محمد الحجيري
كاتب لبناني
عام 1939 كتب الشاعر اللبناني الزحلاوي «الفينيقي»، سعيد عقل مسرحية «قدموس»، ونُقحت عام 1944 في طبعتها الرسميَّة. كما أعيد نشرها عام 1961 و 1971 و 1991. وقد وضع لها عقل مقدّمة عرض فيها تصوّره لتاريخ لبنان. وهذه المسرحيَّة المؤلّفة من ثلاثة فصول والمتأثرة بالمدرسة الكلاسيكيَّة الفرنسيَّة، تستمدّ موضوعها من الميثولوجيا الإغريقيَّة-الفينيقيَّة. وفيها يطارد قَدْمُوس أخته أوروپ التي اختطفها زويس، ملك الآلهة اليونانية، كي يُعيدها إلى لبنان. ويتمكّن قَدْموس من القضاء على تنّين كان يحرس أوروپ غير أن خبر انتحار هذه الأخيرة يفسد عليه فرحة الانتصار. أحسب أن أسطورة قَدْموس فيها تشابه مع قصة زواج سعيد عقل بشكل من الأشكال، وما آل إليه هذا الزواج، من مشاهد تراجيدية وفضائحية لم تكن في الحسبان، من شاعر طالما اشتهر بتمجيد المرأة والحب…
والحال أنه في 2 نيسان/ أبريل 1982 عقد سعيد عقل، قرانه على الشاعرة الشابة آمال جنبلاط، ابنة الثري نجيب جنبلاط، وابنة عم كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي اللبناني، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ووصفت الصحافة هذا الحدث بـ«زواج الحب والوحدة الوطنية». وقيل أيضًا إن زواجها هذا الذي كان بمثابة «فضيحة عائلية»، جاء رد فعل منها على موقف سلبي واجهها به أحد المراجع التقليدية. لكن الفضيحة يقول الشاعر عبده وازن طاولت سعيد عقل الشاعر السبعيني قبل أن تطاولها هي، في موافقته على الزواج من صبية لم تتجاوز الثالثة والثلاثين من عمرها، وهو عرف بتلافيه الزواج نهائيًا بعدما أعلن خطوبته على سعاد أبي صالح، ابنة الصحافي يوسف أبي صالح عام 1952، ودامت هذه الخطوبة لعامين ولكنها لم تنته بالزواج. وقيل لأسباب فيزيولوجية. كان سعيد عقل أسطوريًا خرافيًا «مجنونًا بنفسه، يتأله في الشعر جاعلًا من الكلمات لاهوتًا بلا ناسوت، يبني طربه الشعري من قدرته العجيبة على التلاعب بالبحور الشعرية والقوافي، ينحت من صخر الكلمات ويغرف من البحر الذي أجبره المتنبي على الاعتراف بأن الشاعر هو بحر أكثر عمقًا من البحر» (إلياس خوري)…
القضية ليست في زواج شاعر كهل من فتاة أو شاعرة في مقتبل العمر، فهذا الأمر يحصل كثيرًا في أصقاع الأرض، سواء في الوسط السياسي أو الاجتماعي وحتى الثقافي… القضية أنه بعد مرور خمسين يومًا على الزواج، في 23 أيار/مايو، أطلقت آمال جنبلاط (الزوجة) في صدرها أو قلبها رصاصة، وقالت بعض الصحف نقلًا عن مصادر قضائية «إن الظواهر والدلائل كلها تشير إلى أن الفقيدة قد اختارت طريق الانتحار لوضع حد لحياتها»… و«أنها تعاني بعض العوارض النفسية». وأفادت «الخادمة»(بحسب التعبير السائد والبائس) أو «المساعدة» أن الراحلة على مدى أسبوع تناولتْ كميات كبيرة، من الحبوب المهدئة، وكانت تقلّل من وجبات الطعام. هنا يطرح السؤال لماذا تزوجت آمال جنبلاط من سعيد عقل، وهو الذي بعمر والدها؟ ولماذا انتحرت وهي التي أعلنت حبها الجارف؟! هل ما حصل لها له علاقة بالثراء المالي، وبسبب أن كل شيء مؤمن لها؟ لماذا بقيت آمال جنبلاط مغمورة بعد انتحارها، في المقابل تحوّل انتحار الشاعرة الاميركية سيلفيا بلاث، زوجة الإنكليزي تيد هيوز قضية عامّة، أصابت شظاياها الشاعر قبل غيره؟!
آمال جنبلاط ابنة عائلة ثرية تقليدية تملك قصرًا فخمًا في منطقة رأس بيروت، شغل بعض زائريه بأثاثه الفخم، الصيني والفرنسي. وفي العشرين من عمرها، أصدرت ديوانًا شعريًا بالفرنسية بعنوان «أناشيد ليلية»، ونشر «ملحق النهار» في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1969 مراجعة نقدية لهذه الباكورة لم تحمل توقيعًا، غير أن أسلوبها يشير (بحسب الباحث محمود الزيباوي _ مقال في «المدن») إلى الشاعر أنسي الحاج المعروف بمفرداته الأدبية وخواتمه الفائضة بالتعابير الشعرية والمحسنات البديعية. كتب الحاج في قراءته: «شعر واضح صادق، يهرب من التعقيد ولا علاقة له بالتراكيب الحديثة، لولا أنه من ناحية الشكل، يعتمد البيت الحر، مع الاحتفاظ بالقافية. يخيّم على هذا الشعر حزن كاسر، وتمتلئ قصائد الكتاب، إلى حد الهاجس، بألفاظ الموت وحاشيته. كأنّما هذه الصبية لا تعيش إلا في مواجهة الموت، ونكاد نقول في حِماه. لماذا؟ لأنها (هكذا تقول) تعرف أنها لن تعيش. لماذا؟ لأنها (هكذا تقول) لا تعرف، وليس هناك سبب واحد يبرهن لها أنها لن تموت». عدا عن موقف أنسي الحاج، نقل «الملحق» إلى العربية قصيدتين من قصائد باكورة آمال جنبلاط، أولاها قصيدة بعنوان «وحدك»، وفيها:
«أفقك يلبس الحداد
منذ زمن طويل
وظلّك على العتبة
لم يعد ينتظر وقع الأقدام
ما همّك إذا اضطررت وحدك
أن تسمع النعيّ الحزين؟
وحيدًا عش وحيدًا ستموت
ولن يحضر احتضارك أحد».
أما القصيدة الثانية، فعنوانها «ماذا أقول؟»،
وفيها: «ماذا أقول عندما
ضباب عيني
سيحجب النور؟
ماذا أقول عندما الموت
يثقل جفني؟
ماذا أقول عندما يهبط المساء؟
لقد غنيت الحقول والجداول
وها أخرج من الحياة
لا ذليلة ولا فخورة
ولكني فقط أخفض رأسي
وأرجع حيث أتيت».
نوّه أنسي الحاج بآمال جنبلاط بمثل ما نوّه بغيرها من الكاتبات أو الشاعرات الجديدات، واعتبر أنها تملك، «في سبيل مستقبل شعري أفضل، إحساسًا سريع الالتقاط، ورغبة عميقة في التغيّر، بل إرادة قادرة على التغيّر، وعلى التغيّر باتجاه المناخ الذي تستكمل فيه شخصيتها أكثر فأكثر، وتستوفي عناصر دورها الشعري أكثر فأكثر». ورأى أن في بذور هذه المجموعة الشعرية الأولى، كما في استعداد صاحبتها، «ما يجعلنا نرجو أن تكون هذه الإطلالة وقوفًا عند عتبة الباب الكبير، الباب الذي ينفتح، إذا دقّت عليه يد ماهرة، على شعر الصباح». بعد غياب أكثر من خمس سنوات، أصدرت آمال جنبلاط في 1974 مجموعة ثانية حملت عنوان «الغياب – الشعر المضاد»، شكّلت استمرارية للمجموعة الأولى، ونالت جائزة سعيدة عقل عن شهر أب عام 1974، وقيمة الجائزة ألف ليرة. يقول عبده وازن في مقالة عن الشاعرة (نشرت في جريدة الحياة): قد يفاجأ القارئ بهذا العنوان الذي حمله ديوان لا يضم قصائد نثرًا وقصائد متفلتة من أي نظام، بل قصائد موزونة ومقفاة سعت الشاعرة فيها إلى التنويع على النظام الإيقاعي وتطويره موسيقيًا، انطلاقًا من روح حداثية جدًا ومراس لغوي وأسلوبي واضح المعالم. يبدو شعر آمال متعدد المشارب والحقول، ثريًا، يتراوح بين الرومنطيقية النوفاليسية (نسبة إلى الشاعر الألماني نوفاليس) الرمزية البودليرية والحداثة التي وسمت القرن العشرين.
ويبدو الديوان الثاني تطويرًا لتجربتها في الديوان الأول، ووضعت مقدمة له هي بمثابة بيان قصير تعلن فيه رأيها بالشعر المعاصر وتتطرق إلى أزماته وإلى ما يسمى مجازًا موته. وترى جنبلاط أن الشعر لم يبق ضرورة كما كان في السابق، وهو لم يبق «موضع بحث» بل بات «يقاسي الكثير بصفته ظاهرة فريدة وجنونية» ولم يعد يهم أحدًا. وفي مقابلة نشرتها مجلة «الأسبوع العربي» قالت آمال جنبلاط عن رأيها في الشعر، فبدت كأنها ضجرة من أشياء الكون والقصور وتحنّ إلى ذلك العالم البعيد، وعناصر كلامها توحي بأنها تعيش في عالم مضطرب ومأزوم وموحش، من حديثها عن روبنسون كروز إلى كلامها في مي زيادة ونصها «موت الكناري»، فهي بحسب ما تقول «ما زالت فتاة تقف على أبواب العشرين ربيعًا، لم تعصف بحياتها عواصف الشتاء لمْ تمتدْ إلى أحزان الخريف، سفينتها لم تقلعْ، وأشرعتها لم تتلاعب بها الرياح.. هي مثل روبنسون كروز لا تدري على أي صخور ستنكسر سفينتها، ولا تدري على أية جزيرة منسيّة مجهولة ستقذفها الأمواج». تقول ما يشبه الكلام الصوفي «أريد أن أعبد شيئًا في عصر المادة… فماذا أعبد… هل أعبد الحجارة؟ أريد معبودًا روحانيًا أكثر… أريد أن أتكلم لا لمجرّد الكلام». «أبعد الأشياء التي أذكرها يوم قرأت في المدرسة قطعة أدبية لمي زيادة عنوانها «عصفوري الصغير» وما زلت إلى اليوم أحفظ هذه الجملة التي تقول فيها: «نسجت أشعة الشمس ذهبَ جناحيه، أسود العينين. انحنى الليل عليه فترك قبلة من سواده في عينيه، أصفر الجناحين «. لم أكتب شيئًا في طفولتي. إلا وأدخلت هذه الكلمة وأدّعيها لنفسي. كما أشعر بأنني، أنا التي قلتها وأن مي سرقتها مني قبل أن أولد»…
تبدو آمال شاعرة مسكونة بالخوف من الأشياء، مسكونة بالخوف من الضياع، ومسكونة بالموت. وتعتبر الشعر السائد «فيه زخرفة تُخلّ بالجوهر… إنه على وجه التقريب بدون مضمون، إننا نقرأ كتابًا بكامله دون أن نفهم؟ أنا أفهم الغموض أنه شاشة شفافة، لكنه بالضرورة ليس حاجبا سميكا يحجب ما خلفه… هذا ليس غموضًا… هذا عجز عن التعبير»… كأنها تدق إسفينًا من كل تنظيرات الحداثة والغموض، تصل إلى حافة أن «الشعر بحر القلق، مغامرة الجنون، سفر عبر المسافات الضائعة… زئبق المشاعر التي لا تستقر»، وتسأل «إلى أين تريد فتاة في العشرين تقص شعرها كصبي، أن تمضي؟»، هنا شيء من تقاطعات مع الأديبة مي زيادة والكاتبة المصرية عنايات الزيات التي جزت شعرها، وخصصت الشاعرة المصرية إيمان مرسال مقطعًا للحديث عن جز الشعر في كتابها «في أثر عنايات الزيات». آمال جنبلاط التي تخاف من الضياع، تعتبر أن الشعر «ليس لعبة كألعاب طفولتي، وهو ليس حصانًا من خشب. وليس عروسًا محشوة بالقطن» و»هذا العصر أشبه بإنسان في سفينة تتلاعب بها الأمواج. لا يعرف أحد أين سينتهي به المطاف. أنا كنت سجينة، ولدت في عالم صنع للكبار ولم يتركوا شيئًا فيه مكانا للصغار، كنت أشعر دائمًا وأنا طفلة بأني لا أستطيع أن أفعل دائما ما يريد، الكبار دائما أوصياء على طفولتي». إذا كانت تنفي الشعر عن أشياء الأطفال، في المقابل تعتبر أن الأطفال «وهم وحدهم يعرفون كيف يكتشفون الغابات. وهم وحدهم يحسون تلك الروعة في الأغصان المتشابكة والأصوات الخفية، هم عين الثعلب الماكرة الشقية. هم الغابة البكر». و«لا يرى العصافير على حقيقتها إلا الأطفال»، تبدو الطفولة هاجسها الأبدي، رغم أنها تعيش ما يشبه الكمال «أنا دائما أخاف أن أضيع. لقد وفر لي أهلي كل شيء أنا محتاجة إليه… إلا الشيء الوحيد الذي أريد… إنهم لا يعرفون كيف يحكون لغتي، لغة الطفولة»… تبحث عن طفولتها في مكان ما، يراودها الموت في مكان آخر:
لن نموت إلا ليلا
لكننا نعود إلى الحياة
مرات
وبتنهيدة تسألني
أين أنتِ ؟ ماذا تفعلين؟
آه ماذا أقول لكِ
ها أنا تحت التراب
ولا أسف على شيء
فقط كوني حية
ولكن الحياة بلا أمل
هي حياة بلا تنفس
وأنا التي تجرؤ أن تحلم
أخشى أن ألفظ أنفاسي
قبل أن أعيش
أيها الغد
ما تراها تكون قرباك
مع البارحة؟
أية نهاية تجيء لي
وبأية ضربة ستصرعني
بعد التجربة الشعرية التي اقتصرت على مجموعتين، غابت آمال جنبلاط عن عالم الشعر، وعادت إلى الظهور إعلاميًا في ربيع 1982، يوم تزوّجت كنسيًا من سعيد عقل، وكتب الشاعر في هذه المناسبة قصيدة باللغة المحكية غنّتها الجوقة أثناء العرس، تقول كلماتها: «مع شمسك اللي عالدني تشرق/ ربّي تشاركهم/ وبإيدك اللي بالعقل تبرق/ ربّي تباركهم/ سعيد وآمال/ طالع بهالجلد عرسن شميلة جمال/ لعرشك اللي من ذهب الأبد/ المجد والشعر التقوا باتنين/ جبينن متل غصن الأرز عالي/ شعبهم كبير فيهم، شهقلن/ وين راح يوصل بعد موّالي/ ربّي يا هالغالي بعينيك حطّن/ غمّض العينين/ مع شمسك اللي عالدني تشرق/ ربّي تشاركهم/ وبإيدك اللي بالعقل تبرق/ ربّي تباركهم».
أحبّت آمال الشاعر حُبًّا أفلاطونيًا عميقًا، اختلطت فيه العاطفة بالإبداع والشعر بالجنون… كانت عوائق كثيرة تقفُ في طريق اقترانها به، منها فارق السن، واختلاف المعتقد، والأحوال السياسية القلقة التي سادت لبنان منذ عام 1975 والحرب الأهلية، فهي ابنة عم كمال جنبلاط رئيس الحركة الوطنية، التي تمثّل الأحزاب «اليسارية» والإسلامية والعروبية، وسعيد عقل من وجوه «الجبهة اللبنانية» التي تمثل الشارع المسيحي واليميني ومنظِّر حزب حراس الأَرز المتعاون مع إسرائيل، مع أنه في سنوات سابقة كان قريبا من قادة الحزب الشيوعي اللبناني ومن الحزب السوري القومي الاجتماعي ومن القوميين العرب. وأجرت ديانا هندي حديثًا مع الشاعر وزوجته نُشر في مجلة «الشبكة» في 26 نيسان/أبريل، وتطرق إلى المقابلة محمود الزيباوي. قال سعيد عقل إنه التقى بآمال جنبلاط منذ 12 سنة فأحبّها، وتزوّجها بعد طول انتظار، ووصف هذا الزواج بالأعجوبة، وأضاف: «كنت أستكبر جدًا أن ترضى بي زوجًا، هي الصبية الموهوبة، ابنة العائلة العريقة. كنت أحبّها وأتهيّب طلبها للزواج لفارق السن بيني وبينها، لكن اليوم بعد أن كبرت ونضجت، تجرّأت وفعلت وحققت حلمي بالزواج منها». وردّت آمال جنبلاط وقالت: «إنها غلطتي، وأنا نادمة. قبل 12 سنة لم أكن أملك النضج الكافي لأتزوج من رجل كسعيد عقل. إنه هرم، والمحافظة على هذا الهرم مسؤولية كبيرة. اليوم ملكت النضج الحقيقي، فتحمّلت هذه المسؤولية بإصرار ووعي». ورغم الانقسام المذهبي في تلك الأيام، بدا العرس أقرب لفلكلور الوحدة الوطنية،، اسمته الشاعرة «زواج الوفاق الوطني» وهي تقول إنه «جمع بين جميع الطوائف في لبنان. فإشبينتي كلود أبو ناضر مارونية، وإشبين سعيد عقل الرئيس عادل عسيران شيعي، واللواء عزيز الأحدب الذي كان سيدخلني إلى الكنيسة لو لم تلمّ به وعكة صحية سنّي، وأنا درزية. صحيح إني دخلت الكنيسة، وأخذت المراسم المسيحية التي أحترمها، لكنني خرجت منها درزية».
وانتهى هذا الزواج بانتهاء الزوجة، التي أطلقتْ من مسدس سميس ان ويزن عيار 38 ملم على صدرها رصاصة مزّقت قلبها في غياب زوجها الذي كان في زيارة أحد أصدقائه في منطقة بدارو(بيروت)، ذكرت معلومات أن الفقيدة طلبتْ من «الخادمة» تحضير فنجان قهوة لها ولما دخلت الأخيرة إلى المطبخ سمعتها تتحدث بالهاتف مع زوجها سعيد عقل وتحولت المكالمة إلى مشادة ثم سرعان ما سمعت طلقًا ناريًا فاتجهت إلى غرفة نومها لتراها ممددة على الأرض والدماء تسيل منها بغزارة، وهرع الجيران، وأُبلغ سعيد عقل فوصل بعد قليل إلى المنزل، ثم حضر المدعي العام في جبل لبنان.. وكشف على الجثة الطبيب الشرعي وتبين أن الرصاصة أصابت آمال في صدرها ومزقت القلب، ونقلت بعض الصحف «كان سعيد عقل من التأثر بحيث لم يستطع الكلام، واكتفى بالقول: «أنا مجروح وحزين» قولوا إن سعيد عقل اليوم في أشد حالاته حزنًا وانكسارًا، إنه اليوم مجروح وحزين، وقد فوجئت بالحادث وكنت غائبًا عن المنزل.
ونُقلت جثتها إلى مستشفى «أوتيل ديو» حيث تمّ تشريحها، وأبقيت هناك في انتظار تحديد مراسم التشييع. بعدها، نُقل جثمان آمال جنبلاط من بيروت الشرقية إلى بيروت الغربية في زمن انقسام العاصمة، ثمّ نُقل من بيروت الغربية إلى بلدتها بعقلين حيث جرى تسليمه إلى ذويها.
حدث المأساة حصل في نهاية أيار/مايو 1982. بعد بضعة أيام، في 6 حزيران/يونيو، احتلت إسرائيل جنوب لبنان، ثمّ حاصرت بيروت، ومع هذا الاجتياح، دخلت قصة زواج سعيد عقل من آمال جنبلاط سريعًا في النسيان، وحين رحل الشاعر عن هذه الدنيا في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2014، لم يأتِ أحد على ذكرها. مع العلم أنه في حزيران انتحر الشاعر خليل حاوي عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وتحول انتحاره قناعًا للكثير من الشعارات.
انتحرتْ آمال جنبلاط وانطوى اسمها، ولم يذكرها أحد، ونادرة هي المراجع التي تذكرها، ولم تتحول قضية شعرية واجتماعية ورمزية.
إن أسباب انتحارها لا تبتعد كثيرًا عن أسباب انتحار الروائية فرجينيا وولف أو الكاتبة أروى صالح أو الشاعرة سيلفيا بلاث… هناك محاولة من البعض لمحو الحدث المأسوي من الذاكرة، يريد أن يبقي صفحة سعيد عقل ناصعة رخامية تشبه شعره، وبعض من يذكرها، يفعل ذلك من باب هجاء سعيد عقل، أو يذكرها عرضيًا. لم يسع المترجمون لنقل قصائدها الفرنسية إلى العربية، وجلّ ما نُشر لها قصيدة هنا وقصيدة وهناك، والخبر الأبرز عنها انتحارها ولكن من دون تفاصيل، وظهرت بعض التفاصيل عنها بعد أكثر من ثلاثة عقود، في مقالات للشاعر عبده وازن والباحث محمود الزيباوي. التعاطي مع انتحار آمال جنبلاط يشبه التعاطي مع انتحار مواطنتها الروائية منى جبور، التي بقيت لعقود طي النسيان، وبعض المقربين يرفضون الاعتراف بانتحارها، في النهاية ثمة من نشر أعمالها الأدبية في مواقع الانترنت.