منذر مصري
منذ زمن ليس ببعيد، انقسمنا، نحن ورّاقي مدينة سلوقيّة؛ صانعي وبائعي الورق، ناسخي المخطوطات، كاتبي العرائض، معلّمي الكتاتيب، مريدي الشيوخ والعلماء، المتكلمين في المنطق والعلم.. ومن لفّ لفّنا، إلى عصبتين! الأولى: عصبة الصامتين، المتشبهين بالخرس والبكم، الذين لا يتكلمون، حتى وإن احتاجوا، وهذا ما لا يجب أن يحدث إلّا لمامًا، سوى بهز الرأس والإشارة والإيماء، وربما يؤذن، عند الضرورة القصوى، بالهمهمات. وقد اختاروا لجلساتهم مكانًا تظلله الأشجار، على رأس التلة التي يحتلها حي الموتى بقبورهم المنتشرة على سفحها. والثانية عصبة الثرثارين، الذين، بعد أن تنقلوا في مطارح عدة في المدينة، استقر خيارهم أخيرًا على أن تعقد جلساتهم في خان الدخان*، بعيدًا ما أمكن عن أنظار وأسماع الناس، حيث يتكلّمون على هواهم، عن كل شيء وأي شيء يحلو لهم، ولا شيء أكثر من أي شيء، ولا يجد الواحد منهم داعيًا للتوقّف عن الكلام، ولو للحظات، ليستمع إلى ما يقوله قرين له يجلس بمحاذاته! الأمر الذي تطلب منهم القبول -وإن على مضض- فهم في الطبع والتطبع، كارهون لأي ما يحدّ من شهوتهم للكلام، وكبح جماحهم للجدال، ولولا ذلك لما كان خيارهم أن يكونوا أعضاء في عصبة الصامتين، بتنصيب أكبرهم سنًّا رئيسًا لجلستهم، في متناول يده جرس نحاسي يصدر منه قرع شديد في حال هزّه، إلى اليمين واليسار، ثم إلى الأسفل والأعلى، عندما تصل الضوضاء التي يصدرونها إلى الحد الذي يرى أنها باتت لا تحتمل، أو حين يغالون ويشطون في الكلام، فيما إذا وصل -بطريقة أو بأخرى- إلى آذان العسس، ثم إلى مسامع أصحاب الأمر والنهي، فسوف ينتج عنه، لا محالة، ما لا يحمد عقباه! سوى أن ذلك كان قليلًا ما ينجح معهم، فيزيد قرع الجرس من شدّة ضجيجهم! أما الشعراء، فلم يكن لهم من خيار سوى أن يحطّوا على هذه الجماعة الصاخبة، فهم أمراء الكلام يقصرون طويله ويطولون قصيره، وهم في الثانية، أقصد تطويل قصيره، أكثر من الأولى بما لا يقاس! فلولا ذلك لما جاؤونا بتلك المعلقات، وأمهات القصائد، التي تبدأ ولا تنتهي! ولحسن الحظ، أو ربما لسوئه، ذلك أنه كان الموجب المباشر للكثير من المصائب والمحن، أني، بحكم كوني قارضًا، وإن متواضعًا ومحدود الموهبة، للشعر، كنت أحد الأفراد المجتهدين في عصبة الثرثارين! قلت، أحد الأفراد المجتهدين، ولم أقل المبرزين، وذلك لأني تسرعت، كعادتي، وقدمت ثلاث مداخلات قصصية في مدة لم تتجاوز الثلاثة أشهر، أو، في الواقع إذا حذفنا منها الجلسات التي تغيبت عنها، لا تزيد عن شهر ونصف! وللأسف، ولم أفزّ فيها بثناء أو تشجيع من قبل أيّ منهم! بل على العكس، فقد وجدوها، فرصة لينالوا مني، ويقللوا من شأني، فراحوا -كما يتوقع منهم- يلغطون، بأنها تفتقر إلى أدنى وحدة في الأسلوب، فحسب رأيهم، لا علاقة لأي حكاية منها بأختها، لا شكلًا ولا مضمونًا! وإذا كان هناك أمر ما يجمعها، فهو أنها أقرب للشعر منها للسرد، وهذا بحدّ ذاته عيب ونقيصة، يضاف إلى ذلك كلّه، أن هذا الشعر الذي يعيرونها به، ليس على ذلك المستوى الرفيع الذي كانوا يأملونه من شخص مثلي، يدعي ما أدعيه من باع في الكلام!
1 – الإنسان… ناقص ناقص،
ليس لديه أجنحة
رجل في سنّ الخمسين تقريبًا، يقف على النافذة وبيده فرفيرة صغيرة. ينظر بتأثّر واضح إلى دورانها عند أخفّ حركة من يده، أو بمجرد هبوب نسمة رقيقة تعبر قريبًا من النافذة. يخطر له حينها، أن يقوم الآن ويصنع، لأول مرة في حياته، طائرة ورقية! الخاطر الذي كثيرًا ما راوده خلال جميع مراحل عمره السابقة. لكنه لم يجد يومًا فسحة كافية من الوقت، أو الروح، لتلبية هذا النداء، نداء الطيران الأبدي، حتى بدا هذا وكأنه شيء طفولي فاته القيام به منذ زمن مضى، وإلى الأبد!
تذكّر أن هناك قصبة، لمح ابنه يحملها بيده وهو يدخل البيت، منذ أيام! لم يبحث كثيرًا حتى وجدها، وكانت أكثر من ملائمة. فقام وشقّها طولانيّا إلى ثلاثة أضلاع، بطول يقارب الثلاثة أشبار لكل منها، ثم أخذ خيطًا من بكرة خيطان السمك التي ابتاعها ذات يوم، من صانع شباك صيد فلسطيني هرم كثير الكلام عن ذكرياته! وكانت حيث توقع أن تكون في ذلك الدرج المملوء بما لا يحتاجه أحد، وعقد بواسطة الخيط الأزرق المتين القصبات الثلاث من الوسط، لتشكل أطرافها نجمة سداسية، حاول بتمرير الخيط وعقده برأس كل منها أن يجعلها تبدو منتظمة ما أمكن. قام بعدها بربط رؤوسها الستة وجمعها بعقدة تبعد عن المركز مسافة ما، حريصًا على أن تكون خيوط الأطراف السفلية أكثر طولًا من سواها. الصفحتان الأولى والأخيرة من الجريدة الخليجية الملونة الصقيلة الملقاة على الطاولة أمامه، كانتا تمامًا ما يحتاجه، ليمد ورقتهما بكل يسر ويلصقها على مساحة طائرته. فعل هذا كله بحسابات اعتباطية، ومن دون أي خبرة سابقة، فبدا له كلّ شيء حسنًا، وخاصة عندما ربط لها ذيلًا من الخيوط الملونة والأوراق البراقة.
صعد الدرج الضيق درجتين درجتين، لا داعي للمبالغة، وهو يحمل الطائرة إلى السطح، حيث اختار الطرف الجنوبي منه، ووقف مديرًا لمهب الريح ظهره، وراح يحاول أن يقلع بطائرته، متقدمًا خطوة للأمام، ومتراجعًا خطوتين للخلف. وراحت الطائرة بدورها تحاول ما بوسعها أن تكون عند حسن ظنه، تخفق لكلّ ريح، وتهتزّ وتستجيب لكلّ حركة من يده. مما جعله يصدق أنها سوف تطير لا ريب، أبهجه ذلك على نحو ما، إلّا أنه كان مشغولًا برغبته التي تشبه الشهوة، شهوة أن يلبي ذلك النداء لأول مرة، أن يرى حلمه الطفولي يتحقق، أن يرى ما صنعت يداه بهذه العجالة يطير محلقًا في السماء. إنه يقوم الآن بما كان بعينيه الحسيرتين يراقب الأطفال الآخرين يقومون به. ها هي الريح تحمله، ها هو يشعر بالدوار، ها هو يطير، ها هو يحلق!
صرخت امرأة كانت تراقب ذلك الرجل الكهل الذي يلهو بطائرته الورقية، كالأطفال، من نافذة مطبخها محاولة تنبيهه إلى أنه قد وصل، وهو يتراجع خطوة بعد أخرى، تمامًا إلى حافّة السطح. قالت إنه وهو يسقط نظر إليها نظرة أقرب للذهول منها للهلع.
2 – الأعزاء والأحبة يعودون بناء على دعواتنا
واقعة لم يصدقها أحد، ذلك أنهم لم يجدوا لها تفسيرًا منطقيًا، ولو بالحد الأدنى، لكنها وقعت! وقعت تحت أسماعهم وأبصارهم، وهي أن بعض الأشخاص الذين كانوا يزورون قبور موتاهم، اختفوا! رآهم البعض يدخلون المقبرة ولم يروهم يخرجون منها، أو على نحو أدق لم يرهم أحد بعد دخولهم من بوابتها، اختفوا داخل أسوارها وكأنه ابتلعتهم قبورها. في البدء حدث هذا لأناس وحيدين كانوا قد اعتادوا زيارة موتاهم، كأرمل مسن يزور زوجته، أو أم تزور ابنًا لها فقدته باكرًا، أو ابن يزور أباه الذي مات في الحرب! ثم حين لم يعد أحد يزور المقبرة وحيدًا، راحت حوادث الاختفاء تحصل جماعية، صار يختفي اثنان معًا أو ثلاثة، أو حتى أربعة. وما عاد أحد يدخل المقبرة إلّا بصحبة ما يزيد على عشرة أشخاص على الأقل، وذلك، عندما يضطرون لأن يدفنوا موتاهم فيها. فلا مقبرة لديهم سواها، وهم، في الأصل، لا يريدون أن يكون هناك مقبرة أخرى في بلدة صغيرة لا تزيد مساحتها على حيّ متواضع في مدينة، يكفيهم هذه المقبرة! وهنا بدأت الظاهرة تأخذ بعدًا آخر استعصى على تفسير أشد أهل البلدة إيمانًا بالخرافات والعجائب. فقد راح يختفي ليس فقط المشاركون في عملية الدفن بل الجنازة كلّها، ولا يبقى سوى التابوت وقد وضع أرضًا، خاليًا من جثمان صاحبه.
إلى أين يذهبون؟ لا جواب سوى أنهم، يغورون تحت الأرض، يسمعون نداء صاعدًا من الأعماق، فلا يستطيعون سوى أن ينسحروا به ويذهبوا، لعنده!
كان لا بد، إذن، من اتخاذ الإجراءات اللازمة، التي تزيد على الحرص على وجود الناس معًا دائمًا، ممسكين بأيدي بعضهم، أو حاملين سلاحًا ما؛ بندقية، فأسًا، سكينًا، عصًا غليظة، أو أي شيء من هذا القبيل، أثبتت الأحداث أنه لا داعي له بقدر أنه لا نفع منه. فكان أن اتفقوا على الكفّ عن دفن الموتى، واتخذوا قرارًا من مجلس البلدة بإحراق جثامينهم في أحد الأفران، رغم معارضة رجال الدين وأتباعهم من أهل البلدة، باعتبار هذا مخالفًا للنواميس والتقاليد، غير أن هؤلاء على كثرتهم هذه المرة لم يستطيعوا فرض إرادتهم، ولم تصمد دعوتهم لمزيد من الإيمان والصوم والصلاة أمام الهلع الذي عمّ الجميع. وخاصة بعد أن صار الناس يختفون وهم في محلاتهم ومطارح أعمالهم، ومرات، وهم يبتاعون حاجاتهم في الأسواق. ففي البداية اختفى الحلاقون، تبعهم النجارون، ثم الحدادون. وبعد ذلك، راح يختفي كل من يحط في البلدة لعمل أو لزيارة قريب. مما أدى إلى إشاعة الخبر في كل البلدات والمدن القريبة والبعيدة نسبيًا، وانقطاع زيارة أي إنسان غريب للبلدة، مهما كانت غاية زيارته، حتى وإن كانت محطة عبور لبلدة أخرى. ولكن شائعات جديدة سارعت وانتشرت في البلدة ذاتها، بأن غرباء من نوع آخر، بثياب احتفالية ذات أزرار ذهبية، رغم أنها مغبرة ومهترئة، ووجوه بلا ملامح ذات عيون فارغة، إلّا أنها إذا أطالت النظر إلى شيء، تلمع، وتخرج منها أشعة زرقاء تضيء الشيء الذي تنظر إليه، يجوبون شوارع البلدة بدءًا من غروب الشمس وطوال الليل حتى أول أشعة الفجر. كما أن أحد أصحاب المطاعم الشعبية، روى أن ثلاثة رجال وامرأة، يتصفون بذات الملامح، وقد غطى التراب رؤوسهم وأكتافهم، وقفوا أمام باب مطعمه، قرؤوا لائحة الطعام، ثم دخلوا وجلسوا على الطاولة، وطلبوا شرابًا، دلقوه في أفواههم دفعة واحدة، بينما أوصوا على ما يكفي لإطعام عشرين شخصًا، ثم أخذوا ما طلبوه بعد أن دفعوا ثمنه نقودًا معدنية قديمة جدًا، بعضها من فضة! قبلها صاغرًا، لأنه لم يرغب أن يقوم بأي ردة فعل قد تغضبهم وتوقعه في نزاع معهم. مؤكدًا صدق روايته بإظهار هذه النقود لكل من يستمع له. وهكذا صارت رؤية هؤلاء الأشخاص المخيفين، الذين كانوا يتصرفون، رغم فظاعة مظهرهم، ببساطة وعفوية، وكأنهم يعرفون البلدة وسكانها، ولم يسببوا لها في الماضي ولا في الحاضر، وليس في نيتهم أن يسببوا لها في المستقبل، أي أذية. فقط يزورونها ليلًا، ويجوبون شوارعها، بخطواتهم المتثاقلة المكتومة الوقع، ويدخلون محلاتها، العاملة ليلًا، لتبضع ما يحتاجونه. أقول صارت رؤيتهم، تتكرر على نحوٍ باتت، وباتوا، واقعًا بالنسبة للجميع، وصار لكل أهل البلدة قصص متشابهة يروونها عنهم. وما كان للأمر أن يستدعي اتخاذ المزيد من الإجراءات الرادعة، والقاسية هذه المرة، لو بقي عند هذا المستوى من الخطورة، فقد رافق كل ما ذكرت ازدياد في وتيرة اختفاء الناس، وهم حتى في بيوتهم. وكأن غايتهم تفريغها من قاطنيها، والانتقال إليها، لا لسكنها وقضاء ليلة أو ليلتين فيها، كما اعتادوا، فقد كان واضحًا أن الأغراب لا ينامون، بل فقط لقضاء حاجاتهم العضوية، أيًا كانت، وجمع وتوضيب ما يتبضعونه من مأكولات وحاجيات متنوعة، لحملها، عندما يطلع الفجر، والمضي فرادى وجماعات مغادرين البلدة باتجاه المقبرة. ما جعل أغلب الناس يمتنعون من تجاوز عتبات بيوتهم، أو حتى فتح الباب لأي طارق، مهما بلغ إلحاحه، وإغلاق جميع المحلات، بما فيها المطاعم والمقاهي وباعة المأكولات الشعبية، ما إن يبدأ النهار بالأفول، وهو الوقت الذي عادة ما يبدأ به عملها. الأمر الذي أدى بدوره إلى أن يقوم هؤلاء الغرباء بكسر أقفال وخلع أبواب محلات عديدة، وعلى الأخص دكاكين السمانة وباعة المشروبات الروحية، وأخذ ما يحتاجونه منها، لا كل ما فيها، من مشروبات ومواد غذائية. حدث مرة أنهم اقتحموا دكان سمانة كبير ولم يأخذوا سوى علبة سردين واحدة.
اتفقت آراء المجتمعين، من مسؤولي وأعيان البلدة، بعد أن تبين انعدام جدوى كل الإجراءات الوقائية والدفاعية التي سبق واتخذت، على أنه لا بد من إيجاد طريقة واضحة وثابتة لمواجهة هذه المشكلة! البعض أصر على وجوب القضاء المبرم على هؤلاء الوحوش الآدمية، وذلك بالقيام نهارًا، بتفجير المقبرة وتدمير قبورها وتماثيلها، بكل من فيها من جثامين أعزاء وأحبة. هم أنفسهم على الأرجح صاروا هؤلاء الوحوش الليلية. والبعض الآخر اقترح أن يجري قبولهم وإيجاد قواعد عامة للتعايش معهم، شيئًا فشيئًا. فهم أولًا، لا يأتون إلّا ليلًا، وثانيًا، لليوم لم يظهروا ذلك العنف الزائد الذي لا يمكن التعايش معه، حتى عندما لا يتوفّر لهم ما يحتاجونه من طعام أو شراب، غير أنه من الممكن، في المستقبل، أن يظهروا ما لا يمكن توقعه من بطش وتنكيل، إذا عرفوا بنوايانا المبيته ضدهم، وبادرنا بالإساءة إليهم. وثالثاً، تأكيدًا لما ذكره الطرف الأول، هم، وإن تغيرت سحناتهم قليلًا أو كثيرًا، أعزاؤنا وأحبتنا. الذين، كلما طوى الموت أحدهم وغاب عن أنظارنا، نحزن ونبكي ونصلي، راجين من الله، أن يعود لنا!
3 – جبل السماء الغاضب
رُوي أنه كان هناك فلاح سلوقي اسمه (نشوان)، عاش خلال منتصف الحقبة الأولى لأسرة (خوشام)، في منطقة (حولاب) الواقعة في المقاطعة الشمالية لإمبراطورية سلوقية الكبرى. وكان عمله، الذي لم يعرف، هو وعائلته في الحياة سواه، فلاحة وبذار وحصاد الحقل الذي ورثه كابن وحيد عن أبيه، الذي ورثه عن أبيه، إلى جدّ الجد، عدسًا وحمصًا وفولًا، وغيرها من المحاصيل البعلية، لذا كان كل تفكيره محصورًا بالغيم والمطر، خاصة وأنه قد تأخر كثيرًا في ذلك العام، وبدت السماء وكأنها لن تمطر أبدًا.
في أحد صباحات شهر آب، تفاجأ (نشوان) برؤيته لرجل عجوز يرتدي حلة زرقاء سماوية، ليس في عادة أهل المنطقة ارتداء شبيه لها، يقف داخل حقله وكأنه قد حط فيه للتو. وكان (نشوان)، يتصبب عرقًا، تحت أشعة الشمس اللاهبة، إلى درجة أنه رآه من خلال حبات العرق العالقة على شعيرات جفنيه، وكأنه شبح أزرق بلا ملامح محددة. وبعد تبادل التحية التقليدية، اعتذر نشوان بأن ليس لديه شيء ليقدمه للرجل الغريب، خاصة وأنّ الجفاف قد أيبس الأرض وأهلك كل ما ينمو ويدب فوقها. قبل الرجل الحكيم عذر نشوان، الذي يؤكد صدقه منظر الأرض اليباب حوله، بهز رأسه ثلاث مرات، ثم أدخل يده بين طيات ثوبه وأخرج منه حبلًا! حبلًا طويلًا، وراح، بسكين ذات نصل حاد، استلها من تحت حزامه، يقص جزءًا محددًا منه. وهو يشرح لنشوان بأنه قد بعث إليه من قبل سيده، الذي لا يسمح له أن يفصح عن اسمه، أو يدل على مكانه، ومكانته، ليعطيه ما لا يزيد على ذراعين من هذا الحبل، الذي يستطيع، بعد أن يتمتم عليه كلمات الطلسم السحري الذي سيعلمه إياه، أن يرميه عاليًا في السماء، ليلتقط به أي غيمة تمرّ عابرة فوق حقله، ومن ثم يبقيها عالقة حتى تمطر. لا بل، بعد تدريب صغير، بواسطة شده للحبل كثيرًا أو قليلًا، سيكون في مقدوره أن يتحكم بالقدْر الذي يريده من المطر. ولكن عليه أن ينتبه ألاّ يحاول صيد الغيوم الكبيرة، السوداء والجامحة، فإن لذلك عواقب، أقل ما توصف به، أنها غير حميدة. ثم كما أتى بصمت ودون أثر لخطواته على التراب، مضى وكأنه خيال تلاشى، تاركا نشوان مندهشًا، لا يصدق ما قاله الشبح الأزرق، وهو ينظر إلى الحبل، ولا يرى فيه شيئًا يميزه عن الحبال التي يصنعها أهل قريته، إلّا أنه أقل إتقانًا منها. ولكن بالفعل، استخدم نشوان الحبل مرات، متمتمًا كلمات التعويذة السحرية، وحدث أن اصطاد العديد من الغيوم، وأمطرها فوق حقله، الذي زادت مساحته وكبر، على حساب حقول جيرانه، بسبب وفرة المحاصيل. حتى إنه بات يملك أرضًا واسعة، يكاد لا يحدّها النظر. وبذلك ازدادت حاجة نشوان للمطر، وبالتالي للغيوم، وازدادت قدرته على صيد الغيوم، فراح، شيئًا فشيئًا، يتجرأ ويصطاد الغيوم الأكبر حجمًا. إلى أن رأى غيمة كبيرة، وكأنها خيمة سوداء تغطي السماء، ترعد وتبرق محولة النهار إلى ليل والليل إلى نهار. كانت غيمة كبيرة جدًا لدرجة أنها ذكرت نشوان بوصية الرجل الحكيم التي نسيها منذ فترة طويلة من الزمن، ولكنه، كان، ذلك اليوم، بحاجة للكثير الكثير من المطر. وبالتأكيد لن يكفيه ما قد تمطره فوق حقوله العطشى وهي تعبر فوقها. فكان أن ربط طرف الحبل بمعصمه، ووقف مباعدًا ما بين ساقيه استعدادًا لأن يرمي حبله بالقوة اللازمة لاصطيادها. ولدهشته -وهو لم يصل إلى نهاية التعويذة- أنه من أول رمية، طال الحبل فوق توقعه، وأحاط بها، وكأن يدًا كبيرة لا تُرى تشده من طرفه، وتعقده حولها. وفي وسط انذهاله الشديد، راحت الغيمة تمضي تأبى الوقوف، وصارت تشده وتسحبه وراءها، بقوة وسرعة لا يمكن لأي إنسان أن يقاومها، ولا أن يفك الحبل الذي راحت تزداد عقدته شدًا حول معصمه.
يقال إن بعض الفلاحين، في الحقول البعيدة، رأوا، رؤية العين، في العاصفة، الغيمة السوداء الكبيرة، التي لقبت حينها، بجبل السماء الغاضب، تمضي مُرعدة ومبرقة، وقد علق بحبل يتدلى منها، شخص يرتدي ثيابًا زرقاء، قيل إنه لا يمكن أن يكون غير نشوان ابن نيرب، الذي اختفى كل أثر له منذ ذلك الوقت..
الهوامش
*- خان الدخان – سلوقية – أواسط حقبة الفوضى والزلزال.