ضحى عبدالرؤوف المل
كاتبة لبنانية
يؤكد الشاعر “عباس بيضون“ في ديوانه “الحياة تحت الصفر“ على قوة اللغة الشعرية المتصالحة مع ماديات الوجود والذات، متأملا كل ما حوله من خلال التغيرات التي يفرضها الزمن على الإنسان ببطء. إذ لم تسمح له سرعة الحياة بالانتباه كما في العزلة أو حالة التجمد تحت الصفر حيث كل شىء يصبح فجأة له رمزيته الجمالية والتكوين المشابه لحالة جمود الحياة. رغم أنها متحركة، لأنه لم يستخدم مفردة الموت تحت الصفر، لأنها حياة بكل ما أوتيت من كلمة، ففهم عملية الاندماج الشعري جاءت من الحياة تحت الصفر، كأن كل شيء يتكون من جديد تبعا لواقعية عميقة فرضت العزلة والعيش تحت الصفر أو منفي في غرفة يجر كسيحة «من امام التلفزيون / اسحبها إلى السرير/ حيث يبدأ عذابها مع الوقت.. فالوقت نفسه ، ما يزال واقعا في تكريس الأثر الزمني البطيء جدا «نهار واحد يقفز من تحت النافذة» وقد يبدو الجمع بين كلمتي الموت والحياة غير عادي، لكن الشبحية التي تم استخدامها هي الإحاطة بأشباه الأمس حيث التكرار ، فالتكرار للاستعداد للمغادرة أو للانطلاق نحو لغة الشعر التي تستعد للقفز كما النهار «إننا نتكرر على طول هذا اليوم فالواقع المرير كسيح وهو غير متعاطف مع عجز في الرجوع إلى الماضي الذي انقضى»، «لقد انتقد الحاضر وعجزه» كوجبة أسنان بصقناها أمام قرن لم يزل قاعدا» بسبب المنفى المتسع والضيق، لأنه يريد لغة الشعر خالية من الشعر الذي يريد قول كل شيء بواقعية يذوب فيها الأموات، لتبقى الحياة في ذهن الأحياء.
يشكو «عباس بيضون» من منفى العزلة وحالة التجمد التي أصابته بعد خمسة وسبعين عاما قبل أن ينام، ففي الذاكرة احتشدت العناوين منها الحمام والجهاز وغيره . لنبدأ قراءة ديوان شعري يسخر من الواقعية الحياتية بماضيها وحاضرها والمستقبل غير المرئي، لكنه كالحمامة والعدوى بين القديم والجديد والحديث، وما بعد حداثة تعيد للزمن الحاضر «ما تركه الزمن والخيول وآثار الأقدام « فهل حان الوقت فعلا للعودة بعد أن ذهبنا بأنفسنا بالخطأ إلى هناك ؟.
الشاعر الحقيقي يلتقط الحالة الحياتية وينحتها كما يشعر بها. لهذا يجب أن يكون صادقا حقا مع طبيعته الشعرية الميالة إلى تحديد الأبعاد مثل الحمامة وألمها الذي انتقل إليه، فقد حان الوقت «لقد حان الوقت/ لنصنع شيئا أفظع/ شيئا أقل وزنا وكلفة» وهي الرسائل الإلكترونية والكتابة على حائط صفحات تمر عليها الأعين كـ «رسائل لا تقتل، وأرقاما/ لم تحتج إلى سعاة،/بل فقط، إلى فلاة وإلى جليد»، فهل تبادل ألم العزلة على صفحات إلكترونية هو الحمام الذي استبدلناه حيث « تستطيع أن تتلصص فيه/ وأن تلسع/ بدون أن تترك أثرا» ..وهل من حقائق شعرية في ملاحظات حياتية لواقع تجمد تحت الصفر ويردنا إلى الخلف ؟
من خلال قراءة القصائد في ديوان يؤكد صاحبه على الضرورة بين إنتاج الحقائق والإحساس الشعري حيث يفهم المرء معنى الملاحظات الحياتية لصفر لا يتوقف عن الثرثرة والصفر هنا رقم آخر لإنسان في «زمن لا يزال يتنفس ويدمدم» وهو قيد الحياة خارج جسده محبوس في جهاز إلكتروني يتنقل فيه افتراضيا، لذلك تجد هذه التصورات الشعرية ما يبررها في مراقبة الواقع المر لعزلة جعلته يرى كل شيء وفق ملاحظات هي مجموع قصائد أنجبتها العزلة الفيروسية، لكن بلغة شعرية تؤكد على الموضوع الحساس الذي نخوضه في حياة توقفت حركتها في الشوارع، ولكن بقيت ضمن الجهاز الإنترنتي وتجربة الانطباعات والعواطف فيه، وبأن القصيدة ستكون مسؤولة عن التأريخ لما حدث بشكل شعري معين أنجبته الحياة تحت الصفر، فهل استطاع «عباس بيضون»الحفاظ على حقيقة التصورات والمشاعر التي أسفرت عن حالة التجمد هذه ؟
تكمن أهمية الشعر في قصائد «عباس بيضون» في أنها ليست سريالية ولا رومانسية، هي واقع يضاف إليه الطبيعة التأملية لحالة الحياة الغربية والمستوحاة مباشرة من الأزمات المتكررة في حياة طويلة، والتي تشكل نوعا من فلسفة شعرية غارقة بما هو غير تافه يحدث من حولنا، ويشكل تحديًا كبيرًا لشاعر هو كالنحات الذي رحل تاركا منحوتاته «حملها في جيبه / ونصبها أكبر من الجبال» فكيف تنحت اللغة الشعرية وإيقاعاتها في سلسلة من نغمات يتركها الشاعر للآخرين ضمن اختيارات القصائد وطريقة نحتها التي تتحول إلى «حكايات تتحول باللمس» إلى حياة كاملة بعيدًا عن الموت الفعلي الذي يعيده إلى العالم مرة أخرى «وقد يكون ابنا شاردا /أو حبا على الطريق». فهل يمنحنا ديوان «الحياة تحت الصفر» تماسكًا جماليًا كبيرًا، لدرجة أنه يبدو بديهيًا أن يشكل كونًا ذاتيا لإنسان أصابته العزلة بتأملات لواقع مغلق أو لشاعر خاف النسيم الأصفر أو معاشرة الفيروسات؟ أم أنه حاول إعادة صياغة بعض تمثيلات الفيروس الكوروني وأحداثه الدقيقة الخاصة بالخيال المؤثر على كل الوسائل الحياتية؟
تؤثر هذه العوامل الفيروسية في مراحلها على الاقتصاد الذي يلتقطه الدولار في حركة مستمرة لا تزول ولا تتجمد كما تجمد الإنسان الذي يعاني من عدم الاستقرار، والذي يؤدي إلى ما يجب أن يُطلق عليه مرة أخرى النسيم الأصفر«إنها سهرة الصرّاف/ مع دولار واحد/ وفيروس ينتظر في الطبق». فهو يستكشف النسيم الأصفر كما لو كان يشكل قصيدة نفهم منها الواقع الاجتماعي والاقتصادي والطبي «ومن يد إلى يد/ ينتقل الفيروس/ أو ينتظر في الطبق/ يختبئ تحت كلمة/ أو تحت رقم/ عن يمين الدولار»، فهل من خيال اجتماعي هو صيحة أو حلم ليقظة يرويها الشاعر، من خلال ما نقرأه شعرًا وما لمسناه واقعا وهو بمثابة مادة ثرية لقصيدة هي أفق مرجعي لمحاولة فهم ما نمر به لفهمه، وتقييمه لاحقا، وبعبارات أخرى، تحتفظ به القصيدة كصيحة تعيدنا إلى حالة الصفر، وهذا ما نسميه الواقعية الشعرية.
إن السمة الأساسية للصورة الشعرية عند «عباس بيضون» هي في نفس الوقت «واقعية» لأنها تطرح قضايا حياتية لعزلة وضعت الجميع في حالة من الجمود ومعاناة غيرت من مظهر الحياة وبأسلوب ملموس، فردي للأشياء التي هي في لب الحياة لها وجودها وضرورياتها، فقد منحها شعرية إيحائية مغروسة بواقع يثري المعنى الحقيقي، ونستمد منها معنى خفيا لا يخلو من رؤية اجتماعية. وأخرى سياسية وأخرى نفسية خاصة لكبار السن، فالوصف الواقعي لفيروس كورونا يستحضر أسلوبا شعريا حساسا ودقيقا، باختزال يحتوي على تناقضات في مصطلحات استطاع التوفيق بينها بجمالية رؤية ذاتية للعالم، وبعين موضوعية بعيدة عن العاطفة ومرتبطة بعقلانية يكتشف من خلالها ما يمكن أن يعطيه الشعر للزمن القادم أو ما يمكن أن يتركه الشاعر لجيل سيقرأ القصيدة، وسيؤرخ ما تم تشكيله من معانٍ جمالية حقيقية عميقة وشاملة التعبير من منظور الفن الشعري الواقعي رغم رمزيته في الكثير من الخصائص الجوهرية الملتزم بها الشاعر، ويمكننا فهم تماسكها ومزاياها لواقعيتها الدرامية والنفسية والاجتماعية « قبلة الفيروس التي تنشب في عنق مكشوف/ دون أن يدري أحد/ إنها لا تزال تنبح/ في وجوه الجميع/ المحتشدين أمام (المخازن)/ أو تعلق بالاعلان/ الذي يحتاج إلى قليل من الدم، وما بين المفهوم الواقعي الشعري والإيحاءات الغارقة بتفاصيل الواقع المتجمد هو نقطة وضعها «عباس بيضون» ليكون أقرب ما يمكن من واقعنا بعيدا عن المثالية الشعرية أو الأفلاطونية أو الرومانسية وحتى السوريالية. فهو لم يتجاهل الخصائص الفنية المؤدية للإدراك الشعري ولا التصورات المختزلة للأحداث برمتها ، فليس عبثا نظم ديوانه هذا! بل هو في البدء كان العدد كما يقول في قصيدة أمثولة العدد حيث يقول « من يسلمنا أعمارنا بالعدد/إننا نسوس هكذا الأشياء/ونتركها تحت السيطرة/لكننا مع ذلك، نبقى تحت رقابة الواحد «فهل الواحد هو ما جعل الحياة تحت الصفر وهل هي الظل» وأن ما تعيده لنا الثقوب/ هو الحياة تحت الصفر»…
ينقل «عباس بيضون» التصورات الفيروسية والعاطفة المشحونة بالخبرة الحياتية بمعرفة نشأت عنها القصائد الباحثة عن حلول، هي معجزة بحد ذاتها تتمتع بها كل قصيدة في ديوان فتَحَ التعبير الشعري على واقعية ذات قيمة فكرية ولفظية بشكل خاص. فالبحث في الارتباط أو تصادم المعاني التي تثيرها الكلمات أو تثيرها معادلة الرؤية الفيروسية المؤدية للعزلة عبر سلسلة من القيم الفكرية، يشكل الخصائص الأساسية للشعر. حيث يمكننا استنباط ملاحظات مهمة لفهم العلاقة بين القصيدة والشاعرية الواقعية .إذ يميل الشعر إلى تجاوز الرؤية السريالية للعالم، وحتى الرمزية، واستبدالها برؤية ايحائية تتجدد بفضل الأصداء الحياتية الدقيقة بتصوراتها المختلفة رغم واقعيتها «وقعت/ عن الرصيف/ صخرة الروشة/ والمطعم المقابل/ تركت اسمي على الشوارع/ وعلى المرفأ/ وعلى العابرين/ الذين في الغالب/ خرجوا بدون أسمائهم/ لقد بدأت هكذا نزهة المغفلين». فهل من غايات لدى الشاعر باتباع المسارات البلاغية المختلفة في كل قصيدة؟ أم أن الحياة تحت الصفر هي وجود ملموس لواقع نعيش فيه بشكل مختلف عما عرفناه شعريا؟