بيان الصفدي
شاعر وكاتب سوري
فقدت الثقافةُ العربية في 17 فبراير2020 واحدًا من أعلامها المميَّزين هو الشاعر السوري «بندر عبد الحميد» المولود عام 1947م، وهو واحد ممَّن يسمون «شعراء السبعينيات» في العديد من الدول العربية.
ومِن مُمَيِّزاتِ هذا الجيلِ أنهُ اختارَ البَساطةَ في التعبيرِ، وتحرَّرَ من الأَشكالِ الشعريةِ القديمةِ، وكتبَ قصيدةً بلا وزنٍ تُسمَّى «قصيدةَ النثرِ» لأنها حرةٌ في موسيقاها، وجعلَ أبطالَهُ مِن بُسطاءِ الناسِ، وموضوعاتِهِ مِنَ الأحداثِ اليوميةِ العاديةِ، وانطلقَ من الأشياءِ البسيطةِ، فرمزَ بها إلى همومِ الناسِ والوطنِ والإنسانيةِ.
وامتازت قصيدة هذا الجيل بما سمي بـ«الشفوية» و«الحساسية الجديدة» و«القصيدة اليومية» تلمُّسًا لملامح أساسية مختلفة عما سبقها من تجريب مفتوح، واهتمامات صوفية وتأملية، وبحث في المعنى الوجودي، فراح شعراء هذا الجيل يبحثون عن أبطالهم بين الناس العاديين وليس في الرموز والأساطير، وفي الوقائع اليومية لا في بطون التاريخ وخيالات الشعراء.
تحوُّلات شعرية
بندر كان أكثرهم ميلًا إلى قصيدة عفوية، تستمد شعريتها من هذه البراءة في تصوير الحياة، وفي لغتها البسيطة جدًا، وكان الشاعرُ قد كتب قصيدةَ التفعيلة، ولكنْ لم يبتعد عن تلك الخصائص،
فنشرَ مجموعتهُ الشعريةَ الأولى «كالغزالةِ كصوتِ الماءِ والريحِ» 1975م، ونالَ بسرعةٍ شهرةً ومكانةً في قلوبِ الجميعِ، ثم أتبعها بمجموعته الثانية «إعلانات الموت والحرية» عام 1978م، وكلتا المجموعتين صادرتان عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وتعتمدان شعرَ التفعيلةِ إطارًا موسيقيًا لوزنهما:
أذبحُ قلبي مُشتاقًا للعشبِ
وموسيقى الماءْ
أحفرُ بئرًا في الصحراءْ
وأسمِّي عينيكِ زهورَ الليلِ
أسمِّي وجهَكِ قوسًا وكتابًا وأغنِّي
بعدها انعطفَ بشكلٍ كامل نحو قصيدة النثر مع مجموعته «احتفالات» 1979م، و«كانت طويلة في المساء» 1980م، وقد صدرتا عن وزارة الثقافة في دمشق، و»مغامرات الأصابع والعيون» صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق 1981م. و«الضحك والكارثة» صدرت عن دار رياض نجيب الريس في لندن 1994م، وآخر ما صدر له من شعر «حوار من طرف واحد» عن دار المدى في دمشق 2002م.
في هذه المجموعاتِ تكاد تغيبُ قصيدةُ التفعيلة، فقد اختارَ الشاعر قصيدةَ النثر اختيارًا شبهَ نهائي، وظل محافظًا على أجواء البساطة وشاعريةِ الحالةِ والمشهدِ:
الموسيقى ذاتُ الأحذية الممزَّقة تحكي عن أصدقائنا
الذين ماتوا في الحرب قبل أن نولد
في المشهد الأوَّل كان البوق
في المشهد الثاني كانوا يركضون
في اتجاه الدباباتِ الغازية
في المشهد الثالث صورةٌ لأزهار الربيع
في مقبرة القرية أصدقاؤنا الذين ماتوا في الحرب
قبل أن نولد
نتحدَّثُ إليهم بلغة الموسيقى ذاتِ الأحذيةِ الممزَّقة.
احتفالات. ص11
أفق إنساني
المشاهدُ الجميلةُ يقدِّمها الشاعرُ من خلالِ نماذجَ بشريةٍ حزينةٍ، لكنها مملوءةٌ بالأملِ، وفي رموزٍ من الطبيعةِ تحملُ دِلالاتِ فرحٍ وعطاءٍ ومستقبلٍ، كما في قولِهِ:
قالت بائعةُ الورد العمياء
الحريةُ لي
قال النهرُ العاشق
الحريةُ لي
كانت طويلة في المساء. ص63
ويرسمُ الشاعرُ مشهدًا دقيقًا في قصيدةٍ قصيرةٍ عنوانُها «الاحتلالُ» من خلالِ لقطاتِ تشبهُ مشاهدَ السينما، فيلخِّصُ وحشيةَ محتلينَ في مواجهةِ شعبٍ مسالمٍ في مُفارقةٍ شعرية شديدة الدِّلالة في كثافتها:
ثلاثُمئةِ دبابةٍ متطورة
طائراتٌ مروحية
كتيبةٌ من مشاة البحرية (بقبَّعات ودون قبعات)
انقضَّتْ كلُّها بسرعة
بالأسلحة الفردية
وحواجزِ الدخان
لتحتلَّ بيتًا من الطين
يُطلُّ على وادٍ أخضر
يغرق في البحر
مغامرات الأصابع والعيون. ص40
في أحيانٍ أخرى نُحِسُّ أنَّ الشاعرَ يتحدثُ عن دَورِ الكلمةِ، ويجعلها بَشيرَ محبةٍ وسلامٍ، ودعوةً لِلخيرِ والحريةِ، فيقولُ:
إننا نقطِف الكلماتِ من حياتنا اليومية
كما تلتقطُ الطيورُ الحبوبَ المتناثرة
في أطواقِ البساتين
نزرعُ الكلماتِ عندَ شفاهِ البحر
ونغنِّي لها حتى تصيرَ أشجارًا
الكلماتِ التي نقفُ في ظلالِها الطويلة
احتفالات. ص16
صنَّاع الأمل
يأخذ الشاعرُ شخصيةً فنية ذاتَ أبعادٍ غنيةٍ ومُوحية، فمن خلال قصيدة «سيد درويش» كتب الشاعر مستخدمًا تفاصيلَ مدروسة ومقصودة:
حينما قفزَ الشيخُ «سيِّد»
من فراشهِ آخرَ الليل
فتحَ النافذة
واكتشفَ نشيدًا لِمصرَ ثم نام
في أوَّلِ الربيع
استيقظَ الشيخُ «سيد» مبكرًا
لِيسمعَ أصواتَ العمَّالِ والطيور
فاكتشفَ الجوعَ
ولم ينَمْ
غنَّى عنِ الشمسِ طويلًا
وعنِ الحياةِ والحبِّ في الليل
وعيونِ بناتِ الإسكندرية
وماتَ كشجرة
في صباح 15 أيلول 1923
مغامرات الأصابع والعيون. ص13
لكنهُ في أعماقِهِ يتوقُ إلى أن يتحوَّلُ الذبولُ إلى إشراقٍ واخضرارٍ وبهجةٍ، كما في قصيدةِ «مذنب هالي»، أتعرفونَ ما هذا المذنَّبُ العجيبُ؟ ليس شيئًا مُضيئًا في السماءِ، ولا كائنًا وهميًَّا يخلقُهُ الخيالُ، إنهُ امرأةٌ جميلةٌ عاملةٌ ، واحدةٌ من صنَّاعِ الحياةِ:
كلَّ يومٍ تهتزُّ المدينةُ مرَّتين
حينَ تمرُّ امرأة
صامتةً مسرعة
شعرُها يغطِّي نصفَ وجهِها
وفي يدِها كتاب
في الشارع الطويل
الذي يقسمُ المدينةَ نِصفين
وهي ليستْ قِدِّيسة
يقطرُ الزيتُ من أنفِها
وليستْ أميرةً سعيدة
في مُتحَفِ الشمع
أو مطربةً صاعدةً
تتوقَّفُ السياراتُ
يتوقَّف الطلابُ والعمالُ والنهر
وهي تمرُّ مسرعة
وجهُها نصفُ كرةٍ أرضية
تحتَ ضوءِ القمر
يقالُ إنها طالبةٌ في السنةِ الأولى
وعاملةٌ مؤقَّتة
في مصنعِ الزُّجاجِ القديم
الضحك والكارثة. ص61
والشاعرُ على ثقةٍ بقوةِ الفكرةِ، فهي التي تقاومُ الخطرَ والقمعَ، وعلى الرَّغْمِ من الصعوباتِ، فإنها ستتحدَّاها وتتحوَّلُ إلى قوةٍ في الحياةِ:
عندي فكرةٌ صغيرة
كحبَّةِ قمح
تنمو بين الصخور
الضحك والكارثة. ص9
وفي قصيدةِ «قلب» يقدمُ لنا الشاعرُ قلبَهُ، في دنيا تشبهُ طيبتَهُ، ويرفعُ قلبَهُ علامةَ قوةٍ وتَحدٍّ وسطَ الظلمِ والشرِّ والقسوةِ:
إنه قلبي السعيدُ المشاكس
إنه قلبي الجائعُ المتدفِّقُ
كان يلعبُ معي في الطفولة
بالمِقلاع والحجارة
يغضبُ ويتناثرُ على العشب
يرقصُ وينامُ كئيبًا
ويكسرُ أقلامَ الرصاص
ثم يضربُ رأسَهُ بالجدار
ويرقصُ ضدَّ الجوع
-ماذا تريدُ… يا حبيبي؟
إنه قلبي السعيدُ المشاكس
يطالبُ بالحرية
ويرفضُ البكاء
مغامرات الأصابع والعيون. ص74
الطفل
وترى الشاعرَ دائمَ المواجهةِ مع العالمِ من موقعِ الطفلِ، فيزرعُ وردةً وحيدةَ حتى لو على سطحِ القمرِ، كما فعلَ شبيهُهُ، بطلُ روايةِ «الأمير الصغير» أَلمْ يَقُلْ ذاتَ يومٍ؟:
أنا الأميرُ الصغيرُ للذكرياتِ الحلوة
الضحك والكارثة. ص52
أمَّا في قصيدةِ «الأجراس» المهمَّةِ فإنه يعودُ طفلًا، يُبْصرُ وجوهَ مَن معهُ، ويتأمَّلُ الزمنَ الذي مَرَّ، حيثُ صوتُ الأجراسِ يرنُّ في أذنَيْهِ وقلبِهِ، ومن خلالِ مدرستِهِ يرسمُ لنا الملامحَ الرئيسيةَ لِلوطنِ كلِّهِ:
صوتُ الأجراسِ في المدرسةِ الابتدائيةِ يزورُني
في آخرِ الليل
أنهضُ
إنهُ موعدُ الدرسِ الجديد
أركضُ في الوحول
وأمسحُ عن وجهي آثارَ المطرِ
إنهُ صوتُ الأجراس
ووجوهُ الأصدقاءِ الصامتين
سافرَ بعضُهم بعيدًا
وماتَ بعضُهم عندَ حدودِ الوطن
وتحوَّلَ آخرونَ إلى بَبْغاواتٍ ومُهرِّبين
وأنا لازلتُ أُمشِّطُ شعري
وأقرأُ دروسي
وأنتظرُ صوتَ الأجراس
في المدرسةِ الابتدائية
مغامرات الأصابع والعيون. ص82
في المجموعةِ الشعريةِ الأخيرةِ «حوارٌ من طرفٍ واحدٍ» يبعثُ «بندر عبد الحميد» رسالتَهُ الأخيرةَ إلينا، إنها حقيبةُ سفرٍ وتَرحالِ واكتشافٍ، دافئةٌ ومليئةٌ بالدَّهشةِ والعَجائب، طائرةٌ ورقيةُ ملوَّنةٌ، تحلِّقُ فوق هذا العالَمِ، تغرِفُ الثلجَ الأبيضَ بنشوةٍ، ولا تحملُ بين جناحَيْها سوى تلكَ القبلةِ الطويلةِ التي يرسلُها الشاعرُ إلى البشرِ:
دائمًا هناكَ حقيبةٌ
شبهُ فارغة
في سَفَرٍ غامض
قميصٌ وأقلامٌ ملوَّنة
رسائلُ حبٍّ وأوراقٌ بيضاء
وأدواتُ حلاقة
جوازُ سفر
يصدرُ بصعوبةٍ بالغةٍ دائمًا
وعلى ارتفاعاتٍ عالية
فوقَ ممرَّاتِ النسور
يمكن أن يحدثَ حبٌّ
من نظرةٍ خاطفة
وأنا أغرِفُ الثلجَ من الغيوم
وأرقبُ السفنَ الحربية
والصحونَ الطائرة
وليسَ معي سوى أوراقٍ
وقميصٍ مُخطَّط
وأطولِ قبلةٍ في التاريخ
حوار من طرف واحد. ص23
الوَداع
بعدَ أن عاش «بندر عبد الحميد» في دمشق التي عشقها خفيفًا وشفَّافًا كنسمةٍ، بدويًَّا جميلًا، فيه كل فروسية البدو وكرمهم واندفاعهم، قرَّر أن يتركَنا، في يوم17 فبراير 2020م جهَّزَ نفسَهُ لِرحلةٍ طويلةٍ، قرَّرَ لِلمرة الأولى أن يجلسَ من الفجرِ إلى المساءِ وحيدًا، وهو يتأمَّلُ عمرًا مَديدًا، قضاهُ في خدمةِ كلِّ شيءٍ جميلٍ، ولأنَّ يديه تعوَّدتا على تجهيزِ الطعامِ للجميعِ فقد دخلَ مَطبخَهُ، وأعدَّ طعامًا لضيوفٍ قد يأتونَ في أيةِ لحظةٍ، وأحبَّ أن يغادرَنا بصمتٍ، وألَّا يسمعَ صرخةَ أحدٍ، لِهذا تمدَّدَ بهدوءٍ على الأرضِ… وماتَ!
وقد تكون وصيته الأخيرة هي كلماته الشعرية غير المنشورة:
في الحياة وفي الموت
في حدائقِ الكراهية
وفي اليوم المريب
وعندما يقطُف البشرُ وردَهُمُ المسمومْ
ويتبادلون الفؤوسَ والرصاصَ والطعنات
أحبك.