سمية اليعقوبية
تُهيمن قضية (المحليّة) اليوم على المراجعات التطبيقية والنظرية لوسائل الإعلام معتمدة على قوة الشبكات الاجتماعية وتأسيسها لظواهر اتّصالية جديدة تسمح للفرد بتقديم محتوى يتوافق مع إطاره الجغرافيّ والمعيشي والمعرفي، ويمكن بذلك تقديم العديد من التصوّرات والتكهنات إزاء حضور المحلية في الدراسات النقدية لوسائل الإعلام، لاسيما مع التطور الرقمي الواسع لهذه الوسائل والرهان المستمر على قوة شبكات التواصل الاجتماعي كمنصات أساسيّة للتعبير العمومي والجمعي.
في ظل الاندفاع المحموم نحو التعبيرات الافتراضية نصًّا وصورة، يتشكل التساؤل حول إمكانية الاعتماد على وسائل الإعلام المحليّة المؤسساتية التي تدار من قبل هياكل إعلامية تملكها الشركات (مؤسسات القطاع الخاص) والحكومات، ويجري تشغيلها من قبل صحفيين امتهنوا مهنة الصحافة ومارسوها عشرات السنوات. كما يفرض هذا الأمر تساؤلات حول الضمانات التي يمكن أن تقدمها المعالجة النقديّة لوسائل الإعلام المحليّة في ظل اندفاع المستخدمين المستمر نحو منصات عالمية يجدون فيها هوياتهم وتُطرح فيها قصصهم وتطلعاتهم وآراؤهم واتجاهاتهم برقابة أقل على المحتوى المقدم.
إن هذه المقالة هي محاولة للتفكير في الجوانب الكامنة خلف حضور المحليّة وضمورها في الخطاب الإعلامي العماني في آن واحد، ونقاش الرهانات التي يمكن أن تغدو بها المحليّة نمطًا مستحضراً باستمرار من أجل تتبع مختلف الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية عبر وسائل الإعلام بما يضمن الاستدامة الاقتصادية والمعرفية والأخلاقية لوسائل الإعلام المحلية في المجتمع وفرص هذه الصناعة الإعلامية على المدى القريب والبعيد.
إنه عالم محليّة وسائل الإعلام أيضا
تتجه الدول والمنظّمات إلى تصعيد أدوار المؤسّسات المحليّة والوطنية في نقل الأخبار والمعالجة الصحفية، للدرجة التي بات فيها الحديث عن أدوار هذه المؤسسات وعمق تأثيرها في المناخات الصحفية الشكل الأهم لقياس مستوى حريّة ممارسة مهن الإعلام والصحافة في البلد الواحد(1). على سبيل المثال، تنامى دور وسائل الإعلام الوطنية خلال أزمة كورونا التي تأثر بها العالم منذ عام، لاسيما في ظل اعتماد الدول على المنتجات الصحفيّة الخبريّة التي تنتجها محطات التلفزة المحلية ووكالات الأنباء والخدمات الإخبارية الوطنية. تقدم منظمة الصحة العالمية(2) وصفًا آنيا للحالة الصحية للبلدان اعتمادا على الخطاب الإعلامي والنشرة الإخبارية الرسمية (official news releases ) والبيانات المنتجة من غرف أخبار المؤسسات الرسمية المحلية التي تحظى بموثوقية عالية. وبات يُنظر بمزيد من الاهتمام إلى وسائل الإعلام المحلية وخطابها المعني بمناطق جغرافية محددة كمصادر موثوقة للبيانات والمعلومات ولمحاربة تسرب الأخبار المفبركة.
خلال العقود الأولى من القرن العشرين ظلّت مكانة المحليّة (localism) في وسائل الإعلام مثارَ جدل كبير؛ إذ تشكّل حراكًا مستمرًّا لفهم (ما هو محلي؟) و (أين هو المحلي في التغطيات الإعلامية التي باتت تصل للعالمية عبر أدوات الاتصالات المختلفة التي فرضت قوتها خلال فترات زمنية مختلفة متخطية الحدود الجغرافية؟). و (هل من الممكن الحديث عن الظاهرة الإعلامية المحليّة بوصفها ظاهرة عالمية عندما يتعلق الأمر بتأثيراتها الحيّة في جماهير متعددة عبر الويب؟). لم يكن لهذه الأسئلة وغيرها أن تخفي تعقد العلاقة بين المحلية (مصطلحًا ومعالجة) وبين التطلعات المستمرة لأن يصل المحتوى مداه من التأثير والتغيير بصرف النظر عن الحدود الجغرافية الواقع ضمن إطارها.
أحد الأسئلة المطروحة اليوم تتصل بالحدود التي يمكن من خلالها للظاهرة الافتراضية الجديدة أن تمثل مناخًا رحبًا للنقاش حول الظواهر والأفكار ذات الشأن المحلي مثل (ظروف الفرد المعيشيّة واستقرار البلاد اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا؛ والتحوّلات الثقافيّة الأكثر تعقيدًا وحالة الأقليّات والمجموعات السكانيّة وعلاقة الأفراد بالبيئة المحيطة والتطور الحاصل في البنية الثقافية والاجتماعية ونظم الطبقات الاجتماعية) في ظل ضمور وسائل الإعلام المحليَّة المؤسّساتية الأخرى؟. للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي تحليل القيم (values) التي تقدمها وسائل الإعلام المحليّة، وانحسار هذه القيمة شيوع العوالم الافتراضية الجديدة وفي هيمنة المنصات الشبكيّة العالم وتأثيراتها في النشاط المؤسّسي الصحفي.
في صناعة الأخبار تخرج الأخبار المحلية Local News من الموضوعات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسية ذات الاهتمام المشترك بين مجموعات محددة من الأفراد مستخدمة إطارًا لغويًّا محددًا ومعايير تحظى بقبول وفهم عدد واسع بين المواطنين الأفراد والمجموعات الوطنيّة المختلفة، الواقعة ضمن إطار جغرافي محدد. مع هذا؛ فإن ثمّة تحدٍ يتصل بوضع حدود مفصلية لمعالجة خبرية محلية بالنظر إلى تأثيرات القضايا العالمية والإقليمية على البلدان. وغالبا ما يجري فهم المحلية عبر ربطها بدوافع الجماهير أيضا؛ إذ تستحوذ المحليّة في وسائل الإعلام الوطنية على اهتمام الجمهور كونها تتصل بالهاجس المستمر الذي يجمعهم والقضايا التي تربط مصالحهم والدوافع المباشرة لوصولهم لوسائل الإعلام.
تستحوذ الأخبار المحلية على نصيبٍ كبيرٍ من البحوث الاتصالية العالمية لاسيما مع اهتمام الجمهور المتزايد بها. ويرصد تقرير رويترز(3) لنمو الأخبار الرقمية في العالم لعام 2020م نموًّا مطردًا في نسب المؤيدين لاستحواذ الأخبار المحلية على التغطيات حتى في البرازيل بنسبة 73% وفي إسبانيا بنسبة 62% وفي ألمانيا بنسبة 54% وفي الولايات المتحدة بنسبة 48% وهي دول متباينة من حيث مستوى ملكية وسائل الإعلام. وبحسب التقرير، تبدو مجموعات الفيسبوك والجماعات المحلية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث المحلية وأماكن التجمعات الدينيّة والمدارس مصادر مغرية للمنافسة على المحتوى المحلي عبر الإنترنت.
إن ثمة تيّارات عالمية تدعمها بعض المؤسسات العالمية(4) المعنية بالتراث والثقافة وحقوق الإنسان توصي بمدّ العون اللازم لنمو الإعلام المحلي المؤسسي لاسيما في إطاره المستقل، ودعم تطور الشبكات المحلية وإسهامها الفعلي في المجتمعات. يكتسب هذا الدعم المادي والمعنوي أهمية كبيرة عندما يرتبط بقدرة هذه الوسائل على تبني وجهات النظر المختلفة ودعم الأقليات والتيارات الفكرية الجديدة والوقوف لصالح حقوق العمالة والأطفال والنساء ودعم مشروعات الشباب المغامرين في عالم المال.
المحليّة والتأثيرات عليها في وسائل الإعلام العمانية
يمكن القول إن المناخ الصحفي في سلطنة عمان زاخر بالكثير من القضايا والموضوعات ذات البعد المحلي التي تحظى باهتمامات الجمهور واندفاعهم المستمر لاستخدام وسائل الإعلام. تبدو القضايا الاقتصادية والاجتماعية المتجددة وقصص الناس المعاشة ومقاومة الظروف الحياتية وتحديات الإنتاج الفردي والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة موضوعات أولية في المعالجات الصحفية لوسائل الإعلام العمانية. لقد ظل الإعلام العماني ملتزمًا لسنوات بأهميته المباشرة في معالجة تأزمات البلاد المختلفة مناخيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا؛ واستطاع كسب موثوقية الجمهور واعتباره مصدرًا أساسيًّا للمعلومات في ظل هذه التأزمات؛ بينها أزمات المناخ والأعاصير المتكررة التي ضربت البلاد(5)، ومراسم انتقال الحكم لجلالة السلطان هيثم بن طارق آل تيمور بعد وفاة السلطان المغفور له قابوس بن سعيد. وبحسب تقرير نشره المركز الوطني للإحصاء والمعلومات(6)؛ فإن وسائل الإعلام العمانية المحلية لاسيما التلفزيون تحظى بموثوقية كبيرة لدى الجمهور لاسيما فيما يتعلق بالأخبار المتصلة بالشؤون الحكومية والتغيرات المحليّة والتأثيرات المناخية. مع هذا الالتزام والمسؤولية الدائمة الملقاة على عاتق المؤسسات الصحفية والإعلامية في عمان، تبدو التحوّلات السياسية والاقتصادية المفروضة على وسائل الإعلام مؤثرا حاسما في أمر استمراريتها وتطورها؛ وذلك بوصفها نتيجة أساسية لضعف مصادر التمويل والاستثمار في اقتصاديات الإعلام في البلاد، وانحسار التمويل على نحو أحادي، مما يؤثر على مختلف النشاطات الصحفية والإعلامية الحالية والمستقبلية.
بصورة عامة، لا تحظى المنتجات والمعالجات المحلية للإعلام بدعم الأنظمة المؤثرة في صناعة الإعلام كالأنظمة السياسيّة والاقتصادية في المنطقة العربية؛ إذ لا تلقي هذه الأنظمة بالًا لأمر تطوير المؤسسات المهنية العاملة في قطاع الأخبار المحلية أو تطوير المناخات المهنية لهذا القطاع، في الوقت الذي يزعم فيه بعض المعلنين أن صناعة الأخبار المحلية لا تملك القدرة على تصعيد المزيد من الأرباح خصوصا عندما تتعارض التغطيات المستقلة والناقدة مع الأولويات السياسية والاقتصادية.
خلال السنوات الماضية، واجهت المؤسسات الصحفية والإعلامية المحلية في السلطنة أزمة تراجع الدخل الإعلاني وغياب فرص التمويل المباشر؛ نتيجة انحسار عائدات الإعلانات الحكوميّة بسبب التحديات الاقتصاديّة المختلفة لاسيما الأزمة المالية العالمية وأزمة انخفاض أسعار النفط وارتفاع الدين العام وتأثيرات أزمة كوفيد 19. لا تتوفر بيانات إحصائية دقيقة حول نسب الاشتراكات التي تنالها الصحف، ونسب توزيع الصحف وأعدادها في البلاد؛ بل وترفض المؤسسات الصحفية التزويد بالأرقام الحقيقيّة لعائداتها من بيع الصحف والخدمات الصحفية وخدمات الطباعة المختلفة؛ إلا أن ثمّة مؤشرات مهمّة يمكن الوصول إليها لمحاولة فهمِ واقعِ اقتصاديّات الإعلام وتأثيرات ذلك على استمرار النشاطات الاقتصادية الصحفيّة المحليّة. لقد تراجع الدخل المؤسّسي للمشاريع الإعلامية المحليّة في السلطنة لما يزيد عن 70% بحسب جمعيّة الصحفيين العمانية(7) كما تراجع الدخل الخاص بالإعلانات من 1200 ريال إلى قرابة 400 ريال فقط بعد انتشار جائحة كورونا. قالت الجمعية عبر لقاءات إعلامية متعددة أن الوضع الاقتصادي للصحافة يذهب إلى مآلات سيئة. في تقرير لجريدة الرؤية العمانية تحدثت الصحفية فايزة الكلبانية حول الراهن الاقتصادي الصعب الذي تواجهه المؤسسات الإعلامية في البلاد، وقالت: ( لا طباعة.. لا إعلانات.. لا اشتراكات..
والآفاق مظلمة). وسردت الصحفية(8) عبر شهادات لعدد من العاملين في المؤسسات الصحفية العمانية كيف سيؤدي الوضع الاقتصادي الصعب للحكومة واعتماد صناعة الإعلام في السلطنة على الدخل الحكومي الذي بات متذبذبا وتجرّه جائحة كورونا نحو الانعدام إلى مستقبل حالك للممارسة الإعلامية في البلاد.
إن هناك تحدّيًا كبيرًا يكمن في عدم قدرة وسائل الإعلام على مجابهة تحديات السوق وتنشيط نفسها اقتصاديا والاتكاء على الظروف والمتطلبات التي تفرض من قبل القوى الأخرى الضاغطة التي تهيمن على المحتوى وصناعة القرار الإعلامي. ستخلف مثل هذه الأزمة المزيد من الآثار الصعبة على صناعة المحليّة في وسائل الإعلام المحلية، إذ يبدو أن نجاح العمل الصحفي والإعلامي استثماريا لن يرتبط بعد الآن بالقدرة على اجتذاب الجمهور والايفاء بمتطلباته اللازمة من المحلية بل بقدرة المؤسسات على الإيفاء بالمتطلبات والضوابط التي يفرضها الداعمون على وسائل الإعلام.
جانب آخر يتصل بالبيئة التنظيميّة التي تتأثر بها ممارسة الإعلام المحلي في السلطنة، حيث لا يزال العمل بقانون المطبوعات والنشر الصادر في عام 1986م(9) ساريا رغم كل المحاولات المهنية والصحفية الحثيثة لتطوير منظومة قانونية بديلة تتوافق مع متطلبات الحالة الإعلامية. على الرغم من اهتمام هذا القانون بالكثير من المعطيات اللازمة للصناعة الإعلامية والإعلانية في البلاد، إلا أن قدم القانون وعدم تعاطيه مع الكثير من المعطيات الاقتصادية اللازمة لتمويل المؤسسات الصحفية أو تلك الإجرائية اللازمة لتشكيل مناخات صحفية حرة ومتعددة لا يزال تحدّيا مستمرًّا في مسيرة العمل بهذا القانون. أعلنت الحكومة عبر أطراف متعددة عن نيتها تقديم مقترح شامل لقانون للإعلام في البلاد، وتأخر هذا الأمر في ظل عمل شاق لاستحداث الكثير من المنظومات القانونية والإجرائية اللازمة لتنظيم الأعمال والمهن في البلاد.
الرهانات حول المحليّة في وسائل الإعلام العمانية
الرهان على رقميّة المشاريع
يفرض الاتجاه نحو الرقمية اليوم نفسه بديلا أساسيا للمحتوى الورقي والتلفزيوني ذي الكلفة التصنيعية والإنتاجية العالية، ويحتشد الجمهور على المنصات الرقمية البديلة عن وسائل الإعلام التقليدية. إن خارطة الإعلام الرقمي المتوسعة على نحو كبير اليوم تفرض هيمنتها ورسالتها المباشرة على وسائل الإعلام المحلية دافعة نحو التخلي عن الطرق التقليدية للإنتاج الإعلامي. أصبح الارتهان لما هو غير رقمي صعبا ويفرض تحديا اقتصاديا كبيرا حتى على أولئك المدافعين عن الممارسات التقليدية في صناعة المحتوى الإعلامي. لا يمكن بأي حال من الأحوال تحمل الكلفة الإنتاجية الصعبة لوسائل الإعلام، كما لا يمكن ضمان أن توفي المؤسسات الإعلامية التزاماتها المالية تجاه ممارسي المهنة من الصحفيين والمنتجين وطواقم الإدارة وغيرهم، حتى عندما يتعلق الأمر بتلك الالتزامات الرئيسة مثل الرواتب والحوافز الوظيفية فضلا عن تحقيق الأرباح والتوسع المؤسسي. ولهذا السبب، يبدو الرهان حول الرقمنة أمرا أساسيًّا في قياس نجاح المنظومة الصحفية والإعلامية ولأجل الوصول لجماهير جديدة لم تعد متسمرة على شاشات التلفزة أو تنتظر النسخة الصباحية من الجرائد؛ بل يصلها كل شيء عبر أجهزتها المحمولة على اليد في كل الأوقات.
إن أهم محدد لإنجاح مشروع الرقمنة في وسائل الإعلام العمانية يرتبط بمدّ الصحفيين والطواقم الإعلامية بالقدرة المعرفية والأداتية اللازمة لإنتاج المحتوى المخصص بصورة متكاملة للمنصات الرقمية لمؤسساتهم. وعلى الرغم من توفر هذا الشكل من الانتقال الصحفي في الكثير من وسائل الإعلام المحلية حاليا، إلا أن إنتاج المحتوى الرقمي على نحو إبداعي وابتكاري يظل تحديا كبيرا؛ لأنّ الرهان على الرقمنة مع التزامها بالروتين وغياب حسّ الابتكار والإبداع والتعددية رهان صعب قد لا يوفر الحلول اللازمة لجذب الجمهور واقتناص اهتماماته.
الرهان على الاندماجات الإعلامية والاقتصادية
حققت الاندماجات الاقتصادية في السوق الإعلامية مكاسب عظيمة لسنوات طويلة. إن العالم يتذكر كيف بدا اندماج الشركات الإعلامية والفنية في الاقتصاد الأمريكي(10) ناجحًا وباهرًا، حيث المستوى الذي أنتج عمالقة كبارا في صناعة الإعلام والمحتوى البصري في العالم. يحقق الاندماج فرصة انتشال المشاريع الناجحة ورأس المال الجريء في صناعة الإعلام لصالح مؤسسات تحظى بهياكل تنظيمية ومالية أكثر نموّا، وبوسعها استقطاب كل المشروعات الصغيرة للعمل لصالحها.
إن الخيارات الصعبة لاقتصاد الصحافة والإعلام في السلطنة يستدعي هذا الحل الذي يعبّر عن قدرة المؤسسات الصحفية على الاندماج اقتصاديا لتشكيل مؤسسات أكثر صلابة وقدرة على تحمل تبعات السوق وتقلباته المستمرة. يشمل ذلك دعم البحث عن المشاريع الابتكارية الفردية التي لم تحظَ بتمويل مؤسسي حتى الآن وتبنيها ماليا إما عبر شراء المشروع أو شراء جانب من حقوقه الملكية والفكرية لأجل التوسع في مسارات جديدة في صناعة الإعلام.يبدو هذا الجانب مُتاحا وضروريا لاسيما مع ضعف المشاريع الإعلامية والصحفية بصورتها المنفردة والبسيطة حاليا على مواكبة التحولات الاقتصادية والرقمية المختلفة وإمكانية تعرضها للفشل مستقبلا.
أحد المتطلبات الرئيسة لإنجاح تلك الاندماجات:
القيمة الصحفية التي يمكن لمشاريع الاندماج تحقيقها بالنسبة للجمهور.
تأثيرات الاندماج على القيمة السوقية للمشاريع الإعلامية بعد الاندماج.
تأثيرات الاندماج على تعددية وسائل الإعلام ودعم المنتجات المحلية وتطوير اقتصاديات هذا القطاع.
قدرة المشاريع المندمجة على تحديد السياسة الإعلامية التي تجمع هذه المشاريع وتؤسس لأصالتها واستمراريتها مستقبلا.
الرهان على التعددية وعبور الأصوات الجديدة
تنطلق معالجات وسائل الإعلام من الثقافة المُشاعة التي تمثل معززا لجذب الجماهير وأساسًا للتأثير المتعدد في الأفراد والمجموعات أكثر من تلك الوسائل ذات الصبغة العالمية والعابرة للحدود الجغرافية.
في المقابل يكتسب الدور النقدي الاجتماعي لوسائل الإعلام المحلية أهمية كبيرة في الدراسات الاتصالية؛ ليس لأنه يعبّر عن علاقة وسائل الإعلام بتغيرات المجتمع وحراك تياراته المستمرّ فحسب؛ بل لأنه يمثل الذاكرة اليومية للتحولات الاجتماعية التي يراد لها أن تشكل هوية المجتمعات، وأساسًا مباشرًا للتفاعلات الاجتماعيّة؛ بل وركيزة أساسية لاتخاذ القرارات اليومية على مستوى فردي أو مؤسسي.
إن قدرة هذه الوسائل على دعم تماسك المجتمع ونموه وتطوره مرتهن بصورة كبيرة لدعمها للتعددية في الأفكار والآراء والتصورات التي تشكل أساسًا لتكوين هذا المجتمع ونظامًا بنيويًّا قائمًا على التفاعلات المستمرة. وعلى هذا الأساس، تكتسب وسائل الإعلام شرعيّتها المستمرة من قدرتها على النضال لأجل التعددية على مستوى الأفكار والآراء والاتجاهات والمعتقدات. لاريب أن عصر التقنية الجديدة وبروز الهُويات المتعددة وعدم انكفاء الفرد على محيطه الجغرافي؛ بل امتداد المعارف والإمكانيات والأدوات لعوالم جديدة كل هذه العوامل فرضت شكلًا جديدًا من الأصوات الجديدة التي تتجاوز الإطار التقليدي المعتاد. إنها الأصوات التي تستحوذها رغبة مستمرة في كسر كل ما هو نمطي ومعتاد ويحظى بهالة من التبجيل والقداسة.
تواجه المعالجة الإعلامية في وسائل الإعلام حالة من التذبذب إزاء تشكيل الاتجاهات وتكوينها. لا يندفع القائمون على وسائل الإعلام نحو تصعيد الاتجاهات بل تتشكل حاجة مستمرة لإزاحة الاهتمام نحو الاتجاهات المتعددة مقابل الانكفاء على مستوى محدد من المواقف والآراء. أحد الشواهد الرئيسة على هذا التحدي اندفاع المعالجة الصحفية والإعلامية العمانية في الاعتماد المباشر على (المصدر المسؤول الحكومي) للخروج بالكثير من التفسيرات والشواهد المطروحة عبر وسائل الإعلام؛ بل والتحكم في مآلات التغطية الخبرية للكثير من الأهداف بشكل متكرر. في دراسة بحثية تناولت معالجة الصحافة العمانية للسياسة الخارجية العمانية في منطقة الخليج العربي وعلاقتها بالسلام الدولي(11) وجدت الدراسة أن اللغة الإعلامية لدى عينة الدراسة اعتمدت تصريحات المسؤولين كمسار للإقناع بنسبة 41% في حين اعتمدت البيانات والأرقام بنسبة 36%(13). في المقابل، دعم انتشار جائحة كورونا الأخيرة الاعتماد على مصادر كثيرة في الصحافة العمانية بينها اعتماد الخبراء والأطباء كمصادر للمعلومات والتفسيرات والنظر للمتأثرين من الجائحة مثل العاملين في المؤسسات المهنية وعمال المياومة (نظام العمل اليومي) كمصادر أخرى لوسائل الإعلام.
يمكن النظر بدقة لهاجس التعددية عند التعاطي مع الأصوات الجديدة مثلا؛ فارتباط فئة الشباب13 بوسائل الإعلام يتصل بقدرة الأخيرة على الاستجابة للتحولات المختلفة والنقاشات المستمرة التي تفرضها هذه الفئة بصرف النظر عن الثوابت التقليدية التي يجري استحضارها بصورة مستمرة.
في شهر أكتوبر من عام 2020م(14)، تبنت مجموعة من الشابات العمانيات حملة تدعو لاستحداث خط ساخن للإبلاغ عن العنف الأسري في السلطنة. على الرغم من أن الحملة بدت مستغربة لدى الكثيرين إلا أن الشابات بادرن بتقديم مجموعة من الإحصائيات المتوفرة عبر مواقع رسميّة عمانية للدلالة على تعمق إشكالية العنف المنزلي في السلطنة. بدا أن لهذه الظاهرة جذورا كبيرة تستوجب معالجة إعلامية مختلفة وتبنيًا واسعا من جانب وسائل الإعلام التي يراد لها أن تعبر عن التعبيرات المتعددة التي يفرضها الأفراد في المجتمع؛ لاسيما في المناخ الافتراضي الذي يتسع حضوره في البلاد. في الكثير من المعالجات حينها، تم اللجوء إلى تصريح مقتضب لمعالي وزيرة التنمية الاجتماعية حول جهود السلطنة في المساواة بين الجنسين، كما تم اللجوء إلى مصادر رسمية حكومية للحديث حول إمكانية حدوث عنف بين الأزواج. على الرغم من أهمية المصدرين السابقين، إلا أن تبني هذا الحدث معالجة وتحليلا من جانب وسائل الإعلام بدا ناقصا ويفتقر القبول للأصوات الشبابية الجديدة التي تأخذ حيزها واهتمامها في العالم الافتراضي ويمكنها إحداث فارق كبير في المعالجة الإعلامية المستخدمة في وسائل الإعلام.
يشير ما سبق إلى أن فرض التعددية في وسائل الإعلام وقبول الأصوات والتيارات الجديدة أمر لازمٌ لإنجاح محليّة وسائل الإعلام لاسيما مع هيمنة الكثير من الأفكار غير المألوفة والمستثناة من النقاش المعتاد على الفضاءات الافتراضية التي ينبغي أن تهتم بها وسائل الإعلام العمانية. إن جميع ذلك يتطلب متابعة مستمرة من القائمين على المحتوى الافتراضي، وتحديدا للأولويات والمصادر يقوم على منهجيّة معيّنة تستبعد أن يكون المؤثرون في القضايا والتحوّلات الراهنة مجرد مسؤولين يتمتعون بالصفة الرسمية الحاضرة والجاهزة للتعامل مع القضايا.
الرهان على المجتمع المهني للإعلام والصحافة
إن المؤسسات الصحفية والإعلامية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالتحالف في إطار مهنيٍّ موحّد يكتسب مشروعيته من المبادرات والجهود الجمعيّة للرقي بمهنة ممارسة الإعلام والصحافة. تأسست جمعية الصحفيين العمانية في عام 2004 بمبادرة جمعت مجموعة من الصحفيين في السلطنة وهي تابعة لوزارة التنمية الاجتماعية ولا تتمتع باستقلالية إدارية مطلقة. خلال السنوات الماضية أبدت الجمعية اهتماما بجمع الصحفيين تحت مظلة واحدة تقوم على تقديم الفرص التدريبية والتوظيفية والمعرفية لممارسي مهن الصحافة والإعلام مع ذلك تواجه هذه المؤسّسة تحدّيًا كبيرًا عندما يتعلق الأمر بالحوارات المهنيّة اللازمة لمعالجة تحديات الممارسة الصحفية ومناخات عمل وسائل الإعلام والتأثيرات المتصلة بها في السلطنة.
يستدعي هذا الرّهان تملك الجرأة الكبير على الوقوف على العثرات الحقيقيّة التي تقف في وجه تأثير ضمور المحلية في وسائل الإعلام واستحضار الحلول اللازمة لإنقاذ المؤسسات الصحفية المحلية وبناء هياكل استثمارية واسعة لدعم وسائل الإعلام بالنظر إلى اقتصاديات هذه المؤسسات كقضية أساسية ومحورية في مستقبل المهنة. من المؤكد أن الصحفيين بحاجة إلى ما هو أكثر من مؤسسات تنظيمية لتنظيم عملهم؛ إذ يتوسع هذا المطلب إلى مجتمع مهني لحسم كافة القضايا الخلافية التي تتعلق بهذه المهنة ودعم المبتكرين والناجحين فيها ومخالفة المتجاوزين اعتمادا على قوة هذا المجتمع وتشكيله للضغط الكفيل بإحداث تغيير حقيقي في ممارسة المهنة.
الخلاصة
لا يمكن الادعاء أننا بعيدون كل البعد عن النقاش العالمي بشأن المحلية وتأثيراتها وفرصها في الإعلام العالمي؛ حتى وإن بدا هذا الشكل من الحديث مستغربًا في كثير من الحالات؛ فالمحليّة في الخطاب العالمي تفرض نماذجها الخاصة اليوم مستدعية من ممارسي مهنة الصحافة والإعلام دعم المنتجات الصحفية ذات الطبيعة المحلية التي تستدعي حضور القضايا الأكثر تأثيرا في حياة الناس اليومية والأكثر جذبا لهم لمتابعة وسائل الإعلام. مع هذا يظل الرهان صعبًا وحاسمًا إزاء دور المحلية وتأثيرها في وسائل الإعلام العمانيّة مستقبلا لاسيما في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية التي تؤثر في ممارسة مهنة الصحافة والإعلام في البلاد.