محمد حجي محمد
شاعر وكاتب مغربي
لقد أدى توسيع مفهوم النص في النقد الأدبي الحديث، والغربي على وجه الخصوص إلى تطور في آليات فهم النص وتأويله. ولعل عتبات النص كنصوص مصاحبة للنص المركزي أحد أبرز مظاهر هذا التطور، لا لكونها مدخلا طبيعيا إلى عوالم النص فحسب، وإنما لدورها أيضا في مساعدة المتلقي على التواصل مع النص كأثر أدبي، وإدراك أبعاده التركيبية والدلالية.
ولما كانت هذه العتبات تشمل ما له علاقة بالنص من عناوين، ومقدمات، وصور، وتمهيد، وتقديم، وكلمات الناشر إلخ(2). كما بين ذلك جيرارد جينيت في كتابه “عتبات”، كان وجود الكتاب لا ينفصل عن وجود تلك المداخل إن لم يكن مشروطا بوجودها على اعتبار أن العتبة النصية أو النص الموازي هو” ما يصنع به النص نفسه كتابا ويقترح ذاته بهذه الصفة على قرائه، وعلى الجمهور عموما، أي ما يحيط من الكتاب من سياج أولي، وعتبات بصرية ولغوية”(3).
وبما أن كتاب: “أنا الذئب يا يوسف” للشاعر صلاح بوسريف مفعم بشعرية هذه العتبات، كان لابد لنا من الوقوف عندها قصد إبراز دلالاتها، ودورها في بناء النص وشاعريته.
عتبة الغلاف
من نافل القول التأكيد على أهمية الغلاف الأمامي للكتاب باعتباره جامعا لجملة من النصوص الموازية التي تساعد القارئ على إدراك دلالة النص الأدبي، وبنيته التركيبية. يضم الغلاف الخارجي -فضلا عن اسم الشاعر- عنوان الكتاب، وجنسه الأدبي، والعلامة التجارية لدار النشر والتوزيع، والصورة الفنية للواجهة. أما الجانب الخلفي منه فيضم صورةً للشّاعر مذيلة بمقطعين شعريين من نص”شرك الذئب”.
ولعل أول ما يلفت الانتباه أثناء قيامنا بقراءة بصرية لواجهة الغلاف، هو طغيان اللون الأخضر، وهيمنته على اللونين البني، والوردي معا. وإذا كان اللون الأخضر ناتجا عن التداخل اللوني بين الأزرق والأصفر، فإنه يتداخل أيضا مع الأحمر في لعبة تناوب رمزية. على مسافة متساوية من الأزرق السماوي، والأحمر الجحيمي. فكلاهما مطلق يتعذر الوصول إليه. لذلك كان الأخضر قيمة معتدلة تتوسط بين الحار والبارد، وبين الأعلى والأسفل، ولذلك أيضا كان الأخضر لونا مطمئنا، ومنعشا، وإنسانيا.(4)
أما من حيث الدلالة، فيعتبر اللون الأخضر كأحد الألوان المحببة في القرآن الكريم. “إنه لون الجنة، والحياة، والبعث.. وقد استعملت كلمة الخضرة في سورة يوسف للدلالة على الحياة والحركة والطراوة كما في الحديث عن السنابل الخضر”(5). ولعل ارتباط هذا اللون بشخصية يوسف وعالمه الرؤيوي كان أحد السببين في اختياره للخلفية المذكورة . أما السبب الثاني فيكمن ربما في ارتباط هذا اللون بالمنهج الصوفي في الإسلام، ذلك أن المتصوفة كانوا یفضلون اللباس الأخضر؛ لأن الله سبحانه وتعالى وعد عباده المخلصین في قوله تعالى: «عَالِيَهُمْ ثيابُ سُنْدُسٍ خضرٌ وإستبرقٌ وحلُّوا أساوِرَ من فضّةٍ وسَقَاهُم رَبُّهُمْ شرابًا طهوراً».(6)
عتبة صورة الغلاف
إذا كانت الصورة تساوي ألف كلمة كما كان يقول كونفوشيوس، فذلك بسبب ما تكتسيه من أهمية في توثيق الوقائع، والتعبير عن العوالم الداخلية للذات بشكل واضح، من خلال تجسيد أبعادها الرمزية والفكرية والاجتماعية. ولعل هذا ما جعل كريستيان ميتز يرى في الصورة رسالة بصرية شأنها شأن الكلمات، وكل الأشياء الأخرى، لا يمكن أن تنفلت من تورطها في لعبة المعنى(7).
يحمل الغلاف صورة فوتوغرافية غير واضحة الملامح لرجل شبه عار منهمكٍ في الرقص، وهي صورة يتداخل فيها اللون الأخضر كإشارة إلى تطور الذات، وقدرتها على التأثير الإيجابي باللون البني كرمز للصمود والقوة والثقة والعزلة، وكذا باللون الوردي الذي يحمل قيما رمزية تقليدية تتأجج بين الشهوة والطهارة(8). علما بأن اللون الوردي في دلالته الدينية الإسلامية يشير إلى يوم القيامة(9).
ولئن كان العري الجسدي من المنظور التقليدي شكلا من أشكال العودة إلى الحالة الأصلية أو البدائية(10) للكائن، فإنه يرمز أيضا إلى ثمرة الخطيئة الأصلية لسقوط آدم وحواء، أما الرقص كاحتفال وكلغة تتجاوز لغة الكلام؛ فليس سوى تلك الحمى القادرة على الاستحواذ على أي مخلوق ورجّه حد الهيجان. إنه مظهر، متفجرٌ في الغالب، لغريزة الحياة، التي لا تطمح إلا إلى رفض كل ازدواجية زمنية بين الجسد والروح، وبين الخالق والمبدع، و المرئي وغير المرئي، وانصهارهما، في نشوة واحدة، خارج الزمن. لذلك كان الرقص احتفالا بالتماهي مع الخلود. تماما كرقصة داود أمام التابوت، أو الرقصة التي أبهجت مولانا جلال الدين الرومي وأدخلته في دوامة لا تنتهي.(11)
ولا تكتمل معالم هذه المقاربة التأويلية لصورة الغلاف، من دون ربط الصورة بالعنوان، لأنهما يشكلان عتبتين نصيتين متلازمتين يتعذر فهم إحداهما دون استحضار الأخرى. فالصورة كعتبة بصرية تحيل إلى العنوان، وتجسده بقدر ما يحيل العنوان، من حيث هو عتبة لغوية ، على الصورة، ويتعالق معها رمزا، ودلالة.
ترمز رقصة الرجل الذي في صورة الغلاف إلى رقصة الذئب الوارد اسمه في عنوان الكتاب؛ إذ يحتفي بانتصاراته، ويبسط سيطرته على الغابة كفضاء للدسائس والفخاخ. أما العراء فيرمز إلى حقيقة الجنس البشري، وحقيقة الغابة بما هي عالم تسود فيه قوانين الأدغال؛ حيث القوة والحيلة شرطان للبقاء على قيد الحياة.
عتبة عنوان الكتاب الشعري
يأتي عنوان الكتاب الشعري الموسوم بـ”أنا الذئب يا يوسف” بعد اسم الشاعر”صلاح بوسريف”، الذي يواصل في هذا العمل الأدبي تجربته الشعرية السيرذاتية، وفق رؤية فنية، وجمالية تجمع بين النفس الصوفي، والمرجعية الدينية، والفلسفية.
وقد كُتب العنوان بنفس نمط الخط الذي كتب به اسم المؤلف( أدوب أرابيك)، وبنفس اللون الأخضر الغامق لكن بحروف أبرز وأضخم تعكس مكانته. بينما كُتِب أسفل الغلاف، اسم دار النشر أگورا بلون أسود، يليه علامتها الإشهارية.
والكتاب، كما يقدم نفسه على امتداد 90 صفحة، عبارة عن نص شعري طويل؛ يتألف من ثلاثة مقاطع شعرية كبرى لكل منها عنوان رئيسي مستقل. ويتصدر كل واحد منها آية من سورة يوسف. كما يتشعّب كل عنوان من هذه العناوين الرئيسية الثلاثة إلى أربعة عناوين فرعية تحيل من حيث دلالتها إلى العنوان الرئيسي أو الأصلي الذي يشملها ويحيل إليها في الآن ذاته، مقيمة تعالقا وترابطا عضويا بينها -كعناوين فرعية- من جهة، وبينها وبين النص الشعري ككل، من جهة ثانية.
ولئن كان العنوان الخارجي هو السمة الدّالة على النص، فإنه يمثل خلاصة التجربة الإبداعية للمؤلف من جهة، والمدخل الذي يقود المتلقي إلى بهو النص من جهة ثانية، لذلك كانت علاقة العنوان بالنص علاقة وثيقة تماما كعلاقة العنوان بالمؤلِّف، وعلاقة العنوان بالمتلقي. ولما كان العنوان هو آخر ما يكتبه المؤلف أو يفكر في كتابته؛ كان دوره مهما في إضاءة النص؛ لأنه يختزل العَمَل الذي يشير إليه بالكامل في مجرد كلمة واحدة أو جملة.
ولهذا السبب يعتبر عنوان الكتاب مفتاحًا أساسيا في فكّ رموز النص الأدبي عموما، والشعري على نحو خاص، لكونه أولى العتبات النصية المسهمة في بناء الدلالة الكلية للنص، وإيضاح عتباته الداخلية.
[أنا الذئب يا يوسف]، عنوانٌ يفاجئ المتلقي، ويثير في ذهنه أكثر من سؤال، إذ كيف يعقل أن يتكلم الذئب؟ – هل نحن أمام حكاية تتكلم فيها الحيوانات أم أننا أمام قصة يوسف النبي؟. ثم إن الذئب في قصة يوسف لا يتكلم. لذلك كان العنوان مُغْرِيا ومُحفّزا على اقتحام النص وسبر أغواره .
يتألّف العنوان”أنا الذئب..يا يوسف” في جانبه التركيبي، من مبتدأ وخبر (أنا: ضمير منفصل للمتكلم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. الذئب خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة في آخره)، وحرف نداء ومنادى(يا:حرف نداء مبني علىى السكون لا محل له من الإعراب، ويوسف: منادى مبني على الضم في محل نصب لأنه مفرد علم).
ويبدو أن الشاعر قد تعمّد توظيف الجملة الاسمية لما تدل عليه من ثبات واستقرار في موقفه من الطبيعة الإنسانية. كما يحيل عنوان الكتاب على المستوى الإيقاعي إلى تفعيلتين من بحر المتقارب، كأحد البحور الشعرية الصافية، مما يعطيه نبرة موسيقية خاصة.
وبينما يحيل الجزء الأول من العنوان على الهُوِية البشرية أو ماهيتها، بحكم أنّ ضمير” أنا” يشير إلى الإنسان، بينما تشير كلمة “الذئب” إلى الحيوان؛ ومن ثم فالذات البشرية شريرة وأنانية وماكرة بطبعها، يحيل الجزء الثاني للعنوان، على النبي يوسف ابن عمران.
ولئن اختار الشاعر الذئب كأحد الرموز الرئيسية في عمله فلأن الذئب حيوان لا كباقي الحيوانات، وإنما هو أقرب إلى الإنسان في صفاته، إنه حيوان ذكي، وشجاع، وماكر، ومعتز بالنفس، لا يأكل الجيفة إطلاقا، وله درجة عالية من الحذر حتى أنه لا يرجع غالبا من الطريق الذي جاء منه. لديه حاسة شم قوية ونظر ثاقب، صبور جدا، ومراوغ ماهر، وكثير الحيل.
ويبدو واضحا من خلال عنوان الكتاب الحضور الدلالي والرمزي لقصة يوسف كنص مرجعي تتناص معه كل النصوص الشعرية لهذا العمل. ولعل من نافلة القول إن قصة يوسف إحدى أبرز القصص الدينية حضورا وانتشارا في الشعر العربي القديم والمعاصر على حد سواء. وقد وظفها كثير من الشعراء بسبب ما تزخر به من قيم إنسانية. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا وقع اختيار الشاعر عليها دون غيرها من القصص القرآني؟
هل بسبب ما تحمله من مواعظ وعبر؟ أم لأن الشاعر وجد فيها ما يحتاج إليه من رموز وأقنعة تمكنه من التعبير فنيا عن مكابداته النفسية والاجتماعية؟ أم لأنها مرآة تعكس واقعه الثقافي والأدبي بما يحملانه من تفشي المكائد وانتشار الأحقاد ؟ أم لكل هذه الأسباب مجتمعة؟
عتبة العناوين الرئيسة
اختار الشاعر عناوينه الرئيسة بدقة ؛ حيث جاءت مترابطة فيما بينها، يُكمّل كلُّ عنوانٍ منها تأويل عنوان الكتاب. لذلك تتشعب هذه العناوين الداخلية من الدلالة العامة للعنوان الخارجي أو الرئيس، وتنقسم إلى ثلاثة عناوين داخلية كبرى هي : “شرك الذئب”، و”طباع الذئب”، و”الذئب خيال إخوتي”، وتتعالق هذه العناوين مع العنوان الرئيس -الذي جاء مكتوبا بأحرف كبيرة وبارزة- سواء من حيث إحالتها إلى الذئب أم إلى يوسف، أم إليهما معا بشكل صريح أو ضمني.
ويتفرع كل عنوان من هذه العناوين الثلاثة الرئيسة الكبرى – المقرونة بأرقام رومانية كبيرة- إلى أربعة عناوين فرعية صغرى تحمل أرقاما عربية صغيرة. والملاحظ أن كل العناوين الفرعية الصغرى لهذا الكتاب، والتي يبلغ عددها اثني عشر عنوانا فرعيا، قد تم اقتباسها أو صياغتها انطلاقا من نفس النصوص التي تعنونها أو تمثلها.
وعلى هذا النحو اقتبس الشاعر العنوان الفرعي :”طباع الذئب” من نفس النص الذي يمثله، وتحديدا من السطر الشعري التالي ” طباع الذئب وفيرة”(12) . وصاغ عنوان ” لست خبيرا بمكائد الضغينة..” من نفس النص الذي يمثله أيضا، وبالضبط من السطر الشعري التالي “لم تكن خبيرا ياااايوسف بمكائد الضغينة”(13). كما استلهم عنوان: “متى باغتني السغب” من المقطع التالي”لا/أنهض من دغلي/إلا متى باغتني السغب”(14).وينطبق الأمر ذاته على العنوان الفرعي التالي: “في الحكاية غير ما في الآية” والذي تمت صياغته انطلاقا من السطر الشعري التالي:”ترى الحكاية بغير ما في الآية،”(15). وعلى هذا المنوال تمت صياغة كل العناوين الفرعية الصغرى المتبقية.
والملاحظ أن جل عناوين هذا العمل الشعري؛ هي جمل اسمية، باستثناء عنوان واحد الذي جاء كجملة فعلية. وهو ، “قبلي بكى الذئب”.
دلالة العناوين الرئيسة الكبرى
إذا كان العنوان “شَرَكُ الذئب” يدل ظاهريا على مصيدة الذئب، فإنه يدل أيضا على شريك الذئب؛ أي على من صار شريكه-أي الذئب- في محنته ورؤيته، وليس هذا الشريك هو يوسف الصديق -كما يظهر في النص- فحسب، ولكنه كذلك الشاعر بالأساس، ومن خلاله الإنسان بشكل عام.
“تحلَّ بالصبر، ليس أحلى من مكيدةٍ توقع الخُمَّ
بين أنياب الذئاب”.(16)
بعد أن يخاطبَ الذئبُ يوسفَ في هذا المقطعِ، ناصحًا ومُوَاسيًا ومُثَمِّنًا دور الحيلة في الإيقاع بالطريدة، على اعتبار أن الحيلة- في عُرْفِ الذئاب- أمتع وسيلة للظفر بالخِمَمَة، يقوم بتحذيره من الكمائن والدسائس المتربصة به في كل مكان من المجتمع الإنساني القاسي والذي يبدوا كأيكة أو دغل، ولكنه في حقيقة الأمر مُفَخّخ بالرّماح والأشواك.
“الغابة ياااايوسف،
ظلالها وارفة،
خلف كل خُطوةٍ أثرُ خديعةٍ،
جرحها لم يندمل بعد.”(17)
أما العنوان الرئيس الثاني:”الذئب خيال إخوتي”، فقد بثَّ فيهِ الشاعرُ قصدِيَّةَ رسالته إلى المتلقي كاملةً. لذا نجده ينفي على لسانِ يوسف أن يكون الذئب جزءا من أحلامه، أو واقعه، فالذئب في نظر يوسف ليس سوى خرافةٍ أثمَرتْهَا عُقُولُ أشقائهِ بسبب غيرتهم من فطنته وجماله.. لذلك كان الذئب مجرد حكاية؛ إذ لا وجود له في الواقع الملموس ككينونة فعلية، أو كمعطى موضوعي.
“الذئب لم أره في نومي،
ولا عرفته في صحوي.”(18)
(…………………………..)
“الذئب خيال إخوتي
محض حكاياااات
والدي نسج حبكاتها لتخرج من يده
إلى مخالب إخوتي”(19)
وإذا كان بوسريف قد اتخذ من الذئب رمزا أساسيا في هذا الكتاب الشعري، فلأن الحيوان غالبا ما يشير -في سياق الخرافة -إلى شخصيات وأفكار ومواقف إنسانية واجتماعية. وبهذا المعنى وُظِّفَ الذئبُ كقناع يعبر الشاعر من خلاله عن مشاعره، وتصوراته، ومواقفه ومعاناته. فكما تعرض الذئب لمكيدة إخوة يوسف، تعرض الشاعر كذلك لمكيدة إخوته، فكان هو والذئب ضحيتين للمكر واللؤم والضغينة. ولولا الحلم لما انتصر كلاهما على عزلته وجراحه.
ومن أجل توسيع مجالات المعنى والابتعاد عن المباشرة، اعتمد الشاعر على التناص الديني كآلية أسلوبية تثري الإيحاء وتنفتح على أكثر من قراءة وتأويل. ولهذا السبب نجده يستحضر ملامح من شخصية يوسف وما عناه من كيد إخوته الذين ألقوا به في البئر كما جاء ذلك في القرآن” إذ قالَ يوسُفُ لِأَبيهِ يا أَبَتِ إِنّي رَأَيتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوكَبًا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأَيتُهُم لي ساجِدينَ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقصُص رُؤياكَ عَلى إِخوَتِكَ فَيَكيدوا لَكَ كَيدًا إِنَّ الشَّيطانَ لِلإِنسانِ عَدُوٌّ مُبينٌ “(20) [سورة يوسف، الآية 04] فيتقمص شخصية يوسف ويقول على لسانه.
“أنا يوسف،
كاد لي إخوتي.
لم
أر الذئب
و
لا
في ظني كان أن يكون دمي عالقا بمخالبه”(21)
وإذ يعيد صلاح بوسريف، في هذه الأسطر الشعرية، تركيب الآية بما ينسجم مع رؤيته الفنية، وتجربته النفسية، فإنه يبدع في توظيف الانزياح بشقيه الدلالي والتركيبي، فينزاح دلاليا،حين يشكو من الظلم الذي لحقه من إخوته البشر..
“الذئب مثلي فريسة لإخوتي.
كلانا كنا في قرارة الجب ننتظر حتفنا،
لا نعرف متى الليل حلَّ،
وَ
لا متى النهار مرّ بظلمتنا”.(22)
ويَعْدِل عن الثابت القرآني من خلال ربط معنى الآية التي انطلق منها بواقعه الشعري. فلئن كان كيد إخوة يوسف في القرآن قد جاء على لسان أبيه يعقوب كتحذير له من مكر أشقائه وإيصائه بعدم إخبارهم برؤاه، فقد جاء كيد الإخوة في نص الشاعر على لسان يوسف كشكوى من الظلم الذي تعرضت له الأنا الشعرية، بعد أن اتخذت من يوسف قناعا تعبر من خلاله عن معاناتها من الشر كغريزة بدائية.
ولعل ما يضفي على هذا العمل شعرية خاصة هو انزياح الشاعر عن القواعد النحوية المعتادة، وانحرافه تركيبيا عنها من خلال توظيفه لأسلوب التقديم والتأخير بما هو مظهر من مظاهر الانزياح اللغوي فنجده يقدم الجار والمجرور على المسند والمسند إليه:
“في الحلم،
كنتُ أُضْفِي على عزلتي حياةً”(23)
فلئن كان أصل الجملة هو: كنتُ أضفي حياةً على عزلتي في الحلم، فإن الشاعر قام بتقديم الجار والمجرور (في الحلم) على المسند والمسند إليه (كنت أضفي). وقد لجأ الشاعر إلى هذا الأسلوب التركيبي لإبراز خصوصية الحلم، ومكانته كمصدر لرؤى الشاعر أثناء اختلائه بنفسه. ويواصل بوسريف تقنية التقديم، والتأخير من خلال تقديم المفعول به على الفاعل.
“نفسيَ شَابَها الكَدَرُ،
ادلهمّت الطُّرق في وجهي”(24)
أما العنوان الرئيسي الثالث:” كلانا من نفس الريح جئنا” فقد تمت صياغته من خلال التحوير كآلية تناصية تقوم على استحضار النص الغائب أو ما تسميه جوليا كريستيفا بنص الانطلاق وتحويره في النص الحاضر بشكل ينسجم مع رؤية المؤلف، وقصْدِيته .
“ابتل ريقي بريحك ياااا يوسف
ودمي بدمك ابتلي.
هل أنتَ قدري،
أم
أنا قدركَ،
أم “كلانا من نفس الريح جئنا”،(25)
يقع التناص في السطر الأخير من هذا المقطع، مع الآية الكريمة ” وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُون“(26). ولئن كانت الرّيحُ قد خصّت، في هذه الآية يوسف، ورائحة قميصه تحديدا، فهبَّت تحملُ معها ريحَ هذا النبي؛ أي رائحته من مسيرة ثمانية أيام إلى أبيه يعقوب(27)، فإن الشاعر قد وظف هذه الواقعة في سياق شعري، وسيرذاتي يروي من خلاله محنته المتماهية في كثير من فصولها مع محنة يوسف وابتلاءاته.
لقد ابتليتْ ذاتُ الذّئبِ وامتُحِنتْ كما ابتليتْ ذاتُ يوسف، وغيرها من ذوات أهل العرفان. ومع ذلك، واجهت هذه الذات بلاءها بالصبر، والحكمة، والعلم. حتى أن الذئبَ تشرَّبَ ريقُه برائحة يوسف، فراح يختبر دمَهُ من خلال دَمِه كما يتضح ذلك من خلال السطرين الشعريين الأول والثاني من المقطع المشار إليه سالفا.
على هذا النحو، يتناول العمل الشعري “أنا الذئب يا يوسف” إشكالية الطبيعة البشرية بما هي إشكالية فلسفية، وأنطولوجية تتعلق بماهية الإنسان: ما إن كانت شرا أم خيرا.؟
صحيح أن الإشكالية قديمة في الثيولوجيا، وفلسفة الدين. وصحيح أيضا أنها شغلت الفلاسفة منذ زمن طويل، وأنهم اختلفوا في مواقفهم منها. غير أن الشاعر هنا وإن كان يميل إلى تأصل الشر في الكائن البشري – كما يرى روسو، وهوبز، وكانط- فإنه يقدم لنا رؤيته الشعرية في سياق فني وجمالي، اعتمد قصة يوسف، وما تحمله من شخوص وأحداث ومعاناة تنطبق على عصرنا ومجتمعاتنا .
هكذا هو الإنسان أصل لكل الحروب والتراجيديات، قدره أن يكون شريرا؛ لأنه أناني بطبعه، وحسود، ويسعى إلى إلحاق الضرر بالآخر . ولهذا ارتبطت به أول جريمة في التاريخ.
“قل لي ياااا يوسف
ألم تكن بداية الخلق ذبحا جرى بين إخوة
لا
يد لذئب فيه،
أو ثعالب تكالبت على قايين”.(28)