حنيفة كابيجتش عثماناغيتش
كان عزت ساريليتش (Izet Sarajlić) (1930-2002) من أشهر شعراء البوسنة والهرسك بعد الحرب العالمية الثانية. نشر ساريليتش أول مجموعة شعرية في سن التاسعة عشرة بعنوان “في لقاء”. تخرج في قسم الفلسفة والأدب المقارن في جامعة سراييفو بدرجة دكتوراه في العلوم الفلسفية. خلال دراسته في الجامعة كان يعمل ساريليتش كصحفي. بعد تخرجه أصبح ساريليتش أستاذًا متفرغًا في كلية الفلسفة في سراييفو. كان عضوا في أكاديمية العلوم والفنون في البوسنة والهرسك وجمعية كتاب البوسنة. كان أحد مؤسسي “أيام الشعر في سراييفو” كمهرجان دولي للشعر عام 1962. خلال مسيرته الطويلة نشر ساريليتش أكثر من 30 ديوانًا شعريًا. تُرجم شعره إلى خمس عشرة لغة. كان أيضًا مؤلفًا شهيرًا للمذكرات والكتابات السياسية والترجمات. مجموعاته الشعرية الشهيرة هي التالية: “في لقاء” (1949)، “الإجازة الرمادية” (1955)،”دقيقة الصمت” (1960)، “العبور” (1963)، “السنوات، السنوات” (1965)، “أنا أسافر وأتحدث” (1967)، “في النهاية هي المرثية” (1967)، “الأبيات لليلة السعيدة” (1971)، “رسائل” (1974)،”وللحوار بقية” (1977)،”لقد رنّ شخص ما” (1982)،”نعي العندليب” (1987)،”وداعا للمثالية الإنسانية الأوروبية” (1989)،”يوميات حرب سراييفو” (1992)،”كتاب الوداع” (1996).
عزت ساريليتش (Izet Sarajlić) هو يعتبر من أشهر الشعراء البوسنيين في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد غادرنا في بداية الألفية الجديدة، في عام 2002. قبل حرب عام 1992، أصدر حوالي ثلاثين ديوانًا شعريًا. تميز شعره، خاصة في جزئه الأول، بالعزم على الانفصال عن شاعرية قد تسمّى بالواقعية الاشتراكية. قام الشاعر بهذا الانفصال في المقام الأول من خلال إبداع وتشكيل إحساس شعري جديد. اختلفت هذه الحساسية عن سابقتها التي تمثلت في الالتزام الافتراضي أو عن جميع الصور النمطية السابقة للحساسية. من منظور الشكل، نجد شعر عزت ساريليتش في الغالب مكتوبًا بالشعر الحر وفي بعض الأحيان تكون قصائده مرتبطةً بالنثر. وإذا نظرنا إلى المضمون، يتميز شعره بوضوح برؤية حازمة للمستقبل. من ناحية أخرى، يتميز الشاعر بحياته وعمله الأدبي بأنه متمرد في جميع مراحل نشاطه. مدركًا لذاته، يعرّف ساريليتش نفسه عدة مرات على أنه مشارك في طليعة الشعر اليوغسلافي والبسنوي وأنه “تروبادور” جديد.
يعتقد الشاعر المتمرد أنه يتبع الفكرة العامة للثورة على جميع الأصعدة. كما يعتقد سرايليتش أن الثورة يجب أن تستمر دائمًا. لذلك، فإن حاجة الشاعر للتعبير عن “… حقه المرير/ عدم النوم عندما يكون العالم مهددًا بالوباء أو الحرب” هي أمر لا شك فيه. علاوة على ذلك، هو يسعى إلى توسيع شعوره الثوري الصادق في العالم كله كما هو ملحوظ فى القصيدة “سراييفو”. إنه مناهض ثابت للفاشية. الشاعر يسمي هذه الميزة “بالشيوعية النقية”، وأشهر مقارن لهذه الميزة هي العبارة “الأحمر كالشيوعية” من أغنية “مولودون في عمر الثالثة والعشرين، قتلوا في الثانية والأربعين”. يعكس هذا الموقف الرؤية الإيديولوجية الشبابية لجيل الأخ الأكبر ساريليتش الذي قُتل في الحرب العالمية الثانية. لكن عزت ساريليتش شخصيا هو متمرد على كل أنواع ما يسمى هيكل الحياة الملموس الذي يتطلب الطاعة المطلقة الذى يفضلها على البحث عن أفكار جديدة وأشكال جديدة للحياة. وبسبب ذلك، اتسمت حياة عزت ساريليتش بأكملها بالعقاب والطرد من المنظمات الثقافية والفنية ومن عصبة الشيوعيين.
ينقل ساريليتش بشكل عفوي وبنجاح كبير إحساسه الثائر الجديد في الشعر إلى الأجيال الجديدة من عشاق الشعر الذين يتبعونه.
من خلال رموز الحساسية الجديدة، سيصنف ساريليتش نفسه على أنه شاعر الحب والصداقة والأخوة والعاطفة الأبوية في عقود لاحقًة. ينم تعبيره عن أعمق إيقاع لإحساسه بالحياة في القصيدة من خلال التقديم المتكرر للكلمات أو العبارات المهمة بالنسبة له في بداية الشعر، وتضخيمها وتلميعها. يبدو الجناس بمثابة ضربة لكائن ساريليتش الداخلي.
يعتقد ساريليتش أن رؤيته هي دائمًا جزء من المستقبل والنضال من أجله. وبالتالي فإن ذكرى استشهاد شقيقه إيشو في الحرب العالمية الثانية تعزز إصرار الشاعر على محاربة الفاشية. الشاعر بلا شك مخلص للضحايا في الشعر. ينقل رسائلهم التي كتبوا فيها وصاياهم إلى القصائد، وهو مقتنع بأن هذه هي الذاكرة الشعرية التي تخدم مستقبلًا أفضل.
وبدلًا من فلسفة الوجودية والعبثية، التي لم يلتزم بها “سراجلي” أيضًا، ظهرت فكرة البنيوية من الدوائر النقدية المتقدمة. وبها تمّ إنكار التطور الإنساني وتغلبت رؤية نهاية التاريخ. يشكك العصر الجديد أيضًا في أسبقية الحب التي تحولت الآن إلى حب مجنون، واتجه نحو ثورة جنسية وهيمنة النزعة الاستهلاكية. لذلك، هناك شعرية جديدة قادمة لا يتبعها ساريليتش. حدثت التغيرات الهامّة في حياة ساريليتش. لقد بدأ الماضي يعارض رؤيته المستمرة للمستقبل. إن مرور أفضل السنوات والإشارات عن هشاشة الجسد والموت اللائح في الآفاق المستقبلية، أثارت التساؤل عنده حول تأكيد المستقبل الذي لم يكن فيه جدال حتى تلك الفترة. بدأت الحقبة الحديثة في إنكار حساسية الشاعر، حيث إنها تلغي الحاجة إلى المزيد من نشر الإنسانية فى العالم. ساريليتش بصفته شاعرًا، يتآكل ببطء بسبب الشك، لكنه يظل رجلًا مخلصًا لكل ما اختاره أصليا، حتى لو احتوى هذا الإخلاص أيضًا على معارضة اتجاهات العصر. يغني ساريليتش الآن عن مدى ضرورة أن يثابر الرجل في المواقف البشرية و الانسانية.
في أغنية “بلا عنوان” يكتب ساريليتش أنه كان من الضروري “التصالح مع فكرة أن الكتاب الوحيد الذي يكتبه الرجل هو كتاب الهزيمة”. ولكن، على الرغم من المعرفة الجديدة، سوف يتحملها الشاعر بشكل رواقىّ وفي النهاية سيستنتج أن “الآن كل شيء على ما يرام. / لقد مرت الحياة/ يمكن للإنسان أن يبدأ أن يعيش.”
فكاهة التعبير، التي كانت حاضرة في شعره من قبل، تم تبديلها الآن بالسخرية، ثم بالسخرية الذاتية، بالفكاهة السوداء وبالتهكم. هذه العناصر تقوض الرومانسية الجديدة التي تميز شعره المبكر. ومع ذلك، لا تزال الرومانسية الجديدة حاضرة في قصائده، لكنها تقلصت الآن إلى مكان أضيق بكثير. إنه المكان العاطفي للشاعر نفسه. وفي ذلك، لاحظ النقاد أساطير ساريليتش الشخصية والحميمية.
عبّر ساريليتش عن رفضه تقنية العالم المتزايدة التي لا يمكن إيقافها بدقة وبشكل مؤثر في القصيدة من نوع الفكاهة السوداء بعنوان “القصيدة لراكب الدراجات” وكتب الشاعر هذه القصيدة في أواخر الستينيات. في صورة هذا الراكب يرى الشاعر نفسه: “ستموت، يا صديقي”. “أنت/ أصبحت مجرد نسخة أفضل قليلًا من المشاة. ليس لديك فكرة/ ما هي المصيبة التي ستحكم العالم/ عندما تختفي أنت تمامًا من شوارعه”. ثم يواصل الشاعر تجربته في العالم بالآبيات التالية:
وسوف يموت الكثير معك:
الرومانسية
الرومانسية الجديدة
الكلاسيكية
المستقبلية…
فقط الواقعية ستبقى،
الواقعية في أسوأ صورها.
لا،
لا أريد أن أكتب عن كل ذلك….
إن فهم ساريليتش للاتجاهات المعاصرة واضح تماما، وكذلك واضح رفضه ومعارضته، حتى لو كان الشاعر بسبب موقفه ضد الجميع. في تلك المعارضة الروحانية، شهد ساريليتش الحرب الثانية في حياته، تلك التي اندلعت عام 1992. يقضي الشاعر سنواته الناضجة في حصار سراييفو الذي دام أربع سنوات. تحت الحصار، لم يستمر ساريليتش في الإبداع فحسب، بل تمكن بسرعة كبيرة من نشر أول مجموعة قصيرة من قصائد الحرب في إحدى الصحف اليومية. إنها مجموعة من ” يوم الأحد فى سراييفو” صدر في 8 أغسطس 1992 وتحتوي على 22 قصيدة. قصائده الحربية قصيرة ومنفجرة دلاليا وذات وسائل لغوية مختزلة للغاية. هذه القصائد تعتبر شحنة شعرية غير متوقعة وهي تثير الدهشة لدى القارئ. كل قصيدة من هذا النوع هي تمرد مذهل يعكس جوهر شيء لا تستطيع الحرب كسره. يتميز هذا الجوهر بآثار الفكاهة السوداء المرّة ورفض الشاعر العنيف للشر والعنف.
ولعل أفضل مثال على هذا الشعر هو قصيدة: “السعادة على طريقة سراييفو” التي يصف فيها ساريليتش بإيجاز تجربة الحصار:
في سراييفو
في ربيع عام 1992
كل شيء ممكن؛
أنت تقف في طابور الخبز
وينتهي الأمر أنك في عيادة
بساق مقطوعة.
بعد ذلك تخبر الجميع
أنك كنت محظوظًا جدًا.
حتى في شعر ما قبل الحرب، كان ساريليتش غالبًا يستخدم النهاية اللافتة للنظر للقصيدة. في شعر الحرب، تصبح هذه الخاتمة هي الورقة الرابحة لإبداعه الشعري. تتناغم النهاية اللافتة للنظر للقصيدة بالفكاهة السوداء عن الحرب في سراييفو. يمثل هذان الجانبان الشعريان طريقة جديدة فعالة للالتزام الشعري الجديد. يصبح شعر الالتزام فعّالًا لأنه الجزء الواضح من رعب الحرب، الذي يعترف به الجميع كحقيقة شخصية. أصبح التعبير عن الالتزام رصاصة شعرية مجازية. مثل هذه الرصاصة، على عكس الرصاصة الحقيقية، تطير من الأسفل إلى الأعلى، وتتميز بالمرارة طويلة الأجل.
في بداية الحرب، لم يكن ساريليتش يكتب شعره على الورق، ولا حتى على قطعة من لحاء الشجر، فلم تكن هناك أشجار في سراييفو المحاصرة والمدمّرة. لذلك فإن الشاعر يفتقر إلى الأدوات الشعرية، والمكان، والوقت للكتابة، والإضاءة أيضا. هناك فقط الضرورة الداخلية للكتابة التي لا مفر منها. وهناك الاقتناع بأنه بهذه الطريقة فقط، بالكتابة والشهادة، يمكن للإنسان أن يعيش في جحيم الحرب. القصيدة تنبع من روح الشاعر، كعدم قبول، كجوهر لشيء لا تستطيع الحرب كسره. الشعر هو جوهره المستمر.
كان الشعر الحديث عمومًا يتطلع إلى تأثير المفاجأة، منذ بودلير، الذي اعتبر هذا الطموح مطلبًا ضروريًا للغريب فى الفنّ. افترض السرياليون الصدمة وسلسلة من الصدمات للصورة الشعرية في القصيدة. يستخدم ساريليتش صدمة المحتوى للتعبير بفعالية عن دهشته ونقله إلى القراء. ينبغي أن لا نتجاهل أنّ قرَّاءه يشاركون في هذه التجربة المؤلمة. الشاعر والقارئ هما في نفس الحال. هذا هو الوضع الذي سعى سارتر إلى تحقيقه في كل كتاباته. ووفقًا لسارتر، فإن مثل هذه الكتابة يجب أن يتم تصورها وإحياؤها في المسرح أولًا. وبالمثل، فإن وضع شاعرنا ساريليتش مأساوي ودرامي بالمعنى الحرفي للكلمة.
يشير ساريليتش إلى حدث حرب دراماتيكي. وهو يفعل ذلك بشكل محايد تقريبًا. وبعد ذلك يكتشف معنى ذلك الحدث ويؤطّره بعنوان القصيدة ونهايتها. عند القيام بذلك، غالبًا ما يستخدم الغموض المثمر لمصطلح لغوي. في الوقت نفسه، فإن النكتة السوداء المريرة تخفف، أو تجعل من الطبيعي، النغمة المثيرة للشفقة إلى حد ما لهذه القصائد حول حرب كانت تُشن ضد المدنيين. مثل هذه الأبيات تجعل القارئ يبكي ويضحك في آن واحد. عناصر شعر ساريليتش دائما تكون فجائية. تجسد هذه العناصر بدقة متعة النص، بالمعنى الأدبي للمصطلح، كما حدده رولان بارت. هذه اللذة تكون سوداء في شعره، لكنها أيضًا لا تمحى. وهذا ما يجعل شعر الحرب لـ “سراجلي” لا يُنسى.
ربما يكون من الأنسب إنهاء حديث ساريليتش بشكل رمزي، أي بإلقاء الضوء على ديوانه “كتاب الودّاع”.
أكمل ساريليتش كتابة هذا الديوان في نهاية الحرب وتم نشره في عام 1996. في “كتاب الوداع”، يقول الشاعر وداعًا لمعاصريه، ويتنبأ بنهاية حياته ويتساءل عن معتقداته الشخصية وتجاربه العظيمة. عندما يتعلق الأمر بالأصدقاء المعاصرين، يقول ساريليتش المخيَّب وداعًا للعديد من الشعراء من صربيا وروسيا الذين خانوه ونسوا صحبة سابقة وأخوة في الشعر. في الواقع، خان هؤلاء الشعراء فكرة الإنسانية وقوفا بجانب المعتدين أو حتى بإطلاق النار على سراييفو مثل الشاعر الروسي ليمونوف.
غالبًا ما تكون القصائد من “كتاب الودّاع” طويلة جدًا، أطول بكثير من القصائد التي كانت مكتوبة قبل الحرب. تمّ إبداع هذه القصائد أيضًا عندما تمكن الشاعر في قلب الحرب من الحصول على بعض الأوراق لكتابة قصائده أثناء فواصل الحرب، في اللحظات التي يولد فيها الأمل من جديد، عندما يبدو أن الحصار لن يستمر طويلًا. شعرية هذه القصائد معقدة للغاية. إنها في الواقع تجمع بين طريقة كتابة شعر ساريليتش قبل الحرب، والذي يتم استكماله بطريقة أصلية بإلهام الحرب أو بالمأساة الأخيرة.
كتاب الوداع هو أيضًا كتاب ذكريات ومجموعة يواجه فيه الماضي الحاضر. في هذه القصائد، يُحكم على الماضي بالضرورة من وجهة نظر الحقائق المكتشفة حديثًا لحياة ناضجة تتميز بحرب مأساوية.
في “كتاب الودّاع”، تخلى ساريليتش عن بعض الروابط العاطفية في حياته وبعض المعتقدات لأن التاريخ قد حولها إلى المفاهيم الخاطئة. لكن آخر قصيدة من هذا الديوان بعنوان “وداعا لكتاب الوداع”. يقول فيها ساريليتش بوضوح: “أنا لا أتخلى عن أي شيء في حياتي السابقة!” تظهر القصيدة صراحة أن الشاعر، بعناد وإصرار، لا يتخلى عن أحلامه أو يوتوبيا. علاوة على ذلك، يؤكد ساريليتش، بهذه القصيدة، أنه لا يزال يعيش المُثل بداخله، وأنه يعيش كشاعر مثمر بالأفكار والعواطف للدولة السابقة بأكملها. إذا تراجعت القيم الخاطئة، فإن تلك القيم التي ولدت الحلم والشعر ستبقى بلا شك، مهما كانت مجردة وطوباوية.
الهوامش
Zbornik radova sa naučnog skupa o Izetu Sarajliću, urednici Juraj Martinović i Ferida Duraković, Akademija nauka i umjetnosti BiH, Sarajevo, 2013
(وقائع المؤتمر العلمي حول عزت ساريليتش، المحررين يوراي مارتينوفتش وفريدا دوراكوفتش، أكاديمية العلوم والفنون في البوسنة والهرسك، سراييفو ، 2013).