وجدي الأهدل *
يولد الإنسان موهوباً بالفطرة، ولكن هذه الموهبة في حاجة إلى الصقل كالسيف الذي يُرهف حدَّه الشّحذ.
الاستعداد الداخلي يأتي أولاً، ثم بعد ذلك يمكن لمساعدة خارجية بسيطة أن تُحقق التطور الفني المرجوّ.
وبالنسبة إلى الأدباء اليمنيين الشبان الذين صادف موعدُ تفتحهم الإبداعي أكثرَ الحروب شراسة في تاريخ اليمن الحديث، فإن الورش الكتابية تعوضهم عن القصور في أداء المؤسسات الثقافية التي اضطر معظمها إلى الإغلاق أو الكفّ عن النشاط.
درَّبتُ في ثلاث ورش: الأولى «ورشة كتابة القصة القصيرة» خلال أبريل 2018 لحوالي ثلاثين متدرباً ومتدربة، أقامها نادي القصة اليمني «إلمقه». وبتبرعات سخية من أعضاء النادي وعلى رأسهم رئيس النادي الروائي محمد الغربي عمران نجحنا -رغم الظروف الاقتصادية القاسية- في إصدار كتاب بعنوان «وميض متجدّد» يضم القصص القصيرة التي أُنتجتْ من خلال الورشة.
وجاءت «ورشة الكتابة الإبداعية» في يونيو 2019 أكثر تطوراً، حيث تسجَّل للورشة أربعمائة متقدّم، واختارت لجنة التحكيم أحد عشر شاباً وشابة من مختلف المحافظات، وأشرفتْ على تنظيم الورشة مؤسسة رموز للفنون بصنعاء، والصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).
استمرت الورشة لمدة أسبوعين، وكنا نبدأ من التاسعة صباحاً ونتوقف عند حلول الرابعة مساءً. وخلالها أجرينا نقاشات مثمرة حول خصائص القصة القصيرة وأنواعها والضمائر المستخدمة في السرد، وأهم عناصرها كالفكرة والشخصية والحدث والمكان والزمان والحبكة والحوار واللغة والبناء والوصف، وأخيراً نصائح الكتابة. وتوفرت لدينا شاشة لاستعراض مواد فيلمية عن نجيب محفوظ وغابرييل غارسيا ماركيز وأنطوان تشيخوف وليف تولستوي.
ولحسن الحظ توفر تمويل جيد من (آفاق) لإصدار نتاج الورشة في مجموعة قصصية مشتركة حملت مسمّى «صراع.. الأدب القصصي الجديد في اليمن».
نُفِّذت الورشة الثالثة «ورشة كتابة السيناريو» في يناير 2020. ووقع اختيار لجنة التحكيم على خمسة من المتدربات والمتدربين، ممن تقدموا بأفكار أو قصص صالحة لتحويلها إلى سيناريو.
وبعد انتهاء أشغال الورشة انطلق هؤلاء الشّباب في كتابة سيناريوهاتهم ضمن أفق زمني مفتوح، على أن تساعد مؤسسة رموز للفنون -التي نظمت الورشة- في التواصل مع القنوات الفضائية اليمنية بغرض إنتاجها وعرضها على الشاشة.
لقد تمّ تنفيذ هذه الورش والطائرات الحربية تُحلق فوق رؤوسنا، والصواريخ تتهاوى تضرب مواقع قريبة منا، ولكن هذا لا يعدّ شيئاً مقارنة بمعاناة الشبان الذين أتوا من محافظات بعيدة مُجتازين خطوط التماسّ الساخنة، وقاطعين طرقاً طويلة غير آمنة، ومارين بنقاط تفتيش قد تتبدل السيطرة عليها بين القوات المتحاربة عدة مرات في اليوم الواحد.
إحدى المتدربات استغرقت رحلتها برًّا من المكلاّ -محافظة حضرموت- إلى صنعاء حوالي 28 ساعة، بينما كان يمكن أن تستغرق رحلتها جوّا ساعة وعشرين دقيقة لو كانت المطارات مفتوحة.
أتذكر متدرباً من محافظة الضالع وصل إلينا بأعجوبة؛ لأن قريته في ذلك الوقت أصبحت مسرحاً للكرّ والفرّ، وكان القصف المدفعي والقنص ينهمر من الجانبين المتحاربين، وليست مبالغة القول إنه غامر بحياته ليحضر ويشارك معنا. وقد اقترحت عليه كتابة قصة تروي ما رآه رأي العين في قريته، فكتب قصة عنوانها «في قريتنا جحيم».
ليست مصادفة أن معظم النتاج الأدبي للورش الكتابية يدور حول الحرب ومآسيها، فهذا الجيل الغضّ الذي أزهر للتوّ عصفت به رياح حرب دموية ضارية، فلم تُتح له الفرصة ليتنفس هواءً نقيًّا من رائحة البارود.
إنه لنصر عظيم أن تجتاز هذه الأرواح الشابة الحواجز المذهبية والمناطقية والسلالية وتعلو فوقها، وتكتب أدباً إنسانياً يسمو إلى المُثُل الأخلاقية العليا.
إننا نلمس في قصصهم كراهيتهم للحرب والدمار، وتطلعهم إلى حياة مُكلّلة بالسلام في وطن يعمّه الرخاء والازدهار.