتم صغير مزين بفص أزرق.
«كانت طازجة، مثل خبز الرخال الذي تنتفه أمي من الطوبج وتلقمني إياه وأنا واقف عند الباب مستعجلا طريقي إلى المدرسة، مثل شوب زيتون تضوع حلاوته ويداي تحاولان قطفه ولا تطالاه فأرميه بالحصى، مثل سمكة تخرجها يدا أبي السمراء بعروقها النافرة من حبال الشبكة الخضراء وتلقي بها في إناء تضعه أمي على رأسها وتهرول صوب البيت لتعد مرق الغداء».
«لم أعرفها طويلا لكنني عرفتها جيدا، أسبوع واحد فقط حكت لي فيه حكايتها بتفاصيلها الدقيقة. كانت تصلح لكتابة القصص، قلت لها ذلك، وقلت لها أيضا إن عليها أن تتخلى عن شرفتها المطلة على المدينة وتمشي في أزقة الحواري القديمة، إن عليها أن تشم وتتحسس وتسمع روائح الآخرين المفعمة بالحب والجوع والألم والمسرات الصغيرة. قلت لها أيضا إن على كفيها الناعمتين كإبطي حمامة أن تجربا صابون الغسيل، وماء البحر المالح، وأشعة الشمس، ووهج الرمال عند الظهيرة. قلت لها إن عليها أن تمارس شيئا حقيقيا قبل أن تمارس ترف إمساك القلم والخربشة به. قلت لها متعمدا خدشها قليلا: حتى تكتبي قصة عليك أن تكوني بغيًّا».
فيما بعد سألوه عن الكلام الذي دار بينهما في الشرفة، فتشوا جيوبه بحثا عن بقايا الحب الذي كان يطعمه الحمامات التي وقفت على كتفها في إحدى قصائده، سألوه عن الدوائر التي رسمتها بقلم كحلها الأسود على الخارطة حول القدس، كيوتو، بيروت، إستانبول، مراكش، لندن، سان فرانسيسكو، باريس،المنامة، مدريد، دلهي، براغ، الدار البيضاء،الإسكندرية، شنغهاي، فيينا، لوزرن، تشناي، الخليل، كتماندو، القاهرة، دمشق، صنعاء، القاهرة.
سألوه عن خطوط الحظِّ والشباب والصحة والعمر في كفها التي شوهد يدرسها في المقهى المطل على البحر قبل اختفائها بليلة واحدة،عن رائحة عطرها الملتصقة بثيابه، عن لون ستائر غرفتها، ومشطها العاجي الذي وجدوه مدفونا تحت شجرة الليمون في حوش دارها، عن رائحة القرفة التي وجدوها في بقايا قهوتها ومعجون أسنانه.
«كانت تحب أغاني الجاز، تقول إنها تفضلها على موسيقى البلوز الحزينة أكثر مما يجب، عرفتني على راي تشارلز، وعلمتني كيف أرقص على أنغامYou are my sun shine، وفي الليلة الأخيرة همست لي ورأسها على كتفي:I cant stop loving you كان راي تشارلز يغنيها وهي تهمس بكلماتها في أذني:.I cant stop wanting yo حرارة أنفاسها وقربها الشديد كانا أكثر مما أحتمل. أنا رجل أعزل، عرفت ذلك وهي تمد يدها وتدعوني للرقص تاركة جسدها للإيقاع الغريب، وأنا أقف أمامها غير قادر على الحركة. أردت أن آخذها بين ذراعي، لكنها بدت بعيدة.. بعيدة جدا وهو يغني، لحظتها أحسست بكراهية شديدة لهذا المدعو راي تشارلز الذي لا أعرف عنه سوى أنه يثيرها بأغانيه، يثيرها، أكثر مما تستطيع يداي وشفتاي، بأغانيه الحزينة عن الحب والفقر والنساء الراحلات.. النساء البعيدات.. النساء اللاتي لا يهجرن موسيقاهن ولا يتوقفن عن الرقص».
الثلج توقف عن التساقط والأطفال يزينون الساحة البيضاء بمعاطفهم الحمراء والخضراء والسوداء، ويصنعون رجل ثلج ممتلئاً يعطونه قبعة ليغطي بها رأسه، وشال صوف ليحمي رقبته من البرد.
وهو لا يتوقف عن الغناء:
Take these chains from my heart
and set me free
you broke hold and no
longer care for me
all my faith in you is gone
but hart aches will go on
Take these chains from my heart
and set me free
Take these tears off my eye
And let me see
the sweet spark of the love
that used to be
Take these chains from my heart
and set me free
سألوه عن الكتب التي أعطاها إياها، وعن الأسطوانة التي تسلمها بعد أسبوع من اختفائها، عن بصماتها على أثاث شقته رغم أن أحدا لم يرها تدخل إليها، عن رائحة الفواكه التي تضوع من الصحون الخالية، عن حذائها الأسود الذي وجدوه ملطخا بالوحل في صندوق القمامة أسفل البناية التي يسكنها، عن خصلة من شعرها وجدوها محشورة بين أوراق ديوانه الأخير، عن قميصه الممزق عند الياقة، عن الأزرار الثلاثة المفقودة، عن اسمها المحفور على خشب طاولة الكتابة، عن الذبيحة التي فرَّق لحمَها على سكان العمارة بعد اختفائها بيوم واحد، عن السكين التي لم يجدوها في درج المطبخ. سألوه عن كل التفاصيل الصغيرة.
I cant stop loving you
Ive made up my mind
To live in memories of your love all the time
I cant stop wanting you
It is useless to say
So Ill just live my life
in dreams of yesterday
Those happy hours
That we once knew
not long ago
it still make me blue
They says that time heels a broken hart
But time stands still
since we,ve been apart
I cant stop loving you
I,ve made up my mind
To live in memories of your love all the time
I cant stop wanting you
It is useless to say
So Ill just live my life
In dreams of yesterday
سألوه عن كل التفاصيل الدقيقة، لكنهم لم يسألوه عنه، وهو ما زال يغني في استوديو الطابق العاشر وبين أصابعه كأس نبيذ مسقطي وجهه ملتصق بالنافذة، وحرارة أنفاسه تصنع بقعة بخار على زجاجها.