علي حسن الفواز
ناقد عراقي
عتبة للقراءة
يمكن أنْ نعدّ رواية «الرواية العمياء» للروائي شاكر نوري نوعا من الكتابة المفارقة والملعونة، إذ تضعنا أمام عالم اغترابي، مسكون بالصراعات، وبحيوات لا ترى وجودها العميق إلّا من خلال اللمس والرائحة، وأن رهان لعبتها السردية يكتسب فاعليته من خلال بؤرة تمركزها السردي حول أحداث تعيشها شخصياتها التي تعاني من محنة «العمى» لكنها تبحث عن هويتها وسط استبصارات تساكنها صراعات داخلية وخارجية، تبدو فيها حبكة الهامشي، والمقموع، وكأنها تمثيل سردي يقابل محنتها في الوجود والانتماء..
يفتتح الروائي استهلاله بــ«حيلة نسقية» تنطلق من الوظيفة التي يقوم بها البطل، باتجاه تحريك تلك الأحداث، التي تقوده إلى الاشتباك مع الشخصيات عبر أقنعتها، وعاهاتها، وعبر وجودها في «المكان المعادي»، الذي يستدعي وظيفة البطل، باتجاه استقصاء ما يجري في خفاياه، وعبر تشييد «رؤية سردية» تقوم على تقصٍ لثيمة الكشف عن النسق المضمر في سرائر تلك الأحداث..
رحلة البطل/ حركته تتضمن فعل الاختيار والاجتياز والمغامرة، مثلما تتضمن وظيفة الكشف عن المجهول/ الفساد والجريمة، لكنها تصطدم بحاجز «البطل الضد» الذي يجعل من الوظيفة صعبة التحقق، ويجعل من البطل الرئيس يبحث عن حلول مراوغة، تبدأ من مواجهة الزيبق، ولا تنتهي بتورطه بعلاقة حب غريبة مع«حياة العمياء».
هذه الإزاحات، غيّرت من مسار الحركة- الهدف إلى الحركة- الصدمة، ليجد البطل نفسه أمام مفارقة نفسية وأخلاقية أخرى، تبدأ من صدمته إزاء وهم الفضيلة، ولا تنتهي عند صدمته إزاء مفارقة ضياعه في المكان السردي كنظير لضياعه في المكان الواقعي، حيث يتحول المكان إلى بؤرة جاذبة تستجيب لحاجات السرد أولا، ولحاجات الصراع ثانيا، وللمغزى الذي يقف وراء أسرار الفساد والجريمة والمخدرات في عوالم «معهد العميان» الجوانية ثالثا.
عتبة عنوان الرواية هي عتبة المفارقة الأولى، إذ تحيل إلى دلالات، تتبدى من خلالها القصدية السردية، بمفهومها الظاهراتي، مقابل وضع أجناسيتها التوصيفية، في سياق تأويلي، أراد من خلاله الروائي أن يقدم وثيقة متخيلة عن عالم « العميان» ليس بوصفه عالما اغترابيا، أو عجائبيا، بل بوصفه عالما تمثيليا للصراع الإنساني العميق، صراع الوجود والغياب، الحب والكراهية والبحث عن المعنى، والذي يجعله الروائي قابلا للاستنطاق والتوظيف، والحكي، ومفتوحا على توظيفات سردية، لها طاقة التأويل، والترميز، والكشف عن ما هو مضمر في « المتن السردي» وفي عالمنا الذي يصلح أن يكون عالما للعميان..
فالروائي يضع العنوان عتبة تناصية، تحيل إلى مقاربات، وإلى إشارات يمثلها فلاسفة وشعراء مثل – شوبنهاور، المعري، جبران خليل جبران، بشار بن برد، ابن رشد- الذين أعطوا لثنائية «البصر والبصيرة» توصيفات ووظائف تدخل في التأويل والاستعارة والمجاز، وليُعطي تسويغا للوظيفة التي سيقوم بها البطل، لاستقصاء ما يجري في «عالم العميان» وتتبع مصائرهم، فهذا العالم له صراعاته وتجلياته الثقافية، وله حكاياته التي تتمركز حول «حيوية البصيرة» بوصفها الضد النوعي للعمى، ولبعض رموزه التي يؤدي استدعاؤها إلى وظيفة تأسيس» وجهة النظر من التركيب العام إلى التركيب الخاص للنص»(1)، وهو ما يمنح عتبة القراءة حافزا، يستدرج القارئ إلى منطقة إيهامية تتسع للتأويل، وللتعرّف على ما يحتشد في الحكاية من أحداث وصراعات، تغوي القارئ بدلالاتها، وبما تنطوي عليه من مفارقات وإحالات، تقوم على تشغيل محركات السرد، وعلى الدفع باتجاه مقاربة شخصيات الرواية وهم يعيشون اغتراب مصائرهم المتقاطعة في المكان السردي وفي مجاله الصراعي، للكشف عن ما هو عميق في الوجود، عبر تغييب الرؤية، مقابل استدعاء الرؤيا، وهي ثنائية مفارقة، تستدعي طاقة التحول، وطاقة الكشف، وطاقة التمثيل التي تتطلبها أفعال السرد، إزاء ما تكشفه الحواس على نحوٍ يحيل إلى لذة مضادة تهجس بها حاستا الانتباه واللمس، والتي أراد من خلالها الروائي أن يجعلها جوهر لعبته في الإثارة وفي المفارقة، وفي الاشتغال على «الدال الصوتي» بوصفه نظيرا لـــ»الدال السيميائي» في مفارقته، وفي إثارته وتحريضه على مقاربة مايمور به المجرى السردي للرواية من تحولات وإحالات..
عتبة للرؤية
يمكن للأعمى أن يكون رائيا، أو أن يلبس قناعا للكشف عن ماهو خبيء في الوجود، أو مافي نسقه المضمر، هذه المفارقة، هي جوهر اللعبة الروائية، إذ تتحول لعبة الرؤية إلى مغامرة، وإلى رحلة، وإلى غواية استقصاء سردي لتتبع مايشبه الجريمة بمفهومها «البوليسي» أو الاجتماعي، وحتى برمزيتها السياسية، وبالاتجاه الذي يجعل من فعل «التتبع» متعالقا بالتوصيف الوظائفي، وعلى مستوى ما يؤديه من وظيفة سيميائية في سياق الحكاية، أو على مستوى مايكشفه من وظيفة تأويلية، هي ليست ذاتها « الوظيفة العجائبية» التي تحدّث عنها فلاديمير بروب في حكاياته الخرافية، بقدر ماهي وظيفة تمثيلية اصطنع سياقها الروائي، لتكون مجسّه، أو منظاره، أو مجاله لسردنة الدخول إلى عالم غرائبي، وإلى مقاربة شخصيات مرتابة يحكمها العمى «الفيزيقي» لكنها تصطخب عبر غرائزها، ونقائضها، وعبر هواياتها، وأحسب أن مثل هكذا وظيفة ستكون لها «إسقاطات استبدالية» كما يسميها غريماس، والتي يتبدى اشتغالها عبر ما تكتشفه من خلال حركتها في فعل السرد، وفي فعل التخيّل، إذ يتقوّض الواقع الذي يعيشه العميان، ليتشكل واقعا آخر تتبأر أحداثه بعد وصول «البطل مروان» إلى «معهد العميان» لتبدأ معه اشتغالات «الحيلة السردية» حيث اصطناع علاقات جديدة، وتفجير علاقات ساكنة في الرواية، والتورط في صراع، وفي علاقة حب، وهي ماتجعل من وظيفة «البطل» تتجاوز ماهو مألوف في «الرواية البوليسية» إلى نوع من الوظيفة الغرائبية في المفارقة، والمسخ والتهويل والاعتداء، أو في المنظور الذي تحكمه ثلاثية تودوروف والقائمة على الرغبة والصراع والتواصل.
هذه المفارقات هي المُحرّك الذي يقود أحداث رواية «الرواية العمياء» للروائي شاكر نوري، وأن يوجّه مساراتها، عبر تقانة الروائي العليم، وعبر تقانة تستجيب إلى «لعبة الحكي» وإلى ما تحمله من هواجس تتعقد فيها الصراعات، والتحولات، والإغواءات، وعبر ما ينزاح من الصراع بين المألوف واللامألوف، وليبدو توظيف هذا الغرائبي مشبوكا بالتحول الذي تعيشه الشخصيات، وعلى نحوٍ يتحاكى فيه الواقع مع التخيل السردي، لاستظهار ما هو سري في عالم أبطاله العميان، حيث يعيشون حيوات لا تقل بشاعة وعنفا وقسوة من عالم المبصرين.
هذا التوظيف المفارق هو ما ينزاح فيه التمركز الواقعي إلى التمركز السردي بوصفه يتيح للروائي استثمار تلك المفارقة لتعرية ونقد الواقع، ولاستظهار علامات التقاطع بين كائنات تعيش تشوهات هذا الواقع عبر الفساد والفقد والعطب الوجودي، بوصفه نظيرا للعطب السياسي والاجتماعي والثقافي..
عتبة لوظيفة الشخصية
شخصيات الرواية ليست غرائبية بالمعنى التوصيفي، لكنها خاضعة لمهيمنات تُفقدها وجودها، وترهن بناءها إلى لعبة السرد من جانب، وإلى تحويلها إلى شخصيات استلابية، تعيش سردنة غموضها من جانب آخر، إذ يجهد الروائي عبر اصطناع مسرح الأحداث «معهد العميان» بوصفه العمومي، إلى تحريك شخصياته في سياق تحولاتها الغريبة، وعلاقاتها الشوهاء، مقابل تعالقها بالمكان الغرائبي الذي يضم «سراديب تنزل إلى طوابق في أسفل الأرض، كان مدفنا أيام زمان، ولم يعد كذلك بعد إنشاء أكبر مقبرة في العالم».(2)
هذه التوصيفات ليست بعيدة عن التحوّل الذي تتورط به شخصية البطل، إذ يدفعها هذا التحول الى التخلّي عن ماضيها، والاندفاع نحو المغامرة، حيث الحب والصراع والكشف والمواجهة، وحيث يتحول الصراع ذاته إلى مجال تبئيري يستدعي صراعات وتحولات مجاورة تعيش رهابه أغلب شخصيات الرواية، بوصفها شخصيات متحولة أولا، وشخصيات «عجائبية» تعيش التوتر، وتخرق التابو والرقابة، لتعيش مغامرتها المتقاطعة مع مشاعر الحب والإثم والخطيئة والكره والغيرة والرغبة بالقتل.
الرواية تبدأ عبر ثيمة انتقال البطل من لحظة السكينة في الواقع الراكد، إلى وظيفة البحث الصاخب عن «جريمة الفساد» حيث تحريك ذلك الواقع، أي الكشف عن خفاياه وأسراره، وبأدواتٍ زاوج فيها الروائي ما بين كشوفات المفتش البوليسي «شارلوك هولمز» وبين واقعية بطل مسرحية غوغول الشهيرة «المفتش العام» إذ تتحول تقانة تلك المزاوجة إلى « وحدة دلالية في لحم الحكاية».(3)
مثلما تتحول عبرها وظيفة الاستقصاء إلى مقاربة صادمة للكشف عن طبائع الشخصيات «الساندة» بوصفها مسميات اكتسبت طاقة سردية، عبر إحالاتها التاريخية والمثيولوجية، وعبر وظائفها المتحولة سيميائيا ونفسيا، وعلى نحوٍ جعل من عالم العميان، عالما غرائبيا وعجائبيا، وربما أكثر بشاعة من الواقع، حيث علاقة بعض شخصياته مثل الزيبق وسلطانة الشيطانة بالدعارة والمخدرات والسحر والشعوذة والقتل..
البطل مروان الموظف الذي يعيش حياته بشيء من الرتابة والدعة، يتحول إلى مغامر، بعد أن يطلب منه مدير مؤسسته المسؤولة عن «رعاية العميان» في مدينة بغداد القيام بمهمة الكشف عن ملفات فساد وتزييف العمل في تلك المؤسسة، وهذا ما يجعل هذا الطلب انسحابا إلى الوظيفة السيميائية، بدلالة التقنّع، والتغيّر، وبدلالة خرق الحدود المغلقة، والتوغل في مجتمع العميان المراد الاستقصاء عن الفساد في ملفات مؤسسته.
وظيفة الاستقصاء تتجاوز حدودها التوصيفية، لتكون رحلة إيهامية تقود إلى تحولات عميقة، وتنفتح على وظائف سردية متعددة، بدءا من وظيفة التزييف، مرورا بوظيفة التلصص والتقنّع، والمراقبة والكشف، وانتهاء بوظيفة الحب، ولمدة «تسعة أشهر»، وهو «زمن سيميائي» – أيضا- له إحالاته إلى الفكرة الجنينية في تكوين الإنسان، إذ يتحول الحمل والمخاض إلى مجالين للتكوّن والكشف عن صور التشوه والفساد التي يتعرّض لها العميان في المؤسسة/ المدينة..
عتبة لسردنة الشخصيات
مروان بطل الوظيفة السردية الرئيس، يتحرك عبر طريقة «بروبية» استجابة لطلب مديره للقيام بالكشف عن «جريمة الفساد» في معهد تأهيل العميان، وهذه الحركة/ الوظيفة تتحول إلى وظيفة كشف، ومواجهة واصطدام، مثلما تتحول إلى مغامرة نفسية وحسية، يتعرف من خلالها على أركان المشهد والمجال، عبر التعرف على شخصياته، حيث بورهان الصوفي مدير المكتبة، وحيث الزيبق الأعمى وحياة العمياء والرسام والشيطانة والراقصة ميلاد والصبي القارئ، وعبر التورط في علاقة حسية مع «حياة العمياء» تكشف عن محنته الداخلية، وعن التباسه العاطفي، وعن حساسيته إزاء ما يصطنعه «الحيَّال» الزيبق، الذي يتحوّل إلى شبيهه في الصوت والرائحة ليقوم بالاعتداء على حبيبته.
هذا التحوّل يكشف عن علاقات «تمثيلية» أكثر تعقيدا للشخصيات، حيث تبدو فيها «سلطة الصوت» و«سلطة اللمس» و«سلطة الرائحة» مجسات للتواصل، وعلامات ضاغطة لتوجيه الأحداث والعلاقات، ولرسم مسار الصراعات أيضا، إذ يتحول المشهد السردي إلى مجال غرائبي لتفجير تلك الصراعات، عبر استدعاء وظائف ضدية، هي جوهر وظائف الصراع، ووظائف الكشف والمواجهة، إذ يتحول البطل الضدي/ الزيبق إلى عائق وجودي وعاطفي، ليس لإتمام وإنجاز مهمة الكشف، بل لقطع الطريق على الإشباع العاطفي الذي يلاحقه البطل، أو يثأر له بعد اغتصاب حبيبته.
بهذه المصائر المتقاطعة، وتحولات شخصياتها قادنا الروائي إلى مقاربة صراعات المصائر، فالعميان يشبهون المبصرين، والمعهد يشبه المدينة، والزيبق الحيَّال قد يشبه اللص والفاسد والسياسي، والبطل يفقد حياديته وقناعه، ليبدو قريبا كائنا مفضوحا، بعد أن كشفه الزيبق» وخاطبه ساخرا « ألم يكفكم هذا العالم الواسع حتى تتطفلوا على عالمنا؟».(4)
وهنا يتجلى فعل التحول، الذي يفقد البطل وجوده الوظيفي، ليجعل منه بطلا مشوها، ويجعل من الوظيفة السردية تتخلى عن إيعازها البدئي، لتتحول لعبة للكشف عن عالم آخر، يخص العميان، ويخص تحوله، ويدفع الشخصيات الأخرى في الرواية إلى ما يشبه «التشكّل الفنتازي» في عالم ذي كثافة سيكولوجية، ففضلا عن تمرد «مروان»على وظيفته الاستقصائية، وانخراطه في علاقة حسية مع «الفاتنة العمياء» فإنه يخرق قاعدة اللعبة، ليتموضع في علاقة غيرة ندِّية مع زيبق الأعمى الذي يُقلّده في صوته ورائحته، كما أن حبيبته «حياة العمياء» تفقد بوصلتها العميقة، بعد خضوعها لإغواء الزيبق الذي يقلد مروان في شفرتي الصوت والرائحة، ليختلي بها ويفقدها بكارتها، لتبدأ ثيمة الصراع الوجودي بين الشخصيات، يمتزج فيها الشخصي والعمومي، فالبطل يرى في «الزيبق» عدوه، فضلا عن كونه بؤرة للفساد والدعارة والجريمة» الزيبق وإن كان جزءًا منها، لكن المهمة الكبرى الملقاة على عاتقي أن أخترق تلك الشبكة اللعينة التي تستغل العميان».(5)
هذا الصراع المركّب القريب من العالم الغرائبي، بدا أكثر تمثيلا للصراع الوجودي الذي يمكن مواجهة تفاصيله، والذي ينفتح على مستوى التأويل، وعلى مستوى تشكيل شبكة دلالية، وكذلك على مستوى ما تُحيله سيميائيا إلى الكشف عن «صراع الهامش» الذي يعاني انطولوجيا من عمى التشوّه، ومن عطب كينوني تتمثله العاهات الأخلاقية والسلوكية، مثلما يحوّل نمطه النفسي إلى نمط عُصابي تتبأر فيه «ثيمة الرواية» التي تغوص عميقا في سرائر حيوات مضطربة تعاني من تشوهات العطب والفقد والفساد، أراد الروائي أن يكون وجودها في السرد المفارق عتبة لاستدعاء الواقع الذي يعاني من نقائض وتشوهات لا تقل رعبا..
عتبة لكتابة السرد الأعمى
اللجوء إلى كتابة رواية بمواصفات «الرواية العمياء» يعكس أهمية البنية الغرائبية في السرد، ليس للمغايرة فحسب، بل لتوظيف هذه التقانة، لتعرية عوالم نسقية، مخبوءة في المسكوت عنه، لكنها تضمر صراعا أكثر مفارقة من صراع الواقع ذاته، فالتحول الذي تعيشه الشخصية الرئيسة، يذهب باتجاه الإبانة عن عجزها الوظيفي، مقابل أنه يجعل من لعبة إزاحتها مجالا لتفجير تحولات أعمق، وصراعات أكثر غرائبية، إذ يتحول المعهد إلى واقع ضدي، وجرائمه وفساده قابلان لأن يكونا جرائم أكثر بشاعة للواقع السياسي الذي يقوده عميان بالمعنى الأخلاقي..
قد تحيلنا الرواية إلى ماكتبه القاص فهد الأسدي في قصته «الشبيه» وهو ما اعترف به المؤلف، لكني أجد فاعلية السرد في هذه الرواية تجاوزت الثيمة المحدودة لما هو موجود في القصة، إذ وضعتنا الرواية أمام عوالم أكثر غرائبية وتعقيدا، وأمام إحالات لها مرجعياتها وكشوفاتها التي تجعل من الوظيفة السردية تورية لتعرية ما هو مفجع في الواقع. مثلما تجعل من الشخصيات المشوهة والحالمة أكثر تماهيا باتجاه تعالقها مع شخصيات تصنعها صراعات الواقع ذاته، والتي لا تكتفي بالكشف عن عوالم العميان والمبصرين، بقدر ما توحي به إلى أن العمى كمفهوم «حياتي» يتحول إلى مفهوم اجتماعي وسياسي يكشف عن أعطاب عميقة، وعن تشوهات تمس العلاقة بالرؤية، والعلاقة بالمكان، والعلاقة بالآخر..
تعدد الشخصيات في الرواية يقابلها التعدد في تشكّل مصائرها، إذ تكشف لنا تلك المصائر عن المزيد من الصراعات، وعن ما تخفيه من أنساق مضمرة وفاجعة لها إحالاتها النفسية، وربما السياسية التي تبدو مواربة، لأنّ الهاجس الذي تتبأره الرواية يتجوهر حول ما حدث في العراق بعد 2003، وأن مصائر تلك الشخصيات ترتبط بشكل أو بآخر بتخليها عن رغباتها، لصالح تورطها في صراعات يشتبك فيه الحسي مع الوجودي، والواقعي مع المتخيل، ولتبدو بيئة «المعهد» وكأنها تمثيل سيميائي لـــ «بلاد» جعلها الاحتلال تصاب بعطب العمى، وأن لا جواز إلى الدخول إلى أعماقها وسراديبها إلّا عبر التقنّع، وعبر لعبة الاستقصاء، لتتبع مظاهر الغش والخديعة والقتل والفساد وهي تتضخم، والنمو الجيني وهو يتشوه، والوجود وهو يفقد أنسنته، وعبر ما يتعرض له الواقع من إكراهات، حيث إزاحة التشكيل الدلالي من واقعيته المباشرة، إلى فنتازيته ليبدو وكأنه الأقرب إلى جحيم دانتي، المسكون بصراع شخصيات عصابية، مضطربة، مشوهة، تتغول فيها « شبكات الفساد اللامرئيّة، الغامضة في أعماق هذا المجتمع المصغّر».(6)
تقانة التحول هي أكثر الموجهات السردية حضورا وفاعلية في الرواية، إذ تعمدها الروائي لأسطرة شخصيات العميان، ولأسطرة المكان، حيث يتحول المناخ النفسي إلى بؤرة تمثيلية للصراع، وحيث تُستنفر عبره الوظائف السردية لتتحرك باتجاه استيعاب الأحداث، لتبدو وظيفة الاستقصاء التي يقوم بها مروان هي حركة التجول الأساسية التي تُفجّر المكامن السردية في «معهد العميان».
التحوّل الأخطر في الرواية هو تحول الشخصيات ذاتها، وبقصد يجعل من قراءة الرواية مجالا للكشف عن ما تحمله من علامات، أو ما تضمره من هواجس، فالشخصية الواقعية قد تتخلى عن وجودها، لتمارس وظيفة الشخصية البيكارسية، واللعبة الاستقصائية تفقد خيارها لتكون قدرية لمواجهة قسوة مايجري في المعهد/ حيث استشراء قسوة الفقد، وحيث يفقد البطل حبيبته عبر الاغتصاب، وحيث يفقد مدير المكتبة بورهان حياته في ظروف غامضة، مقابل ذلك فإن البطل لا يجد حلا لنقائضه، سوى القبول بتحوله، والتماهي مع شخصيات تعاني من الاستلاب والاضطراب والعزل، مثل الصبي والصوفي وحياة والرسام والموسيقي، ليجد نفسه في النهاية أمام مفارقة وجودية، وخيارات صعبة، إمّا الهروب، وإما الكتابة، وهو ما انحاز إليه الروائي كخيار تعويضي لتدوين روايته العمياء الى حبيبته «حياة العمياء» «، لم يبق أمامي أية وسيلة لإقناعها سوى أن تطلع على الرواية العمياء».(7)