حمد سنان الغيثي
كاتب ومترجم عُماني
هذه ليست ورقة بحثية، فلا منهج هنا ولا دراسة بالمعنى الأكاديمي الجاد، لكنها “وجهة نظر” تأتّت من خبرات أكاديمية وعمليّة (في الترجمة) وحياتيّة. حينما دعتني مجلة للمشاركة في هذا الملف، وافقتُ فورًا لأنه بَرَق في ذهني ما سأكتبه. إنني أقلّ يقينًا الآن، فكلما قرأتُ أكثر حذفتُ أكثر.
إنّ المحفّز لهذه المشاركة هو الجدل الذي دار في ندوة استضافتها جمعية الكتاب والأدباء العمانية احتفاءً باليوم العالمي للترجمة، تحدثتُ فيها عن ضرورة الترجمة العلمية باعتبارها رافعة ثقافية وحضارية للثقافة العربية وشعوبها، وقدّمتُ حينها شواهد وحُججًا على فداحة أثر غياب الترجمة العلمية الفاعلة عن الثقافة العربيّة.
طُرحت حينها رؤيّة مغايرة ترى أنّ الترجمة العلمية هي مجرّد مسألة تقنية، يمكن حلّها عبر تعريب سريع لعشرات المصطلحات العلمية، وأنّ تخلّف التنمية الاقتصادية في البلاد العربية يعود إلى عوائق مادية وتنظيمية ولا ضلع فيه للعوامل الثقافية، ومنها الترجمة.
إنّ موقفي الابتدائي هو أنّ قضية الترجمة لا تقتصر، ولا يجب حصرها، في موضوع التنمية الاقتصادية بمفهومها الضيّق (نمو المنتجات والخدمات وسوق العمل في قُطر عربي ما). إنها ترتبط بما يتصوّره العرب عن تاريخهم المشرق، وبقضيتَيْ التقدم والنهوض الحضاري، وجدلية الإبداع والتقليد، واقتناء أسباب القوة والسيطرة على الموارد وتحديد المصير التي فشل العرب -وأمم كثيرة غيرهم- في تحقيقها في القرون الماضية.
هل المجتمع نظام ينشأ تلقائياً؟
إنّ التاريخ – عبر اللغة – كائن حيّ وفاعل، واللغة تؤطّر أذهان أهلها، وتقرّر ما يرون، وبِمَ ينفعلون. لذا عند تناول الترجمة وأهميتها يجب على الباحث أن يستقصي الأفكار والمعاني المهيمنة في الثقافة العربية -باعتبارها نظام تواصل- وتلك التي يتمّ إيصالها إلى الكيانات المنتمية لهذا الفضاء.
يمكن دراسة المجتمع باعتباره نظامًا ذاتي التنظيم، أي ظاهرة فوق – فردية، مكوّن من أنظمة وكينونات فرعية، وبه ذاكرة جماعية دينامية ومرنة، واتصال متعدد الاتجاهات بين أنظمته وكينوناته الفرعية، بحيث تضمن عمل النظام وأداءه وظيفته الاجتماعية. وتحمل أنساق الاتصال (الخطابات) هذه خصائصَ وخزينة لغوية وتطوريّة (من نظرية التطوّر) مميّزة، يُخلق المعنى فيها من فعل التواصل ذاته. وحينما تستقر هذه الأنظمة بمرور الوقت، فإنها تعملُ في أدمغة المنتمين لها، وتحافظ على تماسكها واستمراريتها بالتخلص من الأخطاء والشذوذات، وبذلك فإنها تكتب تاريخها باستمرار. وبهذا المعنى لا يغدو الأفراد مُخيّرين في أفعالهم (إن صحّت العبارة)، بل خاضعين للنظام الذي يشّكل المعنى ويمنحها أفعالهم.1
وهكذا يكون التطوّر الثقافي على جدل مستمر بين عدة عمليات مستمرة في المجتمع، تشمل الكسب والهدم الثقافييْن واستمرارية النظم الثقافية القائمة والتغيّر، ويكون ذلك متشابكًا مع البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتموضعها بنيويًا وزمنيًا، مع تغيّر قيمة رأس المال ومعناه، ومجموعة المعاني والقيم المنتشرة في المجتمع.2
ولقد طبعت هذه النظرة النظامية (من دراسة الأنظمة) علوم الاجتماع وفلسفة العلم والاتصال منذ نظرية داروِن ونظرية الديناميكا الحرارية ودراسات ماكس فيبر الطليعية لبنى المجتمعات، سواء أكانت بروتستانتية أو كاثوليكية في أوروبا أو غيرها، ومنذ تطوّر العلوم الاجتماعية في القرن المنصرم إلى يومنا هذا. يمكن استخدام هذه الأطر الفكرية في التفكّر في أحوال المجتمعات والثقافة العربية ودراستها لفحص وتتبع نشوء شبكات المعنى الجديدة وتنافسها مع المعاني والخطابات المهيمنة.
تتبّع مآل الفكر الداروِني في الثقافة العربية
يمكن دراسة الفكر الداروِني كمثال لتتبع واستقصاء مآل الأفكار العلمية -عبر الترجمة- في الثقافة العربية (والنظم التعليمية والاقتصادية)، ومقدرتها على إنتاج معنىً وبنى اجتماعية جديدة عربيًا، وذلك في ظلّ الإطار الفكري المشار إليه أعلاه. الفكران الداروِني والتطوري مهمان جدًا كونهما غدَوَا أساس النظرة العلمية للظاهرتيْن الحيّة وغير الحيّة، والأساس الراسخ الذي تقوم عليهما مختلف العلوم التجريبية والاجتماعية.
يقوم الفكر الداروِني تحديدًا، والنظرية التطورية عمومًا، على فكرتيْن أساسيتيْن هما: أولًا، نشوء الكائنات الحية من أصل مشترك، وثانيًا، خضوعها للانتخاب الطبيعي الذي يقودها إلى التنوع بمرور الوقت. كانت هاتان الفكرتان أساس نظرية داروِن، وظلتا الأساس الذي تقوم عليه نظرية التطوّر بعد ذلك. وبينما تُرجمت شذرات من أعمال داروِن إلى العربية منذ صدورها في ستينيات القرن التاسع عشر، إلاَّ أن مجمل أعمال داروِن لم تترجم بعد، ولم تُترجم نظرية التطور المعاصرة إلى العربية بتاتًا.
ظلّ الجدل حول نظرية داروِن عربيًا على أشدّه منذ دخول الأفكار الداروِنية الفضاء العربي في سبعينيّات القرن التاسع عشر، وقد تتبعتها منهجيًا دراستان لافتتان أشير إليهما هنا، هما العلوم الغربية في العالم العربي: تأثير الداروِنية 1860-1930 لعادل زيادات3، وقراءة داروِن في الفكر العربي 1860- 1950 لمروة الشاكري4.
دخلت نظرية داروِن مباشرة إلى لبّ الصراعات الأيديولوجية في حقبة النهضة العربية، غير أنّه من اللافت أنّ الفضاء العربي عانى إشكالات عميقة أمامها، ففريق لم يستطع تقديمها فكريًا واجتماعيًا إلاّ بعد ربطها بمقولات العرب الفكرية والعلمية القديمة، وتحديدًا عند الطبيعيين كالجاحظ والمعري وابن خلدون الذين أشاروا إلى تطوّر المادة الحية من الجمادات، وفريق آخر رآها -عبر مفهوم “البقاء للأقوى”- تبريرًا لظاهرة الاستعمار؛ أيّ لتفوّق الحضارة الغربية على الحضارة العربية الإسلامية، فاستخدمت لشرعنة الاستعمار وعبء الرجل الأبيض. ومع استقلال الدول العربية واستقرار بناها الاجتماعية والأيديولوجية خفت الجدل حول نظرية داروِن تدريجيًا، بل وتراجع بعض المفكرين العرب لاحقًا عن جزء من الأفكار الداروِنية.
ظلّ الجدل المتقطّع حول نظرية التطوّر جدلًا فكريًا وحضاريًا ودينيًا، غير أنه لم يتجاوز ذلك ليكون جزءًا أصيلًا في رؤية الثقافة العربية لموقع الإنسان في الحياة ولنفسه، ولم يقدر أن يرشح إلى المنظومات التعليمية أو الاقتصادية، أيْ إنه لم يغدُ جزءًا من بُنى الإنتاج التي ظلّت إمّا ريعية أو تقليدية.
وبهذا المعنى لم تستبطن الثقافة العربية هذه الأفكار العلمية لأنها غير منتجة ولم يكن لها ظهيرٌ مؤسسيٌ لربطها بموضوعَيْ مقولات العرب القديمة والاستعمار، ويعود ذلك جزئيًا لأحوال تطوّر المجتمعات العربية في القرن المنصرم. وعندما لا يكون لمجموعة الأفكار “فائدة تطورية” تضيفها إلى نظام التواصل، فإنّ النظام يتخلص منها، كاتبًا تاريخه مرةً أخرى.
اهتمام متجدد بنظرية التطوّر عربيًا وإشكالات الترجمة العلمية
في خضّم الظاهرة الاجتماعية المتفجرة عقب موجة الربيع العربي، ولإلقاء حجر في الجمود الفكري العربي، وخلق معنى جديد يؤسس لنقاش فكري معمّق، ويفسح مجالًا لخطاب بديل في التطور الاجتماعي والسياسي، اهتمّ مؤخرًا مجموعة من المترجمين العمانيين بالترجمة العلمية، حيث صدرت لهم ترجمات جريئة من حيث المضمون والحجم، مثل: أشكال لا نهائية غاية في الجمال (لعبدالله المعمري وحمد الغيثي)، والدارونية (لعبدالله المعمري)، وإنسان النياندرتال (لحسين العبري وحمد الغيثي)، ومقدمة موجزة إلى الجينات (لعبدالله المعمري)، ومقدمة موجزة إلى الخلايا الجذعية (لحمد الغيثي) والعاقل (لحسين العبري وصالح الفلاحي) والإنسان الإله (لصالح الفلاحي وحمد الغيثي).
واجهت هذه الترجمات ما تواجهه الترجمات العلمية من معضلات، مثل إشكالية الأيديولوجيا: حيث إنه أمسى ينُظر إلى مفاهيم العلم الحديث على أنها مفارقةً للثقافة والمعرفة السائدة، وإشكالية الانبتات المزدوج: كونها ترجمات انتقائية ومتفرقة فهي لا تنتمي إلى زخم ترجمي مستمر عربيًا وهي كذلك منبّتة عن السياق المعرفي في الثقافة المترجم عنها حيث يكون من العسير فهم نظرية التطور عبر ترجمة كتاب واحد لداروِن دون ترجمة الأعمال اللاحقة التي أكملت أعماله وتجادلت معها؛ لذا تظل هذه الترجمات أعجمية المعنى والسياق لدى القارئ العربي، وإشكالية صياغة مصطلحات ومفاهيم علمية مناسبة في العربية: حيث رصد الباحثان المشار إليهما أعلاه إشكالات في صياغة مصطلحات علمية مركزية في العربية، فقد تكون المصطلحات المعرّبة خاطئة بحيث تمنح معنىً مخالفًا عن الأصل، أو غائمة فلا تعكس دقة الأصل، أو مقعّرة غريبة بحيث لا تألفها أذن المتلقّي العربي وسرعان ما تنساها.
في نهوض الأمم والتغيّر الثقافي (اليابان وكوريا)
في التنظيم الذاتي الثقافي، يقوم الفاعلون بإنتاج هياكل واقعية واجتماعية جماعية ذات مغزى، بناء على معايير وقيم ومعتقدات في العلاقات الاجتماعية، تمكّن وتؤطّر التفكير البشري والجهات الفاعلة، وبالتالي تنتج ممارسات اجتماعية جديدة والتي بدورها تنتج مزيدًا من الهياكل الثقافية الجماعية.
مع بدء حكم الإمبراطور ميجي (معناه الحاكم المستنير) في عام 1868 دخلت اليابان إصلاحات مكثّفة وشاملة. ما يهمنّا هنا هو الإشارة إلى خطوات تزامنت مع هذا الإصلاح الذي قاده البلاط ونخبته. كان باعث هذه الإصلاحات هو حيازة أسباب القوة التي لدى الغرب، من أجل تحصين اليابان من أن تكون فريسة للقوى الاستعمارية، بل وكي ترقى إلى مصافّ هذه القوى عسكريًا واقتصاديًا. اتسم ذلك الإصلاح بـ”استيراد الأفكار الغربية” عبر الترجمة وإنشاء نظام تعليمي حديث إجباري يحاكي النظام الأمريكي، وتقليل نسبة الأميّة، وإنشاء الهيئات والمجمعات العلمية.
نُقلت مكتبات كاملة إلى اليابان بغرض قراءتها وترجمتها، وترجمت أمهات الكتب الفلسفية والعلمية، ومما يجدر ذكره هنا إشارة الباحثين أنه عند ترجمة المفاهيم، مثل مفردات الفرد والمجتمع، فإن المترجمين واجهوا معضلتيْن هما غياب مفاهيم مكافئة لها في اليابانية، وغياب تلك البنى في المجتمع والثقافة اليابانيتيْن، فمفهوم الفرد مثلًا لم يكن بالإمكان تصوره في الثقافة اليابانية سواء اجتماعيًا أو قانونيًا بسبب طبيعة البُنى القائمة ومصادر الشرعية في النظام الاجتماعي، فالياباني لم يكن بأي حال من الأحوال فردا خلقه الإله على هيئته ولم يكن مسؤولًا أمامه عن أفعاله، بل كان خاضعًا لقادته ومسؤولًا أمامهم. دفع ذلك المترجمين إلى ابتكار مفاهيم يابانية مجرّدة، من أجل خلق وإيصال “قيم ترابطية” جديدة وإن كانت تفتقر لمعنى معرفي مُدرك.5 أدّى ذلك إلى إنشاء لغة يابانية جديدة تقريبًا تمت صياغتها وفقًا للمفاهيم الجديدة.6
انطبقت ذات المعضلة على ترجمة المفاهيم التطورية، مثل “الانتخاب الطبيعي” و”الانتخاب الجنسي” وغيرها، التي لم يجد المترجمون اليابانيون مكافئًا لها، فظهرت لهم مصطلحات مكافئة عديدة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، وتوالت عملية التنقيح والجدل الداخلي، بفعل ظهور أنماط ثقافية عالمية ومحلية في اليابان، مثل تجسيد الطبيعة، وتطور الممارسات وعلوم تربية المواشي، وسياسات وزارة التعليم اليابانية.7 وكان نتيجة هذا الجدل التصاعدي، استبطان الثقافة اليابانية ببناها هذه المفاهيم، وتحول العلماء اليابانيون مع مرور الوقت إلى منتجين للمعرفة العلمية في هذا الحقل، ينتجون نظريات مركزية مثل الطفرات المحايدة لموتو كيمورا.8
شهدت كوريا جدلًا فكريًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بشأن الانفتاح الفكري والاقتصادي أمام القوى العالمية من أجل إحضار “ركب التنوير والحضارة” إلى كوريا، وكان ذلك الجدل بين التقليديين الذين أرادوا إبقاء كوريا خالية من تأثير البرابرة والحفاظ على تأثرها بالحضارة الصينية ومركزيتها وبين المُحدّثين الذين تبنّوا فكرة الصراع الداروِني الاجتماعي الذي يدفع بالأمم قدمًا من أجل البقاء. تمّ في تلك الحقبة ترجمة وتقعيد الأفكار والنماذج الجديدة في سياقها المحلي متأثرة كذلك بالمحيط الياباني والصيني.9
كانت دوافع أفكار النهضة في كوريا شبيهة باليابان، وقد أدّت بعد مخاض فكري وسياسيّ إلى تغيّر في التصورات الثقافيّة الكبرى وسياسات الدولة والاقتصاد، استجابة “للتحدي الغربي”.10 ومما يجدر ذكره أنّ المفكرين الكوريين درسوا فشل النموذجين المصري والفيتنامي ووقوعهما تحت الاستعمار، وأرجعوا ذلك إلى غياب الإصلاحات الكافية.11
سعت كوريا إلى محاكاة اليابان في نهضتها، فعمدت إلى إنشاء نظمٍ تعليمية تحاكي “النموذج ياء” (J-Model)، الذي كانت أهم معالمه البحث عن المعرفة في أرجاء العالم، ودراسة العلوم الطبيعية، وبثّ روح التساؤل والبحث العلمي، وبناء رأس مال بشري عبر النظام التعليمي.12
ها نحن هُنا
نقف اليوم أمام إشكالات هيكلية وتاريخية تطغى على اللغة والثقافة العربيتين. أناقش بعضها هنا.
الثنائية اللغوية
هناك إشكالية غائرة جدًا، وهي الثنائية اللغوية بين العربية من ناحية، والإنجليزية والفرنسية من ناحية أخرى اللتين تُستخدمان في التعليم والتجارة والتواصل. نشأت هذه الثنائية منذ عصر الاستعمار، الذي شجّع انتشار لغاته في المجتمعات العربية، ليغدو التمكّن منها مرتبطًا بالقيمة الاجتماعية والدورة الاقتصادية.
ورغم انتشار اللغات الأجنبية الواسع في التعليم العالي والتجارة، إلاّ أن الدول العربية لم تُقرّ هذه اللغات لغات رسمية كما فعلت دول أخرى، وظلّ التباين بين التعلّم بالعربية ثم الانتقال إلى التعلّم بالأجنبية قائمًا، ومؤديًا إلى تقليل تحصيل الطالب وبالتالي ضعف تسرّب المادة المعرفية إلى ثقافة المجتمع.
يترتّب على هذه الثنائية تداعيات خطيرة جدًا، منها حصر العربية في وظائف معيّنة مثل التراث والدين13، وبالتالي كبح نموها ونمو الناطقين بها، مما يرسّخ المعاني والأفكار والقيم التقليدية والتراثية الشائعة بها. ومع مرور الوقت ترسّخ العملية ذاتها، فيزيد انفصال العربية عن العالم الحديث، بمعارفه وعلومه وتقنياته وقيمه، وتستمر الأنظمة التعليمية العربية الناطقة بلغات أجنبية في إنتاج مخرجات غير متمكنة من اللغتين.
الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية
يتحدث العربُ اليوم لهجات عاميّة وليس الفصحى أو العربية القياسية، وهذا ليس أمرًا طارئًا بل وليد العصر الذي نشأت فيه العربية. إنّ معرفتهم بالعربية القياسية -المستخدمة في الدولة والإعلام والتعليم- تتأتّى بعد رحلة تعليم طويلة، وتظلّ غالبًا محصورة في فئات قليلة. وفي ظلّ نسبة الأميّة العربية التي تناهز 40 ٪ وضعف مخرجات التعليم، فإنّ إشكالية الازدواج اللغوي تفاقم من قدرة العربي على التواصل الفعّال واستيعاب المعرفة. وإن وضعنا في اعتبارنا أنّ التقنيات والعلوم الحديثة هي نتاج معارف معقّدة، فإنّ ضعف تأهيل العربيّ لغويًا، وضعف المحتوى المعرفي في العربية، يحدّان من القدرة على الاستيعاب والتفاعل والإنتاج.
جزء كبير من هذا المأزق نابع من مركزيّة الفصحى أو اللغة القياسية في الثقافة العربية، فيصير من الموجب أن يتعلّم الفرد لغة جديدة هي الفصحى، وأن تُترجم الأدبيات والعلوم إلى لغة فصيحة لا يتكلمها أحد ولا يتقنها غير القلة. لعله من اللازم أن تُعالج هذه الإشكالية بشيء من الصدق الذي يستحضر فداحة المأزق.
إنّ تزامن إشكالات الازدواج اللغوي والثنائية اللغوية، مع تشتت القرار السياسي العربي، يفاقم من فداحة المأزق أمام التحدي الحضاري الذي يقف العرب حيارى أمامه. ويبدو أنّنا عاجزون عن إقرار سياسات لغوية قُطرية تعتمد اللغات الدارجة، وعن إقرار سياسات لغوية قومية تُعلي من شأن العربية القياسية، وعن تبنّي اللغة الأجنبية (أيًا كانت) لغة وطنية في التعليم والتواصل. غير أنّ النتيجة واحدة وهي فشل مجتمعاتنا في إنشاء نظام تواصل فعّال يستبطن المعرفة، وبالتالي فإننا عاجزون عن التنمية.
حلٌّ من خارج الصندوق؟
دَرَجتْ تقارير التنمية العربية منذ التقرير الأول في عام 2002 على إبراز معضلة فقر المعرفة والترجمة في المجتمعات العربية وما ينتج عن ذلك من ظواهر. وركّزت في تقاريرها الأخيرة على أهمية اكتساب المعرفة وتقعيدها ونشرها في العالم العربي. وهي تنظر إلى الترجمة على أنها الأداة التي يُرتجى منها فعل ذلك.
ومع الإشكالات الكبرى التي تواجه الترجمة، والتي عُرضت أعلاه، تلوح في الأفق فرصة يمكن أن تغيّر من واقع الحال “بضغطة زر”. يمكن للترجمة الآلية Machine Translation القيام بالترجمة العامة والمتخصصة، وهي تُستخدم بين لغات عدّة، وفي قطاعات اقتصادية عديدة، لكنّ النسخ الواعدة من هذه البرمجيات ما زالت غائبة عن العربية.
تعمل عدة مؤسسات كبرى، مثل شركتيْ جوجل وأبل، على تصميم مثل هذه البرمجيات للعربية، وإن نجح أحدهما في تصميم برامج تستطيع ترجمة نصوص ضخمة إلى عربية سليمة، فسوف يكون بالإمكان ترجمة الكتب والنصوص بضغطة زر، وسوف تحلّ هذه البرمجيات إشكالية تشتت المصطلحات العلمية، بحيث تقوم بتوحيدها وجعلها قياسية، وسوف تسمح للدول والمؤسسات الفاعلة بأن تترجم الكتب، وتضع المصطلحات، وتنشرها.
الهوامش
1 – Loet Leydesdorff, Is society a self-organizing system?, Journal of Social and Evolutionary Systems, Volume 16, Issue 3, 1993, Pages 331-349.
2 – Fuchs, Christian, The Self-Organization of the Cultural Subsystem of Modern Society. 12th Fuschl Conversations: New Agoras for the 21st Century: Conscious Self-Guided Evolution, Fuschl/See, April 18-23, 2004, Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=707143
3 – Adel A. Ziadat 1986, Western Science in the Arab World: The Impact of Darwinism 1860–1930, Palgrave Macmillan London, 978-1-349-18347-0, Published: 01 January 1986.
4 – Marwa Elshakry, 2013, Reading Darwin in Arabic, 1860–1950. Chicago (Illinois): University of Chicago Press. viii + 439 p.; ill.; index. ISBN: 978-0-226-00130-2 (hc); 978-0-226-00144-9 (eb). 2013.
5 – Nida, E. A. (1987) Intelligibility and Acceptability in Verbal Communication, in Georgetown University Round Table ’87: Language Spread and Case Studies, ed. by Peter H. Lowenberg
6 – Nae, N., (1999) Concept Translation in Meiji Japan, Translation Journal, Volume 3, No. 3.
7 – KIJIMA T & Thierry H (2013) Translating “natural selection” in Japanese: from “shizen tōta” to “shizen sentaku”, and back?, Bionomina, 6: 26–48.
8 – Kimura, Motoo (1983). The Neutral Theory of Molecular Evolution. Cambridge University Press. ISBN 978-1-139-93567-8.
9 – Chey, H. K. Helleiner, E. (2017) Civilisational Values and Political Economy Beyond the West: The Significance of Korean Debates at the Time of Its Economic Opening, Contemporary Politics, Volume 24 Issue 2 (2018),
10 – Saleemad, K. (2017) The Contribution of Education to Economic Development in East Asia, International Journal of East Asian Studies, Vol. 21 No. 2.
11 – Chey, H. K. Helleiner, E. (2017) Civilisational Values and Political Economy Beyond the West: The Significance of Korean Debates at the Time of Its Economic Opening, Contemporary Politics, Volume 24 Issue 2 (2018),
12 – Latourette, Kenneth Scott. History of Japan. New York: The MacMillan Company, 1957.
13 – Benkharafa, M (2013), The Present Situation of the Arabic Language and the Arab World Commitment to Arabization, Theory and Practice in Language Studies, Vol. 3, No. 2, pp. 201-208.