«ما الذي سيقوله العُماني إذا ما مُنح فرصة الكلام»، من الجملة الأولى التي تُصادفها عين القارئ على الغلاف الخلفي لرواية «صرخة واحدة لا تكفي»، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي 2014، نستشعر كقراء حجم الغليان الذي تقدح به الرواية، تلك التي تُلصقنا بالخصوصية العُمانية وهي تطرح سؤالها حول ما قد يقوله العماني تحديدا إذا ما منح فرصة للكلام وليس أحدا آخر.
كانت محاولة جيدة من حمود الشكيلي الاقتراب من حياة بائع الغاز. اختار رجلا بسيطا لم يكن له حظ من التعليم وبالتالي لم يكن له حظ كبير في العمل. فقد ترك القرية ليعيش في العاصمة مسقط تحديدا في الخوير. أستطيع أن أٌقول: نجح الشكيلي في أن يخلق من المكان حضورا وامتيازا ذكيا، وكان المكان بطبيعة الحال مهما لبائع الغاز، ولم يكن تحصيل حاصل. فهو يقضي معظم وقته في الشوارع، في انتظار اتصال ما يقوده لمكان ما، لشارع ما، لسكة ما لبيت ما لأشخاص من نوعية ما. يُسمي الشكيلي مسقط ويُسمي الخوير تحديدا، يُسمي بنك مسقط ومحل الأحذية خميس بلازا. محلات رواسكو ومخبز مسقط ومكتبة الفكر وفندق راديسون بلو ومحطات تعبئة الوقود وجامع سعيد بن تيمور، وكل هذه التفاصيل بمعناها الواقعي كانت تُضفي حياة جديدة على حياة الرواية، حتى لنشعر بأننا نعرف هذا الرجل.. فقد كان يمر من هنا، بالقرب منّا.
كنتُ أٌقول في نفسي: رجل الغاز.. أي حكاية كان يمكن أن تُنسج عن هذا الرجل الذي يملك مفتاحا لدخول كل البيوت. بيوت الأغنياء وبيوت الفقراء. يمكنه أن يتقاطع مع حيوات الناس. مع روائحهم وأمزجتهم. مع ذوقهم في ترتيب حديقة البيت والمطبخ. رجل الغاز القادم من الريف إلى المدينة. الدفتر الصغير الذي يُسجل فيه عناوين الناس وأرقام هواتفهم. بين من يستقبله بابتسامة أو كوب ماء أو قهوة عمانية حارة وبين من يستقبله بوجه عابس وينقده المال على مضض. الراتب الضئيل وانتظار العائلة لعودته بقليل من الهدايا. بائع الغاز، الرجل الذي يرفض إفراغ مثانته مقابل فلس واحد، ثم يصبح الحل في رفع سعر الغاز لمقاومة حياة المدينة الصعبة. كم من التفاصيل كان يمكن أن تنمو على مهل.. كيف يربط الغاز بالسلاسل، كيف يتلقى الاتصالات ويدون الملاحظات، وكيف تخذله الزحمة ويتحايل بالممرات الداخلية التي يعرفها جيدا. يشاهد النساء الجميلات والقبيحات، يتعرف على عاملات المنزل وهن يُساعدنه وقد يضربن موعدا غراميا معه. ماذا أيضا عن عُدّة عمل بائع الغاز من «واشرات» و انابيب اسطوانات و«سبانة».
كان هنالك حديث طويل عن نوم بائعي الغاز فوق كرتونة في مدينة الخوير، تحت سقف الحرارة العالية أو رشق مطر، عن التدخين، عن الكلمات الصينية الهندية والتايلانية التي يرددونها للنساء الذاهبات مع الصُحبة إلى الشقق المفروشة. عن لعبة «الأونو» لتسلية الوقت. عن نهاراتهم القاسية وهم يشمون رائحة الطعام الشهي ولا يقدرون على شرائه، ثم يكتفون بالخبر والروب طعاما لهم.
أي قصة سحرية كان يمكن أن تخرج من مطبخ هذه الفكرة التي ترصد حياة إنسان يعبر على الحياة المسقطية، فيما حياة القرية ترتعش في روحه.. كم كان يمكن لـ حمود الشكيلي أن يصنع لنا شخصية البطل من لحم ودم وحياة.. ربمافعل الشكيلي شيئا من ذلك على كل حال، ولكن على عجل شديد لأنه يريد أن يقفز لأهداف أكبر وأن يتعدى حياة بائع الغاز الجميلة والتي تحمل امكانيات سرد مدهشة إلى قضايا يمكن أن تقال كيفما اتفق لها.
بائع الغاز هو شخصية دسمة، لأبعاد فلسفية تختصر الإنسان في شقائه وانتظاراته وسفره الأبدي، تصوروا معي لو أن الشكيلي جعلنا نراه في بعده الجواني الداخلي، وهو يسوق السيارة البرتقالية تلك، ويفكر في قوت يومه ككل الفقراء والبسطاء. وأقول هنا لو أن حمود الشكيلي كان مهتما بالرواية على هذا الصعيد لكان قد صنع لنا عملا روائيا عمانيا مختلفا، عن هذه الفئة المنسية من الناس التي لا نعرف عنها الكثير والحقيقة أنها كانت لتكون مادة غنية بالتفاصيل بل أكثر من ذلك.. فكما يبدو يمتلك الشكيلي المادة الخام، العجيبة الخاصة بهذا المجتمع ويتضح ذلك من طريقته في الوصف وفي مستوى اللهجة التي تتحدث بها الشخصيات وتلك المفردات التي تخرج على طبيعتها خادشة وحادة أحيانا. لكنه للأسف لم يكن منتبها إلى أن جوهر الرواية يكمن هنا.
الأحداث تدور في عام 2006، والحديث عن ذكرى أليمة حصلت عام 2005 . فقد تعرض البطل للضرب. اشتبه به بالخطأ أنه ضمن تنظيم سري. بينما الفضول هو الذي قاده إلى ذلك التجمع. هكذا يتحول مركز الرواية ونواتها إلى هنا فجأة. لذا ينصب كل التركيز على هذه الحادثة وعلى الضربة التي تلقاها أحمد بالقرب من عينه، فجمد الدم فيها. هذا الرجل بسيط الوعي يدخل من حيث لا يدري ليصطدم بمزلق السياسة، ولا يتمكن الشكيلي من رسم المشهد، وإدخالنا إليه بطريقة روائية، وإنما يبدأ السرد على طريقة المقالات. والسؤال: «لماذا يتذكر البطل هذا المشهد وماذا سيضيف لدفع الأحداث إلى الأمام أو زحزحتها إلى الوراء».
دعوني أقول.. يمتلك حمود الشكيلي لغة رشيقة، فهو متخلص إلى حد كبير من اللغة الزائدة. ويمنح الوصف بعدا إضافيا عبر التفاصيل العمانية التي تكبر لتشكل ملامح المدينة. كما تتناوب اللهجة العامية مع الفصحى في الحوارات بشكل متناغم. يستخدم الراوي العليم، كما يستخدم البطل أحمد كراوٍ ثانٍ كلما تطلب الأمر ويتنقل بينهما من دون أن يشعر القارئ بارتباك. ولكن يحصل أن يُجرب الشكيلي لعبة سردية كأن يأتي راوٍ فوق الراوي.. ليقول (أحمد يتحدث الآن ويختفي الراوي لأن الأخير لم يحضر هذا المشهد).. وهذه الألاعيب في تقنيات السرد غالبا ما يكون اختيارها نابعا من جدوى، إلا أن الجدوى تعذر عليّ اكتشافها هاهنا.
وفي نهاية الرواية يتحول الراوي العليم أيضا إلى مُخاطب مباشر للبطل فبدا الأمر ثقيلا جدا، وبدا حلا سهلا ليقول الكاتب الأشياء من دون الدخول إليها بعمق: « لا شيء غيرك يا أحمد ظلام ونجوم تلعب في السماء».
السؤال الذي كان يلح عليّ: لماذا لم يُعط الشكيلي شخصيته فرصة لأن تتنفس بمعزل عنه هو ككاتب، وبمعزل أيضا عن سلطة الراوي العليم الذي أراد أن يقول لنا بأن واقع بائعي اسطوانات الغاز مرير، وأن السجائر هي زادهم الوحيد، ورواتبهم قليلة. ربما يكون الاعتراض والوقوف في مظاهرة وسيلة لرفض البطل لذلك الواقع،لكنشخصية البطل ظلت مُعطلة. لا تتحرك بمفردها. لا تقنعنا بنقمتها الحادة عبر خلق الأحداث وبؤر التوتر وإنما عبر الكلام والجمل الانشائية.
«قد يرى أحدكم أن بصاق أحمد في هذا المكان ما هو إلا تعبير عن رفض الواقع»، ما يملكه هذا الراوي هو التلقين والتعليق والتعليل والتفسير، ولا يترك للقارئ متعة أن يعيش اللحظة. ماذا لو أنه قال: «بصق» وانتهت الجملة وترك لنا نحن القراء دلالات ذلك. ماذا لو تركنا ننتبه لما يتعرض له بائع الغاز من إغواء وإهانة من محبة وجفاء أو برودفي لحظات يتم اصطيادها بدقة من دون صفها في كلمات، لا تضيف الكثير لـترمومتر وحساسية المتن.
هنالك صراخ مرتفع وناقم ومباشر، أفكار كثيرة يرغب الكاتب أن يزج بها في وجه القارئ جملة واحدة، «هل يرضى وطني العزيز أن يزج بأناس في قضية أخذت الممثلين إلى طريق مسدود»، وقوله: «أشياء كثيرة يستطيع العماني تغييرها في حياته، شيء واحد يعجز عن تبديله، العنوان الدائم هو المكان الذي ولد فيه هذا الإنسان».
فلا يعجننا الكاتب في حياة الشخصية، ولا نعرف الكثير عن ماضيها وطفولتها، فهي شخصية مبتورة صُنعت فقط لتقول أفكار الكاتب. فهي لا تحرضنا حتى على التعاطف معها، ولا تحرضنا على أن نتفاعل بحبها أو كرهها. لذا كانت العلاقة بيننا وبينها سالبة مما يعني أنها فشلت في إقناعنا.
لا تتضح علاقة واضحة بين الموقف السياسي الذي زج البطل نفسه فيه بوعي أو بدون وعي، وبين حياته الاجتماعية والاقتصادية، هنالك هشاشة هائلة بين الموقف الذي تسترجعه هذه الشخصية وبين واقعها. ولذا كان صوت الكاتب أعلى بكثير من صوت هذه الشخصية.
ما أنا متأكدة منه أن الصورة البصرية في السينما لا تُظهر تفصيلا صغيرا من دون غرض فني يخدم المقبل من المشاهد، كذلك الأمر بالنسبة للرواية. فلا يوجد تفصيل يطرح نفسه عبثا.. إلا أن الشكيلي يترك خيوط روايته مُترهلة من دون أن يبني عليها، ويتصاعد بها، فها هو رجل الغاز يلتقي بامرأة يعرف صوتها وسيارتها ، ولكنه لا يعرف متى وكيف وأين التقى بها. فيتصل بها ومن الاتصال الأول تتحدث إليه المرأة كأنها تعرفه من دون مبررات كافية، الحوار الأول معها غير منطقي. امرأة لا تعرفه ولا يعرفها يخوض معها حديثا مطولا عن الغاز وعن غلاء الديزل ورفع الأسعار، ثمتسأله عن الدم الجاف تحت عينه، فيخبرها عن الجوع الذي يشل العقل واللسان ويخبرها عن المظاهرات التي أسالت دمه. ثم يلتقي بخادمة جميلة يتعرف عليها ويأخذ رقم هاتفها، كما يذهب إلى مركز الشرطة فيبقى في الانتظار، ولا يلتقي بالشرطي الذي أراد الالتقاء به. كل هذه القصص الداخلية لم تكن بذورا تنمو لتشكل حدثا أصيلا في بؤرة القصة. كانت مطبات عقيمة وهزيلة، ما أن تبدأ حتى تموت، وكأنها محاولة لتأثيث الصفحات، وتأتي الفاجعة الكبرى عندما يأتي إعصار جونو ليقضي على كل شيء.
كمن أراد أن يقول بأن الإعصار وخرابه هو عقوبة الله على الظلم. تتغير مشاعر البطل فتتحول الكراهية للمدينة التي يكنها إلى لهفة وخوف، وينتهي به الأمر إلى لحظة إخراج «جثث سائقي سيارات الغاز».
هذا التنقل بين المرأة التي شك رجل الغاز أنه يعرفها، وبين خادمة ناولته رقمها، وبين مركز الشرطة، ثم التحول إلىإعصار «جونو» الذي يأتي ليدمر المدينة. هو تحول سطحي، لم يتم الاشتغال عليه جيدا، فنحن لسنا بحاجة إلى كل هذه الفجائعيات لنقول: هنالك فقر وهنالك لا عدالة في توزيع الثروات.لأن هنالك ما هو أبعد من ذلك الكشف السهل غير الرصين.
هدى حمد